الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الحادي عشر بعد المئة: النقود
…
الفصل الحادي عشر بعد المائة: النقود
وفي الموارد الإسلامية بعض الأخبار عن نقود كانت متداولة في الحجاز عند ظهور الإسلام، وقد سميت تلك النقود بأسمائها، وأشير إلى وزنها ومقدارها. وعثر الباحثون على نماذج من نقود جاهلية تعود إلى عهود مختلفة في مواضع متعددة مختلفة من جزيرة العرب، قدمت لنا بعض المعارف عنها وعن مصادرها. فمن الموارد الإسلامية ومن بعض كتابات المسند التي أشير فيها إلى نقود جاهلية ومن قطع النقود الجاهلية التي عثر عليها المنقبون، جمعنا ما سنقوله عن نقود أهل الجاهلية.
وقد استعمل أهل العربية الجنوبية النقود في معاملاتهم، استعملوا نقودًا سكّت من ذهب، ونقودًا سكّت من فضة، وأخرى سكّت من نحاس ومن معادن أخرى، وقد عثر على نماذج من كل نوع من هذه الأنواع. كما تعاملوا بالنقود الأجنبية كذلك، مثل النقود اليونانية والرومانية والمصرية والحبشية والفارسية، وقد عثر على نماذج من هذه النقود في مواضع متعددة من العربية الجنوبية: في اليمن، وفي حضرموت، وفي مواضع أخرى. وقد زاد تعامل أهل اليمن بالنقود الحبشية والساسانية في أثناء احتلال الحبش والساسانيين لليمن، ولا شك.
وفي بعض المتاحف ودور الآثار وعند بعض هواة جمع النقود والأشياء القديمة، قطع من نقود جاهلية ضربت في العربية الجنوبية، بعضها من ذهب، وبعضها من فضة، وبعض آخر من نحاس، ومنها الكبير، ومنها نقود صغيرة دوّن
على بعضها اسم الملك الذي ضربت في أيامه، أو الحرف الأول من اسمه، وعلى بعض آخر رموز وصور ألف العرب الجنوبيون ضربها على النقود، مثل صورة "أثينة" أو "البوم" وهي من الطيور التي ألف العرب الجنوبيون إظهار صورتها على النقد، وعلى الحجارة المكتوبة، وعلى جبهات البيوت.
والعملة تطور خطير من التطورات التي أثرت في الحياة الاقتصادية للبشر، أحد اختراعها انقلابًا كبيرًا في النظم الاقتصادية والاجتماعية، ويعد إيجادها من المخترعات الكبرى التي لعبت دورا خطيرا في حياة الإنسان ولا تزال تلعبه. قلصت أعمال المقايضة المرهقة المتعبة، وقضت على التعامل بالوزن في تقدير الأثمان؛ أعني التعامل بوزن الذهب والفضة في تقدير قيم الأشياء، بأن يعطي إنسانٌ إنسانًا قيراطًا من ذهب، أو نصف مثقال، أو مثقالًا مقابل سلعة ثم التساوم على سعرها، أو وزن مثقال من فضة أو أقل من ذلك أو أكثر في مقابل سعة يريدها المشتري، وهو نظام سبق نظام النقد، الذي ولدت منه فكرة العملة. وهو نظام متقدم بالنسبة إلى نظم المقايضة التي سبقته، قلَّص من صعوباتها كثيرًا، وأراح التاجر في التعامل، حتى ولدت فكرة سك العملة، فقلصت منه ومن تعقيداته، لسهولة التعامل بالعملة، ولاكتسابها صفة رسمية وسعرًا ثابتًا مقررًا ووزنًا معينًا حددته الحكومات.
وفي وسعنا إطلاق مصطلح "النقد الطبيعي" على نظام المقايضة، أي: مبدأ مبادلة سلعة بسلعة، فهو في الواقع نظام يستند على مبدأ التسعير وتثمين السلع وبيع سلعة بثمن سلعة أخرى. ولما وجد الإنسان صعوبة كبيرة في التعامل بهذه الطريقة، هداه عقله وتقدمه الفكري إلى ابتداع طريقة التعامل بالذهب والفضة وزنًا؛ فخفف الإنسان بذلك كثيرا من التعقيدات والصعوبات التي كان يجابهها في تعامله بالمقايضة، فكان إذا أراد شراء حاجة عامل صاحبها بمقدار موزون من الذهب أو الفضة، يقدمه إليه في مقابل شرائها، ثم انتقل بعد ذلك إلى طريقة سك العملة. فسهل بذلك معاملاته في البيع والشراء كثيرا، ولا زال هذا النظام سائدًا في كل أنحاء العالم، مع نظام العملة الورقية ونظام التعامل بالصكوك.
وقد تعامل الجاهليون بالطرق الثلاثة المذكورة؛ تعاملوا بالمبادلة، أي: المقايضة، وتعاملوا بوزن الذهب والفضة، وتعاملوا بالعملة. ولما ظهر الإسلام كانت هذه الطرق لا تزال مألوفة عندهم متبعة، فكانوا يبيعون تمرًا بتمر، وشعيرًا بشعير،
وحنطةً بحنطة، وقد أشير إلى هذه الأنواع في كتب الحديث، وأشرت إليها في باب البيوع. ولم يراع أهل الجاهلية تنوع الصنف في البيع، كأن يبيعوا حنطة من جنس معلوم بحنطة من جنس آخر، بل كانوا يبيعون الحنطة بالحنطة من نفس الجنس والنوع، بوزن مختلف لوجود تباين في الجودة أو تراب أو حبوب غريبة في إحدى الحنطتين. كما تعاملوا بتنوع السلع، مثل بيع حنطة بشعير وبالعكس، وبيع تمر بصوف أو بجلود، وما شاكل ذلك لوجود حاجة ولقلة النقد.
