المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كتاب الزكاة - الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي - جـ ٢

[التوربشتي]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب الجنائز

- ‌ باب عيادة المريض وثواب المرض

- ‌ باب تمني الموت وذكره

- ‌ باب غسل الميت وتكفينه

- ‌ باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

- ‌ باب دفن الميت

- ‌ باب البكاء على الميت

- ‌ كتاب الزكاة

- ‌ باب ما تجب فيه الزكاة

- ‌ باب صدقة الفطر

- ‌ باب من لا تحل له الصدقة

- ‌ باب من تحل له المسألة

- ‌ باب الإنفاق وكراهية المسألة

- ‌ باب فضل الصدقة

- ‌ باب إخفاء الصدقة

- ‌ من لا يعبد في الصدقة

- ‌ كتاب الصوم

- ‌ باب رؤية الهلال

- ‌ باب تنزيه الصوم

- ‌ باب صوم المسافر

- ‌ باب صيام التطوع

- ‌ باب الاعتكاف

- ‌ كتاب فضائل القرآن

- ‌ كتاب الدعوات

- ‌ باب ذكر الله تعالى

- ‌ باب أسماء الله تعالى

- ‌ باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل

- ‌ باب الاستغفار والتوبة

- ‌ باب الدعوات في الأوقات

- ‌ باب الاستعاذة

- ‌ باب جامع الدعاء

- ‌ كتاب المناسك

- ‌ باب الإحرام والتلبية

- ‌ باب دخول مكة والطواف

- ‌ باب الوقوف بعرفة

- ‌ باب الدفع من عرفة والمزدلفة

- ‌ رمي الجمار

- ‌ باب الهدى

- ‌ باب الحلق

- ‌ باب خطبة يوم النحر ورمى أيام التشريق والتوديع

- ‌ باب الإحصار وفوت الحج:

- ‌ باب حرم مكة

- ‌ باب حرم المدينة

- ‌كتاب البيوع

- ‌ باب الكسب وطلب الحلال

- ‌ باب المساهلة في المعاملة

- ‌ باب الخيار

- ‌ باب الربا

- ‌ باب المنهي عنه من البيوع

- ‌ باب السلم والرهن

- ‌ باب الاحتكار

- ‌ الإفلاس والإنظار

- ‌ باب الشركة والوكالة

- ‌ الغضب والعارية

- ‌ باب الشفعة

- ‌ باب المساقاة والمزارعة

- ‌ باب الإجارة

- ‌ باب إحياء الموات والشرب

- ‌ باب اللقطة

- ‌ باب الفرائض

- ‌ باب الوصايا

الفصل: ‌ كتاب الزكاة

ومن‌

‌ كتاب الزكاة

(من الصحاح)

[1196]

حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(ما من صاحب ذهب ولا فضة .. إلى أن ذكر جنسين من المال، ثم قال: (لا يؤدي منها حقها):

ص: 408

ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ؛ لأن كل واحد منهما جملة وافية ودنانير ودراهم ويحتمل أن يراد بها الأموال، ويحتمل أنه أراد بها الفضة، واكتفى بذكر أحدهما؛ كقول القائل:

ومن يك أمسي بالمدينة رحله .... فإني وقيار بها لغريب

وبمثله ورد التنزيل؛ قال الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} التوبة:34.

وفيه: (صفحت له صفائح) تصفيح الشيء: جعله عريضاً، والصفائح: ما طبعت من الحديد وغيره عريضة؛ ومنه قيل للسيف العريض: صفيحة، وللحجر العريض- أيضاً-: صفيحة، وصفاح- أيضاً- بالضم والتشديد، وصفائح الباب: ألواحه.

ومعنى الحديث: أن الدراهم والدنانير إذا لم يؤد حقها- صفحت صفائح.

وقوله: (من نار) أي: تطبع صفائح من نار يقعد عليها.

ولو قيل: إن قوله: (من نار): لبيان الجنس- لم يستقسم؛ لأن المال هي التي جعلت صفائح؛ ليعذب بها صاحبها، ثم إن الصفائح لو كانت متخذة من نار، لم يكن لقوله:(فأحمى عليها في نار جهنم) وجه.

