الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن
باب الإحرام والتلبية
(من الصحاح)
[1763]
حديث عائشة رضي الله عنها: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الوبيص: اللمعان، يقال: وبص البرق وغيره، أي: لمع، والفرق معلم وسط الرأس، وهو الذي يفرق فيه الشعر.
وفي بعض الطرق من (كتاب مسلم): (في مفرق) على لفظ الواحد، و (في مفارق) على الجمع لفظ الكتابين: كتاب البخاري، وكتاب مسلم، وإنما جاء بها على لفظ الجمع، تعميماً لسائر جوانب الرأس التي بفرق فيها، أي: إن فتات الطيب كان يبقى عليها بعد أن يحرم، فكان يلمع فيها، والتطيب قبل الإحرام بما يبقى أثره بعد الإحرام مختلف فيه، وقد كان عمر أمير المؤمنين- رضي الله عنه ينهي عن ذلك، وبه أخذ جمع من العلماء.
ووجه ذلك ظاهر، وهو أنا لمحرم إنما منع من التطيب حالة الإحرام، ليكون تفلاً متنكباً في إحرامه عن الترفه والتنعيم، وإذا وجد منه رائحة الطيب بعد الإحرام، خالف هديه المحرمين، وكان ابن عمر رذي الله عنه يتشدد- أيضاً- في ذلك.
ويحتمل: أن يكون الذي رأته عائشة في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوبيص كان لتدهنه بالدهن المطيب قبل الإحرام، وقد روى [29] مسلم في كتابه في بعض طرق هذا الحديث، عن عائشة، أنا قالت:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك):
قلت: وأرى هذا الوجه من أولى ما يحمل عليه معنى الوبيص، لمكان هذا الحديث.
ويحتمل: أنه كان يتطيب بطيب، يبقى جزمه بعد زوال رائحته، وقد صح أنها قالت:(أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف في أزواجه، ثم أصيح) يعني: محرماً.
وقولها: (فطاف في أزواجه) كناية عن الإصابة منهن بعد التطيب، ويلزم منه أنه اغتسل بعد ذلك مرة واحدة إن لم يكن مرات كثيرة، وكان ذلك بالمدينة ثم خرج إلى ذي الحليفة، فاغتسل بها غسل الإحرام، فأي أثر يبقى بعد اغتساله كرة بعد أخرى.
وفي هذا التأويل: توفيق بين القولين.
وقد اختلف فقهاء الامصار في هذه المسألة.
ولك يكن التعرض لذلك متعلقاً بغرضنا، وإنما قصدنا بيان الحديث.
[1764]
ومنه: حديث ابن عمر رضي الله عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً):
والتلبيد: أن يجعل المحرم في رأسه شيئاً من صمغ أو خطمى أو غير ذلك، ليلبد شعره بقيا عليه لئلا يشعث في الإحرام، فلا تقع فيه الهوام.
وفي غير هذه الرواية، عنه- أيضاً-:(لبد رأسه بالغسل): والحديث مذكور في قسم الحسان من هذا الباب، والغسل- بالكسر-: ما يغسل به الرأس من خطمى وغيره، قال الشاعر:
فيا ليل إن الغسل ما دمت أيما .... على حرام لا يمسني الغسل
وفيه: (لبيك اللهم لبيك
…
الحديث).
وقد ذكرنا معنى التلبية في (كتاب الصلاة).
وقوله: (إن الحمد والنعمة لك): منهم من قال بفتح الهمزة، والمختار رواية ومنعى: الكسر.
[1765]
ومنه: حديثه الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل رجله في الغرز، واستوت به ناقته):
الغرز: ركاب الرجل من جلد، فإذا كان من خشب أو حديد: فهو ركاب، و (استوت به ناقته) أي: رفعته مستوياً على ظهرها.
وقوله: (أهل من عند مسجد ذي الحليفة):
يريد به مبدأ الإهلال، وقد اختلفت الروايات عن الصحابة في ذلك:
فمنهم من قال: أهل في دبر الصلاة.
ومنهم من قال: أهل حين استوت به ناقته.
ومنهم من قال: حين استوت به على البيداء، والبيداء: هي الشرف الذي أمام ذي الحليفة.
