المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب المنهي عنه من البيوع - الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي - جـ ٢

[التوربشتي]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب الجنائز

- ‌ باب عيادة المريض وثواب المرض

- ‌ باب تمني الموت وذكره

- ‌ باب غسل الميت وتكفينه

- ‌ باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

- ‌ باب دفن الميت

- ‌ باب البكاء على الميت

- ‌ كتاب الزكاة

- ‌ باب ما تجب فيه الزكاة

- ‌ باب صدقة الفطر

- ‌ باب من لا تحل له الصدقة

- ‌ باب من تحل له المسألة

- ‌ باب الإنفاق وكراهية المسألة

- ‌ باب فضل الصدقة

- ‌ باب إخفاء الصدقة

- ‌ من لا يعبد في الصدقة

- ‌ كتاب الصوم

- ‌ باب رؤية الهلال

- ‌ باب تنزيه الصوم

- ‌ باب صوم المسافر

- ‌ باب صيام التطوع

- ‌ باب الاعتكاف

- ‌ كتاب فضائل القرآن

- ‌ كتاب الدعوات

- ‌ باب ذكر الله تعالى

- ‌ باب أسماء الله تعالى

- ‌ باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل

- ‌ باب الاستغفار والتوبة

- ‌ باب الدعوات في الأوقات

- ‌ باب الاستعاذة

- ‌ باب جامع الدعاء

- ‌ كتاب المناسك

- ‌ باب الإحرام والتلبية

- ‌ باب دخول مكة والطواف

- ‌ باب الوقوف بعرفة

- ‌ باب الدفع من عرفة والمزدلفة

- ‌ رمي الجمار

- ‌ باب الهدى

- ‌ باب الحلق

- ‌ باب خطبة يوم النحر ورمى أيام التشريق والتوديع

- ‌ باب الإحصار وفوت الحج:

- ‌ باب حرم مكة

- ‌ باب حرم المدينة

- ‌كتاب البيوع

- ‌ باب الكسب وطلب الحلال

- ‌ باب المساهلة في المعاملة

- ‌ باب الخيار

- ‌ باب الربا

- ‌ باب المنهي عنه من البيوع

- ‌ باب السلم والرهن

- ‌ باب الاحتكار

- ‌ الإفلاس والإنظار

- ‌ باب الشركة والوكالة

- ‌ الغضب والعارية

- ‌ باب الشفعة

- ‌ باب المساقاة والمزارعة

- ‌ باب الإجارة

- ‌ باب إحياء الموات والشرب

- ‌ باب اللقطة

- ‌ باب الفرائض

- ‌ باب الوصايا

الفصل: ‌ باب المنهي عنه من البيوع

[1992]

ومنه: حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا ففقدت الإبل

الحديث).

في إسناد هذا الحديث مقال، فإن ثبت، فوجه التوفيق بينه وبين حديث سمرة الذي تقدمه في الكتاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة): أن يحمل الأمر فيه على أنه كان قبل تحريم البا؛ فنسخ بعد ذلك.

ومما يوجب القول بذلك ان حديث سمرة أثبت وأقوى؛ أثبته أحمد رحمه الله ولم يثبت حديث عبد الله بن عمرو، ثم إن فيه أنه نهي، والنهي عن الفعل دال على أنه كان يتعاطي قبل النهي، والله أعلم

ومن‌

‌ باب المنهي عنه من البيوع

(من الصحاح)

1995: حديث جابر رضي الله عنه، قال:(نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، وعن الثنيا، ورخص في العرايا):

ص: 671

أكثر ألفاظ هذا الحديث قد جاءت مفسرة في حديث ابن عمر، وجابر، قبل حديث جابر هذا، ولكنا أحببنا أن نذكر معانيها على وجه التحقيق على ما استخرجناه من كتب اللغة وكتب غريب الحديث.

فمنها المحاقلة؛ أخذ من (الحقل)، وهو الزرع إذا تشعب ورقة قبل أن يغلظ سوقه، وإلى هذا المعني التفت من ذهب في تفسير المحاقلة إلى أنها بيع الزرع في سنبله بالبر وعلى ذلك فسر في حديث جابر، فقيل: المحاقلة: أن يبيع الرجل الزرع بمائه فرق (حنطة، ولا أدري من المفسر، غير أن قوله (بمائه فرق حنطة) كلام ساقط؛ وكذلك في بقية التفسير، وكان من حق البلاغة أن يأتي بالمثال من غير تسعين في العدد؛ فإن قوله:(بمائة فرق) موهم بأنه إذا زاد أو نقص عن المقدار المنصوص عليه، لم يكن ذلك محاقلة.

والحقل - أيضا - القراح الطيب؛ وإلى هذا المعني التفت من قال: هو (اكتراء) الأرض بالحنطة، ومن قال: إنها المزارعة بالمثلث والربع والأقل والأكثر منهما.

