الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1828]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: (الاستجمار تو): الاستجمار: الاستنجار بالأحجار، والتو: الفرد، يقال: جاء رجل توا إذا جاء وحده، ووجه فلان من خيله بألف تو أي بألف واحد.
[1829]
ومنه: حديث قدامة بن عبد الله بن عمار: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء ..) الحديث--- الصهباء: التي يخالط بياضها حمرة وذلك بأن يحمر أعلى الوبر ويبيض أجوافه.
وفيه: (وليس قيل إليك إليك) قيل: مرفوعة اللام وهو (مصدر تقول)، قلت قولاً وقيلاً وقالاً، والمعنى: لم يكن الوازع يمشي بين يديه فيطرد الناس عنه، ومعنى قوله: إليك عن الطريق كقولك إليك عني أني تنح عني وتأخر، وذلك كمثل قولهم: الطريق الطريق.
ومن
باب الهدى
(من الصحاح)
[1832]
حديث ابن عباس رضي الله عنهما، (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها ..) الحديث: أراد ناقته التي أراد أن يجعلها في هداياه، فاختصر الكلام أو كانت هذه الناقة من
جملة رواحله فأضافها إليه. وأشعر الهدى إذا طعن في سنامه الأيمن حتى يسيل منه دم، ليعلم أنه هدى، من قولهم: شعرت كذا أي علمت. ومنه الإشعار في الحرب، وهو ما يشعر به الإنسان (40 ب/ج 2) نفسه في الحرب، أي يعلم.
وقوله: (وسلت الدم) أي: أماطة، وأصله القطع، يقال: سلت الله أنفه، أي: جدعه، وفي بعض طرق هذا الحديث:(وأماط عنه الدم).
قلت: وقد كان هذا الصنيع معمولاً به قبل الإسلام؛ وذلك لأن القوم كانوا أصحاب غارات لا يتناهون عن الغصب والنهب، ولا يتماسكون عنه، وكانوا مع ذلك يعظمون البيت وما أهدى إليه، ولا يرون التعرض لمن حجه او اعتمره، وكانوا يعلمون الهدايا بالإشعار والتقليد؛ ذلك بأن يقلدوها نعلاً، أو عروة مزادة، أو لحاء شجرة، لئلا يتعرض لها متعرض، فلما جاء الله بالإسلام، أقر ذلك لغير المعنى الذي ذكرناه؛ بل ليكون مشعراً بخروج ما أشعر عن ملك صاحبه، وجعلها مجعل ما يتقرب منه إلى الله، وليعلم أنه هدى، فإن نفر لم يركب ولم يحلب، ولم يختلط بالأموال، ولم يتصرف فيه كما يتصرف في اللقطة، وإن عطب لم يؤكل منه، إلا على الوجه الذي شرع.
هذا وقد اختلف في الإشعار بالطعن وإسالة الدم؛ فرآه الجمهور، ونفر عنه نفر يسير، وقد صادفت بعض علماء الحديث يشدد في النكير على من يأباه حتى أفضى به مقالته إلى الطعن فيه، والادعاء بأنه عاند رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبول سنته ويغفر الله لهذا الفرح بما عنده؛ كيف سوغ الطعن في أئمة الاجتهاد وهم لله يكدحون وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم يتناضلون، فأنى يظن بهم ذلك؟ أو لم يدر أن سبيل المجتهد غير سبيل الناقل، وأن ليس للمجتهد أن يتسارع إلى قبول النقل والعمل به إلا بعد السبك والإتقان، وتصفح العلل والأسباب، فلعله علم من ذلك ما لم يعلمه، أو فهم منه ما لم يفهمه، وأقصى ما يرمى به المجتهد في قضية يوجد فيها حديث فخالفه: أن يقال: لم يبلغه الحديث، أو بلغه من طريق لم ير قبوله، مع أن الطاعن لو قبض له ذو فهم، فألقى إليه القول من معدنه وفي نصابه، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ساق بعض هديه من ذي الحليفة، وساق بعضها من قديد، وأتى على-رضي الله عنه ببعضها من اليمن، وجميع ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم على الثبت إما ست وثلاثون أو سبع وثلاثون بدنة، والإشعار لم يذكر إلا في واحدة منها.
