الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لجرائم يرتكبونها، وهي ساحات محاكم، يجلس فيها المتخاصمون للاستماع إلى قرار حاكم مهاب محترم، اتفقوا على تحكيمه في نزاعهم. وقد كانت الحكومة في هذه السوق إلى "بني تميم"، وكان آخر من حكم منهم فيها: الأقرع بن حابس التميمي1.
ويروي أهل الأخبار أن فرسان العرب كانوا إذا حضروا موسم عكاظ تقنعوا إلا "أبا سليط""طرفة بن تميم"، فارس عمرو بن تميم في الجاهلية؛ فإنه كان لا يتقنع ولا يبالي أن تقع عيون الفرسان عليه، وذلك اعتمادًا على نفسه وازدراءً لشأن أعدائه ومن يريد إلحاق الأذى به2. وقد كانت سوق عكاظ وبقية الأسواق، من أهم المواضع التي تجلب أنظار الفرسان إليها، إذ كان الكثير منهم يتصيدون فرص الأخذ بالثأر بعد انفضاض موسم السوق، أو الحصول على غنائم بمهاجمة التجار ومن يحمل تجارة دسمة أو حمولة ثمينة؛ ولهذا كان لا بد للفرسان ومن يريد الحصول على مغنم أو تنفيذ مأرب ما من التحفظ والاحتراز حذر انكشاف أمره، فيكون عرضة للغدر.
وإذا وقعت في هذه الأسواق خصومات في مثل اختلاف في سعر أو اختلاف في تجارة، فهناك حكَّام يلجأ المتخاصمون إليهم للنظر في خصوماتهم وللنظر في كل خصومات أخرى قد تقع على الحاضرين، فيقوم هؤلاء الحكام بفض ذلك النزاع. وقد اشتهر سادات بني تميم بالنظر في الخصومات التي تقع في الأسواق القريبة منهم أو التي تقع في ديارهم، وكان من أواخر حكامهم "الأقرع بن حابس"3.
1 صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها".
2 الاشتقاق "ص131"، اليعقوبي "1/ 226"، العقد الفريد "2/ 206"، البيان والتبيين "3/ 100".
3 صبح الأعشى "1/ 410".
سوق عكاظ في الإسلام:
كانت سوق عكاظ عامرة مقصودة في الجاهلية، "فلما جاء الإسلام هدم
ذلك"1. وورد في كتب الحديث: "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقًا في الجاهلية. فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها، فأنزل الله:"ليس عليكم جناح في مواسم الحج"، قرأ ابن عباس كذا"2. وورد في تفسير الطبري:"قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم في مواسم الحج""3. وورد: "كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} "4. وتفسير ذلك كما جاء في كتب التفسير والحديث، وكما سبق أن تحدثت عن ذلك في الجزء الخاص بالحياة الدينية عند أهل الجاهلية، أن الجاهليين كانوا يتأثمون من الاتجار في الحج، فلا يحجون ولا يتجرون، وتكون تجارتهم في الأسواق المذكورة قبل الحج أو في مكة بعد الحج، وبقوا على ذلك حتى رفع عنهم الحرج بنزول الوحي:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} 5، فرخَّص لهم في المتجر والركوب والزاد، وأحل الله لهم الاتجار في الحج6، فصاروا يتبايعون بمكة، فأثر ذلك على الأسواق المذكورة.
وكان تحديد مواقيت الحج، وانتشار الإسلام، ومنع التعرض والتحرش بالناس طيلة أيام السنة، في جملة العوامل التي قللت من أهمية تلك الأسواق، فلم يعد الحجاج في حاجة إلى الذهاب قوافلَ إليها؛ استغلالًا لحرمة الأشهر، بل صاروا يتجهون إلى المواقيت المعينة للحج رأسًا، فيتجرون بمكة ويعودون إلى ديارهم، فقلت بذلك أهمية تلك الأسواق حتى ماتت.
وسبب آخر، هو في نظري أهم من كل ما ذكرت، هو أن هجرة الرسول إلى يثرب، وانتصار الإسلام على مكة، ثم وفاته بيثرب، واتخاذ الخلفاء الثلاثة الأول إياها قاعدة لهم ولبيت مال المسلمين، ثم خروج سادات مكة إليها في
1 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ".
2 إرشاد الساري "4/ 37".
3 تفسير الطبري "2/ 164، 165".
4 تفسير الطبري "2/ 164".
5 سورة البقرة، رقم 2 الآية 198.
6 تفسير الطبري "2/ 164 وما بعدها".
حياة الرسول، وانتقالهم إلى الأمصار المفتوحة لإدارتها سياسيًّا وعسكريًّا، أو للاشتغال بها بالزراعة والتجارة وبالأعمال الأخرى المربحة، كل هذه العوامل وأمثالها جعلت مكة في الدرجة الثانية بعد "يثرب"، حتى إن من بقي بالمدينة من الصحابة ولم يغادرها كما غادرها غيرهم إلى الأمصار المفتوحة، وجدوا أن من أدب الصحبة ملازمة قبر الرسول، والثوى بها في الحياة وفي الممات، ولم يقيموا بمكة إلا فترات؛ لحج أو لزيارة، فأثر ذلك على وضعها المالي، وأزال مكانها القديم في التجارة، فتغير بذلك كل شيء.