المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أسواق العرب الموسمية: - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٤

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الرابع عشر

- ‌الفصل الثاني بعد المئة: القوافل

- ‌مدخل

- ‌قوافل الميرة:

- ‌الفصل الثالث بعد المئة: طرق الجاهليين

- ‌الفصل الرابع بعد المئة: الأسواق

- ‌مدخل

- ‌أسواق العرب الموسمية:

- ‌سوق عكاظ في الإسلام:

- ‌الفصل الخامس بعد المئة: البيع والشراء

- ‌أنواع البيع

- ‌الخلابة:

- ‌الحكرة:

- ‌شهود البيع:

- ‌فسخ البيع:

- ‌العربون:

- ‌الخيار في البيع:

- ‌صفات البيع:

- ‌الدَّيْن:

- ‌المنحة:

- ‌الفصل السادس بعد المئة: الشركة

- ‌مدخل

- ‌أنواع الشركات:

- ‌المشاركة:

- ‌السفتجة:

- ‌الوكالة:

- ‌السمسرة:

- ‌الفصل السابع بعد المئة: المال

- ‌مدخل

- ‌رأس المال:

- ‌استثمار الأموال:

- ‌الربا:

- ‌القراض:

- ‌التسليف:

- ‌الإفلاس:

- ‌الفصل الثامن بعد المئة: أصحاب المال

- ‌مدخل

- ‌عادات وأعراف:

- ‌سرقة أموال الآلهة:

- ‌دفن الذنوب:

- ‌الفصل التاسع بعد المئة: الطبقة المملوكة

- ‌مدخل

- ‌الاتجار بالرقيق:

- ‌الموالي:

- ‌بيع الولاء:

- ‌رزق المملوك:

- ‌العتق:

- ‌المكاتبة:

- ‌سوء حالة العبيد:

- ‌تعرب العبيد والموالي:

- ‌السخرة:

- ‌الفصل العاشر بعد المئة: الاتاوة والمكس والاعشار

- ‌مدخل

- ‌الطعمة:

- ‌ضرائب الزراعة:

- ‌الفصل الحادي عشر بعد المئة: النقود

- ‌الفصل الثاني عشر بعد المئة: الصناعة والمعادن والتعدين

- ‌مدخل

- ‌الإجارة:

- ‌الأحجار:

- ‌النسيج والحياكة:

- ‌الفصل الثالث عشر بعد المئة: حاصلات طبيعية

- ‌الصبغ

- ‌العصير:

- ‌الزيوت والدهون:

- ‌الصمغ:

- ‌الدباغة:

- ‌الخمور:

- ‌الفصل الرابع عشر بعد المئة: الحرف

- ‌مدخل

- ‌النجارة:

- ‌الحدادة:

- ‌الصياغة:

- ‌حرف الإعاشة:

- ‌حرف أخرى:

- ‌حرف الجلد:

- ‌الحياكة والنسيج والثياب:

- ‌الفصل الخامس عشر بعد المئة: قياس الابعاد والمساحات والكيل

- ‌فهرس الجزء الرابع عشر

الفصل: ‌أسواق العرب الموسمية:

التي أناطها "عمر" بهؤلاء. ولكني لا أستبعد احتمال كون هذا التعيين استمرارًا لعادة قديمة كانت متبعة بيثرب قبل الإسلام؛ لمراقبة السوق، ولمنع التلاعب به وأخذ الحقوق من التعامل بالسوق.

ص: 57

‌أسواق العرب الموسمية:

وللعرب أسواق يقيمونها شهور السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض ويحضرها سائر العرب بما عندهم من حاجة إلى بيع أو شراء1، وتقع هذه الأسواق في مواضع مختلفة متناثرة من جزيرة العرب، فهي إذن أسواق عربية. وهناك أسواق أخرى قصدها العرب للاتجار في مواسم وفي أوقات مختلفة كانت خارج جزيرة العرب؛ في العراق أو في بلاد الشام أو في الحبشة، وقد كان العرب يقصدونها أيضا للاتجار والامتيار.

وقد ذكر "اليعقوبي"، أن أسواق العرب كانت عشر أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم ويجتمع فيها سائر الناس ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم2، ويظهر من قول "اليعقوبي" هذا من أنهم كانوا يأمنون فيها على دمائهم وأموالهم أثناء التقائهم بها. إن من دين أهل الجاهلية، اعتبار هذه الأسواق أماكن حرمًا، يأمن الإنسان فيها دمه وماله ما داموا في ضيافة السوق وحرمته؛ ولهذا كان لكل سوق "قومة" يقومون بأمر السوق وبالمحافظة على الأرواح والأموال فيه؛ فقد "كان في العرب قوم يستحلون المظالم إذ حضروا هذه الأسواق، فسموا "المحلّون"3. وهؤلاء "المحلون" هم مثل "المحلين" الذين كانوا لا يقيمون وزنًا لحرمة "الحرم" و"الحرمات" مثل حرم مكة، ولا يقيمون للأشهر الحرم قدرًا، فكانوا يعتدون فيها وفي كل شهر؛ ولذلك قيل لهم: "المحلون".