وتعاملوا بوزن الذهب والفضة، فاشتروا الرقيق بأواقٍ يحددونها من ذهب أو من فضة، وباعوا التجارة بأواقي الذهب والفضة، تعاملوا بالأواقي وبأقل منها وبأكثر حسب قيم الأشياء ودرجة تثمينها1. ونجد ذكر هذا التعامل في كتب الحديث والفقه؛ لما له من دور خطير في معاملات الناس في الجاهلية وفي والإسلام.
و"النقد" في مصطلح علماء العربية: تمييز الجيد من الرديء. قال الشاعر:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة
…
نفي الدنانير تنقاد الصياريف
والنقد: إعطاء النقد، ونقد الثمن: أعطاه نقدا معجلا2. ويظهر أن الجاهليين كانوا يطلقون لفظة "النقد" على العملة، وعلى التعامل بها من أخذ وقبض وتمييز الجيد من الرديء منها.
و"السِّكة": حديدة منقوشة كتب عليها، يضرب عليها الدنانير والدراهم. ومنه الحديث أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس، أراد بها الدرهم والدينار المضروبين. سمى كل واحد منهما سكة؛ لأنه طبع بالحديدة المعلمة له3.
ونجد في كتب الحديث رواية تذكر أن أول من ضرب الدينار تبع، وهو
1 "وكانوا يتبايعون بأوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم، وهو الرطل الذي هو اثنتا عشرة أوقية، والأوقية هي أربعون درهمًا"، الأحكام السلطانية "159"، "حاشية رقم 1".
2 تاج العروس "2/ 516"، "نقد".
3 تاج العروس "7/ 143"، "سكك".
"أسعد بن كرب"، وأن أول من ضرب الفلوس وأدارها في أيدي الناس:"نمروذ بن كنعان"1.
وقد وردت في كتابات سبئية وقتبانية إشارات إلى نقود سبئية وقتبانية كانت مستعملة في تلك الأيام، ويرجع بعض العلماء تأريخ أقدمها إلى حوالي سنة "400" قبل الميلاد2. وقد ورد ذكر بعضها مع أسماء ملوك سبئيين وقتبانيين، في تدوين عقود زراعية أو ضرائب في الغالب، وقد ذكرت حين الإشارة إلى دفع مبلغ أو إلى تحديد غرامات، ولكن ورود أسمائها في تلك العقود وفي الأوامر الملكية لأولئك الملوك لا يدل على أنها سكت في أيامهم وضربت في عهدهم، فقد يجوز أن تكون قد ضربت قبل أيامهم بأمد طويل أو قصير، وأنها كانت مستعملة قبل أيامهم وفي أيامهم في الأسواق؛ ولذلك أشير إليها في تلك الكتابات.
ونجد في أحد وجهي بعض النقود رأس رجل ظهرت ملامح وجهه إلى العنق، يحيط به غصنا شجر على هيئة دائرة، وقد تدلى شعر الرأس إلى العنق، وظهرت عليه تموُّجات الشعر على هيئة خصل محفورة، وأما صورة الأوجه، فهي جانبية اتجاهها نحو اليمين في الغالب. ولولا وجود بعض حروف المسند عليها لحسبتها من النقود المضروبة عند اليونان، ونجد في الوجه الآخر من النقد صورة البوم في الغالب؛ جسمها جانبي، أي قد امتد نحو الجانب. أما الوجه، فقد صور وكأنه ينظر إليك، وقد برزت عيناه بصورة واضحة ظاهرة حتى بدتا في شكل لا يتناسب أحيانًا مع حجم الوجه. ومن ينظر إلى هذا الوجه يخيل إليه أنه ينظر إلى رأس بومتين، لا بومة واحدة3.
وتحمل بعض النقود إشارات ورموزًا لها صلة بديانة العرب الجنوبيين قبل الإسلام. ومن ذلك الهلال، إشارة إلى الإله القمر4، والهلال وفي داخله
1 مسند أبي حنيفة "ص163".
2 Handbuch، I، S. 96
3 انظر الألواح المصورة للنقود الملحقة بكتاب:
G. Fr. Hill، A Catalogue of the greek Colins of Arabia، Mesopotamia and Persia، London، 1922
وسيكون رمزه: Hill
4 Handbuch، I، S. 35
أو في مقابله كوكب ذو رءوس تلتقي بنقطة في الوسط، وأحيانا على هيئة قرص دون رءوس، يمكن اعتبارهما أساس الكوكب والهلال "النجمة والهلال" المستعملين في بعض الأعلام الإسلامية واللذين يشاهدان على قبب المساجد ويعتبران عند المسلمين وعند الغربيين شعارا للإسلام. وهما في الأصل من شعائر الوثنيين الجاهليين، وقد يكون الكوكب ذو الرءوس أو القرص رمزًا يشير إلى الشمس.
وللعلماء الباحثين في النقود العربية الجنوبية آراء في الحروف المقطعة المضروبة على النقود، وفي الحروف المتصلة المربوطة بعضها ببعض في بعض الأحيان على هيئة الطغراء. وذهب بعضهم إلى أن هذه الحروف هي الأحرف الأولى لأسماء الملوك الذين ضربت تلك النقود في أيامهم، وذهب آخرون إلى أنها أسماء المواضع التي ضربت فيها تلك النقود، وذهب آخرون إلى أنها رموز للآلهة، وقد ضربت تبركًا باسمها. ومهما يكن من شيء، فبين الباحثين في النقود العربية الجنوبية اختلاف في هذا الموضوع، لم يتوصلوا فيه إلى حل متفق عليه1.
