المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فزادت ونمت. شغلوها في التجارة، وشغلوها في أعمال نستطيع أن - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٤

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الرابع عشر

- ‌الفصل الثاني بعد المئة: القوافل

- ‌مدخل

- ‌قوافل الميرة:

- ‌الفصل الثالث بعد المئة: طرق الجاهليين

- ‌الفصل الرابع بعد المئة: الأسواق

- ‌مدخل

- ‌أسواق العرب الموسمية:

- ‌سوق عكاظ في الإسلام:

- ‌الفصل الخامس بعد المئة: البيع والشراء

- ‌أنواع البيع

- ‌الخلابة:

- ‌الحكرة:

- ‌شهود البيع:

- ‌فسخ البيع:

- ‌العربون:

- ‌الخيار في البيع:

- ‌صفات البيع:

- ‌الدَّيْن:

- ‌المنحة:

- ‌الفصل السادس بعد المئة: الشركة

- ‌مدخل

- ‌أنواع الشركات:

- ‌المشاركة:

- ‌السفتجة:

- ‌الوكالة:

- ‌السمسرة:

- ‌الفصل السابع بعد المئة: المال

- ‌مدخل

- ‌رأس المال:

- ‌استثمار الأموال:

- ‌الربا:

- ‌القراض:

- ‌التسليف:

- ‌الإفلاس:

- ‌الفصل الثامن بعد المئة: أصحاب المال

- ‌مدخل

- ‌عادات وأعراف:

- ‌سرقة أموال الآلهة:

- ‌دفن الذنوب:

- ‌الفصل التاسع بعد المئة: الطبقة المملوكة

- ‌مدخل

- ‌الاتجار بالرقيق:

- ‌الموالي:

- ‌بيع الولاء:

- ‌رزق المملوك:

- ‌العتق:

- ‌المكاتبة:

- ‌سوء حالة العبيد:

- ‌تعرب العبيد والموالي:

- ‌السخرة:

- ‌الفصل العاشر بعد المئة: الاتاوة والمكس والاعشار

- ‌مدخل

- ‌الطعمة:

- ‌ضرائب الزراعة:

- ‌الفصل الحادي عشر بعد المئة: النقود

- ‌الفصل الثاني عشر بعد المئة: الصناعة والمعادن والتعدين

- ‌مدخل

- ‌الإجارة:

- ‌الأحجار:

- ‌النسيج والحياكة:

- ‌الفصل الثالث عشر بعد المئة: حاصلات طبيعية

- ‌الصبغ

- ‌العصير:

- ‌الزيوت والدهون:

- ‌الصمغ:

- ‌الدباغة:

- ‌الخمور:

- ‌الفصل الرابع عشر بعد المئة: الحرف

- ‌مدخل

- ‌النجارة:

- ‌الحدادة:

- ‌الصياغة:

- ‌حرف الإعاشة:

- ‌حرف أخرى:

- ‌حرف الجلد:

- ‌الحياكة والنسيج والثياب:

- ‌الفصل الخامس عشر بعد المئة: قياس الابعاد والمساحات والكيل

- ‌فهرس الجزء الرابع عشر

الفصل: فزادت ونمت. شغلوها في التجارة، وشغلوها في أعمال نستطيع أن

فزادت ونمت. شغلوها في التجارة، وشغلوها في أعمال نستطيع أن نسميها أعمالًا مصرفية بلغة هذا اليوم، مثل إعطائها للمحتاج إليها بفائض هو "الربا"، أو "مضاربة"، أو مسالفة، وشغلوها باستثمارها بمشاريع زراعية وصناعية وما شابه ذلك، مشاركة أو على ربح ثابت معين، أو مساهمة في الأرباح دون الخسائر. وكان بعض منهم قد ساهم في أعمال عديدة، واستثمر أمواله بها، فإذا خسر في عمل، عوض عن خسارته تلك بربح يأتيه من عمل آخر.

