الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس بعد المئة: البيع والشراء
أنواع البيع
…
الفصل الخامس بعد المائة: البيع والشراء
أنواع البيع:
وقد تعرض أهل الأخبار لبعض أنواع البيع وطرقها التي كان يستعملها الجاهليون، وهي لا تختلف في طبيعتها عن طبيعة ما يسمى بـ"الحظ والنصيب" في العهد الحاضر. ونظرًا إلى ما قد كانت تسببه هذه الأنواع من خصومات ومنازعات بين المشتري وبين البائع، من بيعهم شيئًا مجهولًا غير معلوم، وإلى ما في كثير من هذه البيوع من غرر، نهى الإسلام عنها، وجاء ذكرها لذلك في كتب الحديث والفقه.
والبيع والشراء، إما أن يكونا بشروط يشترطها أحدهما أو كلاهما عند عقد الصفقة، ويتم التوافق والتعاقد عليها برضى البائع والمشتري، أي: الطرفين، وإما ألا يكونا بشروط. فإذا اشترط المشتري على البائع شرط حق إرجاع السلعة إليه إن وجد فيها شيئا مخالفا للوصف، ورضي البائع بذلك، فللمشتري حق إرجاع السلعة إليه في حدود معقولة، وقد يعين زمن ذلك الحق وهو ما يحدث في الغالب.
ومن جملة طرق البيع: "بيع الحصاة"، وهو بيع ذكر أهل الأخبار أنه كان متبعًا في سوق "دومة الجندل" المنعقدة في أول يوم من شهر ربيع الأول، وقد ذكروا أن هذه المبايعة من بيوع الجاهلية التي أبطلها الإسلام. وتفسير ذلك أن يقول أحد المتبايعين للآخر: ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك
بدرهم، أو أن يبيع أحد المتبايعين من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة، أو أن يقبض على كف من حصى ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة ويقبض على كف من الحصى ويقول: لي بكل حصاة درهم، أو أن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول: أي وقت سقطت الحصاة وجب البيع، أو أن يتبايعا ويقول أحدهما: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع، أو أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ الحصاة ويقول: أي شاة أصابتها فهي لك بكذا1، أو هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك، أو أي ثوب من هذه وقعت الحصاة التي أرمي بها فهو لي بكذا، فيقول البائع: نعم، فيقع البيع لوجود شروط الإيجاب والقبول2.
ومن طرق البيع: بيع الملامسة، والمراد بالملامسة: المس باليد، وأن يجعل عقد البيع لمس المبيع. وذكر أن بيع الملامسة: أن تشتري المتاع بأن تلمسه ولا تنظر إليه، وذلك كأن يقول:"لمستَ ثوبي أو لمستُ ثوبك أو إذا لمست المبيع، فقد وجب البيع بيننا بكذا وكذا، ويقال: هو أن يلمس المتاع من وراء الثوب ولا ينظر إليه، ثم يوقع البيع عليه"، و"قيل: معناه: أن يجعل اللمسَ باليد قاطعًا للخيار"3.
وقيل: هو أن يأتي البائع بثوب مطويّ، ثم يطلب من المشتري أن يلمسه، ثم يقول له:"بعتك إياه بثمن كذا، بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك"، أو أن يقول له:"إذا لمست هذا الشيء، فهو بيع لك"، فيكون اللمس نهاية خيار المشتري. وهو يحل بذلك محل النظر إلى الشيء الذي سيباع وتدقيقه وتمحيصه للوقوف على مقدار جودته أو بما فيه من عيوب. فهو بيع شرطه اللمس ولا خيار
1 جامع الأصول "1/ 441"، بلوغ الأرب "1/ 261"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 164"، زاد المعاد "4/ 266".
2 صحيح مسلم "5/ 3"، الجصاص "1/ 530"، اللسان "14/ 183"، تاج العروس "10/ 92"، "حصا"، زاد المعاد "4/ 266".
3 اللسان "6/ 210"، صحيح مسلم "5/ 2 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 340"، "لمس"، زاد المعاد "4/ 266".
فيه1. ومن بيع الملامسة، أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر، ولكن يلمسه لمسًا2.