واختلاف هذه الرايات و [بيان] اختلاف أحوالهم في العلم بذبك، فإن كلا منهم أخبر بما سمعه، وانتهى إليه علمه، وكلهم صدق أبرار، والتوفيق بينها هين، وذلك أن الذي شهده بهذا الصلاة، وسمع الإهلال في دبر الصلاة- أخبر به، والذي لم يشهده في المسجد، أو شهده ولم يبلغه الصوت [30]، وسمعه يهل عند استواء الناقة به- أخبر به على ما كان عنده، وكذلك الذي قال إنه أهل حين استوت به البيداء.
ولا تضاد بين هذه الأقاويل، وإنما يحكم بالتناقض إذا كان الزائد نافياً لما عداه.
وبمصداق ما قررنا عليه الحديث: ورد الحديث عن أبي داود المازني رضي الله عنه، وكان من أهل بدر.
[1769]
ومنه: حديثه الآخر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج).
قلت: قد تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها من هذا الباب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً)، وفي حديث أنس:(أنه كان قارناً)، وذلك قوله:(وإنهم ليصرخون بهما جميعاً الحج والعمرة)، وأراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل معه بما أهل هو به، وقد بين ذلك في حديث آخر، وهو حديث صحيح: قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عمرة وحجاً معاً).
وفي الصحاح: (أن بكر بن عبد الله المزنى وهو الراوي عن أنس رضي الله عنه [أخبر] بهذا الحديث ابن عمر، فقال: (لبى بالحج وحده)، قال: فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر، فقال: ما تعدونا إلا صبياً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لبيك عمرة وحجا معاً).
قلت: والتوفيق بين هذه الروايات مشكل ولابد منه، فإن ترك هذه الروايات على حالها من الاختلاف من غير بيان جامع بينهما مجلبة للشك في أخبار الصادقين، وقد طعن فيها طائفة من الفئة الزائغة عن منهج الحق، فقالوا: اتفقتم أيتها الرواة على أن نبيكم لم يحج من المدينة غير حجة واحدة، ثم رويتم أنه كان مفرداً، ورويتم أنه كان قارناً، ورويتم أنه كان متمتعاً، وصيغة هذه الأنساك متباينة، وأحكامها مختلة وتزعمون أن كل هذه الروايات مقبولة لصحة أسانيدها وعدالة رواتها!!
فأجاب عن ذلك جمع من العلماء، شكر الله سعيهم، وقد اخترنا عن ذلك جواباً نقل عن الشافعي- رضي الله عنه وزبدته:
أن من المعلوم في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الآمر به، كجواز إضافته إلى الفاعل له، كقولك: بنى فلان داراً: إذا أمر ببنائها، وضرب الامير فلاناً: إذا أمر بضربه.
ومن هذا الباب: رجك رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً، وقطع يد سارق رداء صفوان به أمية، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم المفرد، ومنهم القارن، ومنهم المتمتع، وكل منهم يصدر عن أمره وتعليمه، فجاز أن يضاف كل ذلك إليه.
وقولاً ذكره الخطابي، قال: يحتمل أن يكون بعضهم سمعه يقول: لبيك بحجة، وخفى عليه قوله: وعمرة، فحكى أنه كان مفرداً فلم يحك إلا ما سمع، وسمعه آخر يقول: لبيك بحجة وعمرة، فقال: كان قارناً، ولا ينكر الزيادات في الأخبار كما لا ينكر في [
…
] قلت: وأكثره [31].
[بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم تسليما كثيرا
ومن قصة حجة الوداع من الصحاح:
[1776]
حديث جابر- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بالمدينة تسع سنين لم يحج.
قلت: أما تركه الحج في الأعوام التي قبل الفتح، فلا افتقار إلى بيانه لوضوح العلة فيه وهي: أن الحج
لم يكن فرض، ثم إنه كان معنياً بحرب أعداء الله، مأموراً بإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، فلم يكن ليتفرغ من هذا القصد الكلي والأمر الجامع إلى الحج الذي لم يفرض عليه.
فإن قيل: أو لم يعتمر في تلك الاعوام؟ قلنا: نعم. ولكن الخطب فيها كان أيسر، ولهوان العمرة لم يكن لها موسم معين، فيتألب الاعداء لمناوأته وصده عن البيت، وكان قضاؤها بعد الصد أو الوات غير مشروع في زمان معين، والإتيان على أفعالها كان ممكنا في بعض يوم، وكان الأمر في الحج بخلاف ذلك كله، فهذه من جملة الموانع التي لأجلها ترك الحج، مع أنه كان عبداً مأموراً يراكب الأمر في تصاريف
أحواله، فأمر بها لم يؤمر بالحج، وأما بعد الفتح، فكان التح سنة ثمان، فإن هوازن وثقيفا وكثيرا منا لعرب كانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم متأهبين لقتاله، والظاهر أن الحج فرض بعد تلك الحجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالحج في السنة التاسعة، وفيها أمر أبا بكر- رضي الله عنه على الحج، ولم يأمر فيه قبل ذلك بشيء، وإنما خرج عتاب بن أسد- رضي الله عنه بالمسلمين وهو أمير مكة، فوقف بهم الموقف والمشركون وقوف في ناحية، وكان الذي دفع بهم أبو سيارة العدواني.