1 بلوغ الأرب "1/ 264"، المرزوقي، الأزمنة والأمكنة "2/ 161 وما بعدها"، المفضليات "208"، البكري، معجم "3/ 959"، النقائض "1/ 139"، العقد الفريد "5/ 208"، البيان والتبيين "3/ 100"، الأغاني "5/ 23"، "11/ 6، 82"، "12/ 16"، "15/ 240"، أسد الغابة "2/ 224"، الأغاني "14/ 145".

2 اليعقوبي "1/ 239"، "النجف 1964م".

3 اليعقوبي "1/ 240"، "النجف 1964م".

ص: 57

ومن المحلين قبائل من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة، وقوم من بني عامر بن صعصعة1.

ولحماية الأسواق والمجتمع من "المحلّين"، الذين أباحوا لأنفسهم استحلال المظالم، ظهر قوم من أهل المروءة والمعروف، تواصوا فيما بينهم على رد السفيه عن سفهه والغاوي عن غيِّه، ونصبوا أنفسهم حماةً على الأسواق، يحملون سلاحهم فيها في الأشهر الحل وفي الأشهر الحرم للذود عن الحرمات، وقد عرف مثل هؤلاء بـ"الذادة المحرمين". وقد تحدث عنهم "اليعقوبي"، فقال:"وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، فسموا المحلين، وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر، فيسمون الذادة المحرمين. وأما المحلون، فكانوا قبائل من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة وقومًا من بني عامر بن صعصعة. وأما الذادة المحرمون، فكانوا من بني عمرو بن تميم، وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان، وقوم من بني كلب بن وبرة، فكانوا هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس، وكان العرب جميعًا بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم"2.

والذود في اللغة: السوق والطرد والدفع، فالذادة هم المدافعون الذابون عن المظلومين، والواقفون أمام الظالمين. وقد ورد "ذادة" بمعنى: يذودون عن الحرم3.

ولم تكن هذه الأسواق محصورة في موضع معين، إنما كانت تعقد في مواضع مختلفة متعددة من جزيرة العرب، وقد خصصت في الغالب بامتيار الأعراب وبشراء ما عندهم من سلع فائضة عليهم. ولا يستبعد بالطبع ورود التجار الأجانب إليها من غير العرب، فقد كان الروم مثلا يتوغلون إلى مسافات بعيدة في هذه الأرضين الشاسعة للبيع والشراء.

وبحكم ورود أناس إلى هذه الأسواق لا يسهل الاجتماع والاتصال بهم في الأوقات الأخرى، فقد قصدها أناس من أماكن بعيدة بحثًا عن طلب أو ترويجًا لرأي،

1 اليعقوبي "1/ 240"، العقد الفريد "2/ 206"، البيان والتبيين "3/ 100".

2 اليعقوبي "1/ 240"، "النجف 1964م".

3 تاج العروس "2/ 374"، "ذود".

ص: 58

فقصدها المبشرون للاتصال بالقبائل وللتأثير في بعض أفرادها لإدخالهم في دينهم. وفي كتب السير، أن الرسول نفسه كان يخرج في المواسم؛ لعرض نفسه على القبائل، ولهدايتهم إلى الإسلام.

ومن أشهر أسواق العرب عند ظهور الإسلام: "سوق دومة الجندل"، و"سوق هجر"، و"سوق عمان"، و"سوق المشقر"، و"سوق عدن أبين"، و"سوق صنعاء"، و"سوق حضرموت"، و"سوق ذي المجاز"، و"سوق مجنة"، و"سوق عكاظ"، و"سوق حباشة"، و"سوق صحار"، و"سوق بدر"1، و"سوق بني قينقاع"، و"سوق الشحر"، و"سوق عثر"، وأسواق محلية أخرى تأتيها القبائل والعشائر للامتيار. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن أسواق العرب الكبيرة كانت في الجاهلية ثلاث عشرة سوقًا، وأولها قيامًا: دومة الجندل2.

وذكر "الهمداني"، أن من أسواق العرب القديمة: عدن، ومكة، والجند، ونجران، وذو المجاز، وعكاظ، وبدر، ومجنة، ومنى، وحجر اليمامة، وهجر البحرين3، وسوق "همل" من الخارف ببلد حاشد4. وهناك أسواق أخرى عديدة وردت أسماؤها عرضًا في روايات أهل الأخبار.

أما "دومة الجندل"، فكانوا ينزلونها أول يوم من شهر ربيع الأول، يجتمعون في أسواقها للبيع والشراء والتبادل. وكان أكيدر صاحب دومة الجندل يرعى الناس ويقوم بأمرهم أول يوم، وتدوم سوقهم إلى نصف الشهر، وكان "أكيدر" يعشر الناس. وربما يتولاها بنو كلب الذين يأتونهم متأخرين، فيتولونها، وتدوم عندئذ إلى آخر الشهر، ويتولون هم حينئذ تعشير الناس5. ويعرف البيع فيها بـ"بيع الحصاة"، وهو نوع من أنواع المقامرة أبطله

1 الطبري "2/ 276"، صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها".

2 المرزوقي، الأزمنة والأمكنة "2/ 161".

3 الصفة "179 وما بعدها".

4 الصفة "113".

5 البلدان "4/ 106 وما بعدها"، "2/ 628 وما بعدها"، "طبعة طهران""سنة 1965"، اليعقوبي "1/ 226""طبعة النجف"، ابن خلدون "2، القسم الأول ص773""بيروت 1956م".

