الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في بعض طرقه في كتابه المرسوم بالمعجم الكبير: (فتخلف رجل عن أعيانهم) وهذا أشبه وأعدل من طريق من طريق المعنى وإن كانت الرواية الأولى أوثق من طريق السند. والمعنى: أنه سافر عن أصحابه حتى خلا بالسائل فأعطاه سرا.
[1313]
ومنه: حديث أنس- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الأرض جعلت تميد؛ فخلق الجبال فقال بها عليها) أي ضرب بالجبال على الأرض حتى استقرت، ذكر عن ابن الأنبارى أنه قال: يقول العرب: قال بمعنى تكلم وبمعنى أقبل وبمعنى أقبل وبمعنى مال وبمعنى ضرب وبمعنى استراح وبمعنى غلب.
وقال غيره: العرب تجعل القول عبارة عن كثير من الأفعال نحو قال برجله فمشى، وقال بيده فأخذ.
ومن هذا الباب قول القائل:
وقالت: له العينان سمعا وطاعة
أي: أومأت.
وفيه (يارب هل خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم تصدق صدقة بيمينه يخفيها من شماله) معناه- والله اعلم- أن نفس الإنسان جبلت على غرائز لا تملك النار حرها، ولا الماء بردها، وطبعت على ضرائب لا تستطيع الريح قهرها، ولا تقوى على مقاومتها الجرام، ولا تلين عريكتها الأركان، ولا تحمل على ما تأباه بالتشدد، ولا تمنع عما ترومه بالاحتيال، فهي أشد من كل شديد [154/أ] وأصعب مراما من كل متمرد، ومن طبعها إيثار السمعة وحب الثناء، وطلب التفوق على النظراء، فتظهر ما كان منها من البر لإدراك تلك الأغراض، فإذا سخرت تلك النفس لصاحبها تسخيرها يغلبها في تصرفاتها وردها عن طلباتها، كان الذي غلبها على تلك الخلال وزجرها عن مواقع الخلاف أغلب من كل غلاب، ومن طبعها إظهار الصدقة فإذا ملكها ابن آدم بحيث ما يخفي إظهارها بالطبع كان أشد من الريح. وقوله:(تصدق صدقة بيمينه يخفيها عن شماله) من مجاز القول الذي يقع موقع المبالغة في الإخفاء والله أعلم.
ومن
باب إخفاء الصدقة
(من الصحاح)
[1314]
حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)
سئل بعض السلف عن معناه فقال: ما فضل عن العيال. وكأنه أراد بذلك المعنى المراد منه ولم يدع لفظ الحديث بتفسيره هذا على منهاج واضح. وقد فسره الخطابي فقال: أي عن غني يعتمد عليه ويستظهر به على النوائب التي تنوبه لقوله في حديث آخر: (خير الصدقة ما أبقت غنى).
قلت ولم يصدر عن قوله هذا من رى لأنا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم حمد صنيع أبي بكر- رضي الله عنه لما انخلع من ماله أجمع ولما سأله عما أبقي لنفسه فقال: الله حمد ذلك ولما سئل عن أفضل الصدقة قال: (جهد من مقل) فلو حملنا الحديث على الجدة وكثرة العرض انتهي بنا إلى القول بالتضاد والتضاد والتناقض في تلك الأحاديث ونظائرها. والسبيل في السنن الثابتة لا يضرب بعضها ببعض فيوهن بعضها ببعضا، بل يأول كل منها على منوال يشد بعضه بعضا.
فنقول وبالله التوفيق: (عن ظهر غني) عبارة عن تمكن المتصدق عن غني ما وذلك مثل قولهم: هو على ظهر سير وراكب متن السلامة وممتط غارب العز ونحو ذلك من الألفاظ التي يعبر بها عن التمكن من الشيء والاستواء عليه، وإنما قلنا عن غني ما لمجيئه في الحديثين منكرا، وإنما لم يأت به معرفا ليفيد أحد المعنيين في إحدى الصورتين أما استغناءه عما بذل بسخاوة النفس وقوة العزيمة ثقة بالله سبحانه كما كان من أبي بكر- رضي الله عنه [154/ب] وأما استغناءه بالعرض الحاصل في يده فبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله
هذا أن لابد للمتصدق من أحد الأمرين: إما أن يستغني عنه ماله أو يستغني عنه بحاله وهذا أفضل اليسارين لما ورد في الحديث الصحيح: (ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس) ألا ترى كيف رد على المتصدق جاءه بمثل بيضة من ذهب؛ فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (أصبت هذه من عدن فخذها فهي صدقة ما املك غيرها فأعرض عنه) الحديث بطوله .. فعلم النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (ما أملك غيرها) خلو يده عن المال، وعرف بالفهم الذي أتاه الله أو بغير ذلك من أسباب التأييد السماوي والتعريف الإلهي فقر النفس وقلة الصبر وضعف العزيمة منه، ولهذا قال:(يأتي أحدكم بما يملكه يقول هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس) أي: يأخذ الصدقة ببطن كفه وهو كناية عن التصدي للسؤال، فكره له التخلي عن ذات يده مع وجود تلك العلل، وأمره أن تصدق إلا وهو على حال من الغنى ويبدأ إذا تصدق بمن يعوله يقال: عال الرجل عياله عولا وعيالة أي: قاتهم وأنفق عليهم من قوله: (وابدأ بمن تعول) أي: لا تكن مضيعا لمن وجب عليك رعايته متفضلا على من لا جناح عليك من حاحته.