وقد روى أيضاً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى هديه من قديد، والقديد: قرية بين مكة والمدينة، وبينها وبين ذي الحليفة مسافة بعيدة، أفلا يحتمل أن يتأمل المجتهد في فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيرى أن النبي صلى الله عليه وسلم[41/أ] إنما أقام الإشعار في واحدة، ثم تركه في البقية؛ حيث رأى الترك أولى، لاسيما والترك آخر الأمرين، أو اكتفى عن الإشعار بالتقليد؛ لأنه يسد مسده في المعنى المطلوب منه، والإشعار يجهد البدنة.
وفيه ما لا يخفى من أذية الحيوان، وقد نهى عن ذلك قولاً ثم استغني عنه بالتقليد، ولعله مع هذه الاحتمالات رأى القول بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج وقد حضره الجم الغفير، ولم يرو حديث الإشعار إلا شرذمة قليلون.
رواه ابن عباس رضي الله عنه، ولفظ حديثه على ما ذكرناه.
ورواه المسور بن مخرمة، وفي حديثه ذكر الإشعار من غير تعرض للصيغة، ثم إن المسور- وإن لم ينكر فضله وفقهه- فإنه ولد بعد الهجرة بسنتين.
وروته عائشة، وحديثها ذلك أورده المؤلف في هذا الباب، ولفظ حديثها:(فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها وأشعرها وأهداها فما حرم عليه شيء كان أحل له) ولم يتعلق هذا بالحديث بحجة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان ذلك عام حج أبو بكر-رضي الله عنه والمشركون يومئذ كانوا يحضرون الموسم، ثم نهوا.
وروى عن ابن عمر: أنه أشعر الهدى ولم يرفعه.
فنظر المجتهد إلى تلك العلل والأسباب، ورأى على كراهة الإشعار جمعاً من التابعين؛ فذهب إلى ما ذهب لسارع في العذر قبل مسارعته في اللوم، ولأسمع نفسه:(ليس بعشك فادرجي)، والله يغفر لنا ولهم ويجيرنا من الهوى؛ فإنه شريك العمى.
[1836]
ومنه: قول عائشة-رضي الله عنها في حديثها: (فما حرم عليه شيء كان أحل له).
سبب هذا القول: أنه بلغها فتيا ابن عباس فيمن بعث هدياً إلى مكة: أنه يحرم عليه ما حرم على الحج حتى ينحر هديه بمكة، فقالت: ليس كما قال، وذكرت الحديث.
وقولها: (فتلت قلائدها من عهن) الضمير في (قلائدها) راجع إلى البدن، والعهن: الصوف، والعهنة: القطعة منه، وقيل: هو الصوف المصبغ ألواناً، وعلى ذلك فسر قوله سبحانه وتعالى:{وتكون الجبال كالعهن المنفوش}
ومنه قول الرجل في حديث جابر-رضي الله عنه وهو ناجية بن جندب الأسلمي، صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كيف أصنع [41/ب] بما أبدع على منها).
أبدعت الراحلة إذا كلت وأبدع بالرجل، على ما لم يسم فاعله: عبارة عن الانقطاع به، لما يظهر من كلال راحلته وهزالها، وإنما قال:(أبدع على)، ولم يقل:(لي)؛ لأنه أراد بما حبس على من الكلال، وقولهم:(أبدع بي) إنما يقوله الراكب عند انقطاع راحلته به، ولم يكن هو راكبها؛ لأنها كانت بدنة، وإنما كان سائقاً ففصل بقوله:(على) بين الأمرين.
[1841]
ومنه: حديث ابن عمر رضي الله عنه: (ابعثها قياماً مقيدة):
بعثت الناقة: إذا أثرته، وقياماً: نصب على الحال، أقام المصدر مقام اسم الفاعل، أي: قائمة مقيدة، والعامل في الحال محذوف مقدر، أي: انحرها قياماً، دل عليه أول الحديث:(أتى على رجل قد أناخ راحلته، وهو ينحرها)، ولا يصح أن يجعل العامل فيها:(ابعثها)؛ لأن البعث إنما يكون قبل القيام، واجتماع الأمرين في حالة واحدة غير ممكن، وفي غير هذه الرواية:(ابعثها قائمة مقيدة)، وهي أيضاً- رواية صحيحة.