ص: 59

الإسلام1. وكانت تقصدها قبائل الشام والحجاز والأقسام الشمالية والغربية من أعالي نجد، وتقيم بالقرب منها كلب وجديلة طيء.

وكان الذي يشرف على هذه السوق سادات العرب من كلب أو من غسان، يتنافسون عليها ويتزايدون، فأي الحيين فاز خضع ودان له الآخر. وكان مكس هذه السوق لمن يتولى الإشراف عليها، وهم جميعًا يأخذون الإذن بالإشراف على السوق من الملك الذي يحكم الموضع في ذلك الوقت2. وكان الإشراف على هذه السوق عند ظهور الإسلام بين "الأكيدر" وبين "قنافة الكلبي" الذي كان ينافسه على الملك3.

وذكر "ابن حبيب" أنه "كان لكلب فيها قنّ كثير في بيوت شعر، فكانوا يكرهون فتياتهم على البغاء ويأخذون كسب أولئك البغايا، ولما كان الإسلام حرَّم هذه العادة بالآية:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 4.

ودومة الجندل في غائط من الأرض خمسة فراسخ، ومن مغربه عين تثج فتسقي ما به من النخل والزرع، ودومة ضاحية بين غائطها واسم حصنها مارد5، وهو حصن قديم، ورد ذكره في الشعر الجاهلي وفي كتب الأدب. وقد اكتسب شهرة كبيرة بين الجاهليين حتى ضربوا به وبـ"الأبلق" حصن السموءل المثل في العز والمنعة، فقالوا:"تمرد مارد وعزّ الأبلق"، قالوا: قصدتهما الزباء فعجزت عن قتالهما، فقالت:"تمرد مارد وعز الأبلق"، وذهب مثلًا لكل عزيز ممتنع6. ويظهر أن حصن "مارد" كان من الحصون الحصينة القديمة التي

1 بلوغ الأرب "1/ 264 وما بعدها"، المسعودي، التنبيه "214"، الطبري "2/ 578""مطبعة الاستقامة"، تأريخ الخميس "2/ 1 وما بعدها"، فتوح البلدان "1/ 68 وما بعدها"، جمهرة أنساب العرب "403"، فتوح البلدان "223""دار النشر للجامعيين، بيروت 1957".

2 البلدان "4/ 106"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 161 وما بعدها"، المحبر "264"، البكري "2/ 564 وما بعدها"، مراصد الاطلاع "2/ 542 وما بعدها"، التأريخ الكبير "1/ 89 وما بعدها"، المسالك والممالك "115"، الكامل "2/ 192".

3 الأزمنة والأمكنة "2/ 161".

4 النور، الرقم 24، الآية 33، المحبر "264"، الأزمنة والأمكنة "2/ 161 وما بعدها"، البلدان "4/ 106".

5 تاج العروس "8/ 297"، "دوم".

6 تاج العروس "2/ 500"، "مرد".

ص: 60

بنيت بـ"الجندل"، أي: الحجر1.

ولم تكن دومة الجندل سوقًا يقصدها التجار في موسم واحد معين، بل كانت مفرقًا مهمًّا من مفارق الطرق، وموضعًا يقصده أصحاب القوافل الذاهبون من جزيرة العرب إلى العراق وإلى الشام وبالعكس؛ لوجود الماء العذب بها، وما يحتاج المسافر إليه من زاد وماء. وهي اليوم "الجوف" في المملكة العربية السعودية.

ويقصد سوق المشقر الأعراب الساكنون في العربية الشرقية والأعراب القريبون إلى هذا الموضع، ويرد إلى هذه السوق تجار فارس ببياعاتهم يقطعون البحر، فيتاجرون مع من يقصد هذه السوق من القبائل والحضر، وكانت بنو تميم وعبد القيس جيرانها. أما المشرف عليها فرؤساء تميم من بني عبد الله بن زيد رهط المنذر بن ساوى، وكانوا يتلقبون بألقاب الملك، ويسيرون في معاملتهم في هذه السوق سيرة الملوك بدومة الجندل، ويأخذون العشر. وكان من يؤمها من التجار يتخفرون بقريش؛ لأنها لا تؤتي إلا في بلاد مضر، وكان بيعهم فيها الملامسة والهمهمة، وتقوم سوقها أول يوم من جمادى الآخرة إلى آخر الشهر2.

وقد قصد هذه السوق أحياء من العرب من مختلف أنحاء جزيرة العرب، كما وفدت إليها اللطائم. وطالما أعجبت أرض هجر وموضع المشقر منها، بعض هؤلاء الأعراب فيبقون فيها ولا يرتحلون عنها، فمن هناك صارت بهجر طوائف من كل حي من العرب وغيرهم3.

ويحمي المشقر حصن قديم قويم، يقال: ورثه "امرؤ القيس"، وقد أشير إليه في الشعر. قال عنه "المخبل":

1 تاج العروس "7/ 266"، "الجندل".

2 المحبر "ص265"، اليعقوبي "1/ 226"، البكري، معجم "4/ 1193"، البلدان "5/ 134"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 162 وما بعدها"، آثار البلاد وأخبار العباد "ص73"، مراصد الاطلاع "3/ 1275"، البكري "3/ 1232".

3 الأزمنة والأمكنة "2/ 163".