ومنه: المزابنة، وهي بيع التمر في رءوس النخل بالتمر؛ قال الأزهرى: وأصله من الزبن، وهو الدفع، كأن كل واحد من المتعاقدين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه، وقال ابن الأنباري، إذا وقفا على العيب، حرص البائع [87] على إمضاء البيع، وحرص المشترى على فسخه.

ومنها: المخابرة، وهى المزارعة على النصيب، والخبرة النصيب؛ يقال: تخبروا خبرة: إذا اشتروا شاة فذبحوها، واقتسموا لحمها.

وقيل: هي من الخبير، وهي الأكار، وذكر الهروي عن ابن الأعرابي، أن أصله من خبير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقرها في أيدي أهلها على النصيب، فقيل: خابرهم، أى عاملهم في خيبر، ثم تنازعوا، فنهاهم عن ذلك، ثم جازت بعد ذلك.

قلت: وعلى هذا ينبغي أن تكون المخابرة لم تعرف قبل الإسلام. والوجهان الأولان أوضح.

ومنها: (الثنيا)، والثنيا - بالضم: الاسم من الاستثناء؛ وكذلك الثنوى، وهي في البيع أن يستثني منه شيء

وقال الفتيبي: أن يبيع شيئا جزافا، ثم يستثني شيئا منه، قال: وتكون الثنيا في المزارعة أن يستثني بعد النصف أو الثلث: كيلا معلوما.

ومنها: العرية؛ قيل: إنها من قولهم: أعريت الرجل النخلة: إذا أطعمته ثمرتها عامها، فيعروها، أي: يأتيها؛ فيكون (أعربته) في معنى: جعلت له أن يأتيها متى شاء.

ص: 672

وعلى هذا: يفسرها أكثر أهل اللغة، وهي فعيلة بمعني مفعولة، وإنما أدخلت فيها الهاء؛ لأنها أفردت فصارت في عداد الأسماء، مثل: النطيحة والأكيلة، ولو جئت بها مع النخلة، قلت: نخلة عرى.

قيل: ويحتمل أنها من قولهم: عروت الرجل أعروه عروا: إذا أتيته طالبا معروفه، وتكون أعريته على هذا - في معني أعطيته، وذلك مثل قولك: أسألته وأطلبته: إذا أعطيته مسألته، وآتيته طلبته.

وقيل: سميت عرية؛ لأنها استثنيت من جملة النخل، وتكون من عرى يعرى إذا خلا عن الشيء.

يقال: أنا عرو من هذا الأمر، أي: خلو منه.

والوجه الذي ينفرد أقاويل أهل اللغة فيه هو أن يكون في معني العطية والعارفة، ويحقق ذلك قول الشاعر:

وليس بسنهاء ولا رجبية

ولكن عرايا في السنين الجوائح

أراد أنها مخلاة لذوى الفاقة، ولمن يعترى بجسنابهم من المعترين، مسبلة عليهم؛ لأنه قول سلك به مسلك المباهاة، وأخرج مخرج المدح، ولو كانت العرية المستثناة عن جملة المبيع لم يكن لذكرها على وجه المدح معنى.

قلت: وحديث العرية ورد ورودا متواترا لم يختلف [88] في صحته أحد من أهل العلم، وإنما اختلفوا في تأويله.

فقال قو: هو أن تكون للرجل نخيلات في حائط غيره، فيأتي صاحب الحائط بأهله، فيسكن بين النخيل، فيدخل عليهم صاحب النخيلات؛ فيجدون في أنفسهم ويستضرون بدخوله عليهم؛ فرخص لصاحب الحائط أن يؤتيه مقدار خرص نخيلاته تمرا؛ عوضا عما له في ذلك.

قال آخرون: شكا أهل الحاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الرطب يدرك، ولا يتهيأ لهم بيه؛ لكون أيديهم صفرا من النقد، وعندهم تمر فضل عن أقواتهم، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصهم تمرا، وقد نقلوا فيه أثرا عن زيد بن ثابت منقطع الإسناد.

وقال آخرون: هو أن يتطوع صاحب الحائط ببعض نخيله ويعريها المحاوج ثم يبدو له؛ لدخولهم عليه أو لغير ذلك أن يعطيه بدلها تمرا، أو يبدو لهم أن يأخذوا مكانها تمرا؛ فجعلهم في سعة من ذلك، وهذا التأويل على قياس الوضع اللغوي، ومصداق ما ذكر فيها من الأشعار أقوم التأويلات؛ غير أن في بعض أحاديث العرية ما يصلح للتمسك في المنع عنه؛ وبه يستدل من يرى خلافه.

ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم: (رخص في العرايا):

والرخصة إنما تلغى المحظور؛ وعلى هذا فلا معني للرخصة فيه.

ص: 673

[1996]

ومنه: حديث سهل بن أبي حثمة، وقد أورده المؤلف بعد حديث جابر - رضى الله عنه - هذا (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا).

وقد روى في الرخصة أنها وردت على ما يتحرج منه الرجل المسلم من خلف الوعد؛ لأنه إذا أعراها المحتاج، ثم عمل بخلاف ما كان منه، لم يكن موافيا بعهده، أو وردت على صنيع المعرى إذا أخذ البدل؛ لأنه أخذ البدل على ما لم يملكه بالقبض؛ فأشبه من باع ما لم يكن له.