ولم يكتفِ تاجر مكة بالاتجار على حسابه، بل ساهم مع غيره من أهل مكة في تكوين رءوس أموال القوافل، بحيث صارت القوافل تجارة شركاء، أو شركة عامة يساهم فيها من يشاء من أصحاب المال. وساهم تاجرهم أيضًا بتوزيع أمواله على التجار الآخرين؛ ليشاركهم بذلك في أرباحهم، فكان "أبو سفيان" يتاجر بتجارته وعلى حسابه، يذهب بنفسه على رأس قافلته إلى العراق للاتجار بالحيرة، وكان من المساهمين في قوافل قريش كذلك، كما كان يقدم ماله للتجار؛ للاتجار به مع أموالهم، فيشاركهم بذلك في أرباحهم، ويأخذ منهم ما يقع له من نصيب في الأرباح. وكان "العباس" قد وزع مالًا من ماله على التجار لاستثماره، وكان للحجاج بن علاط السُّلمي مال متفرق في تجار أهل مكة1.

وكانوا يتعاملون مع غير تجار قريش كذلك، يقرضونهم المال ويستقرضون الأموال منهم، ويتاجرون على الأرباح والخسائر، ونجد في الأخبار أسماء رجال من الطائف أو من الحيرة أو من أهل اليمن، كانت لهم شراكة مع تجار من تجار مكة، خلطوا أموالهم مع أموال أولئك الغرباء عنهم، فهم "خلطاء"، أي: شركاء، و"الخليط": الشريك2. فأهل مكة خلطاء فيما بينهم، وخلطاء مع غيرهم أيضا، يتاجرون بأموالهم ويتاجرون بأموال غيرهم كذلك، "وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"3.

1 الطبري "3/ 17".

2 تاج العروس "5/ 132"، "خلط".

3 الثعالبي، ثمار القلوب "11 وما بعدها"، البلدان "472".

ص: 109

‌الربا:

وفي جملة وسائل استثمار المال: الربا، وقد كان شائعًا بين أهل الجاهلية،

ص: 109

كما كان شائعًا معروفًا بين غير العرب. وقد عرفه العلماء بأنه: "الزيادة على رأس المال"1 "وهو في الشرع: الزيادة على أصل المال من غير عقد تبايع"2، والإرباء: الزيادة على الشيء، والزيادة: هي الربا3. وكل قرض جر منفعة فهو ربا4، ويقال له: "اللياط"، وهو الربا الذي كانوا يربونه في الجاهلية إلى أن يأخذوا رءوس أموالهم ويدعوا الفضل عليها5.

وقد كان أهل الجاهلية يزيدون على الدين شيئا ويؤخرونه، كأن يحل دينك على رجل فتزيده في الأجل ويزيدك في الدين، وقد نهي عنه في الإسلام6. وهو في الواقع ربا؛ لأنه استغلال ووجود منفعة بغير جهد، ويقال لذلك: المعاومة.

وقد اشتطَّ أهل المال في الاستفادة من المقترضين، فتقاضوا منهم الربا الفاحش، وألحفوا في زيادته، وتشددوا في المطالبة برأس المال ورباه، ولم يمهلوا معسرًا، ولم يتساهلوا في الأداء إلى وقت الميسرة، إلا إذا زادوا في الربا، وأخذوا ربا المال وربا الربا. وكان اليهود من أشهر المرابين في الحجاز، كما اشتهرت بذلك مكة والطائف ونجران، ومواضع المال الأخرى من جزيرة العرب. وكان من عادة هؤلاء أنهم كانوا يحتسبون الربا الذي يستحق في آخر السنة ولا يدفع للمرابي جزءًا من رأس المال، أي: من المبلغ المقترض، فيؤدي الربا للسنة التالية على أساس المبلغ المقترض مع رباه، وإذا أجل دفع ربا هذا المبلغ الجديد المكون من المبلغ الأصل ورباه، أضيف إليه فصار المبلغ المقترض ورباه ثم ربا المبلغين جزءًا من القرض، ويطلب من المدين دفع الربا على هذا الأساس.

والربا هو "نشك""نشق""Neshec" في العبرانية، وتعني اللفظة: الزيادة التي تؤخذ عن كل دين يعطى لمدين، سواء كان ذلك الدين نقودًا أو عينًا، بضاعة أو ملكًا، أو أي شيء آخر يستدان من مدين في مقابل زيادة تؤدى عليه عند

1 المفردات "ص185".

2 اللسان "14/ 305".

3 تفسير الطبري "3/ 67".

4 اللسان "9/ 159"، "سلف".

5 اللسان "7/ 396 وما بعدها"، "لوط، ليط"، الروض الأنف "1/ 62".

