الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرف الإعاشة:
وأعني بها الحرف التي تهيئ الأكل للإنسان من تقديم أكل وشراب وما يتعلق بهما من أعمال مساعدة في تهيئة ذلك، فيدخل فيها طحن الحبوب والطبخ والخبز والأواني التي يوضع فيها الطعام وما شابه ذلك من أمور.
ولا بد للإنسان من سحق الحبوب وطحنها؛ ليكون في إمكانه أكلها والاستفادة منها. لذلك فقد يدقها دقا بين حجرين أو بآلات صلبة، ثم يلهم الحبوب المدقوقة لهمًا أو يحمصها على النار أو يمزجها بمادة أخرى؛ لتكون طيبة المذاق، مستساغة في الطعم. وقد يطحنها طحنًا، أي: يحولها إلى دقيق بواسطة الرحى، وهي حجران من حيث الأساس، أحدهما ثابت وهو الأسفل، والآخر متحرك وهو الحجر الأعلى وهو أصغر قليلًا من الحجر الأسفل، به فتحة توضع الحبوب بها فتنزل منها إلى سطح الحجر الثاني، فتقع بواسطة حركة الحجر الأعلى بين الحجرين وتداس فتسحق، وبواسطة استمرار الحركة وثقل الحجر الأعلى تتحول الحبوب إلى طحين يخرج من بين الحجرين إلى الخارج، حيث يسقط في حفرة أمامية عملت لتجميع الطحين بها، وذلك فيما إذا كان الحجر الأسفل مبنيًّا على قاعدة، أما إذا كان متحركًا فيسقط الطحين على أطراف الرحى على قماش أو أي شيء يوضع تحت الحجر الثاني، ثم يجمع الطحين.
وهذا النوع من الرحى هو من النوع المحسن الذي يمثل تقدمًا في صناعة طحن الحبوب. وقد عثر على نوع هو أبسط من الرحى المتقدمة، فهو عبارة عن حجر مائل نوعًا ما، أحد طرفيه مرتفع عن الطرف الآخر، يوضع الحب عليه ثم يسحق بحجر أسطواني الشكل في الغالب، يمسك بالأيدي من مقبض نحت منه على كل طرف من طرفيه، ثم يحرك على الحبوب لسحقها، وقد يقبض بطرفي الحجر ثم يحرك نحو الأسفل فالأعلى حتى تسحق تلك الحبوب وتتحول إلى طحين.
ولا أستبعد استعمال العرب الجنوبيين للطواحين الكبيرة التي تدار بالماء، وذلك بالإضافة إلى الطواحين التي تديرها الحيوانات؛ وذلك لبيع الطحين في الأسواق. وقد كان الناس يستعملون الرحى في الغالب للحصول على الطحين، فلم يكد يخلو بيت منها؛ ولذلك كانت صناعة الرحى من الصناعات النافقة المربحة في ذلك الزمان.
والطحن من الأعمال التي تخصص بها النساء، وتقوم به الخادمات في البيوت الكبيرة. وقد توضع جملة رحى في البيت الكبير، حيث تخبز كميات وافرة من العجين لإعاشة أفراد البيت.
ولمكانة الرحى عند القوم يومئذ، تخصص أناس بإصلاح الحجر لتحويله إلى رحى صالحة لطحن الحبوب أو لعمل الزيوت. وليس يصلح كل حجر لأن يكون حجر رحى؛ ولهذا فعلى الخبير بالرحى اختيار الحجر الصالح، ثم عليه إصلاحه ليكتسب الاستدارة وعمل ثقب فيه ونقرة وغير ذلك مما يتعلق بهذا العمل. وتكون حجارة الرحى مختلفة في الحجم، باختلاف العمل الذي يوكل إليها أداؤه، فبعض الرحى كبيرة ثقيلة ذات قطر واسع، وتستخدم في طحن بعض المواد الصلبة مثل العفص ومواد الدباغة الأخرى والمواد التي تستخدم في إنتاج الزيت والطحين، ويستخدم الحيوان لإدارة مثل هذه الرحى. وقد عثر على حجارة رحى ضخمة استخدمها العرب قبل الإسلام في تلك الأغراض.