وعلى هذا: فمفعول ما لم يسم فاعله هو الضمير الراجع إلى الذهب والفضة وصفائح: مفعول ثان.

ومن رفع (الصفائح): فإنه جعل (من نار): لبيان الجنس، ولست أحقق ذلك روايته، وإنما ذهبت إلى ما ذهبت إليه من طريق المعنى، وأتيت بالترجيح- أيضاً- من طريق المعنى، لا من طريق الرواية، وأرى الرواة بعضهم يرفعونها، وبعضهم ينصبونها، والنصب أقوى، للمعنى الذي ذكرناه، وهو موافق للنص الناطق من كتاب الله سبحانه؛ قال الله تعالى:{يوم يحمى عليها في نار جهنم} التوبة:35؛ فجعل عين الذهب والفضة هم المحماة عليها في نار جهنم.

وفيه: (ومن حقها حليها يوم وردها):

قال بعض العلماء: معنى ذلك: أن يسقى ألبانها المارة ومن ينتاب المياه من أبناء السبيل، وقيل: أمر أن يحلبها صاحبها عند الماء؛ ليصيب ذو الحاجة منه؛ قال: وهذا مثل نهيه عن الجذاذ بالليل؛ إذا أراد أن يصرم بالنهار، ليحضرها الفقراء والمساكين.

وفيه: (بطح لها بقاع قرقر):

(بطح) أي: ألقى على وجهه، والضمير في قوله:(لها): يرجع إلى الإبل، والمبطوح: رب المال الذي لم يؤد زكاتها، فيبطح لها لتطأه بأخفافها.

ص: 409

وفي أكثر النسخ من (المصابيح) بل في أجمعها: (بطح له)، وهو خطأ بين رواية ومعنى.

والقاع: المستوى من الأرض، والقرقر أيضاً في معناه، وإنما عبر عنه بلفظين مختلفين؛ للمبالغة في استواء ذلك المكان، وقد روى الحديث:(بقاع قرق)، وهو مثله.

وفيه: (كلما مر عليه أولاها [138/أ]، رد عليه أخراها).

قلت: في هذا الكلام تحريف عن وجهه، وهو أن الرد عليه إنما يستعمل في الأول لا في الآخر؛ فالآخر تبع للأول في مروره؛ فإذا انتهت النوبة ردت الأولى؛ لاستيقاف المرور.

وهذا الحديث- على هذا السياق- رواه مسلم في (كتابه) عن سويد بن سعيد، عن حفص بن ميسرة الصنعاني، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح ذكوان؛ أنه سمع أبا هريرة، ورواه- أيضاً- عن محمد بن عبد الملك الأموي، عن عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، وفي حديثه:(ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمى عليه نار جهنم، فيجعل صفائح).

قلت: وفي هذا دليل بين على صحة ما ذهبنا إليه من اختيار النصب في (صفائح)، وفي روايته هذه:(وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت تستن عليه، كلما مضى عليه أخراها، ردت عليه أولاها).

وقد روى هذا الحديث- أيضاً- عن أبي ذر، وهو حديث صحيح، وفي روايته:(كلما جازت أخراها، ردت عليه أولاها).

فتبين لنا من الرواتين- مع ما نشهد له من صحة المعنى-: أن الصواب ما ذكرناه، وأنه على الوجه الذي ذكر في (كتاب المصابيح) سهو من بعض الرواة، لم يتأمل فيه المؤلف فنقله، ولا يستبعد أن يكون ذلك من سويد بن سعيد؛ فإنه- وإن كان عدلاً ثقة، مع كونه من رجال الكتابين- فقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ.

وفيه: (ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء): العقصاء: هي التي التوى قرناها على أذنيها من خلفها؛ يقال: تيس أعقص بين العقص، والجلحاء: التي لا قرن لها، وفي البقر أكثر استعمالاً، يقال: بقر جلح؛ قال الشاعر:

تسكنهم بالقول حتى كأنهم .... بواقر جلح أسكنتها المراتع

والعضباء: المكسورة القرن، وقد مر تفسيرها في (باب الأضحية).

وفيه: (ولرجل ستر):

أي: يتخذ تجملاً، وستراً للحال التي هو عليها من القلة، وضيق اليد، وقد بين معناه بقوله:(ربطها تغنياً وتعففاً) وأي: طالباً بنتاجها الغنى عن الناس، والتعفف عن المسألة، أو إظهاراً للغنى عن نفسه بركونها، وذلك أشبه بصنيع ذوي الهيئات، وأخلاق أهل الكرم والمروءة.

