الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن
باب الاستعاذة
(من الصحاح)
[1703]
حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعوذوا بالله من جهد البلاء): الجهد- بفتح الجيم- مصدر قولك: اجهد جهدك في هذا الأمر، أي: ابلغ غايتك، والجهد- أيضاً- المشتقة، يقال: جهد دابته وأجهدها: إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها، وتأويل (جهد البلاء) عند العلماء: أنها الحالة التي يمتحن بها الإنسان حتى يختار عليها الموت ويتمناه.
[1704]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: (وضلع الدين، وغلبة الرجال).
وقد فرناه في الباب الذي قبل هذا الباب.
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة- رضي الله عنها (فتنة الصدر):
أراد: ما ينطوي عليه الصدر من غل وغش وخلق سيء وعقيدة غير مرضية- نعوذ بالله منها.
وفيه: (ومن شر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر).
فتنة الغني: أن يلهيه عن الحق ويطغيه وما أشبه ذلك، وفتنة الفقر: أن يحمله ذلك على ما لا تحمد عاقبته من قول أو فعل أو سوء كفر، وبقية الحديث تفسيره فيما مضى.
[1706]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن أرقم: (ومن نفس لا تشبع)(لا تشبع) محتمل لوجهين:
أحدهما: أنها لا تقنع بما آتاها الله- تعالى- ولا [تطهرت عن] الجمع لشدة ما فيها من الحرص والهلع.
والآخر: أن يراد بها لنهمة وكثرة الأكل، وقد ورد في الحديث:(أنه كان يتعوذ من الكزم) وهو شدة الأكل.
[1708]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة- رضي الله عنها: (أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل):
قلت: معنى استعاذته مما لا يعمل، يخرج [19] على وجهين:
أحدهما: ألا يبتلى في المستقبل الزمان.
والثاني: ألا يتداخله العجب في ترك ذلك ولا يراه من قوة به وصبر وعزيمة منه، بل يراه من فضل ربه، فإن المعصوم من عصمه الله.
(ومن الحسان)
[1712]
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:(اللهم، إني أعوذ بك من الفقر والقلة):
الفقر المستعاذ منه إنما هو فقر النفس وجشعها الذي يفضي بصاحبه إلى كفران نعم الله، ونسيان ذكره، ويدعوه إلى شد الخلة بما يتدنس به عرضه، ويثلم به دينه.
والقلة- ايضاً- تحمل على قلة الصبر أو قلة العدد، ولا خفاء أن المراد منها القلة في أبواب البر وخصال الخير؛ لأنه كان يؤثر الإقلال من الدنيا، ويكره الاستكثار من الأعراض الفانية.
[1713]
ومنه: حديثه الآخر: (اللهم، إني أعوذ بم من الشقاق والنفاق):
الشقاق: المخالفة؛ لكونك في شق غير شق صاحبك، أي: ناحية غير ناحيته، أو لشق العصا بينك وبينه؟.
والنفاق: إظهار صاحبة خلاف ما يستره من أمر الدين ودخوله في أمر الشرع من باب، وخروجه من باب آخر، وقد مر بيانه.
[1714]
ومنه: حديثه الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم:) اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع):
الجوع: الالم الذي ينال الحيوان من خلو المعدة عن الغذاء، وضجع الرجل إذا وضع جنبه بالأرض، وضجيعه الذي يضاجعه، استعاذ من الجوع الذي يشغله عن ذكر الله ويثبطه عن طاعته، لمكان الضعف وتحليل المواد إلى بدل، وأشار بالضجيع إلى الجوع الذي يمنع عن الهجوع؛ لأنه جعل القسم المستعاذ منه ما يلازم صاحبه في المضجع؛ وذلك بالليل، وإلى التفريق الواقع بينه وبين ما يشرع له من التعبد بالجوع المبرح في نهار الصوم.
وفيه: (وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة).
الخيانة: مخالفة الحق بنقض العهد في السر، وهي نقيض الأمانة، والبطانة خلاف الطهارة، وأصلها في الثوب ثم تستعار لمت تخصه بالإطلاع على باطن أمرك، وأريد بها ههنا ما يستبطن من أمره فيجعله بطانة حاله.
ومنه: حديث أنس- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم، إني أعوذ بك من البرص والجذام والجنون وسيء الأسقام).
لم يستعذ بالله من سائر الأسقام؛ لأن منها ما إذا تحامل الإنسان فيه على نفسه بالصبر- خفت مئونته، وعظمت مثوبته، مع انصرام أيامه ووشاكة زواله، كالحمى والصداع والرمد وأمثاله، وإنما استعاذ من القسم الذي تمتد أيامه، وتدوم آثاره، فيعظم موقعه في النفوس، وينتهي بصاحبه إلى حالة ينفر منها الحميم، ويبعد عنها القريب، ويقل دونها المؤانس والمداوي، مع ما يورث من الشين، ويفسد من الخلقة:
فمنها: الجنون الذي يزيل العقل وسلبه الامن، فلا يأمن من يصاحبه القتل.