[1321]
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر- رضي الله عنه (وتعاهد جيرانك) أي: تفقدهم بزيادة طعامك وتجدد عهدك بذلك واحفظ به حق الجوار، والتعهد: التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، والتعاهد ما كان بين اثنين من ذلك
[1325]
ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الناس)
…
الحديث. يحمل قوله على أن قال أنه خير الناس، أراد" أنه من خير الناس، إذ قد علمنا أن في القاعدين من هو خير من هذا الذي أمسك بعنان فرسه، إذ كان أعلم بالله وأخشي لله ولم يكن الجهاد عليه فرض عين.
وقد يقول القائل: خير الأشياء كذا، لا يريد تفضيله في نفسه [155/أ] على جميع الأشياء، بل يريد أنه خيرها في حال دون حال ولو أحد دون آخر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(خياركم خيركم لأهله) فلا يصح أن يحمل ذلك على أن من أحسن معالجة أهله فهو أفضل الناس، وقد علمنا أن من كان أعلم بالله وأزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منه فهو خير منه، وأنه لم يبلغ في حسن المعاشرة محله، وعلى نحو هذا المعني يأول قول من قال: شراركم عزابكم، أي: من شراركم؛ لأنه وإن كان صالحا فهو بمرقبة الفتنة غير آمن من شر نفسه من قبل العزوبة، وقد علمنا أن الآهل الفاسق أقرب إلى الشر منه، وكذلك قوله:(ألا أخبركم بشر الناس؟ يسأل بالله العظيم ولا يعطى به) أي بمن هو من شر الناس؛ لأن تلك الخصلة قد توجد في بعض المسلمين، والكافر شر منه، وقوله:(يسأل) على بناء ما لم يسم فاعله ولا يعطى على بناء الفاعل.
[1326]
ومنه حديث أم نجيد النصارية الحارثية- رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ردوا السائل ولو بظلف محرق) هذا القول إنما قصد به المبالغة في رد السائل بأدنى ما يتيسر، ولم يرد به صدور هذا الفعل من المسئول فإن الظلف المحرق غير منتفع به وقد مر بيانه.
ومن باب فيه
(من الصحاح)
[1332]
حديث عائشة- رضي الله عنها أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم (إن أمي افتلتت نفسها)، افتلت فلان على ما لم يسم فاعله، وافتلتت نفس أيضا أي: مات فجأة، يقال كان ذلك الأمر فلتة أي فجأة، والرجل هو سعد بن عبادة.
وفيه: (فهل لها أجر إن تصدقت عنها) ونحن نرويه فهل لها من أجر وقوله: (إن تصدقت) من رواه بفتح الهمزة فقد أخطأ؛ لأنه فعل لم يقع بعد، ولو كان سؤاله بعد الصدقة تفتح لا غير.
[1334]
ومنه حديث سعد- رضي الله عنه لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء. قالت امرأة: إنا كل على أبائنا وأبنائنا وأزاوجنا) الحديث الكل أي [155/ب] نحن ثقل وعيال على من يلي أمرنا ويعولنا، والكل: الثقل من كل ما يكلف، ومنه الحديث (وتحمل الكل).
وفيه (الرطب) بفتح الراء وسكون الطاء وأراد به اللبن والفاكهة والبقول والمرق، ومما يسرع إليه الفساد من الأطعمة ولا يتقوى على الخزن، أذن لهن أن يتعهدن بذلك الضيف والزائر والقانع والمعتر، ولم يأذن لهن في اليابس من الطعام؛ لأنه يبقي على الخزن والادخار وينتفع به إذا رفع. ويرى هذا الاستقصاء؛ لمكان ذكر الأزواج في الحديث؛ لئلا يفضي تركه بهن إلى التسرع في إتلاف أموالهم واستهلاك أطعمتهم من غير استئذان فأما الآباء والأبناء فإن الخطب في أموالهم أيسر لما بينهم من الإنفال والاتحاد والشركة