ص: 61

فلئن بنيت لي المشقر في

صعب تقصر دونه الهمم

لتنقبن عني المنيَّة

إن الله ليس كعلمه علم1

وكان من الحصون التي تحمي قرى ساحل الخليج من الأعراب، به حامية كبيرة، تغلق عليها الأبواب عند دنو الخطر. ويظهر من قصة فتك المكعبر بتميم، أنه كان ذا بابين، وكان قد بُني لحماية المنطقة من الأعراب وللمحافظة على الأمن. وقد كان حصنًا كبيرًا ادخر فيه الفرس الميرة والأرزاق لتوزيعها على الأعراب أيام المجاعة، وبه جنود من الفرس يحكمهم قوَّاد منهم، يقومون بضبط الأمن ومراقبة حركات الأعراب.

وتعقد سوق هجر في شهر ربيع الآخر، وكان الذي يتولى تعشير التجار بها "المنذر بن ساوى" أحد بني عبد الله بن دارم، وهو ملك البحرين2. وهجر اسم لجميع أرض البحرين، وقصبة بلاد البحرين، وقد عرفت بكثرة تمرها، ومنه المثل: كمبضع تمر إلى هجر. وذكر أن "عمر" تذكرها فقال: عجبت لتاجر هجر وراكب البحر، كأنه أراد لكثرة وبائها، فتاجرها وراكب البحر في الخطر سواء3، ويظهر أنها كانت موبوءة.

ثم يرتحلون نحو عمان من البحرين أيضًا، فتقوم سوقهم بها. ثم يرتحلون فينزلون "إرم" وقرى الشحر، فتقوم أسواقهم بها أيامًا. ثم يرتحلون فينزلون سوق عدن4.

أما "سوق عدن"، فكانت تقوم أول يوم من شهر رمضان إلى عشر يمضين منه، وكانت الأبناء هي التي تعشر التجار بها، والأبناء هم أبناء الفرس الذين فتحوا اليمن مع وهرز وقتلوا الحبشة. وكان التجار لا يتخفرون فيها بأحد؛ لأنها أرض مملكة وأمرها محكم5، أما ما قبل حكم الأبناء، فقد كان يعشر هذه

1 وقال عنه "لبيد":

وأفنى بنات الدهر أرباب ناعط

بمستمع دون السماء ومنظر

وأنزلن بالدومي من رأس حصنه

وأنزلن بالأسباب رب المشقر

تاج العروس "3/ 311"، "شقر".

2 صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها".

3 تاج العروس "3/ 613 وما بعدها"، "هجر".

4 صبح الأعشى "1/ 411".

5 المحبر "ص266".

ص: 62

السوق ملوك حمير، ثم من ملك اليمن من بعدهم. وأشهر ما يباع فيها الطيب، ولم يكن أحد يحسن صنع الطيب من غير العرب، حتى إن تجار البحر ترجع بالطيب المعمول تفخر به في السند والهند، ويرحل به كذلك تجار البر إلى فارس والروم1.

وأما سوق صنعاء، فكانت تقوم في النصف من شهر رمضان إلى آخره، وكانت الأبناء تعشرهم، وكان بيعهم بها الجس؛ جس الأيدي2. وقد اشتهرت ببيع الخرز والأدم والبرود، وكانت تجلب إليها من معافر3، والقطن والكتان والزعفران والأصباغ وأشباهها مما يتفق بها، ويشترون بها ما يريدون من البُرِّ والحديد وحاصلات اليمن وما يأتي إلى اليمن من تجارات البحار4.

وسوق ذي المجاز قريبة من عكاظ، وتقوم أول يوم من ذي الحجة إلى يوم التروية، ثم يصيرون إلى منى5. وقد كانت لهذيل، وكانت مبايعة العرب بها بإلقاء الحجارة، وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول السلعة يساومون بها صاحبها، فأيهم أراد شراءها ألقى حجرًا، وربما اتفق في السلعة الرهط، فلا يجدون بدًّا من أن يشتركوا وهم كارهون، وربما ألقوا الحجارة جميعًا فيوكسون صاحب السلعة إذا تظاهروا عليه. وكانت قريش تخرج قاصدة إليها من مكة، فإن أخذت على حزن لم تتخفر من القرب حتى ترجع، وذلك أن مضر عامتهم لا تتعرض لتجار قريش ولا يتهجَّمهم حليف لمضري مع تعظيمهم لقريش ومكانتهم في البيت6.

وأما سوق حُباشة فمن أسواق العرب المشهورة القديمة في الجاهلية، في العربية الغربية، وهي سوق بتهامة، يتاجر فيها أهل الحجاز، وأهل اليمن. وكان

1 الأزمنة والأمكنة "2/ 165"، اليعقوبي "1/ 236".

2 المحبر "ص266".

3 صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها".

4 الأزمنة والأمكنة "5/ 165"، اليعقوبي "1/ 236".

5 المحبر "ص267".

6 الأزمنة والأمكنة "2/ 161".

ص: 63

في جملة من حضرها وتاجر فيها الرسول1، وكانت تقام في شهر رجب2. وحباشة سوق أخرى كانت لبني قينقاع3.