6 تاج العروس "8/ 412"، "عام".

ص: 110

استحقاق الأجل المعين، وقد أشير إليه في التوراة1. وعرفت الزيادة التي تؤخذ على المبلغ بـ"تربيث" أيضًا، أي: ربا، غير أن ربا "النشق"، استعمل في ربا المال، أي: الربا المأخوذ عن النقد من دنانير ودراهم، فهو في مقابل "ربا النسيئة" في الإسلام. وأما "التربيث" فهو الربا المأخوذ عن الطعام مثل: الحنطة والشعير والتمر وما شابه ذلك من طعام، وهو ما يقال له:"ربا الفضل" في الإسلام. وقد تطلق لفظة "نشق" على الربوين: ربا الدنانير والدراهم، وربا الفضل. وقد حرمت التوراة على اليهود تعاطي الربا فيما بينهم، وأحلته بالنسبة للغرباء؛ فجوزت لليهودي أخذه ممن لم يكن على دينهم، ولكنهم لم يتقيدوا بما جاء في التوراة من تحريم الربا عليهم، فتعاطوه فيما بينهم، لا سيما بعد عودتهم من السبي، وصار الربا من أهم المنافع بالنسبة لأرباب المال عندهم2.

وقد كان الرومان واليونان قد كونوا "بنوكًا" أي: مصارف تعاملت بالمال، وتعاطت قرضه مقابل ربح هو رباه. وقد حدد بنسبة واحد في الشهر، و"12" في السنة، وذلك في مقابل الاعتماد "Creditum". وقد تعاطت المعابد أعمال الربا كذلك، ومن هذه معابد "بابل"3.

وأصل "الربا" هو وجود حاجة لدى إنسان إلى مال، ووجود أناس ذوي مال يريدون استغلال أموالهم وتكثيرها، فيقرضونها إلى المحتاج إليها مقابل زيادة يتفق عليها، تدفع عن المال المقترض للأجل المتفق عليه. ويستغل المرابي في الغالب حاجة الشخص الذي يريد المال، فيشتط عليه ويتعسف في شروطه، ويضطر المدين إلى قبول ما تُملَى عليه من شروط لحاجته إلى المال، وإلى دفع الربح العالي الذي فرضه المرابي عليه. ومن الربا أنهم "كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا"4.

1 الخروج، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 25، اللاويون، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 36.

2 W. Smith، A dictionary of the Bible vol، III، p. 1606، Beetons، Illustrated Dictionary of Religion، Philosophy، Politics، and Law، p. 523، John، Babylonian and Assyrian Laws، Contracts، and Letters، 211، Hastings، A. Dictonary of Christ and the Gospels، I، 837، The Bible Dictionary، vol، II، p. 540

3 Hastings، A Dictionary of Christ and the Gospels، I، p. 837

4 تفسير القرطبي "4/ 202".

ص: 111

ويدخل في الربا، الربا في الطعام، وقد كان شائعًا بين أهل العمود والبوادي بصورة خاصة، إذ ليس عندهم دراهم ولا دنانير، فكانوا يأخذون الصاع الواحد مقابل صاع وزيادة، والزيادة رباه، حتى يكون قفزانًا كثيرة، فاستغل المرابون أهل الحاجة وضايقوهم بالطلب. ورد أن أحدهم في الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه، فهو ربا مثل الربا في النقد1. كما فعلوا ذلك في الدنانير والدراهم، فكان أحدهم يبيع الدينار بدينارين، والدرهم بدرهمين، وفي الذهب والفضة، فكانوا يعطون مثقالًا مقابل مثقالين أو أكثر أو أقل من المثقالين، فالزيادة هي الربا. ومعنى هذا أن الربا كان يعادل المبلغ المقترض، فالدرهم بدرهمين والدينار بدينارين، وهو ربا فاحش، استغل فيه المرابي حاجة المدين إلى المال؛ ولهذا نهي عنه في الإسلام بتحريم كل أنواع الربا في القرآن وفي الحديث، حيث ورد:"لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين"2، و"الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما"3.

