الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع عشر بعد المئة: الحرف
مدخل
…
الفصل الرابع عشر بعد المائة: الحرف
من الحرف المتداولة بين الجاهليين النجارة والحدادة والحياكة والنساجة والخياطة والصياغة والدباغة والبناء ونحوها من حرف يحترفها الحضر في الغالب. أما الأعراب فقد كانوا يأنفون من الاشتغال بها، وينظرون إلى المشتغلين بها نظرة احتقار وازدراء؛ لأنها في عرفهم حرف وضيعة، خُلقت للعبد والرقيق والمولى ولا تليق بالحر، حتى إن الشريف منهم وذا الجاه، كان لا يحضر وليمة يدعوه إليها شخص من أصحاب هذه الحرف، استنكافًا وازدراء؛ لأنه ليس في منزلته ومكانته. وقد كان عمل الرسول كبيرًا في نظر رؤساء القوم يومئذ، حينما جوَّز حضور طعام الخياط والصائغ وأمثالهما، وكان يحضر منازلهم، فعد القوم ذلك عملًا غير مألوف ومخالفًا للعرف والتقاليد1.
وقد كان أكثر أهل القرى ينظرون إلى الحرف والمحترفين بها نظرة ازدراء كذلك، ويأنفون لذلك من التزاوج معهم، ويعيِّرون من يتزوج من امرأة أبوها قين أو نجار أو دباغ أو خياط، ويلحق هذا التعيير الأبناء كذلك. وينظرون هذه النظرة إلى المشتغلين بزراعة الخضر مثل البقول في الغالب، ولا تزال هذه النظرة معروفة في جزيرة العرب، وفي أماكن أخرى خارج حدود هذه الجزيرة
1 "وفيه جواز أكل الشريف طعام الخياط والصائغ وإجابته دعوته"، "باب ذكر الخياط"، عمدة القاري "11/ 210 وما بعدها".
كالعراق. وهذه هي مشكلة من جملة المشكلات التي أثرت في الاقتصاد العربي وفي الحياة الاجتماعية، وإن كانت قد أخذت تخف في هذه الأيام.
ولم يكن العرب وحدهم ينظرون إلى الحرف والمشتغلين بها نظرة ازدراء، بل كانت شعوب العالم كلها تقريبًا تنظر إلى طبقة أصحاب الحرف مثل هذه النظرة؛ لأن الحرف هي من أعمال الطبقات الدنيا من سواد الناس الرقيق والموالي، أما الحر فلم يخلق لها ولم تخلق له. كذلك كانت نظرة قدماء اليونان إلى هذه الحرف؛ لأنها عندهم من الأعمال التي يقوم بها سواد الناس ورقيقهم1.
وهذه الحرف لم يختص بها الجاهليون وحدهم، بل كانت عامة معروفة ومتداولة عند جميع الشعوب لتلك العهود، وهي لبساطتها وبداءتها متشابهة، لا تجد اختلافًا في آلاتها وأدواتها المستعملة عند الشعوب. فأدوات النجار تكاد تكون واحدة، سواء أكانت عند النجار العربي الجاهلي، أم النجار العبراني، أم النجار النبطي، وكذلك قل عن أدوات الحداد والصائغ وغيرهما من الطبقات العاملة التي ترتزق وتعيش على هذه الحرف التي تعتمد على اليد.
ونجد في كتب اللغة والأدب وأمثالها ألفاظًا عديدة معربة، استعملها أهل الجاهلية وذلك بتعريبها ونقلها من أصول أعجمية معروفة، فيها الفارسي والآرامي واليوناني واللاتيني والحبشي والنبطي. وهي مما يدخل في باب الآلات والأدوات والمآكل والملابس والبيت والثقافة والعلم، دخلت العربية؛ لأنها كانت مصطلحات متداولة عند أهلها معروفة، أخذها العرب منهم باحتكاكهم وبتأثرهم بهم، وقد صقل بعضها وهذب ووسم بسمة عربية، وأدخل على بعض آخر بعض التعديل ليتناسب مع أسلوب النطق العربي، وقبل بعض آخر على نحو ما كان في أصله واستعمل في العربية، حتى صار في ظن من لا وقوف له على العربية أنه عربي صميم.
والألفاظ المعربة التي نعنيها قديمة، دخلت قبل الإسلام بمئات السنين، وقد استعملتها الألسن وتداولتها، وصارت بهذا الاستعمال ألفاظًا عربية مستساغة، ومنها ما هو مستعمل حتى الآن. وجمع هذه الكلمات وضبط معانيها وتبويبها وتصنيفها، عمل مهم نافع أرجو أن يتهيأ له أصحاب العلم والاختصاص، فبها
1 Hastings، p. 52
نتمكن من الوقوف على الاتصال الفكري الذي كان بين العرب وغيرهم، وبها نتمكن أيضًا من الوقوف على مدى الاتصال ومقدار تغلغله في جزيرة العرب. وبأمثال هذه الدراسة سنتمكن أيضًا من تكوين صورة علمية صحيحة للتأريخ الجاهلي وهي صورة ستغير، ولا شك، كثيرًا من هذه الآراء القديمة عند كثير من الناس عن الجاهليين، تكونت من دراستهم لروايات أهل الأخبار عن العرب قبل الإسلام.