ومن الملوك الذين ضربت بعض النقود في أيامهم، ملك ذكر لقبه وحده، وهو "ينف""ينوف"، دون اسمه الأول الذي يعرف به، وإذ قد تلقب جملة ملوك بهذا اللقب، فمن الصعب البتّ في تعيين الملك صاحب هذا النقد2، وملك ذكر اسمه الأول، وهو "شمر"، والظاهر أنه "شمر يهرعش" ملك سبأ وذي ريدان3، و"كرب آل وتر يهنعم" وهو ابن الملك "ذمر على بين"، و"عمدن يهقبض"، و"عمدن بين"، وملوك آخرون4.
وقد وردت لفظة "بلط" في نصوص المسند، ترجمت بـ"نقد" وبـ"Coin" في الإنجليزية5. و"أبلط" في عربيتنا بمعنى لصق بالأرض وافتقر، وذهب ماله، وأفلس، والبلطة: المفلس6.
وقد ذكر "نزيه مؤيد العظم"، أن أهل اليمن يطلقون على النقود لفظة
1 Hill، XIVI
2 Hill، P.P. IVII
3 Hill، p. IX
4 Hill، p. IXVIII
5 Jamme، South Arabian Inscriptions، p. 428، Rhodokanakis، Kaba. Texte، II، S. 25، anm. 3
6 تاج العروس "5/ 111"، "بلط".
"ظلط"1، ولعل لهذه اللفظة صلة ببعض أسماء النقود اليمانية قبل الإسلام.
وهناك لفظة أخرى وردت في نصوص المسند، هي "خبصتم"، "خبصت"، ويرى "رودو كناكس" أنها اسم نقد أقل سعرًا وثمنًا من سعر نقد الذهب، وأنه لم يكن من الذهب ولا من الفضة بل من المعادن الأخرى2.
ووردت لفظة "رضيم""رضى" بعد العدد خمسة في نص سبئي، ذكرت مع العدد في أمر يشير إلى غرامة تفرض على المقصر والمتماهل في العمل، فحمل ذلك بعض الباحثين على الذهاب إلى أنها تسمية لنوع من النقد الذي كان مستعملا آنئذ. ولكن هناك من يرى أن اللفظة ليست تسمية وسمة لنوع من أنواع النقود، وإنما هي صفة لها، بمعنى مرضية ومرضٍ وبمعنى تامة وافية صحيحة، غير مزيفة ولا منقوصة في الوزن3.
وإذا كنا لا نستعمل اليوم في لغتنا الألفاظ والتعابير التي تدل على صحة النقود وسلامتها من الغش والتزوير كثيرًا، فإن القدماء ولا سيما صيارفتهم وأصحاب المال كانوا يستعملونها في معاملاتهم اليومية وفي عقودهم التي كانوا يدونونها؛ لأن سك العملة وضربها لم يكن يومئذ متقنا ولا مضبوطا من حيث المادة أو الوزن. وكان من السهل تقليد العملة وغشها والتلاعب بوزنها؛ ولذلك كان ثمنها عرضة للتغير والتلاعب بالسعر في بعض الأحيان. كما كان من السهل غش الناس بإعطائهم العملات المزيفة، حتى حفظت كتب الماضين أمثلة عديدة على ذلك، وكتب القدماء فصولًا في كشف الغش في النقود وفي معاقبة المسئولين عنه.
ومن الألفاظ التي استعملها أهل العربية الجنوبية للتعبير عن صحة العملة وسلامتها من الغش والتي دونوها في كتاباتهم، لفظة "مصعم""مصع"، بمعنى نصع وخلص، أي: خالصة من كل غش، صحيحة لا شائبة فيها. ولفظة "رضيم" المتقدمة، ولفظة "خبصتم""خبصت" من هذه التعابير على رأي بعض الباحثين4.
1 رحلة "85".
2 Rhodokanakis، katab. Texte.، II، S. 26
3 Rhodokanakis، katab. Texte.، II، S. 25
4 Rhodokanakis، katab. Texte.، II، S. 26
ويلاحظ وجود أثر للسكة اليونانية على السكة العربية الجنوبية، وقد وجد شبه أيضا بين بعض النقود العربية الجنوبية ونقود الساسانيين. ونظرًا إلى وجود صلات تجارية بين اليونان والساسانيين والعرب الجنوبيين، فلا يستبعد تأثر دور ضرب السكة في اليمن وفي حضرموت بطريقة ضرب النقود عند اليونان والساسانيين1. ومن أهم ملامح تأثر ضرب النقود بنقود اليونان، هو وجود صورة "البوم" رمز "أثينة" مطبوعًا على النقود، على نحو ما طبعت على النقود اليونانية، حتى صار من الصعب التفريق بينهما، فكأنما أخذ عمال ضرب النقود قالبًا للنقد اليوناني، ثم حفروا عليه حروف المسند وضربوه2. ثم صور الملوك، وكراسي جلوسهم عليها، والصولجان الذي بأيديهم، فكل هذه نقلت نقلا عن النقود اليونانية.