وعلى هذا يجعلون لفظ (البيع) فيه مجازا، ويقولون في قول الصحابي:(إلا أنه رخص في العرايا) أنه منقطع في المعني عن الفصل الأول، وقد يقرن الشيء بالشيء، وهما في الحكم مختلفان، وذكروا في قوله:(يأكلها أهلها رطبا): أن أهل العرية ملاكها الذين عادت إليهم بالبدل.

وإنا ذكر الصحابي أنه يأكلونها رطبا؛ ليعلم أن ذلك ليس من بيع الرطب بالتمر المنهي عنه في شيء، وذكروا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الذي أورده المؤلف بعد حديث سهل بن أبي حثمة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق أنه ليس [89] بتوقيف على ذلك المقدار؛ لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رخص فيه لقوم بلغ مقدار خرصهم في العرية هذا المبلغ؛ فحدث به أبو هريرة رضي الله عنه على ما انتهي إليه علمه في تلك القضية، ولم يكن قوله هذا نافيا لجريان الرخصة فيما فوق ذلك. ولم يلجئهم إلى هذه المضايق إلا القول (بحمله) النهي، والهرب من قول يفضى بهم إلى تعطيل أحاديث كثيرة وردت في أبواب الربا، وفي النهي عن بيع التمر بالتمر جزافا، وعن المزابنة، وعن بيع ما لم يقبض، وغير ذلك مما لا يعسر على ذي الفهم مدركه.

ص: 674

ونحن لم نستحسن أن ندع أحاديث هذا الباب مبهمة مغلقة فأشرنا بجملة من القول إلى نوع من البيان على سبيل النقل، لا على وجه الاحتجاج؛ فإن كتابنا لا يسع لذلك، ثم إنه شيء قد أتي عليه بحججه ودلائله في كتاب كل فريق، فسلمنا الأمر لهم، واكتفينا بإيضاح الحديث، وإيراد ما ذهب إليه الذاهبون من التأويل على ما

[2000]

ومنه: حديث جابر - رضى الله عنه-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح).

أراد بيع السنين: أن يبيع الرجل ثمرة حائطه الثلاث والأربع، وما فوق ذلك؛ باع شيئا غير موجود ولا مخلوق، وفي معناه: السنتين؛ لوجود تلك العلة في السنة الثانية، ومثله المعاومة.

والجائحة: الآفة التي تصيب الثمرة؛ من الجوح، وهو الاستئصال، ومذهب أكثر العلماء في معنيى الأمر بوضع الجوائح: أنه على الندب؛ لأن ما أصاب البيع بعد القبض فهو من ضمان المشترى.

وقد ذكر أبو جعفر الطحاوى: أن هذه في الأراضي الخراجية التي حكمها إلى الأمام؛ أمر بوضع الخراج عن أصحاب الجوائح؛ لما فيه من مصالح المسلمين ببقاء العمارة فيها.

وأما قوله في حديثه الآخر: (فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا)، فإنه يحمل على ما ل يقبض، وكان بعد في يعد في يد البائع، فأصابتها الجائحة؛ فذلك من ضمانه، والقبض في الثمار يقع بتخلية البائع بين المشترى وبينها وإمكانه من القطاف والجداد.

ص: 675

ويحتمل وجهاً آخر، وهو أن يكون باعه قبل الظهور، وسماها ثمرة باعتبار ما يكون منها، أو قبل بدو صلاحه؛ على قول من لا يرى بيعه، وسماه بيعا على المجاز، والقول الأول أشبه؛ لما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:(أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه).

والحديث بتمام أورده المؤلف، وذلك على المنع من أخذ المال على ثمرة لم تكن إذ لو كانت لكان الحكم فيها غير ذلك ويدل عليه حديث أبي سعيد الخدري [90]: (أصيب رجل في ثمار ابتاعها، فكبر دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا عليه

الحديث)؛ هذا وجه التوفيق بين هذه الأحاديث؛ كيلا يخالف بعضها بعضا.

[2004]

: ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلقوا الركبان لبيع

الحديث):

ص: 676

التلقي: الاستقبال، نهى أن يستقبل الرجل الركبان ليبتاع منه قبل أن يعرفوا الأسعار؛ لما يتوقع في ذلك من الخداع والضرر، واحتمال أن يخبر المتلقي صاحب السلعة بغير ما عليه سعر السوق، ثم لما فيه من الضرر بالمسلمين في أسعارهم، فإن بمثل هذا الصنيع ترتفع الأسعار في البلدان، وفي معناه قوله:(لا تلقوا الجلب) والجلب والأجلاب: الذين يجلبون الإبل والغنم للبيع، ويتوسع فيه؛ فيطلق أيضا على الذين يجلبون الأرزاق إلى البلدان.

ومنه: الحديث: (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه:(كنا نتلقى الركبان).

