الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سئل أبو جعفر الطحاوي- رحمة الله عليه- عن معنى الاستغفار للصغار مع أنه لا ذنب لهم؟:
فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يغفر لهم ذنوباً قيضت لهم أن يصيبوا بعد الانتهاء إلى حال الكبر، فتكون مغفورة لهم مغفرة قد تقدمتها؛ وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر- رضي الله عنه في قصة حاطب لما كتب إلى أهل مكة يحذرهم ويخبرهم بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:(ما يدريك، إنه من أهل بدر، ولعل الله تعالي اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شيءتم، فقد غفرت لكم).
قلت: أراد أبو جعفر بهذا النظير: أن المغفرة تعلقت في قصة حاطب بذنب لم يصدر منه بعد؛ فكذلك ههنا سأل المغفرة لهم فيما لم يستعدوا لعمله بعد.
ومن
باب دفن الميت
(من الصحاح)
[1154]
حديث ابن عباس رضي الله عنه: (جعل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء):
القطيفة: دثار مخمل، والجمع: قطائف، وقطف-أيضاً- مثل صحيفة وصحف؛ كأنهما جمع قطيف وصحيف.
ذكر بعض أهل العلم: أن القطيفة لم تجعل في قبره لتكون له فراشاً؛ بل لما روى عن ابن عباس- رضي الله عنه قال: كان شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحده، جعل القطيفة تحته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويفرشها، فدفنها معه في القبر، وقال والله: لا يلبسها أحد بعدك، وقد ورد في الحديث:(فطرح في قبره شمل قطيفة كان يلبسها، فلما فرغوا من وضع اللبن)، أخرجوها.
قلت: وأكثر ما وجدنا في الحديث له: أن القطيفة فرشت له في لحده، ولم نجد في (سنن الدفن): أن
يفرش للميت، ولم يذكر عن الخلفاء الراشدين، ولا عن أحد من الصحابة، ونرى ذلك- والله أعلم- مما يستقيم في حق
نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستقيم في حق غيره، وذلك أنه فارق الأمة في حكم الممات؛ كما فارقهم 134] /أ [في بعض من أحكام موته، وهو أنه: ثبت- عندنا- بالنص الصحيح: أن الله تعالي حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وقال صلى الله عليه وسلم:(الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)، وقال:(ونبي الله حي يرزق).
قلنا: وحق لجسد عصمه الله أن يتغير أو يستحيل أو يبلى أن يفرش له؛ لأن المعنى الذي يفرش للحر لم يزل عنه بحكم الموت، وليس الأمر في غيره على هذا النمط.
[1155]
ومنه: حديث سفيان التمار (أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً).
سفيان هذا هو ابن دينار أبو الورقاء التمار الكوفي الأحمري من الأحامرة، وهم قوم تبنكوا بالكوفة، وسفيان التمار من أتباع التابعين، سمع عن الشعبي، ونظرائه.
وتسنيم القبر أن يجعل كهيئة السنام، وهو خلاف تسطيحه.
[1156]
ومنه: حديث على رضي الله عنه؛ أنه قال لأبي الهياج الأسدى، وأبو الهياج الأسدي هو حيان بن الحصين.
وفيه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه، المعنى ألا أرسلك إلى الأمر الذي أرسلني له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره بحرف (على) لما فيه من معنى الاستعلاء، أي أجعلك أميراً على ذلك؛ كما أمرني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (أن لا تدع تمثالاً) أي: الأمر الذي أبعثك عليه أن لا تدع؛ لما في قوله: (ألا أبعثك على ما بعثني) من معنى التأمير، والتمثال: الصورة، وطمسه: محوه وإبطاله؛ يقال: طمس الشيء. وطمسته، يتعدى ولا يتعدى، والقبر المشرف هو العالي المنتصب، أراد به: القبر الذي بني عليه حتى ارتفع دون الذي أعلم عليه بالرمل أو الحصى أو الحجارة ليعرف، ولئلا يوطأ عليه.
[1157]
ومنه: حديث جابر رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه): قلت: قوله: (وأن يبنى عليه): يحتمل وجهين:
أحدهما: البناء على القبر بالحجارة وما يجرى مجراها.
والآخر: أن يضرب عليه خباء أو نحوه.
وكلا الوجهين منهي عنه:
أما الأول: فقد ذكرناه.