ولا بد أن تكون في اليمن دور لضرب النقود سكّت فيها عملتهم. وإني لآسف إذ لم أقف على كتابات جاهلية فيها ما يفيدنا عن كيفية ضرب النقود عند العرب الجنوبيين أو عند غيرهم وأوزانها وأنواعها، وما شابه ذلك من أمور تتعلق بها، وليس لنا من أمل في زيادة علمنا بها غير الترقب والانتظار، فلعل يقظة العرب تولي تأريخ العرب القديم ما يستحقه من عناية ورعاية وبحث، فيجدُّون في تتبع مواطن الآثار الغنية المطمورة لاستخراج دفائنها التأريخية الثمينة التي تظهر لنا أمورًا كثيرة من تأريخ تلك الأيام.
وقد عثر في بصرى وفي مواضع من المنطقة التي عرفت بـ"المقاطعة العربية""الكورة العربية" على نقود معظمها من نقود الرومان واليونان، كما عثر على نقود نبطية. ويذهب بعض الباحثين في النمّيات، أن الملك "الحارث الثالث""87 - 62ق. م."، هو أول ملك نبطي أمر بضرب النقود، أخذ السكة من اليونان أثناء استيلائه على دمشق. وقد عثر على نقد من فئة "دينار" طبع عليه رمز يمثل اتفاق الحارث و"سكاورس" وصورة جمل وشجرة. وعثر على نقود أمر "الحارث" هذا بضربها، تشبه النقود التي ضربها "ديمتريوس
1 Carlo Conti Rossini، Monete Sud-Arabiche، Rendiconti della R. Acad. Dei Lincai، 30، 1922، p. 239، Handbuch، I، s. 96، 175
2 Mardtmann und Mittoch، Saba. Inschri، S. 8
الثاني" "الثالث" "Demetrius Eukairos III" بمدينة "دمشق" شبهًا كبيرًا؛ ولهذا يرى الباحثون أنها تقليد ومحاكاة لها. ولم يصل إلينا نقد من نقوده يحمل كتابة مدونة بالنبطية1.
وجاد "عبادة" الثالث من ملوك النبط علينا بقطع من النقود، يرى الملك على أحد وجهيها ومعه صورة امرأة يظن أنها صورة أمه، وأنها تشير إلى مبدأ حكمه إذ كان قاصرًا، فكانت أمه تدير الملك باسمه نيابة عنه، وذلك بالنسبة إلى النقود التي ضربت في أوائل أيام الحكم، وأما في النقود المتأخرة، فإنها صورة زوجته، التي كانت تساعده وتؤازره2. وتشاهد صورة نسر واقف قابض على جناحيه في الوجه الثاني من أحد النقود، وعلى طرفي الصورة كتابة، وصورة رأس رجل في القطعتين المرقمتين "7" و"8" يرى أنها رأس الملك وعلى طرفي الصورة كتابات نبطية وتأريخ الضرب.
وتعد النقود التي ضربت في أيام "الحارث" الرابع من خير ما ضرب من النقود في أيام النبط، ولم يعثر على نقد له ضرب في مدينة "دمشق" في المدة التي استولى فيها على تلك المدينة، وقد ضرب بعضها باسم الملك وباسم زوجته "خلدو""خلد"، زوجته الأولى. وصورت صورة زوجته هذه على النقد، وضرب بعضها باسمه وباسم زوجته الأخرى "شقيلة" وطبعت صورتها على النقد كذلك، وضرب بعض آخر باسم الملك وحده. وهي مختلفة: بعضها من الفضة، وبعض آخر من البرنز، وعلى عدد منها تأريخ الضرب3.
وضرب اسم "شقيلة" الثانية ملكة النبط مع اسم الملك "ملكو""مالك" الثاني في نقد وصل إلينا، وقد وصفت في النقود بأنها أخته. أما القطع التي وصلت إلينا، فبعضها مصنوع من الفضة وبعض آخر من البرنز، وعلى نقوده شيء من التبديل والتغيير عن النقد الذي ضرب في أيام "الحارث" الرابع4.
وتُبُورك في بعض النقود مثل نقود "بصرى" بضرب صور الآلهة أو نعوتها
1 G. Fra-Hill، Catalogue of the Greek Coins of Arabia، Mesopotamia and Persia، London، 1922، pp. XI، Die Araber، I، S. 298
2 Hill، p. XIV، XV، XVI، 4،Pi. 1، 6، 7، 8، Morey، Rev. Num، 1911، p. 79
3 Hill. P. XVII، 5، P 1، 9، 10، 11، 12، 13، 14، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 21، II، 1-12Dalman، Neue Petra Forschungen، S. 106.
4 Hill، p. XIX، II، P1، II، 13-17
أو رموزها على النقود، فقد ضرب نعت الإله "دو شرى""ذو الشرى" على نقد ضرب في "بصرى". كما أشير إلى هذا الإله في نقد ضرب بـ"بصرى" بتصوير منظر من مناظر الاحتفالات السنوية التي كانت تقام في كل عام إكرامًا له، وتعرف بـ"Actia Dusaria"1. أما آلهة المدينة التي ضربت صورتها على بعض النقود، فتشبه صورتها صورة "عشتاروت" "عشتروت" المعروفة بفلسطين وفينيقية، ويظهر أنها "اللات"2. وتشبه في بعض النقود صورة "أثينة"، وقد دعيت بـ"Tyche"، و"أثينة" هي "اللات" عند أهل حوران3.
وعثر في جزيرة "فيلكا" على نقود يونانية من بينها درهم ضرب في عهد الملك "أنطيوخس" الثالث من ملوك السلوقيين، ويعود تأريخ هذا الدرهم إلى حوالي السنة "212" قبل الميلاد. وتبين أن بعض الدراهم قد ضرب في "جرها""Gerhha""الجرعاء"، كما عثر على نقود ضربت من النحاس، تبين أن قطعة منها ضربت في عهد "سلوقيوس" الأول، ضربها باسم الملك "الإسكندر" الأكبر، وأن قطعتين منها ضربتا في أيام "أنطيوخس" الثالث. فهي تعاصر الدراهم المذكورة4.