والتوفيق بين الحديثين أن يراد بالتلقي المكروه ما يضر بأهل البلدان في أسعارهم، أو ما لا يؤمن على المتلقى فيه الغش والخيانة، فإذا خلا عن هذه الموانع، فلا كراهة فيه على ما في حديث ابن عمر.

وفيه: (ولا بيع بعضكم على بيع بعض)، وفي بعض طرق هذا الحديث من الصحاح:(ولا يبع الرجل على بيع أخيه)، وهما سيان في المعني؛ لأن المراد من أخيه: الأخوة في الدين كما أن المراد من قوله: (بعضكم) المواصلة بملة الإسلام.

وأما البيع فإنه يستعمل على وجهين: يقال: بعت الشيء، أي: شريته، وبعته أيضا إذا اشتريته، وهو من الأضداد، قال الفرزدق:

إن الشباب لرابح من باعه

والشيب فيه لبائعيه تجار

قال الخطابي في تفسير هذا الحديث: إنما يكون ذلك بعد التعاقد، وقبل التفرق عن المجلس؛ فيجئ آخر، فيعرض على المبتاع متاعا أجود من المتاع الذي ابتاعه، وأرخص، فتدعوه الرغبة فيه إلى نسخ البيع المتقدم.

وقال آخرون: المعني لا يشتر على شراء أخيه، ـ فإنما وقع النهى على المشترى لا على البائع.

والوجه الأول: وإن كان محتملا - فإن الثاني أجود منه وأقوى؛ ويدل على صحة ذلك المناسبة الواقعة بين اللفظين، أعني قوله:(لا يبع أحدكم على بيع أخيه)، وقوله:(ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه)؛ وهذا لفظ حديث أبي هريرة - رضى الله عنه - في إحدى الروايات عنه، وقد أورده المؤلف فيما بعد من هذا الباب، ثم إن العلماء مختلفون في كل واحد من الصيغتين البيع والشرى، هل هو على الحقيقة أم على المجاز؟

فأما من يرى خيار المجلس [91]: فإنه يقول: إنه على الحقيقة، ويراه آخرون على المجاز.

ص: 677

ومما يدل على صحة ما ذهبوا إليه قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يم الرجل على سوم أخيه المسلم)، وهو حديث صحيح أورده المؤلف فيما بعد من هذا البا، والوم: طلب المتاع بالثمن؛ ومنه: استام على وساومته سواء.

فإن قيل: كيف يستقيم لهم هذا القول، وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم القدح والحلس فيمن يزيد؟

قيل: السوء المنهي في الحديث هو أن يتواضعا على الثمن، ورضي البائع فاستام عليه آخر قبل العقد، فمال إليه صاحب السلعة بعد أن كان عازما على البايعة مع الأول.

وأما العرض على المناداة فإن ليس من المواضعة في شيء، بل هو بمنزلة التفتيش عمن يرغب فيه وبمثابة السؤال عن مقدار ما يبذله كل واحد من الراغبين من الثمن.

وكذلك النهي عن الخطبة إنما هو قبل المواضعة على ما يريدون من النكاح، وأما قبل المواضعة فلا كراهة فيه، ويدل على هذا حديث فاطمة بنت قيس حين خطبها أبو الجهم ومعاوية، فاستشارت النبي عليه السلام فقال لها:(أنكحي أسامة).

وإنما نهي عن الأمرين؛ لما فيهما من مظان العداوة والبغضاء، ويدعو إلى التنافر، وكانوا مأمورين أن يتعاملوا فيما بينهم بما تزيد منه الألفة، وتستحكم الموجة.

وفيه: (ولا تناجشوا) هو تفاعل من النجش، هو أن تزايد في البيع ليقع غيرك، وليس من حاجتك، وأصل النجش: مدح الشيء وإطراؤه، وقيل: تنفير الناس من شيء إلى غيره.

وفيه: (ولا يبع حاضر للباد): نهى الحضري أن يتولى البيع من قبل البدوى لما في ذلك من تبغيض ما أباح الله - تعالى - من الأرباح على أرباب التجارات، وسد أبواب المرافق على ذوى البياعات، والنهي عنه نهى كراهة.

وقد روى عن جابر ممثل هذا الحديث وفيه: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض): وقد أورده المؤلف في هذا الباب.

فإن قيل: أو ليس في ذلك ما يخالف معني قوله: (لا تلقو الركبان)؟

قيل: لا؛ لأن المتلقي بصدد أن يباشر الغش والخيانة في شراه ذلك أو يضيق على الناس في متاجرهم طرق الاكتساب، أو ينفرد بالشرى ليدخر المتاع؛ تربصا به الغلاء، وليس في بيع البدوى إذا انحدر به إلى السوق مظنة الخيانة؛ إذ لم يكن السعر ليخفي عليه مع كثر المساومين، وإن ابتغي الاستنصاح، لم يعدم من بيذل له النصح.

وفيه: (ولا تصروا الإبل والغنم).

صريت الشاة: إذا لم تحلبها أياما حتى اجتمع اللبن في ضرعها من قولهم: صربت الماء وصريته: إذا جمعته (92) وحسبته، والمعني: لا تفعلوا ذلك؛ فإنه خداع.