أما رباهم بالذهب والفضة، فكانوا يأخذونه وزنًا فإذا أعادوه زادوا عليه وزن الربا المتفق عليه؛ ولهذا ورد في الحديث:"لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز"4. فمنع الرسول الزيادة، وجعل الربا قرضًا يعاد إلى صاحبه وزنًا بوزن، أي: متساويين في الوزن. كما منع الزيادة في البيع، فجعل الزيادة على ثمن البيع، الذي يدفع بأجل ربا؛ لأنه زيادة على المبلغ، واستغلال لحاجة المشتري، وهو بيع غرر.

وورد في الحديث أنهم كانوا يشترون الصاع بالصاعين أو أكثر، كأن يعرض أحدهم سلعة، فيبيعها بسلعة مثلها، ولكن بضعف وزنها أو أكثر، فقد اشترى غلام لمعمر بن عبد الله صاعًا وزيادة من شعير بصاع من قمح، فلما عاد بما اشتراه أمره سيده برده؛ لأنه سمع أن الرسول قال:"الطعام بالطعام مثلًا بمثل". وورد أن بعضًا من الصحابة كانوا يشترون صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الجمع،

1 أعلام الموقعين "2/ 138 وما بعدها"، تفسير الطبري "3/ 67".

2 البخاري "5/ 42"، "كتاب البيوع، باب الربا".

3 البخاري "5/ 45"، "كتاب البيوع، باب الربا".

4 البخاري "5/ 42"، "كتاب البيوع، باب الربا".

ص: 112

أي: من تمر مختلط من أنواع متفرقة وليس مرغوب فيه، وما يخلط إلا لرداءته. فلما سمع بذلك الرسول، قال:"لا تفعلوا ولكن مثلًا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا" وكذا الميزان1.

وسبب هذا التوسع في هذا النوع من الربا، أن العرب كانوا أهل تجارة وأهل زراعة ورعي، ولم تكن العملة من دنانير ودراهم، منتشرة بين المزارعين وأهل البوادي، فكانت المقايضة تقوم عندهم مقام العملة. فمن احتاج إلى طعام، أخذ من بائعه أو مالكه أو مكتنزه كيلًا بكيل مثله لأجل معلوم، على أن يعطيه زيادة عليه، يتفق على مقدارها. فيأخذ قفيص تمر بقفيص ونصف أو قفيصين، أو أكثر من ذلك، على نحو ما اتفق عليه، يؤديه له من جنس التمر المسلف ومن جودته، فإذا حل الأجل، ورأى المستحق أن يؤخر دينه، على أن يزيد في المال فعل، وكلما أخره زاد في المال حتى يصير أضعافا مضاعفة، وذلك بسبب الحاجة والفقر. فهذا هو ربا مثل ربا الدنانير والدراهم، نشأ من الحاجة والظروف التي كان عليها أهل الجاهلية في ذلك العهد. ونجد هذا النوع من الربا عند غير العرب من الشعوب أيضًا، وهو ربا الفقراء والمحتاجين في الغالب، أما ربا الدراهم والدنانير فكان ربا التجار، ومن كان يريد تنمية ثروته وزيادة تجارته، فكان يقترض بالربا لهذه الغاية.

والربا المذكور هو الأصل، وأما ربا الدراهم والدنانير أي: ربا العملة، فمتأخر بالنسبة إليه؛ لأن الإنسان مارس التجارة قبل أن تكون لديه دراهم ودنانير، كانت تجارته مبادلة سلع بسلع، وذلك قبل ضرب العملة. فكان الربا ربا سلع ومواد عينية، يقدم المرابي طعامًا إلى تاجر آخر أو إلى محتاج، إلى أجل معين، على أن يزيده في الكمية عند حلول أجل الربا، وفقًا لما اتفق عليه، فإن أخره زاد في المال، وكلما أخره زاد في المال حتى يتضاعف أضعافًا مضاعفة، فهذه أصل الربا الأول. فلما أوجد الإنسان العملة وتعامل بها، وأقبل عليها، ظهرت تجارة جديدة أساسها التعامل بالعملة، وظهر بذلك ربا العملة، الذي غلب على الربا الأول، حتى صار وكأنه هو الربا وحده ولا ربا سواه.

ووجهة نظر المرابين إلى الربا، أنه نوع من أنواع البيوع، وأن الربا مثل

1 البخاري "5/ 47"، "كتاب البيوع، باب بيع الطعام مثلًا بمثل".

