الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن
انجلترا
كان الاستشراق الإنجليزي بين أول وأوثق وأوسع ما عرفته أوربا من استشراق منذ اتصال بريطانيا بالشرقين الأوسط والأقصى اتصالاً ثقافياً وعسكرياً واقتصادياً واستعمارياً في الأندلس، والقدس، والهند، والصين، والعراق، ومصر، وفلسطين. وفي خلال ذلك اتخذ طابعه العلمي الخالص عندما توفرت للمستشرقين أسبابه، وتنوعت أغراضه، وانقطعوا إليه، وأخلصوا فيه.
فقد طالب رواد الإنجليز الثقافة العربية عن طريقين: طريق المتضلعين منها أمثال الفيلسوف الأسباني إبراهيم بن عزرا من مدينة طليطلة الذي وفد على لندن ودرس فيها (1158 - 1159) وطريق العلماء الذين قصدوا صقلية والأندلس وأخذوا الثقافة العربية على أعلامها في مدارسها. ومنهم: توماس براون الذي كان قاضياً في صقلية، وذكرته الوثائق العربية باسم القاضي براون، وأدلرد أوف باث، وروبرت أوف تشستر، ودانييل أوف مورلي، وميخائيل سكوت، وروجر بيكون (1) الذين تثقفوا بالثقافة العربية وترجموا الكثير عنها وصنفوا النفيس فيها فجاءت تواليفهم ومصنفات زملائهم من علماء أوربا، وكلها باللاتينية يومذاك، تحمل القرون الوسطى ديناً مزدوجاً للعرب والمستشرقين. فالعرب نقلوا الكثير من التراث الإنساني وحافظوا عليه وكملوه وأبدعوا منه وصنفوا فيه. والمستشرقون نقلوه وشرحوه فقضوا على جهالة القرون الوسطى وأقاموا النهضة الأوربية الحديثة على أسس متينة من الرقي والتطور والتكامل بسرعة، وأتاحوا الفرصة لحلفائهم فطلبوا العربية لذاتها -لا سعياً وراء التراث الإنساني الأول الذي صهرت معظمه في بوتقتها - فعنوا بتدريسها وتحقيق مخطوطاتها وترجمتها والتصنيف فيها، وأفادوا من صلتها باللغات السامية لتفسير الكتاب المقدس تفسيراً يتفق مع المذاهب البروتستانتية، مما حمل كبير الأساقفة
(1) (1 (الفصل الخامس، النهضة الأوربية، ص 121 وما يليها.
لود Laud على إنشاء كرسي للعربية في جامعة أكسفورد، وتشجيع الجامعات على توفير الدراسات الشرقية وتعميمها. وقد أسفرت تلك الدراسات عن تحديد تاريخ الجنس البشري وتقويم تراثه، وللعربية فيه قسط واف، تجددت بفضله الصلات الاقتصادية والسياسية بين إنجلترا والشرق الأدني على الرغم من الحرب الأهلية في القرن السابع عشر.
وفي مطلع القرن الثامن عشر، ازدهر الاستشراق متأثراً بعوامل عديدة من أشهرها: إنشاء كرسيين جديدين للعربية في جامعتي أكسفورد وكمبريدج، واسترعاء التوسع الأوربي في الشرق الأقصى، ولا سيما الهند، اهتمام العلماء. وقد عد السير وليم جونز إماماً للدراسات الهندية في أوربا يومذاك، وأقبل الطلاب في إنجلترا وفرنسا والهند على النصوص السنسكريتية ومصادر ثقافتها إقبالا حتم على مديري الجامعات إنشاء قسم خاص بها في العلوم الشرقية امتد أثره في القرن التاسع عشر إلى ألمانيا ثم إلى غيرها من عواصم العالم حتى يومنا هذا. ثم اختتام القرن الثامن عشر بحملة نابليون على مصر، ومن صحبها من العلماء ومعظمهم مستشرق، فاتصل الشرق الأدنى بأوربا في الثقافة والسياسة والاقتصاد اتصالاً وثيقاً لم يعرف من قبل وتبين منه أن العربية أصل كل ثقافة إسلامية في أية لغة من اللغات.
