الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع عشر
بولونيا
ترجع أولى صلات بولونيا، الواقعة في شرق أوربا، بالشرق الأوسط إلى التجار والرحالة العرب الذين قصدوها، فيما قصدوا من البلاد السلافية، بين القرنين الثامن والعاشر للميلاد، وخلفوا من نماذج سلعهم ونقودهم مجموعات فريدة في متاحفها، ومن أوصافهم لأهلها ومعالمها مرجعا من مراجع تاريخها القديم. ثم إلى الرواد البولونيين ولا سيما الحجاج الذين كتبوا عن البلدان العربية التي اجتازوها في طريقهم إلى القدس كتابات شجعت مواطنيهم، فيما بعد، على الطواف في الشرق لدراسة فنونه وآدابه وعلومه، كما فعل ردزيفيل الذي قصد الشرق في أواخر القرن السادس عشر، وهبط سوريا ولبنان وفلسطين ومصر، وصنف كتاباً في وصف رحلته يحتوي على الكثير من عادات العرب وأخلاقهم وحال بلادهم.
حتى إذا نزل التتر بحدود بولونيا الشرقية، وكانوا يدعون إلى الإسلام، أحسن ملوكها وفادتهم وساووا زعماءهم بأشراف البلاد وأطلقوا لهم جميعاً الحرية في تشييد المساجد والمقابر وإقامة الشعائر والرجوع إلى الشريعة في أحكام دينهم ودنياهم. فاتصلوا بالشرق مستفتين علماءه. مستقدمين بعضهم، حاجين إلى مكة والمدينة: كبلاط حاجي (1500) وبيرم حاجي (1559) ويعقوب ميرزا بوزاكي حاجي (1795) الذي أصبح فيما بعد نائباً في المجلس البولوني (1815 - 18) وطبعوا مواطنهم بالطابع الإسلامي وشاراته في طراز البناء ورسم الهلال وكتابة سور القرآن وبعضها منذ القرن الخامس عشر، كمسجد ستودزيانكا من القرن الخامس عشر، وقد دفن في مقبرته الإمام مصطفى بيلاك، وحجر الأميال في مدينة فيو بوروف، وعليه كتابات عربية بتاريخ 1121 للهجرة. وتاريخ تشييد مسجد شينه (1716) والمبني المغربي في فرسوفيا (1756) إلى ما هنالك من مساجد أربت على 44 مسجداً، كان النصارى، والمسلمون الذين بلغ عددهم 12 ألفاً، يتعاونون على تشييدها وأغلبها
بالخشب، ومن أشهرها جامع بوهوتيكي الذي يمتاز برقعة مربعة يجعمها سقف مخروطي، ومنارة دقيقة يعلوها الهلال، وتزدان جدرانه بآيات قرآنية ورسوم تمثل مشاهد من المدينة ومكة والكعبة. وجامعا كر وشيناني، وبوخوميكي. ولكل جامع جبانة يرجع تاريخ أقدمها إلى 1774. ولما ازداد عدد المسلمين بفردوفيا أنشأوا لهم جبانة فيها (1839) ويعد قبر جان بوكازي بن الحاج يعقوب، مترجم القرآن، نموذجاً لقبور غيره من المسلمين فيها، طرازاً وزخرفاً وآيات بالعربية يتوجها الهلال. ثم ضاقت بهم فأنشأوا جبانة حديثة لهم وللمسلمين الوافدين على بولونيا.
