الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصره، شق بصر الميت بفتح الشين، ورفع الراء إذا نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه، وضم الشين منه شيء غير مختار. قال ابن السكيت: ولا تقل: شق الميت بصره والمراد بالميت- ههنا- الذي حضره الموت؛ فكأنه صار في حكم الأموات، وعلى هذا المعنى يحمل حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:(لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)، وأما حديثه الآخر:(اقرءوا على موتاكم (يس)) فإنه يحمل على ما ذكرناه، ويحمل أيضاً على أنه أمر بقراءتها عند من قضى نحبه في بيته أو دون مدفنه.
وفيه: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن الروح إذا قبض تبعه البصر في الذهاب؛ فلهذا أغمضته؛ لأن فائدة الانفتاح ذهبت بذهاب البصر عند ذهاب الروح.
والوجه الآخر: أن روح الإنسان إذا قبضها الملائكة، نظر إليها الذي حضره الموت نظراً شزراً لا يرتد إليه طرفه، حتى تمحل بقية القوة الباصرة الباقية بعد مفارقة الروح الإنساني التي تقع بها الإدراك والتمييز دون الحيواني الذي به الحس والحركة، وغير مستنكر من قدرة الله سبحانه أن يكشف عنه الغطاء ساعتئذ حتى يبصر ما لم يكن يبصر، وهذا الوجه في حديث أبي هريرة أظهر، وهو أيضاً حديث صحيح أخرجه مسلم في كتابه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره. قالوا: بلى. قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه).
ومن
باب غسل الميت وتكفينه
(من الصحاح)
[1109]
حديث أم عطية- رضي الله عنها: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته ..... الحديث).
قلت: ابنته هذه هي زينب ري الله عنها؛ توفيت سنة ثمان من الهجرة، وقد ذكر ابن عبد البر في
كتاب (الاستيعاب)(أن التي شهدت أم عطية غسلها، وحكت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: هي أم كلثوم زوجة عثمان رضي الله عنهما؛ توفيت سنة تسع من الهجرة، والصحيح ما قدمناه؛ روى مسلم في (جامعه) أنها زينب.
وفيه: (أشعرنها إياه).
أي: اجعلنه شعارها، والشعار: ما يلي من الثوب بشرة الإنسان.
[1110]
ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها: (بيض سحولية): السحل: الثوب الأبيض من الكرسف من ثياب المن؛ قال المسيب بن علس- يذكر ظعنا-:
في الآل يخفضها ويرفعها .... ربع يلوح كأنه سحل
شبه الطريق بثوب أبيض.
وجمع سحل: سحول، ويجمع- أيضاً- على: سحلن ويقال: سحول: موضع باليمن، وهي تنسب إليه؛ وعلى هذا: فالسين منه مفتوحة.
[1111]
ومنه: حديث جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه).
معنى ذلك- والله أعلم-: أن يختار لأخيه المسلم من الثياب أثمنها وأنظفها وأنصعها لوناً، على ما وردت به السنة، ولمم يرد ب (التحسين): ما يأثره المبذرون أشرا ورياء من الثياب الرقيق؛ فإن ذلك منهي عنه بأصل الشرع، وهو النهي عن إضاعة المال، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(لا تغالوا في الكفن؛ فإنه يسلب سلباً سريعاً)، وقد ثبت أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه قال:(ادفنوني في ثوبي هذين؛ فإنما هما للمهل والتراب)، قد كان رضي الله عنه أعلم الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه 131] /ب [، وأحرصهم على إتباع سنته.
وفي حديث جابر هذا زيادة مبينة للمعنى الذي ذكرناه، ولم يذكر في (كتاب المصابيح)، وقد ذكر (مسلم) الحديث بتمامه في (كتابه)، وهو حسن السياق للأحاديث، وسياق حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً، فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل، وقبر ليلاً، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه).
[1117]
ومنه: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أنه لما حضره الموت، دعا بثياب جدد .... الحديث.