أما أهل الحجاز، فقد تعاملوا بالنقود الرومية والساسانية: تعاملوا بالدنانير، وتعاملوا بالدراهم، وتعاملوا بالدانق، وتعاملوا بنقود أهل اليمن، ولعلهم كانوا يتعاملون بنقود أهل الحبشة كذلك. فقد كان أهل مكة خاصة تجارًا يتاجرون مع اليمن ويتاجرون مع العراق وبلاد الشام والحبشة، وتجارتهم هذه تجعلهم يستعملون مختلف النقود.
ولم يرد في الأخبار ما يفيد قيام أهل العربية الغربية أو أي مكان آخر في جزيرة العرب بضرب النقود الجاهلية فيها، لكن ذلك لا يمنع من احتمال عثور النقابين في المستقبل على نقود محلية، ضربت في مكة أو في الطائف أو في يثرب أو في مكان آخر ولو على نطاق ضيق محدود.
1 Hill، p. XXVII
2 HILL، p. XXIX
3 HILL، p. XXX
4 نقود يونانية من جزيرة فيلكا، وزارة التربية والتعليم: قسم الآثار والمتاحف، مطبعة حكومة الكويت.
وكان تعامل أهل مكة بالدنانير، ترد إليهم من بلاد الشام، ولا سيما دنانير هرقل، وبالدراهم الفارسية البغلية، "فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر، وكان المثقال عندهم معروف الوزن، وزنه: اثنان وعشرون قيراطًا إلا كسرًا، ووزن العشرة الدراهم، سبعة مثاقيل، فكان الرطل اثنتي عشرة أوقية، وكل أوقية أربعون درهمًا، فأقر رسول الله" ذلك ومن جاء بعده إلى أيام "عبد الملك بن مروان"، فأمر أن تضرب الدراهم على خمسة عشر قيراطًا من قراريط الدينار1. وذكر أن الدنانير التي كانت ترد مكة في الجاهلية رومية، والدراهم كسروية2.
وقد اشتهرت دنانير "هرقل"، وعرفت بـ"الهرقلية"، حتى إنها كانت تسمى الدنانير عامةً "الهرقلية"3. والظاهر أن ذلك بسبب كونها مجلوَّة مطبوعة طبعًا حديثًا، لم تطمس آثارها ولم يمض زمن طويل عليها، أو لأن العرب حصلت في عهده على أكثر دنانيرها، فنسبتها إليه.
والدينار عملة من الذهب، عرف علماء اللغة أنها من الألفاظ المعربة، ولكنهم لم يتأكدوا من أصلها، فذهبوا إلى أنها من أصل فارسي4، وهي معربة من أصل يوناني هو "ديناريوس""Dinarius" مختصر"Dinarius" Aureus" "Aureus Denarius"" كما جاء ذلك في تأريخ "بلينيوس"5. والظاهر أن العرب استعملوا التسمية التي كانت شائعة في بلاد الشام، منذ عهد إصلاح "قسطنطين" الأول "309 - 319م" لنظام النقد، فأطلقوا على العملة الذهب لفظة دينار. وقد كان أهل الشام قد اقتصروا على لفظة "Dinarius" منذ ذلك العهد6.
وقد ورد ذكر الدينار في القرآن الكريم: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} 7،
1 فتوح البلدان "452"، "أمر النقود،
Josef Von Karabaek، zur Orientalischen Alterumskunde، Wien، 1908. S. 61
المخصص "12/ 27"، جامع الأصول "1/ 371".
2 فتوح البلدان "453".
3 "دنانير شيفت من هرقل بروسم"، الجواليقي "ص349"، المخصص "12/ 22"، حاشية على الصفحة 371 وما بعدها من الجزء الأول من كتاب: جامع الأصول من أحاديث الرسول، لابن الأثير الجزري.
4 تاج العروس "3/ 211"، "دينار".
5 Pliny، Hist. Nat.، Book، XXXIII، 13
6 Ency.، I، p. 975
7 آل عمران، الآية 75، المفردات "171".
والقنطار وزن. وتأويل الكلام: أن من أهل الكتاب الذي إن تأمنه على عظيم من المال كثير يؤده إليك ولا يخنك فيه، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه، فلا يؤده إليك إلا بالتقاضي والمطالبة1.
ويعرف "الدينار" بـ"العين"، والعين الذهب عامة2، فكأنهم سموا عينًا، لأنه من ذهب.
وقد فكر المسلمون قبل "عبد الملك بن مروان" في موضوع النقود، وفي ضرورة تحويلها إلى نقد إسلامي، وكان "عمر" في جملة من فكر في ذلك. إنه أراد أن يجعل الدراهم من جلود الإبل، فلما استشار ذوي الخبرة، لم يقروه على رأيه فأمسك3، وذكر أنه أمر بضرب الدراهم، فضربت سنة ثماني عشرة من الهجرة4، وضرب "عثمان" الدراهم كذلك. ثم إن معاوية ضرب الدراهم السود، وضرب أيضا دنانير عليها تمثال متقلد سيفًا5، وضرب "زياد" النقد كذلك. ولما قام عبد الله بن الزبير بمكة ضرب دراهم مدورة، وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة. وضرب "مصعب بن الزبير" دراهم بالعراق، ثم غيرها "الحجاج"، حتى استقر الأمر لعبد الملك، فعرب النقد على نحو ما هو معلوم6.