ورفع الأمير بونيا- تورسكي، شقيق الملك، وقيل فرقة من المحاربين المسلمين، مئذنة بشارع كشوتز تسنا (1886) وقامت بجوارها دار الإمام، وغير بعيد منها سلاملاك على طراز مغربي. إلا أن الحرب الأخيرة دمرت معظم تلك الآثار فاضطلعت الجمهورية الشعبية بترمه دمها، ذلك لأن المسلمين منذ نزلوا ببولونيا وهم يبلون بلاء حسنا في الذود عنها وقدلي بعضهم مصرعه في سبيل استقلالها مقتل الجنرال بيلاك- وكانت للفرق الإسلامية قبعات خاصة عليها الهلال- وقد أشاد كبار الأدباء ببطولاتهم في مصنفاتهم كالشاعرين: ميسكيفتش، وسلوفاكي. والقصصي سينكيفتش الذي خصهم بإحدى قصصه الشهيرة باسم هنية. وعندما قسمت بولونيا: بين روسيا وبروسيا والنمسا (1755) شارك مسلموها نصاراها المحنة سواء بسواء. حتى إذا استعادت استقلالها (1918) ثم أعلنت الجمهورية الشعبية فيها (1945) ضمنت المساواة في الحقوق بين جميع رعاياها فشغل المسلمون مناصب رفيعة في دواوين الحكومة والمراكز العلمية والمهن الحرة دون أن يهملوا شأنا من شئون دينهم، فأشرف على مساجدهم ومدارسهم ومؤسساتهم أئمة وخطباء وعلماء منهم.
وتصطنع غالبية مساحي بولونيا اللغة البولونية خلا رجال الدين الذين انحصرت العربية فيهم، فحافظوا على القرآن، ومخطوطات كتب السيرة والتفسير والحديث والشعائر، وعنوا بنسخها وزخرفة حواشيها عناية بالغة، وأهدوها الأسر الكبيرة، فتوارثتها جيلا عن جيل، منها مخطوط بتاريخ 1792، في كرونياري. وقصروا العربية على تلاوة الشعائر وكتابة الشواهد، وكتبوا البولونية بحروف عربية مما جعل مخطوطاتهم فريدة في نوعها، وقد أضيفت إلى الخطوطات الشرقية الأخرى عربية
وتركية وفارسية وعبرية- وإلى وثائق الدبلوماسية المرسلة إلى ملوك بولونيا ووزرائها من سلاطين تركيا وشاهات فارس وخواتين القرم وغيرهم من عظماء الشرق، فألفت مجموعة نفيسة. وقد ظهر أول تفسير للقرآن الكريم (1830) وأول ترجمة كاملة له بقلم جان بوزا كي بن الحاج يعقوب بوزاكي (1858) ثم تولى يعقوب شينكيفنش (المولود عام 1864) الإفتاء في بولونيا وليتوانيا، وترجم معاني القرآن الكريم بالإنجليزية، في عشرين مجلداً. وصنف بالتركية في قواعد لغتها، وبالبولونية عن العبادات وتعليم المسلمين الكتابة والقراءة العربية.
ولم تقف صلات بولونيا بالشرق الإسلامي على مسلميها. فقد توثقت بينها وبين تركيا- وبعضها في حروب متواصلة- واشتهرت أسر بولونيا يتوارثها اللغات الشرقية، ولا سيما التركية، وخلف أفراد منها مصنفات عنها: فترجم كريستوف دسيرسك الوثائق التركية، ووضع صمويل اوتفينوفسكي فهرس الوثائق الشرقية في المحفوظات الملكية، وترجم غلستان لسعدي- التي نشرها بعد مائتي سنة جانيوكي وكوروتنسكي 1879 - ومحطوطاً في وصف الإمبراطورية العثمانية لعوني على الخ وصنف باسكوفسكي تاريخ الأتراك والوقيعة بين القوزاق والتتر (كراكوفيا 1615) وترجم سايرسكي قصائد عربية، وستاركوفبيكي القرآن الكريم- وقد فقدت الترجمة- وغيرهم كثير. أما الذين كانوا في خدمة الدول الأجنبية فعديدون، ومن مشاهيرهم: على بك بوبوفسكي المترجم في البلاط العثماني.