واختلف الفقهاء في تفسير الملامسة على ثلاث صور: إحداها: أن يكتفي باللمس عن النظر ولا خيار له بعده؛ بأن يلمس ثوبًا لم يره ثم يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه. الثانية: أن يجعل اللمس بيعًا، بأن يقول: إذا لمسته فقد بعتكه، اكتفاءً بلمسه عن الصيغة. الثالثة: أن يبيعه شيئًا على أنه متى لمسه لزم البيع وانقطع خيار المجلس وغيره، اكتفاءً بلمسه عن الإلزام بتفرق أو تخاير. وبطلان المبيع المستفاد من النهي؛ لعدم رؤية المبيع، واشتراط نفي الخيار في الأولى ونفي الصيغة في عقد البيع في الثانية، وشرط نفي الخيار في الثالثة3.
ومن البيوع: بيع المنابذة، وهو أن يجعلا النبذ بيعًا. وهو أن تقول لصاحبك: انبذ إليَّ الثوب أو غيره من المتاع، أو أنبذه إليك، وقد وجب البيع بكذا وكذا، أو هو أن ترمي إليه بالثوب ويرمي إليك بمثله، وهو أن يجعلا النبذ بيعًا بغير صيغة، أو أن يجعلا النبذ قاطعًا للخيار، ويقال له: بيع الإلقاء4. وقيل: هو أن تقول: إذا نبذت الحصاة إليك، فقد وجب البيع، أو أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراضٍ، فيكون النبذ وحده هو البيع5.
و"النجش": أن يبيع الإنسان بياعة، فتساومه بثمن كثير لينظر إليك ناظر
1 صحيح البخاري "2/ 87"، تاج العروس "4/ 340"، "لمس"، بلوغ الأرب "1/ 265".
2 إرشاد الساري "4/ 64".
3 إرشاد الساري "4/ 64"، "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين وعن بيعتين، نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقبله إلا بذاك"، زاد المسلم "5/ 517 وما بعدها"، صحيح البخاري "كتاب البيوع، باب بيع الملامسة"، "وفي كتاب اللباس، في باب اشتمال الصماء"، "باب الاحتباء في ثوب واحد"، صحيح مسلم "كتاب البيوع، باب إبطال بيع الملامسة".
4 تاج العروس "2/ 581"، بلوغ الأرب "1/ 264 وما بعدها"، صحيح البخاري "2/ 87"، إرشاد الساري "4/ 64 وما بعدها".
5 صحيح مسلم "5/ 3"، الشوكاني، نيل الأوطار "5/ 147 وما بعدها"، اللسان "3/ 512".
فيقع فيها، وكذلك في الأشياء كلها. وقيل: النجش في البيع: أن يزيد الرجل ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، ولكن ليسمعه غيره فيزيد بزيادته. وقيل: أن تمدح سلعة غيرك ليبيعها، أو أن تنفر الناس عن الشيء إلى غيره. والغاية من كل ذلك هو غش المشتري وجرّ النفع؛ لذلك نهي في الإسلام عنه. و"التناجش" في البيع المنهي عنه، هو التزايد في البيع وغيره1، وأن يقول الرجل للرجل: بيعٌ فيقول: نظر، أي: أنظرني حتى أشتري منك2. والنجش في الشرع، أن يزيد في ثمن السلعة من غير رغبة ليوقع غيره فيها، فهو بيع غش وخداع3.
ويقال للنجش: الفلح، قالوا: الفلح: النجش في البيع، وذلك أن يطمئن إليك، فيقول لك: بع لي عبدًا أو متاعًا أو اشتره لي، فتأتي التجار فتشتريه بالغلاء وتبيع بالوكس وتصيب من التاجر، وهو الفلاح. وذكر أنه زيادة المشتري ليزيد غيره فيغريه4.
ومن طرق البيع أيضًا: البيع ناجزًا بناجز، أي: يدًا بيد5. ومن بيوعهم قول أحدهم: بعتك هذا الثوب نقدًا بدينار ونسيئةً بدينارين، وقد ورد في الحديث: "لا يجوز شرطان في بيع"، أي: مثل هذا البيع6.
