المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب رؤية الهلال - الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي - جـ ٢

[التوربشتي]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب الجنائز

- ‌ باب عيادة المريض وثواب المرض

- ‌ باب تمني الموت وذكره

- ‌ باب غسل الميت وتكفينه

- ‌ باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

- ‌ باب دفن الميت

- ‌ باب البكاء على الميت

- ‌ كتاب الزكاة

- ‌ باب ما تجب فيه الزكاة

- ‌ باب صدقة الفطر

- ‌ باب من لا تحل له الصدقة

- ‌ باب من تحل له المسألة

- ‌ باب الإنفاق وكراهية المسألة

- ‌ باب فضل الصدقة

- ‌ باب إخفاء الصدقة

- ‌ من لا يعبد في الصدقة

- ‌ كتاب الصوم

- ‌ باب رؤية الهلال

- ‌ باب تنزيه الصوم

- ‌ باب صوم المسافر

- ‌ باب صيام التطوع

- ‌ باب الاعتكاف

- ‌ كتاب فضائل القرآن

- ‌ كتاب الدعوات

- ‌ باب ذكر الله تعالى

- ‌ باب أسماء الله تعالى

- ‌ باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل

- ‌ باب الاستغفار والتوبة

- ‌ باب الدعوات في الأوقات

- ‌ باب الاستعاذة

- ‌ باب جامع الدعاء

- ‌ كتاب المناسك

- ‌ باب الإحرام والتلبية

- ‌ باب دخول مكة والطواف

- ‌ باب الوقوف بعرفة

- ‌ باب الدفع من عرفة والمزدلفة

- ‌ رمي الجمار

- ‌ باب الهدى

- ‌ باب الحلق

- ‌ باب خطبة يوم النحر ورمى أيام التشريق والتوديع

- ‌ باب الإحصار وفوت الحج:

- ‌ باب حرم مكة

- ‌ باب حرم المدينة

- ‌كتاب البيوع

- ‌ باب الكسب وطلب الحلال

- ‌ باب المساهلة في المعاملة

- ‌ باب الخيار

- ‌ باب الربا

- ‌ باب المنهي عنه من البيوع

- ‌ باب السلم والرهن

- ‌ باب الاحتكار

- ‌ الإفلاس والإنظار

- ‌ باب الشركة والوكالة

- ‌ الغضب والعارية

- ‌ باب الشفعة

- ‌ باب المساقاة والمزارعة

- ‌ باب الإجارة

- ‌ باب إحياء الموات والشرب

- ‌ باب اللقطة

- ‌ باب الفرائض

- ‌ باب الوصايا

الفصل: ‌ باب رؤية الهلال

والنزول من الأعلى إلى الأدنى في هذا الباب عند التمثيل وتقرير المعنى من أحمد طرق البلاغة وأبهج مناهج اليان. وكان في قول من ذهب في ذلك إلى ابتغاء التقرب إلى الله تعالى بتلك الرائحة واستحباب استدامتها وكراهة إزالتها بالسواك تعمقا وعدولا عن الجلى الواضح إلى الخفي المشكل، لا سيما وقد أزيل الخفاء بحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يني يتسوك وهو صائم).

وفيه (والصيام جنة) الجنة: السترة. يقال استجن بجنة: أي تستر بسترة. ويقال لما يستجن به في الحرب من درع وترس جنة. وذكر أنه جنة لأن المسلم يتستر به من شكة الشيطان وشوكته، والجنة إنما يكمل الانتفاع بها إذا كانت محكمة ومسرودة في غير اختلال، وكذلك الصيام إنما يحق التستر به على حسب العناية به من التحفظ والإتقان والتنزه عن الخطأ والخطل فيهما، فإذا وجد فيه بعض الخلل نقص بحصته ثواب العمل. وبهذا المعنى ترتب عليه قوله (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب) الرفث الفحش من القول وما يضاهيه من كنايات الجماع والصخب: الصياح والجلبة. وقوله: (فليقل إني صائم) أي يجعل قوله هذا مكان الجواب ليكون أبلغ في الردع المتناول لغرضه وأكد في الحجة عليه. وفيه وجه آخر وهو أن يقول قوله في نفسه لترتدع به نفسه عن سييء القول وتتقوى على كظم الغيظ.