وقد ذهب قوم إلى أن تأخير الحج بعد التح إنما كان للنسئ المذكور في كتاب الله، وهو: تأخير الأشهر عن مواضعها، حتى عاد الحساب في الأشهر إلى أصله الموضوع الذي بدأ الله به في أمر الزمان، يوم خلق لسموات والأرض، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض) وهذا التأويل في سنة عتاب بن أسيد محتمل، وفي العام الذي بعث أبا بكر أميرا على أهل الموسم غير محتمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم] لم يكن ليأمر بالحج في غير وقته المعلوم، وقد ذكر بعض أهل العلم بالسير أن الحج عام الفتح وقع في ذي القعدة على الحساب الذي ابتدعوه، وكانوا ينسئون كل عامين من شهر إلى شهر، وكان الحج عام حجة أبي بكر- رضي الله عنه في ذي الحجة على الحساب
القويم، وإنما وجه استثنائه بالحج إلى السنة العاشرة- والله أعلم- هو أنه لم ير أن يحضر الموسم، وأهل الشرك حضور هناك؛ لأنه لو تركهم على ما يتدينون به من هديهم المخال لدين الحق، لكان ذلك وهنا في الدين، ولو منعهم لأفضى ذلك إلى التشاغل عما أرادوه من النسك بالقتال، ثم إل استحلال حرمة الحرم. وكان قد أخبر يوم التح (أن حرمتها عادت إلى ما كانت عليه، وأنه لم تحل له إلا ساعة من النهار)، فرأى أن يبعث الناس إلى الحج، وينادي في أهل الموسم (ألا يحج بعد العام مشرك) ليكون حجة خاليا من العوارض التي ذكرناها، وقد ذكرنا لذلك وجوها غيرها في (كتاب المناسك)، واكتفينا هاهنا بالقول الوجيز إيثاراً للاختصار.
وفيه: (ثم ركب القصواء): قيل: إنما سميت قصواء، لسبقها، أي: كان عندها أقصى السير وغاية الجرى.
قلت: القصواء من النوق: التي قطع أذنها حتى بلغ الجدع الربع، فإذا جاوزوه فهي عضباء، وإذا قطع منها شيء فهي جدعاء، وبكل ذلك ورد الحديث في وصفها، وقد تبين لنا من السنن الثابتة أن كل ذك صفة ناقة واحدة، وأن الرواة إنما استعملوها لتقاربها في المعنى.
وقيل: العضباء هي المشقوقة الأذن، وقال قائلون من علماء العربي: إن العضباء لقب لناقة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن مشقوقة الأذن.
قلت: وعلى هذا فالظاهر أنها كانت سكاء الأذن، فاعتورتها هذه الأسماء، ظنا منا لواصفين أنها كذلك، وقد بينا الألفاظ المختلفة في وصفها على ما جاءت بها الروايات في (كتاب المناسك)، وشرحناها على وجه التسديد والتوفيق، فمن أحب التثبت فليراجعه.
وفيه: (قال جابر: لسنا نعرف العمرة).
أي: لسنا نعرفها في أشهر الحج، وكان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج في أفجر الفجور، وإنما كانوا يعتمرون بعد مضيها، والعمرة في أشهر الحج إنما شرعت عام حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك قصدهم حين خرجوا.
وفيه: (حتى انصبت قدماه في بطن الوادي):
يقال: صببت الماء فانصب، أي: سكبته فانسكب، وانصباب القدمين عبارة عن انحدارهما بالسهولة [34/] في صيب من الأرض، وهو ما انحدر منها، وقوله:(سعى) أي: عدا.