ذهب الجمهور من أصحاب المعاني- لاسيما المحققون منهم-: أن الثياب في قوله صلى الله عليه وسلم: (الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها) -: كناية عن الأعمال التي يموت عليها، كقوله صلى الله عليه وسلم:(يبعث العبد على ما مات عليه) أي: على ما مات عليه من عمل صالح أو سيء؛ والعرب تكنى بالثياب عن الأعمال؛ لملابسة الرجل بها ملابسته بالثياب، ومنه قول الراجز:
لكل دهر قد لبست أثوبا .... حتى اكتسى الرأس قناعاً أشيبا
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة)، قالوا: وأبو سعيد فهم من كلامه صلى الله عليه وسلم ما دل عليه الظاهر؛ فغاب عن مفهوم الكلام.
قلت: وقد كان في الصحابة- رضوان الله عليهم- من يقصر فهمه في بعض الأحايين عن المعنى] المراد [والناس متفاوتون في ذلك؛ فلا يعد أمثال ذلك عليهم عثرة، وقد سمع عدي بن حاتم الطائي-
رضي الله عنه- قول الله تعالي: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)؛ فعمد إلى عقالين أسود وأبيض، فوضعهما تحت وساده، ولما سمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إنك لعريض الوساد)، وفي بعض طرقه:(لعريض القفا).
وقد رأى بعض أهل العلم الجمع بين الحديثين؛ فقال: البعث غير الحشر؛ فقد يجوز أن يكون البعث مع الثياب، والحشر على العرى والحفا ولم يصنع شيئاً؛ فإنه ظن أنه نصر السنة، وقد ضيع أكثر مما حفظه؛ فإنه سعى في تحريف سنن كثيرة؛ ليسوى كلام أبي سعيد، وأبو سعيد لو سمع بهذا، لم ير إلا إتباعه، كيف وقد روينا عن أفضل الصحابة وأعلمهم وأقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهاجاً ومنزلة؛ انه أوصى أن يكفن في ثوبيه، وقال:(إنما هما للمهل والتراب)، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(في ثيابه التي يموت فيها). وليس لهم أن يحملوها على الأكفان؛ لأن الإنسان إنما يكفن بعد الموت.
[1118]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (خير الكفن الحلة).
الحلل: برود اليمن، والحلة 132] /أ [إزار ورداء لا يسمى حلة حتى تكون ثوبين؛ وبذلك ورد الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عليه حلة قد اتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر، وقد اختلف أقاويل الصحابة في اختيار الحلة، والأكثرون على أن الثياب البيض أفضل من الحلة؛ لأن الله تعالى اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم، ثم إنه أمرهم أن يكفنوا فيها موتاهم؛ فقال:(وكفنوا فيها موتاكم)؛ رواه ابن عباس، وهو حديث حسن صحيح، والعمل به أولى من العمل بحديث عبادة.
ويحتمل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الكفن الحلة)؛ لأنها كانت يومئذ أيسر عليهم، وأراد: أنها من خير الكفن.
وزعم بعضهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن فيها، وليس الأمر على ما توهم، وقد بين ذلك مسلم في (كتابه)؛ فروى بإسناده عن عائشة رضي الله عنه؛ أنها قالت:(أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة يمنية كانت لعبدالله بن أبي بكر، ثم نزعت عنه، فكفن في ثلاثة أثواب سحول يمانية ليس فيها عمامة ولا قميص، فرفع عبدالله الحلة، فقال: أكفن فيها، ثم قال: لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكفن فيها؛ فتصدق بها)، وفي رواية:(لو رضيها الله لنبيه، لكفنه فيها).
قلت: وعبدالله بن أبي بكر شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم الطائف، فرمي بسهم، وكان -يومئذ- وجعاً يترقب الموت؛ ولهذا قال:(أكفن فيها)؛ فدمل جرحه حتى انتقض به، فمات منه في السنة الأولى من خلافة أبيه رضي الله عنهما.