من‌

‌ باب رؤية الهلال

(من الصحاح)

[1343]

قوله (صلى الله عليه وسلم) في حديث ابن عمر- رضي الله عنه: (فإن غم عليكم فاقدروا له) غم: أي غطى من قولك غممت الشيء إذ غطيته فهو مغموم. فاقدروا له: من قدرت الشيء أقدره وأقدره قدرا من التقدير.

قال الشاعر: [158/ب]

كلا ثقلينا طامع في غنيمة .... وقد قدر الرحمن ما هو قادر

أي: مقدر.

ومعني الحديث: قدروا له عدد الشهر حتى تتموه ثلاثين، وذلك في الراوية الأخرى عن ابن عمر:(إن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ولما في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)، وقال بعض أهل العلم: قدروا له منازل القمر، فإن ذلكم يدلكم على أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون.

قال ابن سريج: هذا خطاب لمن خصه الله تعالي بهذا العلم، وقوله:(فأكملوا العدة ثلاثين)، خطاب للعانة التي لم تعن به؛ يقال: قدرت الأمر كذا أقدر وأقدر إذا نظرت فيه ودبرته.

ص: 459

وقد خالف في هذه الفتيا جمهور العلماء، ورحم الله أبا العباس؛ من أي باب أتى حتى جعل دليل التنجيم مدخلا في عبادات المسلمين، وقد علم أنه علم لم يكن العرب تتعاطاه، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يأباه، وإلى هذا المعني أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أمة أمية لا تحسب ولا نكتب

) الحديث، والظن به أنه قد سلك مسلك الاحتياط، غير أنه لم يصدر عن مورده ذلك بالكفاف؛ كيف وقد قال (فأكملوا العدة ثلاثين): خطاب للعامة، ولم يخف عليه أن الصحابة- رضوان الله عليهم- لم يعنوا بذلك ولم يعملوا به وهم خير هذه الأمة وأخصهم يعلم الشريعة وأولاهم بالتأييد والتوفيق من الله المنان.

[1344]

ومنه حديث أبلا هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) اللام في قوله لرؤيته يقع (بعد)، أي: بعد رؤيته، وذلك إذا لم يكن في السماء علة فلم يكن مغموما على الناس، ونظير ذلك في كلام العرب قول متمم بن نويرة:

فلما تفرقنا كأني ومالكا .... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

أي بعد طول اجتماع. ويقرب من ذلك قولهم: لثلاث خلون من شهر كذا، ولأربع بقين من كذا، وأهل الأنساب يسمونها لام التاريخ ولام الوقت.

ومن هذا النوع قول النابغة:

توهمت آيات لها، فعرفتها ..... لستة أعوام، وذا العام سابع

[1345]

(ومنه) حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب

الحديث)؛ إنما قيل لمن لا يكتب ولا يقرأ أمي؛ لأنه منسوب إلى العرب فإنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرءون، وقيل إنما قيل له أمي؛ لأنه باق على الحال التي ولدته أمه، لم يتعلم قراءة ولا كتابة [159/أ].

وقد قيل فيه وجوه سوى ما ذكرنا، إلا أن الذي يناسب سياق الكلام في هذا الحديث ما ذكرناه. ثم إن إطلاق الأمي عليهم إنما صح من قبل نبيهم صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي بعث فيه، ثم صار الآخر تبعا للأول في التشبيه والحكم، وإن كانوا يكتبون ويحسبون.

ومعنى قوله (لا نكتب ولا نحسب) أن العمل بالحساب على ما يتعارفه المنجمون ويتعاطونه ليس مما تعبدنا به وأمرنا به؛ إذ ليس ذلك من هدينا وسمتنا في شيء.

وفيه (الشهر هكذا وهكذا) الحديث؛ قال الخطابي: يريد أن الشهر قد يكون هكذا، أي: تسعا وعشرين، وليس يريد أن كل شهر تسعة وعشرون، فإنما احتاج إلى بيان ما كان موهوما أن يخفى عليهم؛

ص: 460

لأن الشهر في العرف وغالب العادة ثلاثون، فوجب أن يكون البيان فيه مصروفًا إلى النادر دون المعروف منه.

وقد أشرفنا فيما مرّ أن هذا الحديث يبنى عن ترك العمل بقول اصحاب التنجيم في معرفة الشهر وإثبات الهلاك.