فإن قيل: أفلا يجوز أن يجعل قياماً نصباً على المصدر لما بين (ابعثها) وبين القيام من التفاوت في المعنى؛ كأنه قال: أقمها قياماً؟):
قلنا: لم يجز، والمانع منه خلو الكلام عن المعنى المقصود، وذلك أنه أمره أن ينحرها قائمة مقيدة، فإذا جعلت (قياماً) منصوباً بالمصدرية، تعلق الفعل المحذوف بـ (مقيدة) فحسب، فانحرف الكلام عن المنهج المراد.
[1844]
ومنه: حديث ابن عباس-رضي الله عنه في حديثه: (في رأسه برة من فضة).
البرة: حلقة من صفر، أو نحوه، تجعل في لحم أنف البعير، وقال الأصمعي: تجعل في أحد جانبي المنخرين.
وأصل البرة: قيل: بروة؛ لأنها جمعت على بر، مثل: قرية وقرى، وتجمع: برا ت وبرون وكل حلقة من: سوار وخلخال وقرط برة، وإذا جعلت في أنف البعير مكان البرة شعر، فهي الخزامة.
[1848]
ومنه: حديث عبد الله بن قرط، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(إن أفضل الأيام عند الله: يوم النحر، ثم يوم القر):
يوم القر اليوم بعد يوم النحر؛ لأن الناس يقرون يومئذ في منازلهم بمنى.
فإن قيل: قد ورد من الأحاديث الصحاح في فضل يوم عرفة ما قد دل على أنه أفضل الأيام، وفي كتاب الله:{يوم الحج الأكبر} وهو يوم عرفة؛ فكيف التوفيق بين ذلك، وبين هذا الحديث؟
قلنا: أما قوله تعالى: {يوم الحج الأكبر} فقد اختلف في تأويله:
فقيل: يوم عرفة.
وقيل: يوم النحر، والأغلب والأقوى أنه يوم عرفة؛ لأن تعلق الحج به أقوى من تعلقه بيوم النحر؛ ألا ترى أن يوم عرفة لو فات فات إلى غير بدل وإلى هذا المعنى [42/أ] التفت النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:(الحج عرفة).
وأما الأحاديث فهي صحيحة، ولكن ليس في شيء منها أن يوم عرفة أفضل الأيام، والحديثان وإن لم يكن بينهما تضاد، أعني: حديث فضل يوم عرفة، وحديث فضل يوم النحر ولكننا أحببنا ان نقف على حقيقة المعنى في هذا الحديث، وعلى معرفة ما أشكل منه فوجدنا في الحديث الصحيح، ما قد دل على أن الأيام العشر أفضل الأيام، لأنها أحب الأيام إلى الله تعالى، وإذ قد وجدنا الفضل بعد يوم النحر ليوم القر، ووجدنا العشر من ذي الحجة أفضل الأيام وأحبها إلى الله تعالى ويوم القر ليس من جملتها- علمنا أن يوم عرفة غير داخل في جملة الأيام التي أفضلها يوم النحر والتخصيص جائز في مثل ذلك ذهابا إلى حضور معنى الخصوصية فيه، ويكون معنى قوله:(أفضل الأيام يوم النحر) أي: من أفضل الأيام؛ كما يقال: فلان أعقل الناس وأعلمهم، أي: من أعقل الناس وأعلمهم، وعلى مثل هذا يأول قوله صلى الله عليه وسلم:(ما شيء في الميزان أثقل من خلق حسن) ومعلوم أن الإيمان أثقل منه، وكذلك الصلاة فرائض الإسلام.
ويحتمل أن يراد بتلك الأيام: يوم النحر وأيام التشريق.
[1849]
وفيه (يزدلفن إليه) أي: يقربن منه، ويتقدمن نحوه، يقال: تزلف وازدلف، أي: تقدم.
وفيه: (فلما وجبت جنوبها): المراد منه: زهوق النفس وسكون النسايس، وتفسير اللفظ في وجوب الجنوب: وقوعها على الأرض، من وجب الحائط وجوباً: إذا سقط، ووجبت الشمس جبة: إذا غربت، قلت: وقد استعمل الراوي في قوله هذا لفظ التنزيل، قال الله تعالى:{فإذا وجبت جنوبها} وفي هذا الكلام من البلاغة ما لا يخفى على ذي الفهم مبلغه؛ وذلك أن الله تعالى ذكر البدن، وعظم شأنها، ثم أشار بمقتضى اللفظ إلى أنها تنحر قياماً فإن وجوب الجنوب منها إنما يتصور إذا كانت قائمة وتلك السنة فيها.