والبيعُ مُزابنة، وهو بيع التمر في رءوس النخل بالتمر، وبيع الرطب في رءوس النخل بالتمر، أو بيع كل ثمر على شجرة بتمر كيلًا، أو بيع التمر على رءوس النخل بالذهب والفضة. وقد نهي عنه في الإسلام إلا إذا أنضج، ولا يباع منه إلا بالدرهم والدينار؛ وذلك لأنه بيع مجازفة، ولما يقع فيه من الغبن والجهالة7. ورُوِيَ عن الإمام "مالك" أنه قال: المزابنة: كل جزاف لا يعرف كيله ولا عدده ولا وزنه، بِيعَ بمسمى من مكيل وموزون ومعدود، أو هي
1 تاج العروس "4/ 354"، "نجش". "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش"، البخاري "3/ 69 وما بعدها"، "كتاب البيوع"، عمدة القاري "11/ 258 وما بعدها"، اللسان "6/ 351"، القسطلاني "4/ 62"، زاد المسلم "5/ 485".
2 المخصص "12/ 254".
3 تاج العروس "4/ 354"، "نجش"، عمدة القاري "11/ 258 وما بعدها".
4 تاج العروس "2/ 199"، "فلح".
5 المخصص "12/ 254".
6 تاج العروس "5/ 166"، "شرط".
7 صحيح البخاري "2/ 94"، "كتاب البيوع"، القاموس "4/ 230"، صحيح مسلم "5/ 13"، زاد المسلم "5/ 477 وما بعدها".
بيع معلوم بمجهول من جنسه أو بيع مجهول بمجهول من جنسه، أو هي بيع المغابنة في الجنس الذي لا يجوز فيه الغبن؛ لأن البيعين إذا وقفا فيه على الغبن، أراد المغبون أن يفسخ البيع، وأراد الغابن أن يمضيه، فتزابنا فتخاصما فتدافعا1، وتكون المزابنة في النخل غالبًا. وذكر أن سبب ورود النهي عن هذا البيع، هو أنه يؤدي إلى ربا الفضل، إذ الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة من حيث إنه لم يتحقق فيها المساواة المشروطة في الربوي بجنسه2.
وكان هذا البيع معروفًا عندهم، وذلك أن يبيع رجل ثمر نخله بتمر كيلًا أو بغير كيل، أو أن يبيع كُرْمه بزبيب، فورد النهي عنه في الإسلام. وإنما نهى عن ذلك لجهل المبيع3، واعتبر هذا البيع نوعًا من أنواع الربا4.
ومن البيوع الجاهلية: المخاضرة، بيع الثمار خضرًا قبل أن يبدو صلاحها، ويدخل فيه بيع الرطاب والبقول وأشباهها على قول بعض. سمي مخاضرة؛ لأن المتبايعين تبايعا شيئًا أخضر بينهما، مأخوذ من الخضرة5.
وقد نهي عن "المعاومة" في الإسلام، وهي بيع النخل معاومة، وأن تبيع زرع عامك بما يخرج من قابل، أو أن تبيع ثمر النخل أو الكرم أو الشجر سنتين أو ثلاثًا فما فوق6، فهو بيع السنين. ولما فيه من غرر ومن بيع لمجهول، لم يصح هذا البيع في الإسلام7.
و"الطني": شراء الشجر، أو بيع ثمر النخل خاصة8. ونهي في الإسلام عن بيع صبرة التمر المجهولة القدر، أي: بيع المبيع بالكومة، ولا يعلم مكيلته بالكيل9.
1 تاج العروس "9/ 224 وما بعدها"، البخاري "كتاب البيوع، في باب بيع المزابنة"، صحيح مسلم "كتاب البيوع، في باب كراء الأرض".
2 زاد المسلم "5/ 477".
3 زاد المسلم "5/ 482".
4 "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر، وقال: "ذلك الربا تلك المزابنة، إلا أنه رخص في بيع العرية، النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا يأكلونها رطبًا"، زاد المسلم "5/ 494 وما بعدها".
5 تاج العروس "3/ 180"، "خضر"، القاموس "2/ 21"، صحيح مسلم "5/ 11".
6 تاج العروس "8/ 412"، "عام".
7 صحيح مسلم "5/ 17 وما بعدها".
8 القاموس "4/ 358"، تاج العروس "10/ 228"، "طنى".