وبائع الحنطة يقال له: الحنَّاط، يعيش من الاتجار بالحنطة، وقد يبيع معها الشعير والحبوب الأخرى. وقد ورد ذكر "الحناطين"، في كتب الحديث1.
والخبز في العادة هو من الأعمال البيتية، أي: من الأعمال التي تتم في البيت، حيث تقوم الزوجة بخبزه، ويقوم الرقيق أي: الخدم بخبزه في البيوت الكبيرة الغنية. وهو من اختصاص النساء.
وقد احترف بعض الناس الخبازة، وعرف واحدهم بـ"الخباز"، إذ يصنع الخبز المصنوع من الحنطة أو المصنوع من الشعير أو من الذرة ومن الأرز. والخبز على أنواع، فيه الغليظ وفيه الطري وفيه الناشف، وفيه ما يضاف إليه
1 المعرب "ص141"، تاج العروس "5/ 121 وما بعدها".
السكر. وقد ذكر أن من الخبز الغليظ ما يقال له "جرذق" و"جردق" و"الجردقة"، واللفظة فارسية معربة وأصلها "كردة"1.
والخبز المصنوع من الحنطة، هو أجود أنواع الخبز وأغلاها؛ ولذلك يعتبر خبزها خبز الأغنياء وخبز الطبقة المتمكنة، أما خبز الأعراب والفقراء وأهل القرى فهو الخبز المصنوع من الشعير أو من الذرة. ويقتات فلاحو بلاد الشام واليمن بخبز الذرة؛ لوجوده بكثرة عندهم، ولرخص ثمن الذرة بالنسبة إلى القمح. كما يقتات بعضهم بالخبز المصنوع من "الدخن"، وهو من الحبوب القديمة وقد أشير إليه في التوراة2.
ومن أنواع الخبز "المرقق"، أي: الرقاق، وقد ورد ذكره في كتب الحديث3، ويقال له "المرقوق" في بلاد الشام، ويعرف بـ"رقيقيم" أي:"الرقيق" عند العبرانيين4، ولا زال معروفًا مستعملًا. ويكون ناشفًا رقيقًا يمكن حفظه وخزنه مدة طويلة؛ ولذلك يدخر للشتاء وللأسفار. ويرقق خبز الرقاق بآلة تسمى: المرقاق5.
والخبز الجيد هو الخبز المصنوع من الطحين المنقى الصافي من قشرة الحبوب، وذلك بنخل الطحين في منخل فيسقط لب الطحين ويعزل عن القشرة التي تبقى في المنخل، حيث يستعمل لأغراض أخرى كعلف للحيوان، أو لتنظيف الأواني، وما شابه ذلك من أعمال.
و"الكعك"، هو نوع من الخبز اليابس، ويحمل في الأسفار أيضًا، حيث يبقى مدة طويلة محافظًا على طعمه ونكهته. وقد ذكره بعض اللغويين في المعربات6. والسميذ، نوع من أنواع الخبز اليابس كذلك.
وقد يحلى الخبز، بوضع مادة حلوة فيه، وقد يعجن بالدهن أو الزيت،
1 المعرب "ص95، 115"، تاج العروس "6/ 305".
2 حزقيال، الإصحاح الرابع، الآية التاسعة، Hastings، Dict.، Vol.، I، p. 315 f
3 المعرب "ص197"، فتح الباري "9/ 464"، اللسان "10/ 123".
4 Hastings، Dict، of theBible، vol. I، p. 318، Hastings، a dict. Of Christ and the Gosple، bol، I، p. 231
5 تاج العروس "6/ 359".
6 تاج العروس "7/ 174"، المعرب "ص297".