وفيه: (فأطال لها):

ص: 410

أي: أرخى طويلتها في المرعى، وأكثر ما يستعمل في هذا المعنى: طول، أي: ارخى الفرس من طوله، وهو الحبل الذي يطول للدابة، فترعى به.

والطول والطيل: حبل طويل يشد فيه في آخية، أو وتد، والطرف الآخر في يد الفرس ليدور فيه، ولا يعير على وجهه، والأصل فيه: الطول، وقد أبدلوا الياء من الواو؛ لكسرة ما قبلها.

وفيه: (فاستنت شرفاً أو شرفين):

أي: عدت طلقاً أو طلقين، وهو الجري إلى الغاية مرة أو مرتين؛ على هذا النحو فسره أصحاب الغريب، وأراهم فسروه على هذا الوجه؛ لأن الدابة إذا انفلتت من طولها، استشرفت نفسها إلى العدو؛ فتستفرغ جهدها في ذلك؛ فتعدو [138/ب] طلقاً أو طلقين، أو لأنها تعدو حتى تبلغ شرفاً من الأرض، وهو ما يعلو منها فتقف عند ذلك وقفة، ثم تعدو ما بدا لها، فعبر عن الطلق بالشرف لأحد المعنيين.

وفيه: (نوءاً لأهل الإسلام):

أي: معاداة لهم [ونواء بالهمز] لأنه من النوء، وهو النهوض، عبر به عن المعاداة؛ لأن كل واحد من المتعاديين يناوئ صاحبه، وربما ترك همزه.

وفيه: (إلا هذه الآية الفاذة الجامعة):

أي: المنفردة في معناها، الجامعة لأبواب البر، لاجتماع اسم الخير على سائر الطاعات؛ يقال: فذ الرجل عن أصحابه: إذا شذ عنهم، فبقى فرداً.

قيل لخالد بن صفوان بن الأهتم: يا أب صفوان، ما الفاذة؟.

قال: كلمة يقولها ثقيف التي ليس وراءها شيء؛ سماها فاذة؛ لحلولها عن بيان ما تحتها، وتفصيل أنواعه.

[1198]

ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هرير رضي الله عنه: (مثل له ماله يوم القيام شجاعاً أقرع):

ص: 411

أي: حية قد نقط فروة رأسها؛ لكثرة سمها:

وفيه: (له زبيبتان).

الزبيبتان: الزبدتان في الشدقين، يقال: تكلم فلان حتى زبب شدقاه، أي: خرج الزبد عليهما؛ ومنه: الحية ذات الزبيبتين، وهي أحبث ما يكون من الحيات، ويقال: هما النكتتان السوداوان فوق عينيه.

وفيه: (يطوقه).

على بنا ما لم يسم فاعلهن أي: يجعل في عنقه كالطوق، أو يلزم عنقه ذلك إلزام الطوق، ومن الناس من يرويه على البناء الصحيح، وليس بصحيح، ونظم الكتاب يشهد عليه؛ قال الله تعالى:{سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} آل عمران:180.

[1202]

ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ما ينقم ابن جميل؛ إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله):

نقمت على الرجل، أنقم- بالكسر- فأنا ناقم: إذا عبت عليه؛ يقال ما نقمت عليه إلا الإحسان، وقال الكسائي: نقمت- بالكسر- لغة.

أما معنى الحديث: فقد قال بعض أصحاب الغريب: نقم منه الإحسان: إذا جعل الإحسان يؤديه إلى كفر النعمة، أي: أداه غناه إلى أن كفر نعمة الله فما ينقم شيئاً في منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة، وهذا الذي قاله صحيح، لأن قول القائل لمن أساء إليه، بعد أن أحسن إليه: ما عبت علي إلا إحساني إليك، تعريض بكفران النعمة، وهو تقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان.

وأما قوله: (فأغناه الله ورسوله).

ذكر صلى الله عليه وسلم نفسه عند المنة عليه، لأنه كان سبباً لدخول في الإسلام، وأصبح غنياً بعد فقره بما أفاء الله على رسوله، وبما أباح لأمته من الغنائم ببركته.