ولم يخفَ أمر هذه المعربات عن قدماء علماء اللغة، فقد أدركوا وجودها ودخولها في العربية قبل الإسلام، وألفوا فيها، وأشاروا إليها في معجمات اللغة ووضع بعضهم بحوثًا في معربات القرآن. وهي تفيدنا فائدة كبيرة بالطبع في الوقوف على الصلات الثقافية التي كانت بين العرب والعالم الخارجي قبل الإسلام، وإن كانت تلك البحوث والمؤلفات قد كتبت بطريقة ذلك العهد، استنادًا إلى الروايات دون التثبت منها وتعرف أصولها وتتبع مواردها، بدراسة اللغات الأجنبية ومقارنتها ومطابقتها بالأصل. وهي طريقة أوقعتهم في أغلاط، ولكنها أفادتنا مع ذلك فائدة كبيرة في معرفة هذا الغريب الدخيل، وفي تكوين رأي في الدراسات اللغوية عند علماء اللغة القدامى1.
وقد عثر الرحالون والمنقبون على ألواح من الخشب وعلى شبابيك ومواد خشبية أخرى في اليمن وفي حضرموت منقوشة نقشًا بديعًا ومحفورة حفرًا يدل على دقة الصنعة وإتقان في العمل. وهي شاهد على تمكن النجار من مهنته، وعلى قدرته فيها، وعلى حسن استعماله ليده وعلى سيطرته عليها في استخدامها للأدوات النجارية، في صنع النفائس والطرائف من الخشب.
والحرف وراثية في الغالب، يتعلمها الابن عن والده، وتنحصر في العائلة فتنتقل من الآباء إلى الأبناء. ولا يسمح لغريب أن يتعلم أسرار الحرفة وأن يقف عليها وخاصة في الحرف المربحة، وفي الحرف التي تحتاج إلى مهارة ودقة وذكاء؛ خوفًا من وقوع المنافسة، وانتقال سر العمل والنجاح إلى شخص غريب، فينافس أصحاب الحرفة في عملهم، وينتزع منهم رزقهم. لذلك حُوفظ على أسرار المهنة، ولم يبح بأسرارها حتى لأقرب الناس إليهم، وفي حالة اكتشاف رجل طريقة جديدة غير
1 المعرب، للجواليقي، الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي "1/ 231".
معروفة في حرفته، فإنه يحتفظ بسره حتى لا يتسرب إلى الغرباء، ومنهم من لا يعلِّم حتى أولاده سر المهنة إلا في حالة شعوره بعجزه عن العمل أو بقرب وفاته ودنو أجله؛ خشية انتقال السر منهم إلى غيرهم، فينافسونهم على رزقهم ومصدر قوتهم من هذا السر.
وينضمُّ أصحاب الحرف بعضهم إلى بعض مكوِّنين "صنفًا"، أي: طبقة خاصة، تتعاون فيما بينها تعاون النقابات الحرفية والمهنية في الوقت الحاضر، يتولى رئاستها أبرز رجال "الصنف". وإذا مات أحدهم تعاونوا في تشييعه ودفنه وفي مساعدة أهله ومواساتهم؛ وذلك لحماية رجال الحرفة من كل سوء قد يقع عليها وللمحافظة على حياتهم، ولا يسمح "الصنف" بدخول غريب بينهم؛ لأنهم جماعة ورثت حرفتها، فلا يجوز لغريب مزاحمتهم فيها.
ويتجمع رجال بعض الحرف في أماكن معينة، كما هو الحال في الوقت الحاضر، كأن يتجمع الحدادون في منطقة معينة، والصاغة في حي، والصفارون في حي، والنجارون في حي؛ وذلك للتعاون فيما بينهم، وتنسب تلك المحلات إليهم.
وقد تشتهر مدينة ما بحرفة من الحرف، فيكون لمنتوجها شهرة واسعة ويباع بأسعار عالية، وقد تشتهر منطقة بجملة صناعات. فقد اشتهرت اليمن بالبرود كما اشتهرت بسيوفها، التي اكتسبت شهرة بعيدة واسعة في كل جزيرة العرب، واشتهرت بعقيقها كذلك وبأنواع أخرى من التجارات. واشتهرت مكة ببعض أنواع العطور، واشتهرت ثقيف بالدباغة والأدم.
وقد كانت أجور العمل معروفة عند الجاهليين، فتُدفع للعمال والصناع أجور يومية، كما تدفع لهم أجور مقطوعة عن عمل معين، وليس لهؤلاء العمال من أتعاب عملهم سوى ذلك الأجر المتفق عليه. أما الرقيق، فلا يدفع لهم في العادة أي شيء، سوى ما يقدم لهم من طعام وملبس وحماية، وعليهم في مقابل ذلك الاشتغال بالشغل الذي يوكل إليهم به أسيادهم، ولا حق له بالنسبة لقوانين ذلك الوقت الامتناع عن القيام بالعمل الذي كلفوه به.
والأجور قد تكون يومية وقد تكون سنوية وقد تكون مقطوعة، ولا يشترط في الأجر أن يكون نقدًا، فقد يدفع عينة، أي: مالًا مثل طعام، أو كساء؛ لندرة النقد في ذلك الوقت. ومن أمثلة الحرف التي تدفع عنها الأجور، حرفة