وقد بقي العرب يتعاملون بالدنانير الرومية إلى أيام عبد الملك، حيث أمر بضرب الدنانير، فضربت بدمشق، وقد نعت الدينار الجديد بـ"أحرش" إذ كانت فيه خشونة لجدته. ومنه الحديث أن رجلًا أخذ من رجل آخر دنانير حرشًا، وهي الجياد الخشنة الحديثة العهد بالسكة التي عليها خشونة النقش7.
ومن أسماء الدينار "السِّكِّي"8.
1 تفسير الطبري "3/ 225 وما بعدها"، تفسير النيسابوري "3/ 225 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري".
2 تاج العروس "9/ 288"، "عين".
3 فتوح البلدان "456"، "أمر النقود".
4 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "160 حاشية".
5 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "160 حاشية".
6 الأحكام السلطانية، "160 وما بعدها".
7 تاج العروس "4/ 296"، "حرش".
8 تاج العروس "7/ 143"، "سك".
وقد ذكر علماء اللغة أن لفظة الدرهم فارسية الأصل، وقد عربت، وقالوا في جمعها: دراهم ودراهيم1، وهو نقد من الفضة. وقد عرف بـ"درم" Diram في الفارسية وبـ"درخمة""درخما" Drachma في اليونانية. والظاهر أن العرب أخذوا بالتسمية الفارسية، وقد استعملوا في تعاملهم دراهم الفرس ودراهم اليونان.
وأشير إلى الدراهم في الآية: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} 2. ويذكر المفسرون أنه كان من عادة الجاهليين التعامل بوزن الدراهم بالأواقي إن زاد عددها على وزن أوقية، وكان وزن الأوقية أربعين درهمًا. فما نقص عن هذا المقدار، جرى التعامل عليه بالعدد، وما زاد عليه جرى التعامل عليه بالوزن3.
وكانت الدراهم مختلفة كبارًا وصغارًا، فكانوا يضربونها مثقالًا، وهو وزن عشرين قيراطًا، ويضربون عشرة قراريط، وهي أنصاف المثاقيل. وكان أهل الجاهلية يتعاملون بها حسب وزنها، وهي دراهم الأعاجم4.
وقد قسم العلماء الدراهم التي كان يستعملها الجاهليون من أهل مكة وغيرهم إلى نوعين: الدراهم السود الوافية، والدراهم الطبرية العتق، والوافية هي البغلية، وكان لهم دراهم تسمى "جوراقية". والدرهم الطبري: ثمانية دوانق، والدرهم البغلي: أربعة دوانق، وقيل العكس. والدرهم الجوراقي: أربعة دراهم ونصف5.
وورد أن الدراهم كانت في أيام الفرس مضروبة على ثلاثة أوزان: منها درهم على وزن المثقال عشرين قيراطًا، ودرهم وزنه عشرة قراريط، ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطًا6.
1 قال الفرزدق:
تنفي يداها في كل هاجرة
…
نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
تاج العروس "8/ 298"، "درهم".
2 سورة يوسف، الآية 20، المفردات "168".
3 تفسير الطبري "12/ 102 وما بعدها".
4 فتوح البلدان "451"، "أمر النقود".
5 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الحنبلي "ص108، 158 وما بعدها"، "تحقيق محمد حامد الفقي"، الأموال، لأبي عبيد "رقم 1622".
6 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "159"، الأحكام السلطانية للماوردي "153".
وعرفت دراهم الأكاسرة بـ"دراهم الأسجاد"، قيل: إنها عرفت بذلك؛ لأنها كانت عليها صور يسجدون لها، وقيل: كانت عليها صورة كسرى، فمن أبصرها سجد لها، أي: طأطأ رأسه لها وأظهر الخضوع. وإياها عنى الأسود بن يعفر النهشلي في رواية من الروايات بقوله:
من خمر ذي نطف أغنّ منطق
…
وافى بها كدراهم الأسجاد1
وذكر في رواية أخرى، أن الأسجاد: اليهود والنصارى، أو معناه: الجزية2.
وكان الفرس عند فساد أمورهم فسدت نقودهم من العين والورق غير خالصة، إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة وكان غشها عفوًا لعدم تأثيره بينهم إلى أن ضربت الدراهم الإسلامية فتميز المغشوش من الخالص3.
وورد أنه كانت باليمن دراهم صغار، في الدرهم منها دانقان ونصف4، وورد أن الدرهم اليمني كان دانقًا5. ويظهر أنه كان من أيام الحميريين، بدليل تسمية "الماوردي" لهذه الدراهم بدراهم حميرية، وكانت كما يقول قليلة6.
وعلى هذا يكون أهل مكة قد تعاملوا في الجاهلية بعملة الروم، وبعملة الفرس، وهي الدراهم على الأكثر، وبعملة اليمن، وأشار بعض العلماء إلى عملة مغربية، لم يذكروا عنها شيئا7.
وذكر أن "عمر بن الخطاب"، أمر بضرب الدراهم على نقش الكسروية، وشكلها بأعيانها، غير أنه زاد في بعضها:"الحمد لله"، وفي بعضها:"محمد رسول الله"، وفي بعضها:"لا إله إلا الله وحده". وكان ذلك سنة ثماني عشرة من الهجرة، وفي آخر مدة عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل. فلما بويع "عثمان" ضرب في خلافته دراهم نقشها:"الله أكبر".