وأما الثاني: فلأنه في معنى الأول، لانعدام الفائدة فيه، ولأنه من صنيع أهل الجاهلية، وقد روى عن ابن عمر رضي الله عنه؛ أنه رأي فسطاطاً على قبر عبدالرحمن- وهو عبدالرحمن بن عمر أخوه- فقال: انزعه يا غلام؛ فإنما يظله عمله.
وقوله: (وأن يقعد عليه): حمله الأكثرون على ما يقتضيه الظاهر، وكذلك حديث أبي مرثد الغنوي الذي يتلو هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)، وحديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(أن يجلس أحدكم على جمرة .... الحديث).
وإنما ورد التهديد في ذلك؛ لما فيه من الاستخفاف بحق أخيه وحرمته، وفي هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:(كسر عظام الميت ككسره حيا).
وحمله جماعة على الجلوس على القبر لقضاء الحاجة؛ وروى هذا المعنى عن زيد بن ثابت- رضي الله عنه وهو قوله: (إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبر حدث أو غائط أو بول)، وروا- أيضاَ 134] /ب [- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جلس على قبر يبول عليه أو يتغوط، فكأنما جلس على جمرة نار).
قيل لهم: النهي عن الجلوس عليه في حديث زيد وأبي هريرة- لا ينافي حديث جابر وأبي مرثد في النهي عن الجلوس عليه من غير حاجة.
فقالوا: رددنا المجمل إلى المفسر، مع أنا وجدنا النقل عن على-رضي الله عنه أنه كان يتوسد القبر، وكان ابن عمر- رضي الله عنه يجلس على القبور.
قيل لهم: أما التوسد: فغير الجلوس عليه، أما ما نقلتم عن ابن عمر رضي الله عنهما: فلعل النقل لم يبلغه، أو تأول الحديث على ما تأولتم هذا إذا صح النقل عنه.
قلت: وفي بعض طرق حديث جابر: (وأن يوطأ عليه) مكان: (وأن يقعد عليه)، وفي (كتاب أبي داود):(وأن يتكأ عليه).
ولكل فئة من الفئتين طريق مستقيم فيما ذهب إليه.
وأرى الأشبه، والأمثل في بيان هذه الأحاديث أن يجمل ما فيه التغليظ على الجلوس للحدث؛ فإنه استخفاف بحق المسلم؛ وهو محرم عليه، وما لا تغليظ فيه: فإنه يحمل على الجلوس عليه؛ نهى عنه كرامة للمؤمن.
(ومن الحسان)
[1160]
حديث عروة- رحمة الله عليه-: (كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد، والآخر لا يلحد .... الحديث):
الرجل الذي كان يلحد بالمدينة: أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري- رضي الله عنه، والآخر: هو أبو عبيدة بن الجراح- رضي الله عنه، واللحد: الشق في جانب القبر، وكانت العرب يلحدون ويضرحون؛ قال أبو ذؤيب الهذلي- رضي الله عنه يبكي النبي صلى الله عليه وسلم:
لما رأيت الناس في عسلانهم .... ما بين ملحود له ومضرح
والضريح: هو الشق في وسط القبر، وفي حديث جرير- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:(اللحد لنا، والشق لغيرنا) أي: اللحد هو الذي نؤثره ونختاره، والشق: اختيار من كان قبلنا، وفي ذلك بيان فضيلة اللحد، وليس فيه النهي عن الشق؛ والدليل عليه: حديث عروة هذا؛ إذ لو كان منهيا عنه، لم يكن أبو عبيدة ليصنعه مع جلالة قدره في الدين، والأمانة، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يقولوا دون دفن النبي صلى الله عليه وسلم:(أيهما جاء أولاً عمل عمله)، وفى حديث أنس رضي الله عنه: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد، ورجل يضرح، فقالوا: نستخير ربنا عز وجل، ونرسل إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
قلنا: فلما اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، علمنا أن اللحد أفضل، ونرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الشق مع إيثاره مخالفة أهل الكتاب، ومع قوله:(اللحد لنا، والشق لغيرنا)؛ لأن الناس في كثير من البلدان مضطرون إلى الشق إذا كانت الأرض رخوة أو دمثة ذات رمل، وإذا كانت صلبة: فالاختيار اللحد، لأنه أفضل 135] /أ].