وفيه: (وأصعدت قدماه) أي أخذتا في الصعود منا لوادي؛ والإصعاد: الذهاب في الأرض والإبعاد، سواء ذلك في صعود أو حدور، قال الله تعالى:{إذ تصعدون ولا تلوون على أحد} ومعناه في الحديث: ارتفاع القدمين من بطن المسيل إلى المكان العالي؛ لأنه ذكر في مقابلة الانصباب عند الهبوط في الوادي. وفيه (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة): المعنى: لو عملت من أمري في قبل منه ما علمته في دبر منه لجعلتها: الضمير عائد إلى الحجة؛ أي: جعلت الحجة عمرة كما أمرتكم به، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي أن تكون الأنساك الثلاثة معمولاً بها، لئلا يظن ظان أن شيئاً منها متروك، ولما لم يكن يسعه أن يقوم بها جميعا فعل بعضها وأمر ببعضها ليأتسى كل منهم بما فعله، أو بما أمر به. ولما كانت الصحابة أشد الناس ولعاً باقتفاء هديه، وإيثار سنته لم يرد أن يكلهم إلى اختيارهم في ذلك، لأنهم لم يكونوا يعدلون غير صنيعه بما صنع، بل كانوا يهلون بما أهل هو به، ويدعون ما سوى ذلك، فلما أهل هو بهما اتبعه من عرف ذلك، أو قال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان غمار الناس مفردين؛ لأنهم كانوا لا يعرفون القران ولا التمتع، ولو تركوا على ما هم عليه بقى أحد الأنساك وهو التمتع، مهملاً غير معمول به، فأمر من لم يسق الهدى منهم أن يرفض حجته، ويجعلها عمرة، وهذا أمر خصوا به من بين الامة، لا يجوز لأحد بعدهم رفض الحج إلى العمرة، ورد ذلك الأحاديث الصحاح، فكأن القوم تداخلهم غضاضة عن ذلك، وشق عليهم ما أمروا به، حتى قالوا ننطلق إلى منى وذكرنا يقطر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بما خامر ضمائرهم من الاضطراب، ولم يأمن عليهم الشيطان أن يزلهم، فقال:(لو استقبلت من أمري ..) الحديث؛ دفعاً لما استمر بهم من وحر الصدر، وإرشاداً لهم إلى أن الفضيلة كل الفضيلة في الائتمار بأمره، والإجابة إلى ما دعا إليه.
وفيه (دخلت العمرة في الحج ..) الحديث أي: دخلت في وقت الحج وأشهره، وكان أهل الجاهلية لا يرون ذلك على ما ذكرناه عنهم؛ فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا عليه بقوله هذا. وقيل: معنى دخول العمرة في الحج: أن فرضها ساقط بوجوب الحج، وقال القائلون بوجوب العمرة: إن المعنى: دخلت العمرة في أجزاء أفعال الحج، فاتحدتا في العمل، واستدلوا بقول سراقة: ألعامنا هذا؟ فقال: لولا وجوب أصله لما توهموا أن يتكرر، ولم يحتاجوا إلى المسألة، والتأويل هو (35/ أ/ جـ 2) الاول، وكان سؤال سراقة كان عن العمرة في أشهر الحج، لما فهم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنى يستدل بهذا الحديث على وجوب العمرة، وجابر هو الذي روى عنه هذا الحديث في الجوامع الصحاح؛ كان شاهد الحال، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن العمرة، أواجبة هي؟ قال (لا، وأن تعتمر فهو أفضل) وهذا الحديث أخرجه أبو عيسى في كتابه، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قلت: ولو زعم زاعم التقدم في حديثه هذا على الذي شرحناه، قلنا: لم يكن جابر ليروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما سمع خلافه، ثم إن حديثه في نفي الوجوب قول فصل، والذي يدعيه تأويل على سبيل الاحتمال، والصحابي الذي روى أنها غير واجبه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان معنى قوله:(دخلت العمرة في الحج) عنده على ما رأيتم لبين في أحد الحدثين، والصحابي أعرف بوجوه الخطاب.
وفيه: (حين فرضت الحج) أي ألزمته نفيه، وذلك بالتلبية أو بتقليد الهدى، أو بالنية بحسب ما يختلف العلماء فيه.
وفيه: (وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة) نمرة: بفتح النون وكسر الميم الجبل الذي عليه أنصاب الحرم، عن يمينك إذا خرجت من مأزمى عرفة تريد الموقف، وبقديد: موضع آخر يقال له: نمرة.