وقد توضع فيه بعض المواد لإعطائه نكهة خاصة، أو يوضع عليه السمسم أو غيره، كما نفعل اليوم.
ويخبز الخبز عند الحضر وأهل الريف في "التنور". و"التنور" من الألفاظ الواردة في عدد من اللغات السامية؛ فهو "تنورو" Tanuru في الآشورية1، و"تنور" في العبرانية2، والتنور العربي هو نفس البابلي القديم نفسه3.
وقد عيّر "حسان بن ثابت" رهط "النجاشي" الشاعر، بأنهم لم يكونوا أهل حرب ولا طعان ولا فرسان، وإنما هم قوم لا يعرفون غير الأكل والجلوس حول التنانير، يأكلون ما يخبز فيها4.
وعاش بعض الناس على بيع الحليب واللبن والزبدة والجبن. أما "اللبن"، فإنه الحليب المثخن، أي: الحليب الغليظ، غلظ بتسخينه وبإضافة خميرة إليه. وأما الزبدة، فتستخرج من خض الحليب وتحريكه، فتتجمع مادة دهنه وتكون الزبدة. وأما الجبن، فإنه من أكل أهل القرى والمدن في الغالب، أما الأعراب، فلم يستعملوه بكثرة، ولا زالوا على هذه العادة. وقد يستعمل بعضهم اللبن المجفف، فبعد تحويلهم الحليب إلى لبن، يجففون اللبن، ويستعملونه عند الحاجة. وقد ذكر الجبن في التوراة بـ"جبينة" من أصل "جبن" أحد الألفاظ السامية القديمة5.
ويعيش أناس من الجِزارة، فكانوا يبيعون اللحم ويتكسبون بهذه الحرفة، كما كانوا يقومون بالجزارة للناس في مقابل أجر يتقاضونه، قد يكون نصيبًا يدفع إليهم من الذبيحة، وقد يكون شيئًا آخر يحصل التراضي عليه6. ولكن العادة أن يقوم الذبَّاحون بذبح الذبائح لأهل البيوت مقابل دفع شيء إليهم من الذبيحة أو بعض الأشياء التي يحتاجون إليها، وقد يقوم بالذبح أصحاب البيوت أو الخدم أو الطباخون، وذلك في العوائل الكبيرة؛ ولهذا فحرفة الجزارة لم تكن من الحرف
1 Reallexkon، Bd، I، S. 5 Lieferung، S. 387
2 Hastings، A Dictionary of the Bible، P. 315
3 Reuther، Innenstadt bon Babylon، S. 26، F، 53، 107. 118
4
ألا طعان، ألا فرسان عادية
…
إلا تجشؤكم حول التنانير
ديوان حسان "ص215""البرقوقي".
5 Smith، Vol.، I، p. 237
6 جامع الأصول "4/ 396".
الشائعة، لا سيما وأن سواد الناس لم يكن في إمكانهم تناول اللحوم في كل يوم؛ لغلائها بالنسبة لهم، بل كانوا يعيشون على الخبز وبعض الإدام الرخيص؛ ولهذا صار الخبز المادة الأساسية في معيشة الإنسان، ومن هنا قيل له "العيش"، وقيل للطعام:"العيش". كما كان اللبن أساسًا لمعيشتهم، وقد يتأدمون بالتمر مع الخبز1.
وأحسن اللحوم عند العرب لحوم الإبل، لا يفضلون شيئًا عليها، ومنهم من كان يستطيب أكل الضب2، وهم في أكل لحم الجمل على عكس يهود الذين يحرمون أكل لحوم الجمل. أما لحوم الغنم والماعز، فإنها تكون عند أهل القرى والمدن، حيث يبيعها الجزارون، وقد يأكون لحوم الخيل. وفي الأدب العربي قصص عن ذبح فرس لضيف قادم، حين لا يكون لدى المضيف من حيوان سوى الفرس. وقد يأكون الحمر الوحشية، والحيوانات الأخرى حيث يصطادونها، أما الدجاج، فإنه من مآكل أهل القرى والمدن حيث تربى عندهم ويبيعونها في السوق.