ص: 113

البيع، ففيه إيجاب وقبول. ولما نزل الأمر بتحريمه عجب المرابون من التحريم، عجبوا كيف أحل البيع وحرم الربا، مع أن الاثنين في نظرهم واحد، وذلك كما يظهر من الآية:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1، فنظموا البيع والربا في سلك واحد، لإفضائهما إلى الربح، فاستحلوه استحلاله. وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل ما لا يساوي إلا درهمًا بدرهمين جاز، فكيف إذا باع درهمًا بدرهمين؟ 2. فكان التاجر والمرابي عندهم سواء بسواء، فكلاهما يعامل المشتري أو المدين معاملة كسب ونهب، والحصول منهما على أكثر ما يمكن الحصول عليه من ربح ومكسب، والإثراء بأية طريقة كانت. ولهذا عجبوا من تحريم الإسلام للربا، وهو كسب يأتي عن إيجاب وقبول، ومن تحليله للبيع، وهو كسب أيضًا، مبني على إيجاب وقبول.

وقد اشتهر اليهود بمعاطاة "الربا"، وقد أشير إلى ذلك في القرآن الكريم3. كما عرف به أهل مكة والطائف ونجران وسائر من كان لديه فضل من المال وأراد استغلاله؛ وذلك للظروف الاقتصادية التي كانت سائدة في ذلك العهد، من عدم وجود صناعة يشغل أصحاب المال بها أموالهم، فيكثرونها باستغلالها بإنشاء صناعات أو توسيع حرف، ومن عدم وجود مياه غزيرة وأرضين خصبة تسقي سيحًا بصورة دائمة، حتى يشغل صاحب المال ماله في استغلال الأرض؛ ولهذا عمد أصحاب المال إلى تكثير أموالهم بطريق إقراضه والاستفادة من رباه.

وكان ربا الجاهلية أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أَخِّرْ عني دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافًا مضاعفة. وروي عن "عطاء" أنه قال:"كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون"، فكان يكون أضعافا مضاعفة4. وروي

1 البقرة، الآية 275.

2 إرشاد الساري "4/ 26 وما بعدها".

3 سورة النساء، الرقم 4، الآية 161، تفسير الطبري "6/ 17 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 13".

4 تفسير الطبري "4/ 59"، تفسير الآلوسي "4/ 49".

ص: 114

أيضا أن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية، كان إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق:"زدني في الأجل وأزيدك في مالك"1. وذكر "أن ربا أهل الجاهلية: يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخر عنه"2. وذكر أيضًا أنهم "كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا، وتؤخر عني، فيؤخر عنه"3، أو أن يقول أحدهم لمدينه إذا حل الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي4. وذكر أن "الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرضه، على ما يتراضون به"، و"أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل"5.

وروي عن "ابن زيد" أنه كان يقول: إنما كان الربا في الجاهلية وفي التضعيف وفي السن، يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل، فيقول له: تقضيني أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك. إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباعيا، ثم هكذا إلى فوق. وفي العين يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن يكن عنده أضعفه أيضًا، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة يضعفها له كل سنة أو يقضيه، فهذا قوله:{لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة} 6.

ومن أغراض الربا وأسبابه الحاجة، الحاجة إلى المال لسد دين أو عجز وللتغلب على فاقة أو ما شاكل ذلك من ضرورات، فيضطر المحتاج إلى اللجوء إلى المرابي ليستدين منه في مقابل زيادة يؤديها إليه عند حلول الأجل. وقد يأخذ المدين المال ليشتغل به فيربح منه، فيؤدي المال ورباه، ويستفيد من الربح الذي حصل عليه

1 تفسير الطبري "3/ 69".

2 تفسير الطبري "3/ 67".

3 تفسير الطبري "3/ 67".

4 عمدة القارئ "11/ 202".

5 أحكام القرآن، للجصاص "1/ 465 وما بعدها".

6 تفسير الطبري "4/ 59".

ص: 115

من تشغيله لذلك المال في تجارة أو في أعمال إنتاجية أخرى. ورد عن "إبراهيم النخعي" أنه قال: "كان هذا في الجاهلية، يعطي أحدهم ذا القرابة المال يكثر به ماله"1. وورد أنهم كانوا يعطون الرجل المال ليكثر به ماله، وذلك عن طريق تشغيله لذلك المال2.