أما قوله: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر):

ص: 678

هذا الحكم معمول به عند كثير من العلماء، ووجه الحديث عند من لم ير ذلك أن يقال: كان ذلك قبل تحريم الربا جوز في المعاملات أمثال ذلك، ثم نسخ.

[2011]

: ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة .... الحديث)

كان أهل الجاهلية يقولن في بياعاتهم: إذا نبذت إليك الحصاة، فقد وجب البيع وقد وجدت فيه عن بعضهم: أنهم كانوا يجعلون البيع لمن أصاب المبيع بحصاة.

[2012]

: ومنه: حديث ابن عمر: (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة).

الحبل - بالتحريك: الحمل، وكذلك الحبلة، والهاء أدخلت فيها للمبالغة، كما أدخلت في ضجعة وقعده، والمراد منه نتاج النتاج، وقد فسر في متن الحديث.

[2013]

: ومنه: حديث الآخر: (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل).

العسب: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل، والعسب - أيضا - ضرابه، ولعله الأصل فيه، ثم سمى الكراء الذي يؤخذ عليه باسمه؛ قال زهير يهجو قوما أخذوا غلاما له:

ولولا عسبه لتركتموه

وشر منيحة فحل معار

[2015]

: ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يباع فضل الماء ليباع صلى الله عليه وسلم به الكلأ).

ص: 679

رواه مسلم- أيضاً - في كتابه عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السالم - قال:(لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلا) وهذه الرواية أولى الروايتين؛ لأن بيع الماء ليباع به الكلأ غير منتظم في المعني على ما سنبينه، ورواه أبو داود في كتابه، ولفظه:(لا يمنع فضل الماء ليمنع فضل الكلا)، وفي كتاب البخاري، وفي كتاب البخاري:(لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا فضل الكلا).

والذي ذكرناه عن كتاب مسلم (يمنع به الكلا) أقوم في المعني؛ لأن صاحب الماء أحق بمائه، فالذي يفضل من حاجته فهو فضل الماء ليس له في الكلا حق يختص به حتى يكون له فضل، والحديث في الرجل يحفر بئرا في وات من الأرض، ثم يمنع ماشية غيره أن ترد على ماء يفضل من حاجته، وقصده في ذلك أن يستبد بما حوله من المراعي في موات الأرض؛ لأن أصحاب المواشي إذا منعوا من الماء في أرض لا ماء بها غيره لم يتهيأ لهم الرعية بها فيتركونها؛ فيصير الكلأ ممنوعا بمنع الماء

وقد اختلف العلماء في ذلك:

فمنهم من ذهب إلى أن النهي عنه على التحريم.

ومنهم من قال: يكره لصاحب الماء أن يمنع؛ لأنه من باب المعروف، ولو منعه فله ذلك

ومنهم من قال: يجب عليه بذله بالعوض. والكلأ في موضعه هذا من فصيح الكلام الذي تهتز له أعطاف البليغ (93)؛ لأن العشب يستعمل في الرطب من النبات والحشيش في اليابس منه، والكلأ يعم النوعين.

2020: ومن الحسان: حديث ابن عمر - رضى الله عنهما - (نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكالئ بالكالئ) أي بيع النسيئة بالنسيئة، والكالئ بالهمز النسيئة، قال الشاعر.

وعينة كالكالئ الضمار

ص: 680

أي نقده كالنسيئة التي لا ترجي.

[2021]

ومنه: حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه: (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان).

فيه ثلاث لغات: العربان، والعربون، والعربون، بالتحريك، وقيل: بالألف مكان العين لغة فيها، والعامة تسميه: الربون، وهو الشيء الذي كان المشترى يدفعه إلى البائع على أنه إن أمضي البيع فمن الثمن، وإن تركه لم يرتجعه.

وأما قوله: (نهى عن بيع العربان) أي عن البيع الذي يكون فيه العربان، ويشترط على ما كانوا يتعارفونه في الجاهلية.

وأكثر العلماء على فساد ذلك؛ بناء على ما هو الأصل من فساد البيع المعلق بالشرط، وأخذ المال الباطل.

فأما الحديث ففي إسناده انقطاع؛ ولهذا جوزه بعضهم.

[2022]

ومنه: حديث علي- رضي الله عنه: (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطرين): ذهب بعضهم في معنى المضطر: إلى أنه المكره.

وقال آخرون: هو الذي يعرض الشيء للبيع؛ لضرورة تلجئه إليه، لا يجد معها من البيع بدا؛ فيعلم به المشترى، فلا يزال يظهر الرغبة عنه ويماكسه في الثمن حتى يضطره إلى البيع بالبخس، وهذا أشبه، وعلى الأول فالنهي للتحريم، وعلى الثاني للكراهة.

وفيه: (وبيع الغرر)

والغرر: ما كان له ظاهر يغر، وباطن مجهول، والغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه، وفيه باطن مكروه أو مجهول، وقد قيل: أصله من الغر، وهو الأثر الظاهر من الشيء.