[1346]

ومنه حديث أبى بكرة - رضى الله عنه- عن النبى صلى الله عليه وسلم (لا ينقصان

الحديث) وجدنا أهل العلم في تأويل هذا الحديث على ثلاث طرق، فمنهم من يذهب إلى أنهما لا ينقصان معًا في سنة واحدة، وفيه نظر لاختلاف دلالته، إلا إن حمل الأمر فيه على الغالب.

ومنهم من قال أنه اراد به تفصيل العمل في العشر من ذي الحجة، وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان.

ومنهم من قال: معناه أنهما لا يكونان ناقصين في الحكم وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب، وهذا الوجه أقوم الوجوه وأشبهها بالصواب.

[1350]

ومنه حديث أم سلمة - رضى الله عنها: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان).

ص: 461

قلت: وفي حديث عائشة -رضى الله عنها-: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط)،والتوفيق بين الحديثين أن نقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور علي تسع نسوة فيحتمل أن أم سلمة وجدته صائمًا في أيام نوبتها التي كان ينتابها النبي في سائر شعبان، فرأت أنه واصل شعبان برمضان، ووجدته عائشة -رضى الله عنها- مفطًرا في بعض أيامها فأخبرت عما رأت، ويدل على ذلك قولها بعد الذي

[159/ب] ذكرناه من حديثها: (وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان كأن يصوم شعبان كله إلا قليلًا) فإن قيل: أو لم يكن النبي يعدل في القسم بين النساء جهده؟ فكيف تقدر الافطار في نوبة عائشة ول تقدره في نوبة أم سلمة؟ قلت: العبرة في البيتوتة والكينونة نهاره عندها؛ لا باليوم والإفطار؛ ألا ترى النبي كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ولم يكن يبالي من أى أيام الشهر يصوم، والثلاثة غير منقسمة على التسع وقد كان النبي في فسحة من هذا، فجعل الإفطار في نوبتها؛ لأنها كانت مفطرة لحبه لها.

فإن قيل: يحتمل أنه كان يراعي ذلك بحسب النوبة في أشهر؛ قلنا: ويحتمل أن قليل الذى أفطر من شعبان كان في نوبة عائشة بإزراء صومٍ قد كان صامه عندها في غيى شعبان، ولا يلزم أن تقدر ما قدرنا في حديث أم سلمة على التعاقب والتوالي في سائر السنين، بل في بعضها فإنها إذا رأته على ذلك عامًا أو عامين، صح لها أن تخبر عما أخبرت.

وأرى أحد المعاني التى كانت تستدعى النبي أن يواصل شعبان برمضان، أو يصوم أكثره: اشتغال أزواجه بقضاء ما فآتهن من رمضان؛ ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: (كان يكون على الصوم من رمضان، فلا استطيع ان أقضي إلا في شعبان)، قال الراوي: تعنى الشغل بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل: كيف التوفيق بين الحديث الذي ذكرتم عن أم سلمة، وبين حديث أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا)؛ فإنًّا إذا قدًّرنا أنه كان يصوم من شعبان أو يصوم اكثره، أفضى بنا إلى ردِّ حديث أبى هريرة؛ فإنه على هذا التقدير: يكون قد صام شيئًا من الزمان الذي نهى عن الصوم فيه؟.

قلنا: نحمل حديث أبى هريرة رضي الله عنه على أحد الوجهين: إما أن نقول: إنه آخر الأمور.

أو نقول: إنه نهى عن الصوم في النصف الأخير من شعبان؛ لنفوس الأمة؛ ليتقوًّوْا على صيام شهرهم، ويباشر العمل عن الصوم فيه بنشاط منشرحًا به صدورهم، وكان حاله في ذلك خلاف حال غيره، لما آتاه الله سبحانه من العزم الذي لا فترة فيه، والعمل الذي لا ضعف معه؛ وهذا أولى الوجهين بالاختيار.

ص: 462

ومن الفصل

(من الصحاح)

[1354]

حديث أنس -رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة).

المحفوظ عند أصحاب [160/أ] الحديث: بفتح السين، وقد قيل: إن الصواب أن تضم، وأرى الوجه المستقيم فيه على المقاييس اللغوية: الضًّم؛ لأنه بالضم: المصدر، وبالفتح: الاسم لما يتسحر به، والبركة في الفعل باستعمال السنًّة لا في نفس الطعام، وقد أشبعنا القول في أول باب الطهراه في بيان تلك المقاييس، وما ذكرنا فيها عن علماء العربية، وكذلك الرواية في رواية أنس:(أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما)،وفي حديث سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يمنعكم عن سحوركم أذان بلال .. الحديث).