ومنها: البرص والجذام، وهما العلتان المزمنتان مع ما فيهما من القذارة والبشاعة، وتغيير الصورة، وقد اتفق المتعاطفون لعلم الطب أنهما معديان معقبان، فلذلك رأى الاستعاذة من سيء الاسقام، ولم يرغب فيها.
[1716]
ومنه حديث شكل بن حميد رضي الله عنه: (قلت: يا بنى الله، علمني تعويذاً أتعوذ به .. الحديث):
إنما أمره أن يستعيذ من شر هذه الأشياء؛ لأن اجتراح الآثام إنما يكون من قبل تلك الأشياء.
[1717]
ومنه: حديث أبي اليسر- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من الهدم):
يروى بإسكان الدال، وهو اسم الفعل، ويروى بفتح الدال، وهو ما انهدم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحديث: (الهدم شهيد): فإنه بكسر الدال، وهو اذي يموت تحت الهدم.
وفيه: (وأعوذ بك من التردي):
تردي الرجل: إذا سقط في بئر، أو تهور من جبل.
وفيه: (ومن الغرق والحرق):
الغرق- بالتحريك- اسم للفعل، والحرق: النار، وهو بحريك الراء، وتسكينها خطأ.
قلت: إنما استعاذ من هذه البليات مع ما وعد الله عليها من الشهادة؛ لأنها محن مجهدة مقلقة، لا يكاد أحد يصبر عليها، أو يذكر عند حلولها شيئاً مما يجب عليه في وقته ذلك، وربما ينهز الشيطان عن فرصة لم يكن لينال منه في غيرها، من الأحوال، ثم إنها تفجأ عليه [فتنته من] الأسباب التي ذكرناها في موت الفجأة.
وفيه: (وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت): الأصل في (التخبط): أن يضرب البعير الشيء بخف يده فيسقط، والمعنى [21]: أعوذ بك أن يمسني الشيطان عند الموت بنزغاته التي تزل الأقدام، وتصارع العقول الأحلام.
وفيه: (وأعوذ بك أن أموت لديغاً):
اللدغ: أكثر ما يستعمل في العقرب، والمراد منه هنا: لدغ ذوات السم من حية وعقرب وغير ذلك، ومت اللديغ مشابه في المعنى لأسباب الهلاك التي ذكرناها قبل.
[1718]
ومنه: حديث معاذ- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من طمع يهدي إلى طبع): الطبع- بالتحريك: العيب، والأصل فيه الدنس والوسخ يغشيان اليف، ثم يستعمل فيما يشبه الوسخ، والدنس من الآثام والأوزار وغير ذلك من العيوب، والمقابح، والمعنى: أعوذ بالله من طمع يوقني ويدنيني إلى ما يشينني ويزري بي من المقابح، في غير هذه الرواية:(يدني) مكان (يهدي).
[1719]
ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، فنظر إلى القمر، فقال: يا عائشة، استعيذي بالله من شر غاسق إذا وقب
…
الحديث):
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو عيسى في كتابه، ولفظ (كتاب المصابيح) يخالف لفظ الترمذي في بعض الكلمات، ولفظه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر، فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، هذا غاسق إذا وقب):
الغاسق: الليل إذا اعتكر ظلامه، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى:{إلى غسق الليل} ومنه: عسقت العين: إذا امتلأت دمعاً، وعسقت الجراحة إذا امتلأت دماً، ووقوبه: دخول ظلامه في كل شيء.
وإنما أمرنا بالاستعاذة منه؛ لما في الوقت من انبثاث الشر أكثر مما في غيره، ثم إن التحرز منه أصعب، وأستند الشر إليه، لملابسته له من حدوثه فيه، هذا تفسير الآية، والحديث مؤول على ما أولنا عليه الآية.
فإن قيل: الحديث يدل على أن المراد من (غاسق إذا وقب): القمر. قلنا: قولها: (نظر إلى القمر) غير دال على ما ادعيتم، ولا يلزم من النظر إلى القمر أن يكون مراده القمر.
وقوله فيه: (هذا غاسق): ليس أيضاً- ببيان واضح يدلنا على ذلك؛ لاحتمال أن تكونا لإشارة إلى الظلام حيث دخل بل العبرة بذلك [22] لموافقة معنى الآية على ما يذهب إليه أكثر المفسرين.
فإن قيل: ففي بعض طرق هذا الحديث. (فأشار إلى القمر)، قلنا: لم نجد ذلك في رواية يعتد بها، وإنما هو شيء ذكره أصحاب التفاسير من غير تثبت.
فإن قيل: فماذا ينكر أن يكون سمى القمر: غاسقاً؛ لامتلائه؟!، وأراد بالوقوب دخوله في الكسوف واسوداده؟:
قلنا: لم نستبعد هذا الوجه، ولكنا آثرنا القول الذي يدل عليه ظاهر الآية، والذي هو المشهور عند أهل اللسان، وعليه أكثر أصحاب التفاسير. والحديث، وإن كان حسناً صحيحاً: فإنه غير ناب عن هذا التأويل، وأي وجه أخذته في الحديث فهو الوجه في الآية لا مغنى عن الجمع بين الآية والحديث في المعنى، لأنه ورد مورد البيان للآية.