ومنه: غر الثوب، وهو الأثر يحصل من طيه، وغره غرورا كأنما طواه على غره.

ص: 681

وقال الأزهري: بيع الغرر ما كان على غير عهدة، ولا ثقة، ويدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتعاقدان.

[2025]

ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (نهى رسول الله- صلي الله عليه وسلم- عن بيعين في بيعة صفقة واحدة).

هذا الحديث يؤول من وجهين:

أحدهما: أن يقول: بعتك عبدي هذا بكذا، على أن تبعني فرسك هذا بكذا، فإذا وجب لي بفرسك وجب لك غلامي. والآخر: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقدا، وبعشرين نسيئة، ولا يقطع [94] بأحد البيعتين.

[2026]

ومنه: حديث ابن عمر- رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع الحديث).

هو مثل أن يقول: (بعتك هذا الثوب بعشرة على أن تسلفني مائة درهم في متاع منك إلى سنة، وهو يقرب في المعنى من بيعتين في بيعة.

وفيه: (ولا شرطان في بيع):

خرج هذا القول مخرج البيان لما ذكرنا في النهي عن بيعتين في بيعة؛ وذلك مثل قولك: أبيعك هذا الثوب بعشرة على أن تؤديها نقدا، وبعشرين على أن تؤديها بعد سنة؛ فلهذا ذكر شرطين، وإلا فلا فرق بين أن يقترن البيع بشرط أو بشرطين أو شروط عن أكثر العلماء في فساد البيع إذا كان الشرط قادحا في تمام العقد وصحته.

فأما إذا كان من مصلحة العقد أو من مقتضاه فلا؛ وذلك ما يقع فيه التلفظ به، والسكوت عنه بالنسبة إلى نفس العقد سواء.

وفيه: (ولأربح ما لم يضمن).

ص: 682

المعنى: أن الربح في الشيء إنما يحل لمن يكون عليه الخسران؛ وذلك مثل الرجل يشترى ذات در ولم يقبضها، فليس له أن يسترد منافعها التي كانت بعد البيع وقبل القبض؛ لأنها كانت من ضمان البائع، لو هلكت في يده بغير ثمن.

وفيه: (ولاتبع ما ليس عندك).

قيل: المراد منه بيع العين لا بيع الصفة، وهو بيع السلم؛ وذلك من قبل ما يضمنه بيع الأعيان التي ليست عنده من [الفساد].

[2027]

ومنه: قول ابن عمر- رضي الله عنه: كنت أبيع الإبل بالنقيع).

النقيع- بالنون-: مستنقع بالمدينة ينبت العشب فيه عند نضوبه.

[2028]

ومنه: حديث العداء بن خالد بن هوذة: (أنه أخرج كتابا

الحديث).

حديث العداء هو حديث محفوظ، وقد ذكره البخاري في كتابه وجه الاستدلال من غير سند؛ إذ لم يكن من شرطه.

وفيه: (لا داء ولا خبثة ولا غائلة):

أراد بالداء: النوع الذي يصح بوجوده الرد، والخبثة: ما كان خبيث الأصل لا يطيب للملاك كمن سبي من أهل العهد، يقال: هذا سبي خبيثه: إذا كان ممن يحرم [95] سبيه، وهذا سبي طيبة، إذا كان ممن يحل استرقاقه، وفسروا الغائلة بالسرقة والإباق.

ومعني اللفظ: ما يختال مال المشترى من تدليس وحيلة.

وفيه: (بيع المسلم المسلم) أي: باعه بيع المسلم المسلم. وليس في ذلك ما يدل على أن المسلم إذا بايع غير أهل ملته جاز له أن يعامله بما يتضمن غبنا أو غشا. وإنما قال ذلك على سبيل المبالغة في النظر له، فإن المسلم إذا بايع المسلم يرى له من النصح أكثر مما يرى لغيره. أو أراد بذلك بيان حال المسلمين، إذا تعاقدا، فإن من حق الدين وواجب النصيحة أن يصدق كل واحد منهما صاحبه، ويبين له ما خفي عليه. ويكون التقدير: باعه بيع المسلم المسلم، أو اشتراه شرى المسلم المسلم. فاكتفى بذكر أحد طرفي العقد عن الآخر.

ص: 683

[2029]

ومنه حديث أنس- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلسا وقدحا) الحلس للبعير، وهو كساء رقيق يكون تحت البردعة، هذا هو الأصل فيه، وأحلاس البيوت: ما يبسط تحت حر الثياب.

وفيه لغتان: حلس وحلس مثل شبه وشبه. وقد أشرنا إلى بيان ما هو مظنه التضاد مع هذا الحديث، من حديث أي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسم المسلم على سوم أخيه.

ومن الفصل الذي يتلوه

(من الصحاح)

[2030]

حديث ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع

الحديث) التأبير: تلقيح النخل، يقال: أبر فلان النخل، وأبرها إبارا وتأبيرا. أي: لقحها وأصلحها، فهي مأبورة ومؤبرة، وموبرة، وتأبر الفسيل: إذا قبل الإبار، وذلك بأن يؤخذ جف نخل ذكر، فيذر نثاره طلعه على ما تشقق من كفرى النخلة، فيكون ذلك- بإذن الله- أصلا في التلقيح، ومادة للثمرة.