وكان مأكولهم في غالب الأزمان لحوم الصيد والسويق والألبان، وكان الغالب من أهل باديتهم لا يعاف شيئًا من المأكل لقلتها عندهم. وكان الاصطياد ديدنًا لهم وسيرة فاشية، حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم؛ لاضطرارهم إلى النقلة في الغالب وتشاغلهم بالحروب وغزو بعضهم بعضًا، ولضيق ذات يدهم، فكانوا يتغلبون على كل ذلك بالاصطياد وبمطاردة الحيوانات بكل طريقة ممكنة لأكل لحومها3.
والطِّباخة من الحرف التي كانت معروفة عند الجاهلين، وقد ورد في كتب اللغة والأخبار وكتب الحديث أسماء بعض الأطعمة التي كان يستعملها أهل الجاهلية وبينها أسماء أطعمة معربة، اقتبسها العرب من الفارسية والآرمية واليونانية. ومن هذه الأطعمة المعربة، "الخرديق""الخردق"، وهو طعام شبيه بالحساء أو
1 اللسان "6/ 322".
2 بلوغ الأرب "1/ 380"، وكان الرسول ممن لا يستسيغ أكل العنب، كتاب التأريخ الكبير، لأبي عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري "المتوفى سنة 256هـ"، "1/ 170"، "طبعة حيدر آباد الدكن سنة 1363هـ".
3 بلوغ الأرب "1/ 380 وما بعدها".
"الخزيرة"1، وقيل: المرفة بالشحم. ذكر العلماء أنها من أصل فارسي، هو "خورديك"2، و"الحشنكان"3.
وتقوم المرأة صاحبة البيت بالطبخ، أما إذا كانت الأسرة غنية موسرة، فتستخدم طبَّاخات للطبخ، وقد يقوم "طباخ" بذلك. وفي الولائم الكبيرة حيث يدعى عدد كبير من الناس، يصعب على الطبَّاخات الطبخ بالقدور الكبيرة؛ ولهذا يقوم الرجال بذلك.
وقد استخدم أصحاب المال والثراء طباخين أعاجم لطبخ الأطعمة لهم؛ وذلك لإتقانهم عمل الطبخ، ولتفننهم فيه، ولمعرفتهم بأنواع المآكل الأعجمية التي لا يعرفها العرب. وقد ذكر أن "عبد الله بن جدعان" جاء بطباخ فارسي من العراق ليطبخ له مأكولات لا يعرفها أهل مكة وقد أعجبته، ومنها الفالوذج، وهو من مأكولات الفرس.
وتستعمل القدور في طبخ الأكل، والعادة أن تكون هذه القدور من معدن؛ مثل نحاس أو حديد، ولكنها قد تصنع من الحجارة المنحوتة أو طين مشوي بالنار، أي: قدور من فخار. وتستخدم المقلاة للقلي، فيقلى فيها أو في القدر ما يراد قليه من لحم أو غير ذلك. وقد يسلق اللحم أو الخضر سلقًا، ويعبر عن ذلك في العبرانية بلفظة "سلق" كذلك، أما "المرق"، فيقال له "مرق" في العبرانية كذلك. وقد يهيأ الطعام بطريقة الشوي على النار، بأن يشوى اللحم أو السمك على النار، ويعبر عن ذلك بالشواء؛ يعلق اللحم أو السمك بعود أو أعواد أو بعمود من حديد، ثم يقرب من اللهيب أو الجمر حتى ينضج اللحم أو السمك فيرفع للأكل.
وقيل للقدر: "البرمة" بلغة أهل مكة، والجمع "بِرَام". وقد وردت لفظة "قدور" في القرآن الكريم:"وجفان كالجوابي وقدور راسيات"4 والمفرد: قدر، و"القدير" ما يطبخ في القدر، وقيل: ما طبخ من اللحم بتوابل، فإن لم يكن ذا توابل فهو طبيخ. والقدَّار: الطباخ، وقيل: الجزَّار، وقيل: الجَزَّار
1 المعرب "ص128".