وكان الجلندي بن المستكبر، هو الذي يعشر تجار سوق صُحار بعمان، وكذلك تجار سوق "دبا". وكان يقصد سوق "دبا" تجار السند والهند والصين ومواضع أخرى، فهي سوق عظيمة كبيرة، ذات تجارة مع العالم الخارجي. إحدى فرضتي العرب، ويقوم سوقها آخر يوم من رجب، وكان بيعهم فيها المساومة. وتقوم سوق صُحار أول يوم من رجب، تقوم خمس ليالٍ4. ويذكر بعض أهل الأخبار أن البيع في سوق صحار هو بإلقاء الحجارة5.

وقد اشتهرت "صحار" بثيابها، فعرفت باسمها، كما كانت سوقًا للتجارات المستوردة من اليمن والصين والبحرين والهند؛ ولذلك كانت سوقا نشطة، وبها أصحاب حرف وصناعة6.

وأما "بدر"، فكان موضعًا فيه ماء وفيه وقعت معركة بدر الكبرى، وكان موسمًا من مواسم العرب، تجتمع لهم بها سوق كل عام، يجتمعون فيه للتجارة وللتنزه، فكانوا ينحرون ويطعمون ويشربون ويسمعون الغناء7. وذكر أن موضع "بدر" بئر حفرها رجل من غفار، ثم من "بني النار" اسمه بدر، وذكر أنه "بدر بن قريش بن يخلد"8، وبه سمي الموضع بدرًا، وقيل: بدر رجل من "بني ضمرة" سكن المكان فنسب إليه9، وهو بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء، وهو إلى المدينة أقرب، وبينه وبين "الجار"، وهو ساحل

1 بالضم والشين معجمة، البلدان "3/ 206"، شرح القاموس "4/ 293"، وقد كان هذا الموضع هو السبب الباعث لياقوت الحموي على تأليف كتاب معجم البلدان، راجع مقدمة الجزء الأول من معجم البلدان.

2 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 194 وما بعدها".

3 تاج العروس "6/ 263"، البلدان "3/ 206".

4 المحبر "ص265 وما بعدها".

5 اليعقوبي "1/ 236""النجف"، الأزمنة والأمكنة "2/ 163".

6 راجع دائرة المعارف الإسلامية مادة "صحار".

7 الطبري "2/ 279"، البلدان "2/ 88".

8 الروض الأنف "2/ 61".

9 تاج العروس "3/ 34"، "بدر".

ص: 64

البحر ومرفأ ليلة1. ويظهر أنه كان من المواضع المقدسة على شاكلة "سوق عكاظ"، به أحجار يتقرب إليها الناس وبه ماء، فصار سوقًا في موسمه المخصص له، يقصده الناس من مكة ومن المواضع القريبة؛ لبيع ما عندهم من ناتجهم فيه، ولشراء ما يحتاجون إليه منه.

وأما سوق بني قينقاع فسوق لليهود، يذهب إليها الناس للاتجار وابتياع ما عند يهود من سلع، ولبيع ما عندهم ليهود.

أما "سوق الشحر" شحر مهرة، فتقوم السوق تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود، ولم تكن بها عشور؛ لأنها ليست بأرض مملكة. وكانت التجار تتخفر فيها ببني محارب بن هرب من مهرة، وكان قيامها للنصف من شعبان، وكان بيعهم بها إلقاء الحجارة2. وكان غالب ما يعرض فيها الأدم والبز وسائر المرافق، ويشترون بها الكندر، والمرّ، والصبر، ويقصدها تجار من البر والبحر3.

وأما سوق الرابية بحضرموت، فلم يكن يصل إليها أحد إلا بخفارة؛ لأنها لم تكن أرض مملكة. وكان من عز فيها بزّ صاحبه، فكانت قريش تتخفر فيها ببني آكل المرار، وسائر الناس يتخفرون بآل مسروق بن وائل من كندة4.

وتقوم سوق نطاة بخيبر، وسوق حجر باليمامة يوم عاشوراء إلى آخر المحرم5.

وأشهر الأسواق المتقدمة وأعرفها "سوق عكاظ"، وهي سوق تجارة وسوق سياسة وسوق أدب. فيها كان يخطب كل خطيب مصقع، وفيها علقت القصائد السبع الشهيرة افتخارًا بفصاحتها على من يحضر الموسم من شعراء القبائل، على ما يذكره بعض أهل الأخبار. وكان يأتيها قريش وهوازن وسليم والأحابيش وعقيل والمصطلق وطوائف من العرب، وكانت تقوم للنصف من ذي القعدة إلى آخر الشهر. ولم تكن فيها عشور ولا خفارة، وكان بيعهم السرار: إذا وجب البيع

1 تاج العروس "3/ 34"، "بدر".

2 المحبر "ص266".

3 الأزمنة والأمكنة "2/ 163"، اليعقوبي "1/ 226"، تاج العروس "6/ 293".

4 المحبر "ص267"، الأزمنة والأمكنة "2/ 165"، اليعقوبي "1/ 236".

5 المحبر "ص268".

ص: 65

وعند التاجر فيها إلف ممن يريد الشراء ولا يريده، أشركه في الربح1.

وذكر أن عكاظ: نخل في وادٍ بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليالٍ، وبه كانت تقام سوق العرب. وقيل: عكاظ: ماء ما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له: الفنق، كانت موسمًا من مواسم الجاهلية، تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يومًا. وكانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون، أي: يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر، يقيمون على ذلك شهرا، يتبايعون ثم يتفرقون. فلما جاء الإسلام هدم ذلك2.