ص: 412

وفيه: (وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً):

هذا القول محتمل لوجهين:

أحدهما: أنكم تظلمونه بإدعائكم عليه منع الزكاة.

والثاني: أو تظلمونه بمطالبتكم إياه بما لم يلزمه من الحقوق.

ثم ذكر سناداً لقوله هذا، فقال:(قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله)، وهذا القول- أيضاً- محتمل لوجهين؛ بناء على ما تقدم من الوجهين:

أحدهما: أن يراد أني يقدم خالد على منع الزكاة، وهو فريضة من فرائض الله، وركن من أركان الإسلام، وهو محتسب باحتباس الأدراع والأعتد في سبيل [الله].

والآخر: أن يقال: إن خالداً جعل ذلك محتبساً في سبيل الله؛ فعلى ماذا يطالب [139/أ] بزكاته وقد فارق في الحكم عن عروض التجارة.

هذا إذا عده العامل من جملة الأموال المعدة للتجارة.

ويحتمل وجهاً ثالثاً، وهو: أن يقال: رخص النبي صلى الله عليه وسلم لخالد أن يحتسب [....] في سبيل الله ما لزمه من الصدقة، وفيه بعد وتنافر، وإنما أوردناه [اقتفاء

أهل] العلم في إيراده.

وقوله: (أعتده):

الأعتد: جمع المعتد، وهو الفرس الصلب المعد للركوب، وقيل: السريع الوثب؛ ويشهد لهذا التفسير ما ورد في بعض الروايات: (احتبس رقيقه ودوابه)، وفي (كتاب مسلم):(أعتاده) وهما بمعنى، ويروى:(عتادة)، ويصح أن تكون (الأعتد) جمع عتاد، وكذلك الأعتاد، وهو ما أعده الرجل من السلاح والدواب والآلة في الحرب، ويجمع- أيضاً- على (أعتد) بكسر التاء، ومن الناس من يرويه (أعبده) بالباء على جمع عبد، وهو تصحيف صحفي لم يأخذ العلم من أفواه الرجال، وفي بعض طرق الحديث أن خالد بن الوليد جعل رقيقه وأعتده حبساً في سبيل [الله].

وفيه: (وأما العباس: فهي على ومثلها معها): ذهب بعض العلماء في تأويله: إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تسلف من العباس صدقة عامين.

أحدهما: صدقة ذلك العام الذي شكاه العامل فيها، والأخرى: صدقة عام آخر.

قلت: وفي هذا نظر؛ لأن تعجيل الصدقة للسنتين، وإن ذكر فيه حديث، فإنه غير محظوظ، وإنما المحفوظ الثابت منه: أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته، قبل أن تحل، فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.

والعجب: أن صاحب هذا التأويل لم يجوز تعجيل الصدقة لأكثر من عام واحد.

وقيل: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف منه مالاً لينفقه في سبيل الله، ثم يحتسب له عن الصدقة عند حلولها.

ص: 413

وقوله: (ومثلها):

أي: في كونه فريضة عام آخر، ولم يرد به المثلية في الأسنان والمقادير؛ فإن ذلك بزيادة المال ونقصانه، ولا يعرف ذلك إلا بعد دخول عام آخر، وقد روى في معناه عن علي- رضي الله عنه في قصة عمر بن الخطاب والعباس- رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر:(أما علمت أنا كنا احتجنا فاستلفنا العباس صدقته عامين؟!)؛ ذكر ذلك في كتب الفقهاء مسنداً، وفيه مقال.

وقد روى البخاري هذا الحديث عن ابن اسحاق، وفي روايته تلك:(وهي على ومثلها)؛ قال أبو عبيد: أرى- والله أعلم- أنه كان أخر عنه الصدقة عامين لحاجة العباس إليها؛ فإنه قد يجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان ذلك على وجه النظر، ثم يأخذها بعد ذلك!

ويخرج معنى قوله: (فهي على ومثلها معها) على التأويل الذي ذهب إليه أبو عبيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول على صيغة التكفل بما يتوجه عليه من صدقة عامين، وهو تأويل حسن لما فيه من التوافق في المعنى بين الحديثين.