9 صحيح مسلم "5/ 9".
ومن ذلك أيضًا البيع المعروف بـ"المجر"، وهو من بياعات الجاهلية. والمجر: بيع ما في بطون الحوامل من الإبل والغنم، وهو أن يباع الشيء بما في بطن الناقة، وأن يباع البعير أو غيره بما في بطن الناقة، ولا يقال لما في البطن مجرا إلا إذا ثقلت الحامل. فالمجر: اسم للحمل الذي في بطن الناقة، وحمل الذي في بطنها1.
ونهى الإسلام عن بيع "حبل الحبلة"، وهو بيع نتاج النتاج، وبيع الأجل، فكان الرجل في الجاهلية يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها، أو بيع حبل الكرم قبل أن يبلغ، ومنه بيع الملاقيح والمضامين. والملاقيح: ما في البطون من الأجنة، والمضامين: ما في أصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة وما يضربه الفحل في عام أو أعوام. وسبب النهي عنه أنه من بيوع الغرر، وهو بيع مجهول2.
ومن بيوع أهل الجاهلية: "الغَدَوى"، وذلك أن تبيع الشاة بنتاج ما نزا به الكبش ذلك العام. وقيل: كل ما في بطون الحوامل، وقوم يجعلونه في الشاة خاصة. أو هو أن يباع البعير أو غيره بما يضرب الفحل، أو أن تباع الشاة بما نزا به الكبش، وكان الرجل منهم يشتري بالجمل أو العنز أو الدراهم ما في بطون الحوامل3.
وأما بيع "الغذى" فهو كالسابق: أن يباع بنتاج ما نزا به الكبش، وقيل: بل يكون الغذى من الإبل والبقر والغنم4. وأظن أن "الغدى" و"الغذى" شيء واحد، وقد أخطأ بعض النساخ في حرفي الدال أو الذال، فصارت الكلمة كلمتين.
وقد نهي في الحديث عن بيع الملاقيح والمضامين. رُوِيَ عن سعيد بن المسيب
1 اللسان "5/ 158"، زاد المعاد "4/ 267"، القاموس "2/ 131"، تاج العروس "3/ 533"، "مجر".
2 عمدة القاري "11/ 262 وما بعدها"، جامع الأصول "1/ 441 وما بعدها"، زاد المعاد "4/ 266"، صحيح البخاري "2/ 87"، اللسان "11/ 139"، صحيح مسلم "5/ 3".
3 المخصص "10/ 251"، القاموس "4/ 269"، تاج العروس "10/ 263"، "غدا".
4 تاج العروس "10/ 263"، "غذا".
أنه قال: "لا ربا في الحيوان، وإنما نهي عن الحيوان عن ثلاث؛ عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة"، فالملاقيح: ما في ظهور الجمال، والمضامين: ما في بطون الإناث. وورد العكس، أي: الملاقيح: ما في بطون الإناث، والمضامين: ما في أصلاب الجمال، وكانوا يتبايعون أولاد الشاء في بطون الأمهات وأصلاب الآباء1.
و"الرجع": أن تباع الذكور ويشترى بثمنها الإناث، وقيل: بيع الإبل بعد الارتجاع منها. و"الرجعة: إبل تشتريها الأعراب ليست من نتاجهم، وليست عليها سماتهم"، و"الراجعة: الناقة تُباع ويُشترى بثمنها مثلها"، والرَّجِيعة: بعير ارتجعته، أي: اشتريته من أجلاب الناس، ليس هو من البلد الذي هو به. وكانوا يربحون من بيع الذكور وشراء الإناث بثمنها؛ لأن الإناث تلد، فيكثر عندهم المال. "قيل لقوم من العرب: بِمَ كثرت أموالكم؟ فقالوا: أوصانا أبونا بالنجع والرجع"، فالنجع: طلب الكلأ، والرجع: أن تباع الذكور ويشترى بثمنها الإناث2، وبذلك يكثرون أموالهم.