2 تاج العروس "6/ 327".
3 المعرب "ص134".
4 اللسان "5/ 80"، البيان "1/ 19".
هو الذي يلي جزر الجزور وطبخها. قال مُهلهل:
إنا لنضرب بالصوارم هامها
…
ضرب القدار نقيعة القدَّام1
وعرفت البرمة بقولهم: البرمة: قدر من حجارة، والجمع: برم وبرام. وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن2.
ويطلق على الحجارة التي تنصب عليها القدر الأثافي، واحدتها: أثفية، وعلى المسافة بين أثافي القدر التي يجتمع فيها الحجر "الرَّبعة"3.
وطعام ابن البادية طعام محدود؛ لضيق أرضه وسذاجة حياته. أما الحضر، ولا سيما أصحاب الحضارة ومن كان منهم على اتصال بالروم والفرس، فكانت أطعمتهم متعددة متنوعة، فيها تفنن ومهارة في الطبخ. وقد يبقى الأعرابي مدة لا يذوق فيها طعامًا مطبوخًا باللحم؛ لأن اللحم نادر في البادية، إلا إذا جاء ضيف فنحر له، أو وقع له صيد. ولهذا أكل بعضهم الضباء والأرانب والحيوانات الأخرى التي تقع أيديهم عليها؛ لحاجتهم إلى اللحوم، وأكلوا الجراد. والأغلب شيُّ لحوم الصيد؛ لسهولة ذلك.
أما الحضر وسادات القبائل وذوو اليسار، فكانوا يطبخون. وقد وردت أسماء بعض أطعمتهم في الشعر وفي الحديث النبوي، ومنها الثريد، وهو لحم مقطع يغلى في الماء، وقد يوضع البصل معه أو مادة أخرى، وبعد نضجه يثرد خبز ويلقى اللحم والمرق عليه، فيسمى الأكل ثريدًا. وقد كان من الأكل الطيب المحبوب، وقد ذكر في كتب الحديث، ويقدم في الولائم وللضيوف. والخبز ممدوح عند العرب؛ ولذلك مدح هاشم حين هشم الخبز، والثريد عام في الأشراف، يقدمونه للناس، ويرون أكل الخبز سببًا في صفاء العقل؛ ولهذا ذكروا أن كسرى مدحه، حينما سمع حديث هوذة بن علي الحنفي معه. فلما رأى رجاحة عقل هوذة وحسن ذكائه، قال له: "ما غذاؤك ببلدك؟ قال: الخبز. فقال كسرى: هذا عقل الخبز، لا عقل اللبن والتمر. ويقال: إن عبد الله بن حبيب العنبري كان يعاف التمر، ولا يرغب في اللبن، ولا يأكل
1 اللسان "5/ 80".
2 اللسان "12/ 45".
3 المخصص "11/ 33".
إلا الخبز، فقيل في المثل:"أقرى من آكل الخبز"، وكان من الأجواد1.
وفي كتاب الأغاني: أن كسرى قال كلامه المذكور المتقدم إلى غيلان بن سلمة، وهو من ثقيف، وكان قد جاء مع أبي سفيان في تجارة إلى العراق. وقد خاف أبو سفيان من الفرس ومن احتمال مصادرتهم أموال تجارتهم، فتقدم غيلان ودخل مع الداخلين إلى بلاط كسرى، وتحدث معه، فأعجب كسرى به، وأخذ يسائله حتى سرّ منه، فاشترى منه تجارته، وقال له ذلك القول المذكور، وكساه، وبعث له معه من الفرس من بنى له أُطمًا بالطائف، فكان أول أُطم بني بها"2.