فإن قيل: كيف التوفيق بين ما روى أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته وبين هذا التأويل؟:

قلنا: يحتمل أنه سأل التأخير في أول الأمر، وقد وجدنا في الحديث ما يؤيد ذلك، وهو أنه لما أسر ببدر، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي [139/ب] نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث من ماله؛ فشق عليه ذلك، فوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه: أن يخوله من مال الله ما يسد به خلته، فعله سأل التأخير [قبل] نزول فريضة الزكاة ولما وسع الله عليه وأغناه من فضله، سأل التعجيل ليجبر به نقيصة التأخير، وقد روى البخاري هذا الحديث عن أبي اليمان، عن شعيب، وفي روايته:(وهي على صدقة ومثلها معها) وقد توبع شعيب في روايته هذه على هذا السياق؛ فالظاهر: أنه وهم فيه؛ فإن العباس كان من صليبة بني هاشم، وقد حرم الله عليهم أوساخ الناس، وفي بعض طرق هذا الحديث: عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة:(فهي له ومثلها معها) وهذا- أيضاً- محمول على أن بعض الرواه وهم فيه.

وقد قال الخطابي: (فهي له) أي: عليه، قال: وقد جاء في كلامهم: (له) بمعنى (عليه)، قال الله تعالى:{أولئك لهم اللعنة} الرعد:25 أي: عليهم.

قلت: ولأن نضرب عن هذه الرواية صفحاً- مع ما فيها من الاختلاف البين- أولى وأجدر من أن نقول بهذا التأويل؛ فإن (له) و (عليه) كلمتان تستعملان على وجه التضاد، ولو جوزنا ذلك- في هذا الحديث- أفضى بنا غلى تعطيل أصول اللغة العربية التي عليها مدار الكتاب والسنة، واستشهاد أبي سليمان بقوله تعالى:{أولئك لهم اللعنة} غير مستقيم، فإن الكلمتين في هذه الصيغة- وإن خلفا في اللفظ- فإنهما يتفقان في المعنى، ومعنى قوله:{أولئك لهم اللعنة} أي: حق لهم ووجب؛ كقوله: {ولهم سوء الدار} .

ص: 414

وفيه: (يا عمر، أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه):

إذا خرجت نخلتان وثلاث من أصل واحد، فكل واحدة منهن صنو، ويقال: ركيتان صنوان: إذا تقاربتا ونبعتا من عين واحدة، أراد: أن أباه والعباس من أرومة واحدة، وأنه منه بمثابة الأب، ويقال للمثل: الصنو، أي: مثل أبيه، فمن الأدب- بل من الواجب- أن لا يسمعه فيه ما يعود منه نقيصة عليه.

[1203]

ومنه: حديث أبي حميد الساعدي- رضي الله عنه: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد، يقال لهك ابن اللتبية .. الحديث):

الأزد: جرثومة من جراثيم قحطان، ويقال: الأزد، والأسد بالسين أفصح، وبالزاي أكثر استعمالاً ولعل ذلك لمجانبتهم عن موقع الاشتباه؛ فإنك إذا قلت: الأسدي اشتبه بالأسدي).

وإنما قيل لهم: الأسد والأزد؛ لأن [ادراء] بن الغوث كان رجلاً كثير المعروف، وكان الرجل يلقى الرجل، فيقول: أسدي إلى [دراء] يداً والأزدي إلى يداً، [فبدل].

فكثر هذا حتى سمى به، فقالوا: الأسد والأزد.

وابن اللتبية رجل منهم استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني سليم، واسمه عبد الله، وقد اشتهر بالنسبة إلى أمه، ولم يذكر لها اسم، وقد اشتهرت عليه بالنسبة إلى (بني لتب) بضم اللام وإسكان التاء، بطن من العرب، ومن الرواة من يرويه:(ابن الأتبية) بالألف بدل اللام؛ وليس بشيء، ولا اعتداد به.

وفيه: (إن كان بعير له رغاء، أو بقرة (له) خوار، أو شاه تيعر):

الرغاء: صوت ذوات الخف [140/أ]، وقد رغا البعير يرغو رغاء: أذا ضج، وفي المثل: كفي برغائها منادياً، وتيعر، أي: تصيح؛ يقال: يعرت العنز، تيعر- بالكسر- يعاراً بالضم أي: صاحت.