وذهب فريق من أهل الأخبار إلى أن انعقاد سوق عكاظ إنما كان يقوم بهلال شهر ذي القعدة ويستمر لمدة عشرين يومًا3. وهم يخطئون رأي من يذهب إلى أن انعقاد السوق كان في شهر شوَّال، وحجتهم أن انعقاد السوق كان في الأشهر الحرم؛ ليراعي الناس حرمة تلك الأيام فلا يعتدون على من يقصد السوق، وشهر شوال لا يدخل في جملة الأشهر الحرام؛ لذلك فلا يمكن أن يكون انعقاد السوق فيه. ويستدلون بدليل آخر، هو تقاتل بعض العرب في أيام عكاظ، ونظرًا لوقوع ذلك القتال في شهر حرام، أطلقوا على تلك الأيام أيام الفجار، وهي أربعة أيام: يوم شمطة، ويوم العبلاء، ويوم الحريرة، ويوم شرب، وهذه الأسماء هي أسماء أماكن في عكاظ. وما كان العرب ليطلقوا على تلك الأيام أيام الفجار، لو لم تكن قد وقعت في أيام حرم4.

1 الحيوان، للجاحظ "7/ 215"، البكري، معجم "3/ 959 وما بعدها"، المحبر "ص267"، "وكانت تقوم هذه السوق في قول: أول ذي القعدة إلى عشرين منه، ثم يتوجهون إلى مكة فيقفون بعرفات ويقضون مناسك الحج ثم يرجعون إلى أوطانهم. وفي قول آخر: إنهم كانوا يقيمون به جميع شوال إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة، ولعل ذلك لاختلاف العادة في السنين، أو لاختلاف القبائل في الإقامة في هذا الموسم. والذي عليه صاحب قبائل العرب، أنهم كانوا يقيمون في هذه السوق من نصف ذي القعدة إلى آخره

" بلوغ الأرب "1/ 270".

3 مراصد الاطلاع "2/ 953"، القاموس المحيط "2/ 396"، أخبار مكة، للأزرقي "129"، صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها"، البلدان "3/ 704"، الأزمنة والأمكنة "2/ 165"، اليعقوبي "1/ 236".

4 أخبار مكة "132"، الأغاني "9/ 176"، "10/ 9"، العقد الفريد "3/ 377"، أخبار مكة "1/ 66"، الكامل، لابن الأثير "1/ 358 وما بعدها".

ص: 66

وجاء في بعض الأخبار أن أشراف العرب كانوا يتوافون بتلك الأسواق مع التجار من أجل أن الملوك كانوا يرضخون للأشراف، لكل شريف بسهم من الأرباح؛ فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ، فإنهم كانوا يتوافون بها من كل أوب1. فسوق عكاظ إذن سوق حرة، لا عشور فيها ولا خفارة، وهي تختلف بذلك عن بقية الأسواق التي كان يعشرها الملوك؛ إذ كانت في حكم "ملك"، أو في حكم الأمراء وسادات القبائل، على أن يؤدوا سهمًا من الأرباح المتجمعة من العشور والخفارات إلى أشراف العرب، أي: سادات القبائل الذين تقام تلك الأسواق في أرضهم. فأشراف "تميم" وإن أشرفوا على هذه السوق، وحكموا بها، ونظموا أمورها، إلا أنهم لم يكونوا يجبون شيئًا من التجار، ولعل ذلك كان بتأثير قريش عليهم، فقد كان رجال مكة هم المستأثرون الأثيرون من عكاظ، وكانوا يشجعون العرب على حضورها؛ لما لهم فيها من منافع اقتصادية، وقد كان لهم أنفسهم إشراف على نواحٍ من أمور السوق. ويظهر أنه لأجل تشجيع القبائل على حضور "عكاظ" وجمع أكثر من يمكن جمعه من التجار، اتفقوا مع سادات تميم ولا سيما مع "بني دارم"، على أن يتركوا السوق حرة؛ ليقصدها أي تاجر، فلا يكلف أحد منهم بكلفة العشور والخفارة، ولا يهان أو يعتدى عليه، وهو بالطبع في شهر حرام؛ ليضمنوا بذلك حضور أكبر عدد ممكن من الناس، وليضمنوا مجيئهم بعد ذلك إلى مكة. وقد كانوا يسعون جهد طاقتهم لجلب العرب إليها من الأماكن البعيدة؛ ليستفيدوا منهم في موسم الحج، وليكوِّنوا معهم صلات طيبة وعلاقات وثيقة تؤمن لهم ولقوافلهم ولتجارتهم حق المرور بأمن وسلام، وتقديم كل ما يحتاج إليه رجال القوافل من ماء وطعام ومأوى وحماية.

ويعرض للبيع وللشراء في سوق عكاظ وفي الأسواق الأخرى كل أنواع البضاعات، من أدم ومن حبوب وأقمشة إلى بضاعة حية ناطقة هي الحيوان أو الإنسان، حيث يعرض الرقيق في السوق، وقد كان شراء "خديجة" زوجة الرسول لـ"زيد بن حارثة" من سوق عكاظ2. وقد اشتهرت سوق عكاظ

1 المرزوقي، الأمكنة "2/ 166".

2 المعارف "ص144".

ص: 67

بأديمها حتى عُرِفَ بين تجار الأديم بـ"الأديم العكاظي"1 مع أنه لم يكن من حاصل عكاظ، بل كان يورد إلى السوق من مختلف الأنحاء.