[2031]

ومنه حديث جابر- رضي الله عنه (أنه كان على جمل قد أعيا

الحديث) أعيا: أي: أصابه العياء، فلم يستطع المشي، يقال: أعيا الرجل في المشي، وأعياه الله كلاهما بالألف.

استدل بهذا الحديث من لا يرى الشرط الواحد مخلا بالبيع. ووجه الحديث عند من لا يرى ذلك، أن المساومة التي كانت من النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن على حقيقة التبايع، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم أن يوليه معروفا، ولم ير أن يخصه بذلك، من بين نظرائه، فيدخل [46 أ] عليهم داخل، وكان يراعى ذلك كرما وحياء، ولطفا بالمؤمنين، ولم يجد ما يسوى به بينهم في العطاء، فاتخذ المساومة ذريعة إليه، ويدل على صحة هذا التأويل

ص: 684

ما في بعض طرق هذا الحديث أنه قال: (تراني إنما ما كستك لأذهب بجملك، خذ جملك وثمنه، فهما لك) وفي كتاب (مسلم): (أتراني ما كستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك، فهو لك).

وإن قدر أن القصد فيه كان حقيقة البيع، فالوجه فيه: أن المساومة التي كانت من النبي صلى الله عليه وسلم وجدناها خالية عن ذكر الشرط وجرى البيع عن جابر على ما كانت المساومة عليه وكان الاستثناء بعد وجوب البيع مفصولا عنه.

وفي بعض طرق هذا الحديث عن جابر أنه قال: (فإن لرجل على أوقية ذهب، فهو لك بها، قال: قد أخذته، فتبلغ عليه إلى المدينة) وفي كتاب مسلم (قد أخذته) فتبلغ به إلى المدينة) وسياق هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأه بذلك. وفي بعض طرقه (فأفقرنى ظهره إلى المدينة) والإفقار: إعارة الظهر للركوب، وقد وجدنا في بعض ألفاظ هذا الحديث، مع صحته، اختلافا بينا، لا يكاد يمكننا الجمع بين مختلفاتها، فمن ذلك: ما روى عنه: (فبعت منه خمس أوراق) ومنه، أنه قال:(اشترى منى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بوقتين وردهم، أو درهمين) ومنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطه أوقية من ذهب وزده) وكل هذه الراويات في كتاب مسلم، ولاشك أن الاختلاف فيه إنما وقع ممن لم يضبطه من الرواة، ولعل الاستثناء فيه من قبيل ما لم يضبط. هذا وقد استغنينا في هذا الحديث عن هذا القول وشواكله بما وجدنا فيه من الدليل على أن المبيع لم يكن مقبوضا، فإن ثبت أن قد كان هناك شرط فإنه كان على بعيره الذي ما زالت عنه اليد، بل كان باقيا على ملكه.

[2032]

ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها (جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبت على تسع أوراق، في كل عام وقية .. الحديث) استدل بهذا الحديث من زعم أن البيع إذا اقترن بشرط، فإنه جائز، والشرط باطل، والحديث على ما في كتاب المصابيح لا حجة فيه؛ لأن اشتراط الولاء في هذا الحديث لم يقع في نفس العقد، وإنما جاءت بريرة تستعين عائشة في كتابتها، فقالت:(إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة)[46 ب] أي: أحصيها لهم دفعة واحدة (ويكون الولاء لي فعلت) ظنا منها أن الولاء إنما يتقل إليها باشتراط من قبلهم، فلما أخبروا بما تريد عائشة، أبوا ذلك، وفي بعض طرق حديث بريرة، أن أهلها قالوا:(إن شاءت أن تحتسب عليك، فلتفعل، ويكون ولاؤك لنا) وقولهم هذا ليس من الشرط في شيء؛ لأنها إذا احتسبت بما تعنيها به من مال الكتابة- كان الولاء لأهلها؛ لأن ولاء المكاتب لمواليه، فأبت عائشة

ص: 685

إلا الشراء، فرضوا بالبيع على أن تجعل الولاء لهم؛ ظنا منهم أن ذلك يثبت بالاشتراط، فلما أخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم

بحديثهم، قال:(لا يمنعك ذلك، اشتريها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق) فكانت مراجعتهم هذه في القول قبل الشروع في المبايعة، ولم يذكر في هذا الحديث أن البيع كان مشروطا بذلك الشرط، بل ذكر في الحديث ما كانوا يراجعون به عائشة دون المساومة، فأما عند وجوب البيع فلا، هذا هو الذي يدل عليه هذا الحديث، نعم وقد روى البخاري من غير وجه في كتابه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (ابتاعيها فأعتقيها، فاشترطي لهم الولاء؛ فإن الولاء لمن أعتق

