الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عادات وأعراف:
ويظهر من بعض الأخبار أن الوأد لم يكن عن إملاق فحسب، بل كان لسبب آخر أراه متصلًا بعقيدة ودين. فقد ذكر أن وفد "جعفى"، قال لرسول الله: يا رسول الله! إن أمنا مُليكة بنت الحلو، كانت تفك العاني وتطعم البائس وترحم المسكين، وإنها ماتت وقد وأدت بنية لها صغيرة، فما حالها؟ قال:"الوائدة والموءودة في النار"1. فلم يكن الوأد هنا بسبب الفقر والإملاق، بل لسبب آخر، قد يكون له صلة بدين أو بعرف اجتماعًا، ويلاحظ أن "جعفى" كانوا يحرمون القلب في الجاهلية ولا يأكلونه. ولما قدم وفدهم إلى يثرب، قال رسول الله:"بلغني أنكم لا تأكلون القلب؟ " قال: نعم. قال: "فإنه لا يكمل إسلامكم إلا بأكله". ودعا له بقلب فشوي، ثم ناوله أحد رجال الوفد، فلما أخذه أرعدت يداه، فقال له رسول الله:"كُلْهُ"، فأكله وقال:
على أني أكلت القلب كرهًا
…
وترعد حين مسته بناني2
وقد حمل الأعشى على أولئك الذين ينامون وهم متخمون ملاء البطون، وجيرانهم جياع يتضورون من الجوع، إذ يقول:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم
…
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وفي هذا المعنى يقول بشر بن المغيرة:
وكلهم قد نال شبعًا لبطنه
…
وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه
ولعل هذا الشعور هو الذي حمل "عروة بن الورد" على أن يكون سيد الصعاليك ومجمعهم ومغيثهم، حتى قيل له:"عروة الصعاليك"؛ لأنه كان يجمع الصعاليك في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه3.
وفي القرآن الكريم أن "ملأ" نوح، وهم الأعزة أصحاب الحول والطول،
1 ابن سعد، الطبقات "1/ 325".
2 ابن سعد، الطبقات "1/ 324 ما بعدها".
3 تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".
يقولون لنوح: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} 1، وفيه أنهم قالوا له:{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} 2. وقول ملأ نوح هذا، هو تعبير عن رأي ملأ قريش الذين كانوا يقولون: لو كان محمد رسولا حقا، لكان رجلا من رجال قريش أو الطائف الأغنياء أصحاب المال، فالرئاسة ولو كانت نبوة لا تكون إلا في رجل عظيم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 3. وكانوا يسخرون من المسلمين ويستهزئون بهم حينما يرونهم خلف الرسول يدخلون المسجد الحرام، وهم من الأراذل الضعفاء والفقراء، فيضحكون ويقولون: جاءكم ملوك الأرض كسرى وهرقل، فدين يكون أتباعه ومعتنقوه من الرقيق والضعفاء دين ليس له شأن، ولا يمكن أن يكون مقبولًا حتى يكون أتباعه من الأغنياء ملأ القوم.
وقضى أغنياء مكة وسادتها لياليهم في مجالسهم ونواديهم، وعادتهم أنهم كانوا يتنادمون، يشربون ويسمعون القيان، ويتنادرون ويسمعون القصص والنكات، ثم يعودون إلى بيوتهم، ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء ندماء قريش.
وأكثر الأغنياء من التدهن، فالتدهن من النعيم، وهم يتدهنون بالدهون الجيدة المطيبة. ويقال لكثرة التدهن:"التورن"4، و"التودن": كثرة التدهين والتنعيم5.
وفي مقابل هذه الطبقة الغنية، كان السواد فقيرًا، ومنهم معدمون تمامًا لا يملكون شيئًا، إذا عجزوا عن الحصول على قوت، عمدوا إلى الشجر فأكلوا ورقه أو ثمره إن كان بريًّا لا يملكه أحد، أو إلى الأعشاب فأكلوها -ورد في حديث "عتبة بن غزوان": ما لنا طعام إلا ورق البشام6- أو إلى "العلهز" فأكلوه. وهو طعام من الدم والوبر كان يتخذ في أيام المجاعة، وذلك أن يخلط الدم بأوبار الإبل ثم يشوى في النار، قيل: وكانوا يخلطون فيه القردان، وذكر أنه الصوف ينقش ويشرب بالدماء ويشوى ويؤكل. ورد في حديث "عكرمة":
1 سورة هود، الرقم 11، الآية 27.
2 سورة الشعراء، الرقم 26، الآية 111.
3 الزخرف، الرقم 43، الآية 31.
4 تاج العروس "9/ 360"، "التورن".
5 تاج العروس "9/ 360"، "ودن".
6 تاج العروس "8/ 203"، "بشم".