وفي المآدب الكبيرة يكون "الثريد"، هو الطعام الرئيسي. ويهيأ بسلق قطع اللحم الملقاة في الماء، وقد يضاف إليه البصل والحمص، فإذا سلق اللحم ونضج وتولد منه مرق، ألقي مع مرقه على الخبز المثرود في قصع وصحاف، ليأكله المدعوّون. والثريد من الأطعمة المحببة إلى نفوس أهل مكة والحجاز، وقد قدم "أبرهة" الثريد إلى الجنود والفعلة الذين أتموا سد مأرب، وذلك يوم الاحتفال بانتهاء العمل. وقد يقابل ذلك ما يقال له "سلوق" و"سليقوت" عند العبرانيين3. وقد أشير إلى الثريد في قصة ذهاب "هاشم بن عبد مناف" إلى بلاد الشام، والتقائه بهرقل، وتثريده لمن معه ولأهل مكة.
ولازدراء العرب ممن يزرعون البقول والخضر، أحجم الناس عن زراعتها، فقلَّ وجودها في مطابخ أهل الحضر. أما أهل البادية، فإن مآكلهم تكاد تكون خلوًّا من الخضر المطبوخة؛ لندرة الخضر في البادية، ولأنها تحتاج إلى لحم، وهو نادر في البادية أيضًا. ثم إن الطبخ المعقد لا يناسب الحياة في الصحراء؛ لهذا كان المطبخ الجاهلي، مطبخًا يكاد يكون مستغنيًا عن الخضرة المطبوخة باللحوم. لا يستثنى من ذلك إلا السادة المتصلون بالروم وبالفرس وأهل اليمن، والأغنياء من أهل المدن والقرى، فقد كان في إمكانهم الحصول عليها، ومن هنا استعملوها في الطبخ، يطبخونها مع اللحم.
1 مجمع الأمثال "2/ 73"، بلوغ الأرب "1/ 86 وما بعدها".
2 الأغاني "12/ 46".
3 Ency. Bibli.، Vol.، I، p. 888
لذا صار عماد الأكل الجاهلي والتمر واللبن والسمن والدقيق المصنوع من البر أو الشعير والشحوم والعسل، وذلك عند أهل الحضر في الغالب، والجراد والأقط. وإذا دققنا في قائمة المأكولات الجاهلية، رأينا موادها لا تتعدى هذه الأشياء، وهي تختلف باختلاف خلط هذه المواد وباختلاف مزجها وطبخها، ولكنها كلها لا تخرج عن حدود الأشياء المذكورة.
ونجد في قائمة مأكولات أهل الجاهلية أكلات تقوم على استعمال الدقيق في الطبخ، من ذلك الحساء: وهو طبيخ يتخذ من دقيق وماء ودهن، وقد يحلَّى ويكون رقيقًا يحسى1.
وقد يستعمل الدقيق مع الحليب، بأن يطبخ، ومن ذلك الحريرة: الحساء من الدسم والدقيق، وقيل: هو الدقيق الذي يطبخ بلبن؛ وقيل: الحريرة من الدقيق، والخزيرة من النخال2. وقد عرفت قريش بإكثارها من أكل أكلة عرفت بـ"سخينة"، ولاكثار قريش من أكلها عيّرت بها حتى قيل لها: "سخينة". والسخينة: أكلة ارتفعت عن الحساء وثقلت عن أن تُحسى، وهي طعام يتخذ من الدقيق دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء، وذكر أنها دقيق يلقى على ماء أو لبن فيطبخ، ثم يؤكل بتمر أو يحسى، وقيل: تعمل من دقيق وسمن. وذكر أن الناس يأكلون السخينة في شدة الدهر وغلاء السعر وعجف المال3.