) والحديث على هذا الوجه يدل على قول ذلك القائل لو سلم من المعاني المنافية لما زعم، وذلك أم حمله على حقيقة الفعل غير جائز، لأنه نهى عنه وسماه باطلا، وحمله على معنى التعمية عليهم أبعد وأبعد، ومعاذ الإله أن يتوهم ممن طهره الله عن شوائب الخيانة، وأظهر به أمور الديانة أن يصدر عنه قول يتضمن شيئا من التغرير، ومن هذا الوجه أنكر بعض أهل العلم هذا اللفظ، وأبي أن يكون من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم غير أن الراوية إذا صحت، فعلينا أن نطلب المخرج منها، لا على وجه الرد والنكير، ورأى بعضهم أن يتأول (لهم) بمعنى (عليهم) واستشهد بقوله- سبحانه- {أولئك لهم اللعنة} وهذا التأويل يعتوره الوهن والخلل من وجهين:

أحدهما: أن الاستشهاد الذي جاء به غير ملائم لما استشهد عليه، وذلك أن لهم وعليهم نقيضان في الاشتراط، ولا كذلك في اللعنة، فإنها من حيث المعنى فيها سيان. ثم إنا نرى قوله- سبحانه- {أولئك لهم اللعنة} أبلغ في المعني من (عليهم اللعنة)؛ لأن اللام تفيد من المعني أن اللعنة لازمة لهم في عاجل الأمر وآجله، لا تنفك عنهم، وأن ذلك حظهم في الدارين، فلا حاجة بنا إذا أن نقول في تأويله: أولئك عليهم اللعنة، والظاهر أبلغ [47 أ] من التأويل، ثم إن أمثال ذلك من التقديرات إنما يستقيم في موضع تلجيء إليه الضرورة.

الوجه الآخر: أن الاشتراط عليهم مع قوله (فإن الولاء لمن أعتق) كلام لا طائل تحته مع ما فيه من مضادة ما حكم به الرسول، وقطع فيه القول، ومن إثبات ما نفاه صلى الله عليه وسلم والوجه فيه أن يقال: إن يقال: إن لم يكن أخطأ سمع الناقل في قوله: (اشترطي لهم الولاء، وفيه مظنة للصواب، فإن قوله: (فإن الولاء لمن أعتق) يشهد له من طريق المناسبة بين القولين، فالتأويل أن يقال يحتمل أنه قال ذلك على سبيل المعتبة، حيث روجع كرة بعد أخرى، وقد كان بين حكم الله فيه، وكان المراد منه النهي، وإن وجد منه على صيغة الأمر، كقوله- سبحانه:{اعملوا ما شئتم} وقد قال هذا بعض أهل العلم، ويحتمل أن هذا القول خرج مخرج قطع القول بالشيء، وإسقاط الاعتبار عن قول من يروم خلافه، فكأنه أراد أن يقول: اشترطي لهم الولاء أو لا تشترطي، فاختصر الكلام استغناء بما نادي به في كتاب الله) ومعنى قوله:(في كتاب الله) أي: حكم الله الذي تعبد به عباده في كتابه، وجملة ذلك طاعة

ص: 686

الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وينهي عنه، وإنما عدلنا في شرح هذا الحديث عن لفظ الكتاب إلى غير ما فيه؛ لأن الكل حديث واحد، وإن اختلف طرقه. وقد أخرج البخاري هذا الحديث من طرق شتى، وفي عدة منها:(واشترطي لهم الولاء) فرأينا إهمال بعضه مخلا بالبعض، وتركنا تفسير الأوقية لما سبق فيها من القول في كتاب الزكاة، والأوقية- على ما يأتي في الأحاديث أربعون درهما، وقد دل على أن المراد منها الدراهم قول عائشة:(إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة) لأن العد إنما يستعمل في الدراهم، فإنها تنفق معدودة، وفي الحديث (في كل عام وقية) هي لغة قليلة في الأوقية.

[2034]

ومنه حديثه الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان) الخراج: ما يخرج من الأرض ومن كرى الحيوان ونحو ذلك: وكذلك الخرج، ويقع الخراج على الضريبة وعلى الغلة، وعلى مال الفيء وعلى الجزية، وذكر أبو عبيد أن الخراج في هذا الحديث غلة العبد [47 ب] والمراد منه: أن المشترى إذا عثر على عيب في العبد، وكان قد استعمله ثم رده، فالغلة طيبة له؛ لأن العبد حين استغله كان في ضمانه فلو هلك هلك من ماله، لا من مال البائع، فهذا بذاك، وقد أشرنا فيما قبل إلى هذا المعنى، وفسره بعضهم فقال: إنما يخرج من مال البائع، فهو بإزاء ما سقط عنه من ضمان المبيع. قول الفقهاء فيه مختلف، فمنهم من يرى ذلك في الدار والدابة والعبد، ومنهم من يراه في جميع ما حدث عن المبيع في ملك المشترى، ومنهم من قال غير ذلك، وهذا الحديث، وإن كان ضعيفا عند علماء النقل، فإنه معمول به عند الفقهاء.

ص: 687