وفي (كتاب عمر بن أقصى): (إن لهم الياعرة) أي: ماله يعار، وفي روايته من هذا الحديث (أو شاة لها يعار)، وهذه الرواية أشبه بنسق الكلام، إلا أن الرواية الأخرى أشهر وأصح، ومعناه على بناء المضارع:(أو شاة لا تزال تيعر، أو صفتها تيعر).

قلت: ولما كان الرغاء والخوار من الأصوات التي يسمعها البعيد كما يسمعها القريب- قال: له رغاء،

ص: 415

وله خوار، فلما انتهي إلى الشاة جعل الصياح صفة لازمة لها؛ ليدل على أنها لا تزال تيعر بين أهل الموقف؛ ليكون ذلك أنكل في العقوبة، وأبلغ في الفضيحة.

وفيه: (حتى رأينا عفرة إبطيه):

العفرة: البياض الذي ليس بخالص، فكأنه أراد منبت الشعر من الإبطين؛ لمخالطة بياض الجلدة سواد الشعر.

وفيه: (فكتمنا مخيطاً):

المخيط بكسر الميم: الإبرة، وفي حديث آخر:(أدوا الخياط والمخيط)، والخياط- في هذا الحديث: الخيط، وأما في قوله تعالى:{حتي يلج الجمل في سم الخياط} : فإنه المخيط.

(ومن الحسان)

[1204]

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما: (ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة): الكنز: المال المدفون لعاقبة ما، ثم يتسع فيه؛ فيقال لكل قنية يتخذها الإنسان، ومعنى قوله:(بخير ما يكنز) أي: يقتنيه ويتخذه لعاقبته والانتفاع به.

ووجه المناسبة بين قوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ما فرض الزكاة إلا ليطيب ما بقى لكم من أموالكم)؛ فكبر عمر،

ص: 416

وبين هذا القول هو أنه لما فهم من تكبير عمر- رضي الله عنه استبشاره برفع الحرج عن الأمة في اقتناء المال ودعته إذا زكى ولم يرض منهم بالتوسع في ذلك، بل اختار لهم التقلل والاكتفاء بالبلغة، وترك الفضول-: أشار إليهم أن تقنعوا من الانتفاع بمتاع الدنيا مع بقاء العين بالمرأة الصالحة؛ وفي هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة).

وفي هذا الحديث أبلغ زاجر عن جمع المال وحياطته لمن تدبره، وهو: إن متاعاً خيره المرأة- مع ما يلزم الإنسان في ذلك من الواجبات والحقوق الشرعية، والمحافظة على آداب الصحبة، والتورع عما يأثم به من ذلك، ثم الصبر على عوجها، والإعراض عن هناتها؛ لنقصان عقلها- لحرى بالمبادرة إلى تركه، والمسارعة إلى تخلية اليد عنه.

[1208]

ومنه: حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا جلب ولا جنب

الحديث).

الجلب المنهي عنه في الصدقة: هو ألا يأتي المصدق القوم في مياههم لأخذ الصدقات، ولكن يأمرهم بجلب نعمهم (140/ب)، ويقال: بل هو الجلب في الرهان، وهو أن يركب فرسه رجلاً فإذا قرب النهاية تبع فرسه فجلب عليه وصاح به، ليكون هو السابق، وهو ضرب من الخديعة وهذا تفسير صحيح من طريق اللغة، والمراد منه في الحديث هو الأول لما بينته بقية الحديث وذلك قوله:(وإنما تؤخذ صدقاتهم في دورهم)، ولعل الذي فسره على الجلب في الرهان لم يبلغه الحديث بتمامه، أو قال هذا القول في حديث آخر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام) فأما الذي جعله أحد [شقي] هذا الحديث فإنه لم يصب لما قد ذكرنا من التعليل، وعلى هذا فإن الجنب في هذا الحديث هو أن أصحاب الأموال لا يجنبون عن مواضعهم فيشق في المصدق متابعتهم. على هذا الوجه فسروه.

ويحتمل أن يكون من قولهم: جنبت الدابة، إذا قدتها إلى جنبك، أي لا يذهب المصدق بالقوم

ص: 417