1 تاج العروس "2/ 372"، "سجد".
2 تاج العروس "2/ 372"، "سجد".
3 الأحكام السلطانية، للماوردي "154"، لأبي يعلى "163".
4 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "159".
5 المصدر نفسه "ص162"، الأحكام السلطانية، للماوردي "154".
6 الأحكام السلطانية، للماوردي "154".
7 شرح النووي على صحيح مسلم "4/ 323"، "حاشية على إرشاد الساري".
وفي عهد "معاوية"، ضرب الدراهم السود الناقصة من ستة دوانق، فتكون خمسة عشر قيراطًا، تنقص حبة أو حبتين. وضرب منها "زياد"، وجعل وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وكتب عليها، فكانت تجري مجرى الدراهم. ولما قام "عبد الله بن الزبير" بمكة ضرب دراهم مدورة، وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة، وكان ما ضرب منها قبل ذلك ممسوحًا غليظًا قصيرًا، فدورها عبد الله. وضرب مصعب بن الزبير دراهم بالعراق، وجعل كل عشرة منها سبعة مثاقيل، فلما استوثق الأمر لعبد الملك بن مروان، ضرب الدنانير والدراهم في سنة ست وسبعين من الهجرة1.
وجاء في رواية أخرى أن أصحاب رسول الله كانوا يتعاملون بدراهم العجم، فكان إذا زافت عليهم أتوا بها السوق، فقالوا: من يبيعنا بهذه؟ وذاك أنه لم يضرب النبي، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا معاوية2. وإن أول من ضرب المنقوشة عبد الملك بن مروان3، ونجد بين العلماء اختلافًا في أول من أمر بضرب الدنانير والدراهم في الإسلام.
وذكر بعض أهل الأخبار، أنه كانت لقريش أوزان في الجاهلية، فدخل الإسلام فأقرت على ما كانت عليه. كانت قريش تزن الفضة بوزن تسميه درهمًا، وتزن الذهب بوزن تسميه دينارًا، فكل عشرة من أوزان الدراهم سبعة أوزان من الدنانير. وكان لهم وزن الشعيرة وهو واحد من الستين من وزن الدرهم، وكانت لهم الأوقية وزن أربعين درهمًا، والنش وزن عشرين درهمًا، وكانت لهم النواة وهي وزن خمسة دراهم، فكانوا يتبايعون بالتبر على هذه الأوزان، وقد أقرهم الرسول على ذلك4. وكانوا يحتفظون بالأوزان المقررة، حتى إذا حدث اختلاف على الوزن، رجعوا إلى الوزن المقرر المعتبر. وكان "أبو وداعة بن ضبيرة السهمي" يمتلك وزن مثقال في الجاهلية، يوزن به5.
1 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الحنبلي "ص160 وما بعدها الحاشية".
2 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "165".
3 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "164"، وللمقريزي رسالة في النقود القديمة والإسلامية مطبوعة.
4 فتوح البلدان "452 وما بعدها"، "أمر النقد".
5 فتوح البلدان "452"، "أمر النقد".
وقد كانوا يثلمون أطراف الدينار والدرهم، أو يقطعونهما قطعًا، فيتعاملون بالقطع حسب الوزن، ويفعلون ذلك غشًّا، كما كانوا يكسرون النقود؛ للتأكد من صحة معدنها، أو لتحويل الدنانير إلى تبر1. وقد نهي في الإسلام عن التلاعب بالعملة، مثل قرضهم أطراف الدراهم والدنانير بالمقراض؛ لغرض الاستفادة من تلك القراضة، إذ يجمعونها فيسبكونها، فيخرجون بذلك النقد المقروض عن سعره2.
والدرهم إذا عدل المثقال، فهو درهم وافٍ، وهو الذي لا يزيد ولا ينقص بل وَفََّى بزنته3.
وأطلق علماء اللغة على الدرهم لفظة "الوَرِق"، وعلى الموسر المالك للدراهم المورق، وسموا الفضة وَرِقًا4، وقد وردت اللفظة في نصوص المسند، وكأنها نوع من أنواع العملات، أو وزن. فورد "خمسي ورقم"، أي:"خمسين ورق"5، و"عشر ورقم"، أي:"عشر ورقٍ"، فكأن لفظة "ورق" هنا اسم علم لنوع معين من العملة، أو وزن معين وعيار كان معروفًا عندهم. وذهب بعض العلماء إلى أن الورق: الذهب، وهذا التفسير ينطبق مع ما ذهب إليه المستشرقون من أن لفظة "ورق" في المسند، تعني ذهبًا. ولو فسرناها بهذا المعنى أيضا، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون المراد من "ورقم" عملة خاصة ضربت من ذهب، وأرجح أن المراد منها عملة خاصة عرفت بهذه التسمية.
وذكر بعض العلماء أن الورق: المال، ورجل وَرَّاق: كثير المال، والدراهم بعينها والفضة6.
1 "وفي الحديث: نهى عن كسر السكة الجائزة بين المسلمين إلا من بأس، يعني الدنانير والدراهم المضروبة، أي: لا تكسر إلا من أمر يقتضي كسرها، إما لرداءتها أو في صحة نقدها
…
وقيل: كانت المعاملة بها في صدر الإسلام عددًا لا وزنًا، وكان بعضهم يقص أطرافها فنهوا عن ذلك"، اللسان "6/ 20"، "بأس".
2 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "166".
3 تاج العروس "10/ 394"، "وفى".
4 تاج العروس "7/ 85 وما بعدها"، المخصص "12/ 24"، "باب بيع الورق بالذهب نسيئة"، عمدة القاري "11/ 296"، اللسان "1/ 374 وما بعدها"، "ورق".