ويذكر أهل الأخبار أن أول من لقب قريشًا بـ"سخينة""خداش بن زهير"، حيث يقول:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة
…
على سخينة لولا الليل والحرمُ
فذهب ذلك على أفواه الناس حتى كان من التمازح به ما كان بين معاوية بن أبي سفيان وبين الأحنف بن قيس التميمي، حين قال له: ما الشيء الملفّف في البجاد؟ فقال له: السخينة يا أمير المؤمنين، أراد معاوية قول الشاعر:
1 اللسان "14/ 177".
2 اللسان "4/ 184".
3 اللسان "13/ 206".
إذا ما مات ميت من تميم
…
فسرَّك أن يعيش فجيء بزاد
بخبز، أو بلحم، أو بتمر
…
أو الشيء الملفف في البجاد
يريد: وطب اللبن، وأراد الأحنف قول خداش بن زهير: يا شدة ما شددنا.. البيت. وحتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك الأنصاري: "أترى الله نسي قولك؟ يعني:
زعمت سخينة أن سَتَغلب ربها
…
وليغلبنّ مغالب الغلاب1".
وورد في بعض الروايات أن البيت المتقدم هو من شعر حسان بن ثابت2.
ومن المآكل التي يأكلها أصحاب العيال إذا غلب عليهم الدهر: النفيتة، وهي الحريقة، أن يذر الدقيق على ماء أو لبن حليب حتى تنفت، ويتحسى من نفتها، وهي أغلظ من السخينة. وقد قيل عنها: حساء بين الغليظة والرقيقة3. والحريقة اسم مرادف للنفيتة4.
ومن المآكل الحدرقة، وهي دقيق يلقى على ماء أو على لبن فيطبخ، ثم يؤكل بتمر أو يحسى وهو الحساء، فهي مثل السخينة والنفيتة والخزيرة والحريرة. وقيل: الحريرة أرق منها5، و"النجيرة": العصيدة، وهي لبن وطحين يخلطان6. ومنها "الصحيرة"، وهي اللبن يغلى ثم يذر عليه الدقيق، ومنها "العكيسة"، وهي لبن يصب عليه الإهالة وهي الشحم المذاب. ومنها "الغريقة"، وهي حلبة تضم إلى اللبن والتمر وتقدم إلى المريض والنفساء، ومنها "الرغيدة" وهي اللبن الحليب يغلى ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق7.
ومن مآكلهم: "الأصية"، وهي دقيق يعجن بلبن وتمر، ومنها "الرهية"، وهي برّ يطحن بين حجرين ويصب عليه لبن. ومنها "الوليقة" وهو طعام
1 العمدة "1/ 76 وما بعدها"، "القاهرة 1963م".
2 العقد الفريد "6/ 292"، "كتاب التأريخ الكبير، للبخاري "1/ 70"، بلوغ الأرب "1/ 381 وما بعدها".
3 اللسان "2/ 100"، بلوغ الأرب "1/ 383".
4 اللسان "10/ 43".
5 اللسان "2/ 100"، "10/ 40".
6 اللسان "5/ 194".
7 بلوغ الأرب "1/ 383".
يتخذ من دقيق وسمن ولبن، ومنها "الخزيفة"، وهي شحمة تذاب ويصب عليها ماء يطرح عليه دقيق فيلبك به، ومنها "الرغيغة"، وهي حسو من دقيق وماء وليست في رقة السخينة، و"الربيكة"، وهي طعام يتخذ من بر وتمر وسمن. ومنها "التلبينة"، وهي حُثالة تتخذ من دقيق أو نخالة ويجعل فيها عسل. ومنها "الوشيقة"، وهي أن يُغلى اللحم ثم يرفع، و"العثيمة": طعام يطبخ ويجعل فيه جراد وهو الغشيمة" أيضا، و"البغيث" و"الغليث": الطعام المخلوط بالشعير1.
و"العريقة"، وهي شيء يعمل من اللبن، و"البكيلة": السمن يخلط بالأقِط، وقيل: الدقيق يخلط بالسويق، ثم يبل بماء أو بسمن أو بزيت2.