وتدخل في البيوعات الجاهلية بيع الرجل ما ليس عنده، وهو يتضمن نوعًا من الغرر، فإنه إذا باعه شيئًا معينًا وليس في ملكه، ثم مضى ليشتريه ويسلمه له كان مترددًا بين الحصول وعدمه، فكان غررًا يشبه القمار فنهى الإسلام عنه3. وبيع المعدوم لا يدري يحصل أو لا يحصل ولا ثقة لبائعه بحصوله بل يكون المشتري منه على خطر، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيهًا بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد ولا تتوقف مصلحتهما عليه؛ لهذا منع الشارع بيعه، لا لكونه معدومًا بل لكونه غررًا4.
وقد نهى الإسلام عن بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه، فورد أن الرسول نهى عن أن يستام الرجل على سوم أخيه5. وكان أهل الجاهلية يستامون بعضهم على بعض بما في ذلك استيام الإخوة، فنهى عنه، لما قد يحدث هذا الاستيام من فرقة واختلاف بين الإخوة.
1 تاج العروس "2/ 216"، "لقح"، "9/ 266"، "ضمن".
2 المخصص "10/ 252"، تاج العروس "5/ 352"، "رجع".
3 زاد المعاد "4/ 262".
4 زاد المعاد "4/ 263".
5 صحيح مسلم "5/ 3 وما بعدها".
ونهى الإسلام عن التلقي للركبان، أي: عن تلقي البيوع والسلع حتى تبلغ الأسواق. وقد ورد في الحديث: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقَّاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار"؛ وذلك لأن من تلقاهم يكذب في سعر البلد ويشتري بأقل من ثمن المثل وهو تغرير1. وقد نهي عن بيع الحاضر للبادي، وذلك بأن يكون له سمسار ليكسب منه، أو أن يطلب الحاضر من البادي أن يترك متاعه عنده حتى يبيعه بسعر أغلى؛ وذلك لما في هذا البيع من تغرير ومن ضرر يصيب الناس2.
ونهى الإسلام عن بيوع أخرى من بيوع الجاهلية، منها بيع "الغرر"، ويراد به البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان، وهو بيع المخاطرة، وهو الجهل بالثمن أو المثمن أو سلامته أو أجله. ومن ذلك بيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه والفرس الشارد والطير في الهواء وبيع السمك في الماء، وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته وما يرضى له به أو يهبه له أو يورثه إياه ونحو ذلك مما لا يعلم حصوله أو لا يقدر على تسليمه أو لا يعرف حقيقة مقداره، فهو بيع شيء مجهول3. وقد كانت من البيوع الشائعة بين الجاهليين تفنّنًا في الغش، وفي الكسب من أي طريق كان.
وقد عرفوا بيعة الغائص، بأن يقول الغائص في البحر للتاجر: أغوص غوصةً، فما أخرجت فهو لك بكذا، فيتفقان على ذلك. وقد نهي عنه؛ لأنه غرر4.
ومن البيوع الجاهلية: "الجس"، وهو بيع عُرف بسوق صنعاء. فإذا تعاقد شخصان على سلعة، ووافقا على البيع، جس أحدهما يد الآخر، علامةً على صحة البيع5.
ومنها: "السرار"، فإذا وجب البيع وعند التاجر إلف ممن يريد الشراء ولا يريده، أشركه في الربح6.
1 صحيح مسلم "5/ 5".
2 صحيح مسلم "5/ 6".
3 عمد القاري "11/ 262 وما بعدها"، جامع الأصول "1/ 441 وما بعدها"، زاد المعاد "4/ 266"، صحيح البخاري "2/ 87"، "كتاب البيوع".
4 تاج العروس "1/ 350"، "ضرب".
5 المحبر "ص266"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 164".
6 المحبر "ص267"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 164".
وهناك نوع من البيوع يقال له: "الجزاف"، وهو أخذ الشيء بالحدس، بلا كيل ولا وزن ولا عدد1.
وقد عرف "بيع المزايدة" عند الجاهليين كذلك2. وهو أن يعرض ما يراد بيعه للبيع فيتزايد من يريد شراءه على ثمنه، حتى يقف على آخر من يقدم أكبر سعر له3.