وذكر بعض أهل الأخبار أن "سوق عكاظ" موسم عظيم من المواسم، وقد اتخذت سوقًا بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة. وهي من أعظم أسواق العرب على الإطلاق في الجاهلية وفي الإسلام، ثم تضاءل شأنها وخربت بعد سنة "129" للهجرة، عندما ظهر الخوارج الحرورية مع المختار بن عوف في مكة، فنهبت هذه السوق، وخاف الناس على أنفسهم من الذهاب إليها، فتُرِكَتْ2.

ولو أخذنا بهذه الرواية، نكون قد جعلنا مبدأ هذه السوق سنة "585" أو "586" للميلاد تقريبًا، أي: إن تأريخ سوق عكاظ لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، فهو قبله بنحو ربع قرن. وقد أقيمت وعمر الرسول آنذاك "15" عامًا.

ويذهب الناس بعد سوق عكاظ إلى سوق أخرى هي سوق مجنة، فيقيمون بها عشرة أيام. فإذا رأوا هلال ذي الحجة في نهاية هذه الأيام العشرة قصدوا ذا المجاز، وهي سوق جاهلية، فيقيمون فيها ثمانية أيام يبيعون ويشترون، ثم يخرجون يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة، فيأخذون ذلك اليوم من الماء ما يرويهم من ذي المجاز. وقد سمي هذا اليوم باسم يوم التروية؛ لترويهم من الماء بذي المجاز، حيث كان ينادي بعضهم على البعض الآخر أن يترووا من الماء؛ لأنه لا يوجد ماء بعرفة، كذلك لا يوجد ماء بالمزدلفة يومئذ. ويعتبر يوم التروية نهاية أسواقهم، وكان العرب لا يتبايعون في يوم عرفة ولا في أيام منى. فلما جاء الإسلام أحل لهم ذلك3.

وذكر أن "ذا المجاز" موضع بمنى، وذكر أنه سوق كانت في الجاهلية على فرسخ من عرفة، بناحية كبكب، سمي به لأن إجازة الحج كانت فيه4. و"كبكب": جبل بعرفات خلف ظهر الإمام إذا وقف، وقيل: هو ثنية5.

1 البلدان "3/ 704"، تاج العروس "5/ 254"، "عكظ".

2 الأزرقي، أخبار مكة "129 وما بعدها"، البكري، معجم "3/ 959 وما بعدها"، اللسان "7/ 447".

3 أخبار مكة، للأزرقي "129 وما بعدها".

4 تاج العروس "4/ 21"، "جوز".

5 تاج العروس "1/ 444"، "كب"، "ك/ ب/ ب".

ص: 68

ويذكر علماء التفسير أن متجر الناس في الجاهلية كان سوقي عكاظ وذي المجاز، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك. وكانوا لا يتجرون في أيام الحج، فكانوا لا يبيعون أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة، ويبتاعون ويبيعون قبل وبعد أيام الحج، إذ كانوا يتأثمون من الاتجار في أيام الحج1.

وقد كان الحج من أكبر مواسم الربح لقريش، تبيع قريش ما عندها للأعراب القادمين إليها من البادية ولأهل القرى البعيدة عن مكة، وتشتري منهم ما يحملونه معهم من مواد وسلع، ثم تقوم قوافلهم بنقل الفائض مما اشترته إلى الأسواق الخارجية في بلاد الشام أو العراق، وتشتري في مقابل ذلك ما يحتاج إليه الحجاز وأعراب البادية من سلع ومواد.

ومكة في مواسم الحج وفي المناسبات الأخرى سوق تجارية مهمة، لا تقل شأنًا في الواقع عن الأسواق الأخرى. وقد تمكن أهلها النشطون في جمع المال من اكتناز الأموال ومن استثمار ما يحصلون عليه من أرباح، حتى صاروا من أغنى الناس في الحجاز.

ويظهر من روايات أهل الأخبار أن حظ المفاخرة والمباهاة والتمدح والذم، لم يكن بأقل من حظ البيع والشراء في سوق عكاظ، فقد كان الشعراء يعرضون أجود وأحدث ما عندهم من شعر على الحاضرين2. وكان كثير من هؤلاء الحاضرين إنما يفدون إليها للوقوف على أحدث ما يقال من صنوف الشعر، وهو صنف رائج أكثر من رواج النثر بالطبع، لما فيه من إيقاع وموسيقى ووزن وسهولة في الحفظ وأثر في النفس؛ لذلك كان للشاعر في هذه السوق مكانة تزيد كثيرًا على مكانة التاجر فيها؛ لما لشعره من أثر في الحياة العامة لمجتمع ذلك اليوم.

ويقال: إن الشاعر الشهير "النابغة الذبياني" كان يحضر سوق عكاظ، فتُضرَب له قبة من أدم، يجلس تحتها، فيفد إليه من الشعراء من يريد أن يفتخر

1 تفسير الطبري "2/ 165 وما بعدها".

2 تاج العروس "5/ 254 وما بعدها"، اللسان "9/ 447"، "وقد كانت قبائل العرب تجتمع فيها كل سنة، يتفاخرون فيها ويحضرها شعراؤهم ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون"، البلدان "6/ 203"، ابن خلدون، المجلد الثاني "ص642".