ومن مآكلهم "الخزيرة"، وهي أن ينصب القدر بلحم يقطع صغارًا على ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق، فإن لم يكن لحم، فهو عصيدة. وينسب صنعها إلى سويد بن هرمي؛ ولذلك قال شاعرهم لبني مخزوم:
وعلمتم أكل الحزير وأنتم
…
على عدواء الدهر صم صلاب3
وعرفت الخزيرة: أنها اللحم الغابُ يؤخذ فيقطع صغارًا في القدر، ثم يطبخ بالماء الكثير والملح، فإذا أميت طبخًا ذرَّ عليه الدقيق فعصد به، ثم أدم بأي إدام شيء، ولا تكون الخزيرة إلا وفيها لحم، فإذا لم يكن فيها لحم فهي عصيدة. وقيل: الخزيرة مرقة، وهي أن تصفى بلالة النخالة ثم تطبخ، وقيل: الخزيرة والخزير: الحساء من الدسم والدقيق، وقيل: الحساء من الدسم4.
وصنع أهل مكة طعامًا، عدَّ عندهم من رقيق العيش، هو لباب البرّ بصغار المعزى5.
وهناك أكلات أخرى بسيطة، مثل أكل تمر مع لبن، أو الزبد مع الرطب،
1 بلوغ الأرب "1/ 383 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "1/ 384".
3 بلوغ الأرب "1/ 384 وما بعدها".
4 اللسان "4/ 237".
5 البيان "1/ 18"، الحيوان "5/ 481".
أو خلط لبن بلبن آخر ذكر أسماءها علماء اللغة1، لا أرى حاجة إلى ذكرها؛ لعدم وجود أهمية لها وعلاقة كبيرة بهذا الموضوع.
وقد استورد الحضر بعض مآكلهم من الخارج؛ لاستساغتهم واستحسانهم، فقد قيل: إن عبد الله بن جدعان سيد قريش كان قد زار العراق، ودخل قصر كسرى وأكل عنده، وكان في جملة ما أكل "الفالوذج"، فتعجب منه، وسأل عنه، فوصف له. ويقال: إنه ابتاع غلامًا يصنعه، وأخذه معه إلى مكة، وصار يأكله وأمر بوضع موائده بالأبطح إلى باب البيت؛ ليأكله الناس. وكان ممن أكله أمية بن أبي الصلت، فقال فيه شعرًا ومدح صاحبه لجوده وكرمه2:
إلى ردح من الشِّيزى عليها
…
لبُاب البُرِّ يُلبكُ بالشِّهاد
والردح: الجفنة العظيمة، والشيزى: خشب أسود تتخذ منه القصاع، واللباب: الخالص، والشهاد: العسل3. وقد نسب "البرقوقي" ذلك البيت إلى "ابن الزبعرى" عبد الله، وهو من الشعراء الذين عرفوا بهجائهم للرسول وبدفاعهم عن المشركين4.
وكان عبد الله بن جُدعان من أغنى أغنياء قريش، جمع مالًا عظيمًا، ولكنه كان على خلاف عادة التجار الأغنياء كريمًا جوادًا متأنقًا ينفق على طعامه وشرابه. كسا بيته بأحسن ما كان في ذلك العهد، كانت أواني شربه من ذهب، وفيه ورد في المثل: أقرى من حاسي الذهب5.
ويقال: إن ابن جدعان هذا كان في ابتداء أمره صعلوكًا تَربَ اليدين، شريرًا فاقطًا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف لا يُئويه أبدًا، فخرج في شعاب مكة تائهًا حائرًا، فرأى شقًّا في جبل، فدخل فيه ليستريح، وإذا به يعثر على مقبرة فيها جثث عليها
1 اللسان "1/ 384".
2 مجمع الأمثال "2/ 73"، الأغاني "8/ 4""طبعة ساسي"، بلوغ الأرب "1/ 381".
3 البيان "1/ 17 وما بعدها".
4 البرقوقي "ص57".
5 مجمع الأمثال "2/ 72".