ثم توسعت بولونيا في اصطناع المترجمين من الأرمن، وكانوا على صلات عديدة ومنتظمة بالشرق. ومن أسراها الذين أتقنوا اللغات الشرقية طوال سنوات رقهم. ومن الرهبانيات ولا سيما الآباء اليسوعيين وقد اشتهر بينهم مستشرقون أعلام. ثم استبدلت بالأرمن تراجمة متخصصين من الأوساط المشرقية، وعلى رأسهم انطوان لوك كرونا الذي عد خير مترجم للوثائق التركية في المحفوظات الملكية. ثم قصرت الترجمة على البولونيين فأنشأت مدرسية شرقية في استانبول (1766 - 1793) لتخريجهم على غرار فتيان اللغات الفرنسيين، حتى قضى عليها تقسيم بولونيا وتفرق خريجوها تحت كل سماء تفرق غيرهم من العلماء، وارتزق بعضهم بعلمه مثل لاشيفيكس الذي عمل في خدمة الإمبراطورية النمسوية.
وعمل كل منهم، حيث نزل، بمهنته: فقدم اللواء دمبوفسكي مشروعاً بتنظيم الجيش المصري إلى إبراهيم باشا، وأنشأ المقدم شيدت تحصينات جبل الطور، واشترك الجنود البولونيون في رد الإنجليز عن عكا. ودخل عدد وفير من البولونيين - بعد قتالهم في ثورة المجر 1894 - في خدمة تركيا فاعتنقوا الإسلام وتسموا بأسماء تركية من أمثال: بيم- مراد باشا، وبيستر زينوفسكي- أرسلان باشا، وايلنسكي- جلال الدين باشا. وانضم آخرون، خلال حرب القرم، إلى الجيش التركي وألفوا منهم وحدات أطلقوا عليها قوزاق السلطان، بقيادة تشايكوفسكي- صديق باشا. وانخرط غيرهم في الجيش الفارسي كاللواء بوروفسكي. أما الأطباء والمهندسون والأساتذة والخبراء الذين عملوا في خدمة مصر وتركيا وفارس والعراق وغيرها فلا سبيل إلى حصرهم. وفي خلال حرب (1939 - 1945) لجأ كثيرون من البولونيين إلى إيران وتركيا والعراق وسوريا ولبنان- حيث تزوجت بعض فتياتهم من فتيانه- ومصر فلقوا من كرم الوفادة ما زاد صلات بولونيا بالشرق الأوسط توثقاً واستمراراً.
أما الثقافة العربية فقد عرفتها بولونيا بترجمة مصنفات أعلامها إلى اللاتينية، من أمثال: ابن سينا، وابن رشد، والخازني، وغيرهم. فأرست نهضتها على أساس تدريسها في جامعاتها. ثم تأثرت بالاستشراق في أوربا الغربية، فاقتنى الملاك ستانيسلاس أو جيست جميع المعاجم وكتب قواعد اللغات الشرقية التي نشرت في عهده. وعلى العلماء بالمخطوطات والمجموعات والآثار الشرقية. وأخذ الأشراف باللغات السامية فصنف الأمير آدام تسارتويسكي بعد رحيله إلى الشرق، معجم المفردات البولونية من أصول شرقية. وانتشرت في بولونيا ترجمات للتراث الشرقي، معظمها بلغات أوربية غير البولونية: من المتنبي والحريري وحافظ وجلال الدين الرومي، وألف ليلة وليلة. ومصنفات عليها الطابع الشرقي: كالرسائل الفارسية، ومحدد، وبايزيد، فتأثر بها كبار أدباء بولونيا تأثراً عميقاً واضحاً، فترجم الشاعر كرازيكي معلقة لبيد، وزالوزكي أشعار كرازيكي إلى العربية، وأمثال لقمان إلى البولونية (1860) وترجم يسكيفتش قصائد للمتنبي والشنفرى، ودرس سلوفاكي اللغات الشرقية. كما نقلت بعض قصائد ميسكيفتش إلى الفارسية ومصنفات سنكيفتش إلى العربية والتركية.