وفيه (أمر بالقصواء فرحلت له)، أي شد عليها الرحل، تقول: رحلت البعير أرحله رحلاً إذا شددت على زهره الرحل، قال الاعشى:
رحلت سمية غدوة أجمالها .... غضبي عليك فما تقول بدا لها
وفي: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا): أراد أموال بعضهم على بعض، وإنما ذكره مختصراً اكتفاء بعلم المخاطبين، حيث جعل (أموالكم) قرينة (دماءكم)، وإنما شبه ذلك في التحريم بيوم عرفة وبذى الحجة والبلد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرمة أشد التحريم لا يستباح منها شيء، وفي تشبيه هذا مع بيان حرمة الدماء والأموال تأكيد لحرمة تلك الأشياء التي شبه بتحريمها تحريم الدماء والأموال.
وفيه: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضع) أي أبطلت ذلك، وتجافت عنه حتى صار كالشيء الموضوع تحت قدمي؛ تقول العرب في الأمر الذي لا تكاد تراجعه وتذكره: جعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي.
وفيه: (إن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث): بدأ في وضع دماء الجاهلية ورباها بين أهل الإسلام بأهل بيته؛ ليكون أمكن بين قلوب السامعين، وأسد لأبواب الطمع في الترخيص. وقوله: (من
دمائنا) أراد به أهل الإسلام لا ذوي القرابة منه، أي أبدأ في وضع الدماء التي تستحق أهل الإسلام ولايتها بأهل بيتي.
وربيعة بن الحارث هو: ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وكان أسن من العباس بن [عبد] المطلب، توفى في خلافة عمر- رضي الله عنه (35/ جـ 2) وقد ذكر جمع من أهل العمل أن رواة هذا الحديث لم يصيبوا في (؟) دم ربيعة، وإنما الصواب: دم ابن ربيعة، وقد ألحق هذه الزيادة بنسخ من المصابيح، وزادهم ما في (؟)(كان مسترضعاً، التثبت فيما رأوه، أو رووه ولا نرى التسلم لهم مع إمكان تقرير معمى الحديث على ما وردت به الرواية عن علماء النقل وحفاظهم: (دم ربيعة)، وهي رواية البخاري؛ فنقول: إنما أضاف الدم إلى ربيعة؛ لأنه كان ولي الدم.
وقوله: (كان مسترضعاً) راجع على القتيل، فلك بالكلام مسلك الإيجاز على طريق الحذف والإضمار. ومثل ذلك في الكلام حسن إذا قرن به دلالة عليه، ولم يخل هذا القول من ذلك؛ لأن الدم إنما يطالب به لعلع القتل، ويحتمل أنه أراد دم قتيل ربيعة، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه موضعه اعتماداً على اشتهار القضية بين السامعين، ويحتمل أن يكون هذا القول- أعني (كان مسترضعاً) في بني سعد- من قول بعض الرواة على وجه البيان.
وفيه: (فإنكم أخذتموهن بأمانة الله): أي بعهده وهو ما عهد إليهم من الرفق بهن، والشفقة عليهن. وفيه:(واستحللتهم فروجهن بكلمة الله): أي بأمر الله وحكمه، والمعنى أن استحلالكم فروجهن وكونهن تحت أيديكم إنما كان بعهد الله وحكمه فيما شرع لكم من الدين؛ فإن نقضتم عهده الذي عهد إليكم فيهن انتقم منكم لهن.
وفيه: (فإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه): أي لا يستبددن بالإذن لمن تكرهون في الدخول عليهن، والتحدث عندهن، كما كان من عادة العرب، وفي ذلك تأكيد للنهي فيما نهى عنه بالحجاب. وإيطاء الفرش كناية عما ذكرنا، وليس من كنايات الزنا في شيء وقد بين ذلك قوله:(فاضربوهن ضرباً غير مبرح) أي غير مؤثر ولا شاق من قولهم: برح به الأمر تبريحاً أس جهده. ولو كان الإيطاء كناية عن الزنا لكانت عقوبتهن الرجم.
وفيه: (فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه): الحبل بالحاء المهملة المستطيل من الرمل، وقيل: هو الضخم منه، وجمعه حبال/ وقيل: الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل. ونقل عن الأخفش أنه قال: الح جبل عرفة، وأنشد:
فراح بها من ذي المجاز عشية .... تبادر أولى السابقات إلى الحبل
قلت: وحبل المشاة رمل مستطيل، دونا لجبل، وأضيف إلى المشاة لاجتماعهم هنالك من الموقف توقيا عن مواقف الركاب، ودون حبل المشاة، ودون الصخرات، اللاصقة بفتح الجبل موقف الإمام، وبه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الوقوف، والرواية عندنا:(إلى الصخيرات)(36/ أ/ جـ 2) بإثبات ياء التصغير.