وقد قسم العلماء الربا إلى نوعين: ربا النسيئة وربا الفضل. أما الأول، فهو الذي كان يتعارفونه في الجاهلية، كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ثم إذا حل الدين طالب الدائن المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل3. "وفي الحديث: إنما الربا في النسيئة هي البيع إلى أجل معلوم"، يريد أن بيع الربويات بالتأخير من غير تقابض هو الربا، وإن كان بغير زيادة. وكان "ابن عباس" "يرى بيع الربويات متفاضلة مع التقابض جائزًا، وأن الربا مخصوص بالنسيئة"4. وقد ورد في الحديث:"إنما الربا في النسيئة، وما كان يدًا بيد فلا بأس"5.

وكان بيع النسيئة بيعًا معروفًا، ولما قدم الرسول المدينة كانوا يتبايعون بهذا البيع، فقال:"ما كان يدًا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا"6. والنسيئة: التأخير إلى أجل هو الموسم، أو أي أجل يتفق عليه.

وقسم بعض الفقهاء الربا إلى ثلاثة أنواع: ربا الفضل، وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر، وربا اليد، وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء، وهو البيع لأجل، وكل منها في الإسلام حرام7.

وعرفوا ربا الفضل، بأنه الربا الذي يباع فيه الشيء بضعفه، مثل أن يباع من الحنطة بمَنَوَيْنِ مثلًا8، وأن يباع الدرهم بدرهمين. وقد خصص العلماء ربا

1 تفسير الطبري "1/ 30 وما بعدها".

2 تفسير الطبري "21/ 30".

3 تفسير الطبري "3/ 67".

4 اللسان "1/ 167"، تاج العروس "1/ 457"، "طبعة الكويت".

5 مسند الإمام أبي حنيفة "ص158"، عقود الجواهر "2/ 30".

6 البخاري "5/ 45"، "كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الورق بالذهب دينًا".

7 إرشاد الساري "4/ 26 وما بعدها".

8 تفسير النيسابوري "3/ 79"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير القرطبي "3/ 348".

ص: 116

الفضل في ستة أعيان، وهي: الذهب، والفضة، والبُرّ، والشعير، والتمر، والملح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها1. وقد منع هذا الربا في الإسلام، فإذا باع رجل رجلًا دينارًا بدينارين إلى أجل، أو درهمًا بدرهمين، أو كيلة حنطة بكيلتين أو أكثر كما كان يفعل أهل الجاهلية، فالزيادة هي ربا؛ ولذلك نهي عنه في الإسلام2.

ولما نزل الأمر بتحريم الربا، وذلك في آخر ما نزل من الوحي، وقبل وفاة الرسول بتسع ليالٍ على بعض الروايات3، صعب ذلك على الأغنياء الذين كانوا يعيشون على الربا ويقولون: إنما البيع مثل الربا4. وذكر علماء التفسير أن الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5، إنما نزلت في "العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانوا شريكين في الجاهلية، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو، وهم بنو عمرو بن عمير. فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله ذروا ما بقي من فضل كان في الجاهلية من الربا"6. وذكر أيضًا "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح:"ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب"7.

ولما جاء وفد "ثقيف" إلى المدينة؛ لمفاوضة الرسول في أمر دخولهم في

1 إعلام الموقعين "2/ 136 وما بعدها".

2 مسند الإمام أبي حنيفة "ص159"، صحيح مسلم "5/ 42"، "باب الربا"، "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن، مثلًا بمثل، سواء بسواء"، صحيح مسلم "5/ 42 وما بعدها".

3 تفسير الطبري "3/ 76"، "وعن ابن عباس، قال: آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا"، "وعن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه} "، تفسير الطبري "3/ 75".

4 البقرة، الآية 282، تفسير الطبري "3/ 68"، "وقد قيل: إن هذه الآيات في أحكام الربا هن آخر آيات نزلت من القرآن"، "إن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا، وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها"، تفسير الطبري "3/ 75 وما بعدها".

5 البقرة، الآية 282.

6 تفسير الطبري "3/ 71".

7 تفسير الطبري "3/ 72"، تفسير ابن كثير "1/ 330".