وفي القرن التاسع عشر، استمر ذلك الازدهار، على تطور كبير في الدراسات العربية، بفضل ما نشره علماء حملة نابليون، وتخريج مدرسة دي ساسي الفرنسية جيلا كاملا من المستشرقين الأوربيين، وإنشاء كرسي للعربية في جامعة لندن، وتأسيس الجمعيات الآسيوية وإصدار مجلاتها، وإتاحة الفرصة لمعظم المستشرقين في زيارة الشرق الأوسط فتوافدوا عليه من مختلف الجامعات الأوربية، وتبعهم عدد كبير من الرواد والرحالة والعلماء. في حين لم تكن هذه الفرصة ميسرة لغالبية قدمائهم. ولما عاد الإنجليز إلى إنجلترا تعاونوا على التدريس والترجمة والتحقيق والتصنيف فتوفر لجامعة كمبريدج ثلاثة من مشاهير المستشرقين، هم: بيفان، ونيكولسن، وبراون. وجل ما صنعه المستشرقون كان من جهد أفراد لم ينالوا عليه أجراً أو شكوراً: كهندلي في لندن، ولمسدن في الهند الذي نظم الاستشراق في كلية فورت وليم تنظيماً علمياً.
وقد تناولت دراسات المستشرقين موضوعات شتى من اللغات والآداب والعلوم والفنون والعقائد والتاريخ والجغرافيا. هذا خلا الذين نشطوا للتنقيب عن الآثار وحل رموزها ووصف رحلاتهم فجلوا كثيراً من بلاد العرب وتراثها الحديث للعالم.
وفي عام 1945 شكل وزير الدولة للشئون الخارجية لجنة برئاسة إيرل أوف إسكاربورو لبحث وسائل وبرامج تعليم اللغات والثقافات الشرقية والسلافية بما فيها أوربا الشرقية، وقد أفادت الدراسات الشرقية من تنفيذ توصيات تقرير تلك اللجنة قوة جديدة بفضل الزيادة الكبيرة التي أدخلتها على هيئات التدريس، والمنح التي خصتها بالأقسام الشرقية. ثم حجبت المنح الخاصة في عام 1952.
وفي عام 1960 انبثقت عن لجنة المنح الجامعية لجنة فرعية برئاسة هيتر فاستعرضت نواحي التطور التي طرأت على التدريس الجامعي منذ عام 1946 (تقرير لجنة إسكاربورو) وأوصت بتدريس تاريخ وجغرافية واقتصاديات وقوانين دول آسيا وأفريقيا وأوربا الشرقية تدريساً مستوعباً بدلا من الاقتصار على تعليم لغاتها، كما اقترحت بادة دراسات هذه المناطق دراسات خاصة، والعناية بلغاتها الحديثة. وقد أسفر تنفيذ توصيات تقرير هيتر عن نتائج طيبة منها إنشاء مراكز لدراسات المناطق ولا سيما في الجامعات الجديدة.
وهكذا انتهى تطور الاستشراق إلى هذا المذهب العلمي الذي استمر من مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم، وإنما يفهم من المذهب العلمي التخصيص لا التعميم. فما كانت الدراسات الشرقية قط مجرد نوع من أنواع الرياضة لمن سمح له وقته وثروته بذلك. وما جرت العادة في أوربا على اصطناع اللغات الشرقية في سبيل الخدمة العامة كالتعليم أو التجارة أو السياسة وإن أفاد بعضهم من بعضها، ومن السياسيين المعاصرين: السير أنطوني إيدن الذي تخرج بالعربية من جامعة أكسفورد. والسير إمرى النائب السابق في الهند فقد تعلم الفارسية والتركية، ويعني اليوم بجمع الرسوم الفارسية الحديثة. إلا أن مثل هؤلاء قليل عددهم (1).
(1) رسالة من الأستاذ سرجنت في بيان دارسي العربية والمستشرقين الإنجليز وآثاره بعث بها إلى هذا الكتاب في طبعته الثانية.