ص: 69

بشعره على غيره؛ لينشد أمامه شعره، فيحكم على شعره برأيه؛ لما لرأيه من أثر في الناس. وكان الشاعران الأعشى وحسان بن ثابت ممن احتكما إليه وكذلك الشاعرة الخنساء1.

وممن حضر عكاظ: الخطيب الجاهلي الشهير "قس بن ساعدة الإيادي""شيشرون" العرب، وعمرو بن كلثوم التغلبي، الشاعر المعروف2. ويذكر أهل الأخبار أن الرسول رأى "قس بن ساعدة الإيادي" يخطب في هذه السوق، وقد قصد الرسول سوق عكاظ وسوقي مجنة وذي المجاز، يدعو من كان يحضر المواسم إلى دين الله. وقيل: إنه مكث سبع سنين يتبع الناس في مواسمهم في سوق عكاظ، وكان فيمن كلمهم ودعاهم إلى الإسلام "بنو عامر بن صعصعة"3.

وحال الأسواق الأخرى مثل حال سوق عكاظ، من حيث ورود الشعراء إليها لعرض ما عندهم من شعر جديد، والظاهر أن قرب سوق عكاظ من مكة، وورود الحجاج إليها قبل البدء بالحج، ثم ورود اسمها في أخبار الرسول، ولكونها سوق مكة وتجار قريش، ووقوعها في أرض يتكلم أهلها باللغة التي نزل بها الوحي، هذه الأسباب وغيرها هي التي خلدت اسم هذه السوق، وربطت بينها وبين الشعر والنثر، أكثر من الأسواق الأخرى التي كانت بعيدة عن مكة، وبعيدة لذلك عن ذاكرة أهل الأخبار.

هذا، وإن للباحثين في موضع سوق عكاظ آراء متباينة فيه، ولا زالت هذه الآراء متباينة فيه حتى اليوم4.

هذا، وقد كان موضع عكاظ في الأصل مكانًا مقدسًا على ما يظهر من أخبار أهل الأخبار؛ فقد ذكروا أن العرب كانت تطوف بصخور كانت هناك ويحجون إليها، وكانوا يذبحون وينحرون إلى تلك الأصنام والأنصاب، حتى تلطخت تلك

1 الأغاني "9/ 156""مطبعة التقدم"، شعراء النصرانية "5/ 640".

2 الأغاني "9/ 176".

3 البكري "5/ 259 وما بعدها"، ابن كثير، البداية "3/ 141".

4 لسان العرب "7/ 447"، معجم، البكري "3-4/ 196"، البلدان "3/ 704"، القاموس "2/ 396"، تاج العروس "5/ 255"، مراصد الاطلاع "2/ 953"، شرح ديوان الحماسة "3/ 1514 وما بعدها".

ص: 70

الأنصاب والأرض التي تحيط بها بدماء البدن1. ويظهر أن أهمية ذلك المكان الدينية كانت قد قلَّت بالتدريج؛ إذ غطت قدسية مكة عليه. ولما جاء الإسلام وأزال الأنصاب والأصنام، ذهبت كل أهمية لمحجة عكاظ، واختفت أهمية السوق معه حتى ماتت على نحو ما ذكرت.

ويتقدم سادات الناس في مثل هذه المناسبات إلى آلهتهم بإطعام الفقراء وإضافة الناس. وكان "خويلد بن فضيل بن عمرو بن كلاب" المعروف بـ"الصعق"؛ لأن صاعقة نزلت عليه فأحرقته، ممن يطعم بعكاظ، وكان من سادات قومه2. ويترك هذا الكرم أثرًا في نفوس من يحضر السوق، ويكون سببًا للحصول على ثناء ومديح الشعراء لأولئك الكرماء.

والظاهر من روايات أهل الأخبار عن هذه الأسواق، أنها كانت كلها في الأصل مواضع مقدسة، لها أصنام تعبدها القبائل، وتأتي للتقرب إليها في مواسم معينة هي مواسم حجها، فتتحول تلك المواسم إلى أسواق للبيع والشراء. فقد ذكروا أن "بني وبرة" كانوا يفدون إلى "دومة الجندل" للتقرب إلى "ودّ"، وكان سدنته من "بني الفرافصة بن كلب"3، وأن "بني عبد القيس" كانوا يتقربون إلى صنم لهم اسمه "ذو اللب" وكان بالمشقر، وسدنته "بنو عامر"4.

ويجب ألا ننظر إلى هذه الأسواق نظرتنا إلى السوق بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر، فقد كانت أسواق الجاهلية أوسع مجالًا من ذلك بكثير. كانت مجامع لأهل اللسان من شعراء ومن خطباء، ومن مرموقين معروفين ومن مغمورين طلاب شهرة، قصدوا هذه الأسواق للحصول على اسم وسمعة، كما هو شأن سوق عكاظ. كما كانت مجتمعات تعقد فيها العقود والمعاهدات والاتفاقات القبلية والعائلية، ومواضع يعلن فيها عن التبني وعن الخلع، أي: خلع الأفراد،

1 البلدان "6/ 203"، البكري "3/ 959 وما بعدها".

2 جمهرة، ابن حزم "ص269".

3 جمهرة أنساب العرب، لابن حزم "ص458".

4 جمهرة، ابن حزم "ص460".

ص: 71