ص: 117

الإسلام، قال "عبد ياليل" وهو لسانهم الناطق باسمهم:"أرأيت الزنى! فإنا قوم عُزَّاب لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العُزبة قال: "هو مما حرم الله"؛ قال: أرأيت الربا! قال: "الربا حرام! " قال: فإن أموالنا كلها ربا! قال: "لكم رءوس أموالكم"، قال: أفرأيت الخمر! فإنها عصير أعنابنا ولا بد لنا منها! قال: "فإن الله حرمها! "1.

وكانت ثقيف قد صالحت النبي "على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا، فهو موضوع، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة. وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد. فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

} إلى: {

وَلا تُظْلَمُونَ} . فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، وقال:"إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب"2. وذكر أن "بني عمرو بن عوف"، الذين كانوا يأخذون الربا من "بني المغيرة"، هم: "مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة بنو عمرو بن عمير. وهم كبار الملاكين والأثرياء في ثقيف"3.

وأسقط النبي عن أهل نجران كل ربا كان عليهم في الجاهلية، إلا رءوس أموالهم فإنهم يردونها وأسقط عنهم كل دم كانوا يُطلَبون به4.

وق كان إرغام ثقيف وغيرهم من الذين كانوا يتاجرون بالربا على ترك الربا، والاكتفاء بأخذ رءوس أموالهم إن كان لهم ربا في الجاهلية، خسارة كبيرة لهم، أرغموا عليها إرغامًا، لتحريم القرآن له، وإحلال "القرضة الحسنة" محله. والقرض الحسن، هو إقراض المال للمحتاج إليه من غير اشتراط زيادة عليه حين إعادته، أي: من غير ربا لذلك المال.

1 الطبري "3/ 492".

2 تفسير الطبري "3/ 71"، البلدان "6/ 10 وما بعدها".

3 تفسير الطبري "3/ 71".

4 اللسان "14/ 305".

ص: 118

واضطر من كان له فضل ربا من ربا الجاهلية وهو في الإسلام، على تركه والتنازل عنه، وعلى أخذ خالص ماله فقط الذي أقرضه للمدين من غير أي ربح. وفرض الإسلام على هؤلاء الدائنين أيضًا وجوب التساهل مع المدينين وتأجيل الدفع إن كان المدين في عسر وضيق حال، حتى يتحسن حاله فيتمكن من الدفع1.

وقد ذكر الفقهاء أن الربا ربوان: فالحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو تجرّ به منفعة فحرام، والذي ليس بحرام أن يهبه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر أو يهدي الهدية ليهدى له ما هو أكثر منها2. وقد دعا بعض العلماء الربا الأول بـ"ربا البيع"، وقال عنه: إنه هو الربا المحرم3.

وأول إشارة وردت في القرآن الكريم إلى الربا، هي الإشارة الواردة في سورة الروم:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 4، وسورة الروم من السورة المكية. أما المواضع الأخرى التي أشير فيها إلى الربا ففي سورة البقرة5، وسورة آل عمران6، وسورة النساء7، وهي من السور المدنية. ويظهر من دراسة هذه المواضع أن حرمة الربا إنما نزلت في المدينة، أما في مكة فلم يكن قد حرّم، وإنما حث الأغنياء على قرض المال للمحتاج إليه لوجه الله، مساعدة له، ويكون ثوابه عند الله.

وفي سورة "المزمل"، وهي من السور المكية وتعد السورة الثالثة في ترتيب سور القرآن:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} 8، وفي سورة التغابن:{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} 9.

1 تفسير الطبري "3/ 72، 74 وما بعدها".

2 القرطبي "14/ 305""صادر"، تفسير الطبري "21/ 30 وما بعدها"، تفسير القرطبي "14/ 36".

3 تفسير ابن كثير "3/ 434".

4 سورة الروم، الآية 39.

5 البقرة، الآية 275 فما بعدها.

6 آل عمران، الآية 130.

7 النساء، الآية 161.

8 المزمل، الرقم 73، الآية 20.

9 التغابن، الرقم 64، الآية 17.

ص: 119

وهذه السورة هي من السور المكية كذلك، ولم يكن الربا قد حرم في هذا العهد كما ذكرت. فيكون الإسلام قد وضع مبدأ القرضة الحسنة، وهو القرض لله وفي سبيله، بغير زيادة، والتبرع في سبيل الله، في موضع الربا في ذلك الوقت. فلما نزل الأمر بتحريمه، جعلت القرضة الحسنة، من أعمال البر والتقرب إلى الله، وصار كل قرض يؤخذ عليه ربح ربًا محرمًا، يعاقب الله الإنسان يوم القيامة عليه، ولعن آكل الربا ومُؤكله وكاتبه وشاهديه1.