5 Rep. Epigr. 4337
6 الاشتقاق "102".
وأطلق أهل الحجاز على الدرهم والدينار لفظة "الناض"، وذلك إذا تحول عينًا بعد أن كان متاعًا. وفي حديث "عمر" كان يأخذ الزكاة من ناض المال، وهو ما كان ذهبًا أو فضةً، عينًا أو ورقًا، وقالوا: إن النض هو الدرهم الصامت1. أما إذا كان الدرهم رديئًا، فيعبرون عنه بلفظة "بهرج" و"قسيّ"، فيقولون: درهم بهرج، أي: رديء، وكل مردود عند العرب بهرج ونبهرج. وذكر بعض العلماء أن اللفظة فارسية من "نبهرة"، وأنها بمعنى الباطل والرديء، والدرهم البهرج الذي لا يباع به لرداءته والذي فضته رديئة، وكل رديء من الدراهم وكل مردود عند العرب بهرج2.
وتعرف الدراهم بـ"قطاع" بلغة هذيل3.
ودرهم زائف مغشوش، مردود لغش فيه، يقال: درهم زيف وزائف، وزاف فلان الدراهم: جعلها زيوفًا4، ودراهم فسول: دراهم زائفة، وأفسل عليه دراهمه: إذا زيفها. "ومنه حديث حذيفة أنه اشترى ناقة من رجلين وشرط لهما من النقد رضاهما، فأخرج لهما كيسًا فأفسلا عليه، ثم أخرج كيسًا فأفسلا عليه، أي: أرذلا وزيفا منها. وأصلها من الفسل وهو الرديء الرذل من كل شيء"5. وكان "عبد الله بن مسعود" يكسر الزيوف وهو على بيت المال6.
ويعبر عن الدراهم الموزونة بـ"دراهم مجربة"7؛ لأنها مجربة. وقد ظهر من التجربة أنها صحيحة غير منقوصة.
وقد ورد في الأخبار، أن خمسمائة الدرهم، كانت تعادل في أيام النبي اثنتي عشرة أوقية ونشًّا8، وأن الدرهم سبعة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة
1 تاج العروس "5/ 90"، "نضَّ".
2 تاج العروس "2/ 10 وما بعدها"، "بهرج".
3 تاج العروس "5/ 474"، "قطع".
4 المخصص "12/ 27"، تاج العروس "6/ 133"، "زاف".
5 تاج العروس "8/ 58"، "فسل".
6 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "167".
7 تاج العروس "1/ 181"، "جرب".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 262".
مثاقيل1. و"النش" نصف أوقية، وهو عشرون درهمًا؛ لأنهم يسمون الأربعين درهمًا أوقية، ويسمون العشرين نشًّا، ويسمون الخمسة نواة2.
وقد ذكر علماء اللغة نقدًا دعوه "النُّمّي"، وقالوا: إنه الدرهم الذي فيه رصاص أو نحاس، وقال بعض آخر: إنه الفلس من الرصاص بالروميَّة، وكانت بالحيرة على عهد النعمان بن المنذر3. قال النابغة أو أوس بن حجر:
وقارفت وهي لم تجرب وباع لها
…
من الفصافص بالنمي سفسير4
و"الدانق" من الأوزان ومن النقد. وهو "داناق" أيضًا، من أصل فارسي هو "دانك" في الفهلوية، ومن Dang و"دانك" Danak في الفارسية، وهو "دنك" Dank في الآرمية5. وهو يعادل سدس الدينار أو سدس درهم، وكان معروفا عند أهل مكة في الجاهلية6.
أما "الفلس"، فلفظة لاتينية يونانية الأصل، عربت من أصل Follis اللاتيني، ويراد بها نقود مسكوكة من النحاس، وقد استعملها العرب في تعاملهم واحتفظوا بالأصل الأجنبي. وقد كان الفلس في أيام القيصر "أنستاس الأول""أنسطاسيوس الأول""491 - 518م" زهاء ثلاثين جرامًا، ووسم بالحرف M، وظهرت بعد ذلك فلوس بأوزان تقل عن هذه. ولما ضرب المسلمون النقد، كانت الفلوس في جملة ما ضرب من نقد7.
1 شرح النووي على صحيح مسلم "4/ 324"، "حاشية على الإصابة".
2 تاج العروس "4/ 356"، "نش".
3 تاج العروس "9/ 85"، "نم"، "ن/ م/ م"، "10/ 378"، "نمى"، اللسان "12/ 593"، "نمم".
4 تاج العروس "3/ 272"، "السفسير"، "9/ 85"، "ن/ م/ م".
5 Ency.، I، p. 912
6 اللسان "11/ 394"، "دنق"، القاموس "3/ 232"، تاج العروس "6/ 349"، "دنق".
7 تاج العروس "4/ 210"، "الفلس"، Ency.، II، p. 47
وذكر بعض أهل الأخبار أن "القيراط" جزء من الدينار أو الدرهم. وقد ذكر "القيراط" في الحديث؛ في حديث رعي الرسول غنم قريش وفي أحاديث أخرى1. وذكر بعض العلماء أن العرب لم تكن تعرف القيراط الذي هو من النقد2. وذكر "ابن الأثير" أن القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشرة، ويظهر أن منهم من كان يستعمله وزنًا، ومنهم من جعله جزءًا من الدنانير والدراهم3.
1 إرشاد الساري "4/ 127".
2 المصدر نفسه.
3 تاج العروس "5/ 203".