ومن البيوع بيع "العينة"، أن يشتري التاجر بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم ويقبضه ثم يبيعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم يبيعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن الذي اشتراها به، فهذه عينة، وسميت عينة لحصول النقد لطالب العينة. وذكر أن العينة، إذا باع التاجر من رجل سلعته بثمن معلوم إلى أجل معلوم، ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن الذي باعها به، وللفقهاء كلام في هذا البيع4. وقد كانوا يربحون من "العينة"، قال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكان من سادة قريش: "اغد غدًا إلى السوق، فخذ لي عينة"، فغدا ابنه فتعين من السوق عينة لأبيه، ثم باعها، فأقام أيامًا، ما يبيع في السوق طعاما ولا زيتا غير ابنه من تلك العينة، وربح منها ربحًا طيبًا5.
وقد كان في جملة البيوع التي نهى عنها الرسول، بيع حاضر لبادٍ، والبادي هو الذي يكون في البادية، مسكنه المضارب والخيام، والحاضر ساكن الحضر، وصورة البيع للبادي أن يقدم غريب من البادية بمتاع ليبيعه بسعر يومه، فيقول له بلدي: اتركه عندي؛ لأبيعه لك على التدريج بأغلى منه، أو أن تشتري السلع من الأعراب الوافدين على القرى وهم في طريقهم إلى السوق وأماكن البيع بأثمان بخسة، ثم عرضها في السوق وإغلاء أثمانها فيها، أو تشرى السلع منهم وهي في السوق، وعرضها مرة أخرى للبيع؛ لكسب الفرق بين السعرين. وقد نهى الإسلام عن هذا البيع؛ لما فيه من احتكار وإضرار بالمصلحة العامة، ليكتسب
1 شمس العلوم "ج1 ق2 ص330".
2 القسطلاني "4/ 61 وما بعدها".
3 اللسان "3/ 199".
4 تاج العروس "9/ 291"، "عين".
5 كتاب نسب قريش "304".
بذلك نفر محدود من الناس. وللفقهاء في هذا لبيع كلام وآراء1.
وقد كان الناس يلجئون إلى أساليب غير حميدة من أساليب التلاعب بالأسعار، وغش المشترين والتحايل بالبيع، كأن يأتي البائع بجماعة من أصحابه يتظاهرون بالشراء وبالتكالب على السلعة لرفع السعر، حتى يدفع الحاضرين على رفع السعر، فيرسو البيع عليهم، وبذلك يغش البائع المشتري. وهو بيع نهي عنه في الإسلام.
ومن البيوع التي تتضمن الغش والخداع بيع التصرية. وكان من عادة العرب إذا أرادوا بيع شاة أو ناقة تركوها أيامًا لا يحلبونها، فيبقى اللبن في ضرعها، فيكبر، فيعرضها البائع للبيع، ويظن المشتري أن كبر ضرعها ووجود اللبن بغزارة فيه، هو بسبب أن تلك الشاة أو الناقة حلوبة، فيشتريها، فيغش. ونظرًا إلى ما في هذا البيع من غش وخداع نهي عنه في الإسلام2، وجعل خيار البيع ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها صاعًا من تمر، وإن شاء أمسكها. ويقال لهذا البيع أيضًا: بيع المصراة3.
وقد يشتري الشركاء سلعة رخيصة، ثم يتزايدون بينهم حتى يبلغوا غاية ثمنها، فيشتريها من يرسو الثمن عليه ويأخذها، ويقال لذلك:"التقاوي"، ولم يرَ الإسلام بأسًا بذلك. وفي حديث ابن سيرين: لم يكن يرى بأسًا بالشركاء يتقاوون المتاع بينهم فينمو ويزيد4.
ومن البيوع التي نهي عنها في الإسلام "الإعراب"، أن يقول الرجل للرجل: إن لم آخذ هذا البيع بكذا، فلك كذا وكذا من مالي5.
1 عمدة القاري "11/ 258"، إرشاد الساري "4/ 72 وما بعدها".
2 صحيح البخاري "2/ 87"، "وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: من اشترى مصراة، فهو بخير النظرين؛ إن شاء ردها ورد معها صاعًا من تمر
…
لا تصروا الإبل والغنم"، اللسان "14/ 458".
3 صحيح مسلم "5/ 4"، تاج العروس "10/ 209"، "صري".
4 تاج العروس "10/ 307"، "قوو".
5 تاج العروس "1/ 372"، "عرب".