وقد ذكر علماء التفسير في تفسيرهم الآية: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 2، أن هذا كان في الجاهلية يعطي أحدهم ذا القرابة المال يكثر به ماله، أو أن الرجل يقول للرجل: لأموِّلنك فيعطيه، فهذا لا يربو عند الله؛ لأنه يعطيه لغير الله ليثري ماله، أو أن الرجل يلزق بالرجل، فيخف له ويخدمه ويسافر معه، فيجعل له ربح بعض ماله ليجزيه، وإنما أعطاه التماس عونه ولم يرد وجه الله، أو هو ما يعطي الناس بينهم بعضهم بعضًا، يعطي الرجلُ الرجلَ العطية ليثيبه، يريد أن يعطي أكثر منها3.

ويذكر العلماء أن رسول الله لما ظهر على مكة وضع يومئذٍ الربا كله، وحتَّم على المرابين أخذ رءوس أموالهم من غير زيادة عليها، وذكر بعض العلماء أن التحريم نزل في ربا "بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم"، أو "في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان، وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر: لا يبقى لي ما يكفي عيالي إذا أنتما أخذتما حظكما كله، فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما وأنزل الله تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رءوس أموالهما"4. وقيل: "نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فقال

1 البخاري "5/ 50"، "كتاب البيوع، باب لعن آكل الربا ومؤكله".

2 الروم، الرقم 30، الآية 39.

3 تفسير الطبري "21/ 29 وما بعدها"، روح المعاني "21/ 40 وما بعدها".

4 أسباب النزول "ص65".

ص: 120

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب"1.

فنحن إذن أمام أفراد وأمام شركاء كانوا يتعاملون بالربا، أي: قرض المال في مقابل جر مغنم منه، وقد حصل هؤلاء المرابون على أموال طائلة منه. أضف إلى ذلك أنهم كانوا تجارًا، يسافرون إلى الخارج ويربحون من تجارتهم هذه ربحًا حسنًا.

ولضبط المدين الآخذ بالربا، كانوا يكتبون الدين ورباه في صحيفة، يكتب كاتبها اسمه فيها، ويكتب فيها اسم المدين وإقراره بدينه للدائن، وبمقدار الزيادة. والغالب أنهم كانوا لا يذكرون أصل الدين، بل يذكرون الرقم الذي يبلغه هذا المبلغ مع فائضه مضافا إليه، حتى يظهر الفائض وكأنه جزء من رأس المال. ويشهد على صحة العقد شاهدان؛ ولهذا لعن الرسول آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه2.

وكان "أبو لهب" من أصحاب المال بمكة ومن المرابين، ذكر أنه كان قد لاط "العاصي بن هشام" بأربعة آلاف درهم، فلما وقعت معركة بدر استأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه، فلم يخرج "أبو لهب" مع من خرج من رجال قريش. وكان "العاصي" قد أفلس، فلم يتمكن من دفع المبلغ ورباه، فتنازل "أبو لهب" عنه على أن يخرج إلى بدر في مكانه3. وفي سورة "تبت" إشارة إلى أن "أبا لهب" كان ملَّاكًا ذا مال وقد كسب كثيرًا.

وقد كان أهل يثرب يقترضون المال والطعام من اليهود في مقابل ربا فاحش. فورد أن أنصاريًّا اقترض ثمانين دينارًا من يهودي، وقد أعطاه ربا بلغ خمسين في المائة من المبلغ لسنة واحدة4. وقد وبخهم القرآن لأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل5.

1 المصدر نفسه.

2 البخاري "5/ 50"، الترتيب والبيان عن تفصيل آي القرآن "2/ 234"، عقود الجواهر "2/ 33"، تيسير الوصول "1/ 68"، مسند الإمام أبي حنيفة "ص158".

3 الروض الأنف "2/ 62".

4 البخاري، بيوع "34/ 14"، Watt، Muhammad at Medina، p. 297

5 تفسير الطبري "1/ 17 فما بعدها".

ص: 121