وليس الأمر في الحديثين من طريق اللغة على ما ذكرناه في الأول؛ لأنهما يحتملان النصب، والضم؛ فنختار فيها النصب، لموافقته الرواية.

وأما حديث العرباض بن سارية: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور) - فالوجه فيه نصب السين، لقوله (إلى الغداء المبارك).

[1355]

ومنه: حديث عمرو بن العاص - رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكله السحر)، فضل ما بين): بالصاد المهملة، ومن الناس من يصحف فيه بالضاد المنقوطة، وأكلة بفتح الهمزة، وهى المرة من الفعل، والمعنى: أن السحور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب؛ لأن الله أباح لنا ما حرم عليهم من ذلك، ومخالفتنا إياهم في ذلك تقع موقع الشكر لتلك النعمة ويدخل في معناه.

[1356]

ومنه حديث سهل بن سعد - رضى الله عنه- الذي يتلوه، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطرة)؛ لأن فيه مخالفة اهل الكتاب، وكان مما يتدينون به الإفطار عند اشتباك النجوم، ثم صار في ملتنا شعارًا لأهل البدعة، وسمة لهم، وهذه هي الخصلة التى لم يرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 463

وعلى نحو هذا المعنى: يحمل حديث أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى: (أحب عبادي اعجلهم فطرًا).

أى: الذين يخالفون اهل البدعة فيما يعتقدون من وجوب ذلك.

ويحتمل: أنه أراد به جمهور هذه الأمة الذين يتدينون شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أى: هم أحب إلى ممن كان قبلهم من الأمم، والأول أشبه [160/ب].

قلت: ولو ان بعض الناس صنع هذا الصنيع، وقصده في ذلك: تأديب النفس، ودفع جماحها، أو مواصلة العشاءين بالنوافل غير معتقد فيما يعتقده أولئك الفئة الزائغة من القول بوجوبه لم يضرره ذلك، ولم يدخل به في جملتهم، كيف ويصحح هذا التأويل: الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تواصلوا، فأيكم إذا اراد أن يواصل فليواصل إلى السحر).

وتأخير الإفطار- نظرًا إلى سياسة النفس،- أمر قد صنعه كثير من الربانيين، وأصحاب النظر في الأحوال والمعاملات، أعاد الله علينا بركتهم.

[1357]

ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب: (فقد افطر الصائم). (أفطر) أى: دخل في وقت الإفطار وجاز له أن يفطر؛ كقولهم: أمسى، وأصبح، وأطهر: إذا دخل في تلك الاوقات، وقيل: صار في الحكم المفطر وإن لم يأكل.

[1358]

ومنه: حديث أبى هريرة - رضى الله عنه: (ٍنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال

الحديث).

وجه النهى عن الوصال: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد بعث بالحنيفية السهلة السمحة، وكان يختار لأمته الاقتصاد في المعاملات؛ كيلا يقضي بهم التعمق إلى السآمة والفترة، ولا يشق عليهم مشقة تحول بينهم وبين كثير مما أمروا به؛ فيوجد عنهم التراجع في العبادة؛ كما كان من اصحاب الصوامع والديارات في الرهبانية التي ابتدعوها فهما رعوها حق رعايتها، وكان هو يواصل بارتفاع قدره عن تلك العلل، وقد بين ذلك بقوله:(أيكم مثلى؛ إنى أبيت يطعمني ربي ويسقينى) أى: يؤتينى من التأييد والتوفيق ما يقع عندى- في القوة على عبادته- موقع الطعام والشراب من أحدكم.

وقد ذكر بعض العلماء في شرح هذا الحديث قضيتين رأينا الكشف عنهما؛ لتعلقهما بما نحن فيه: أحدهما: أنه قال: الوصال من خصائص ما أبيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محظور على أمته.

قلت: سلك في الاصطلاح ملك الفقهاء؛ فإنهم يسمون ما ورد به نهى محظورًا، كان ذلك الشيء مكروهًا أو محرمًا؛ وذلك لأن الحظر هو الحجر، وهو خلاف الإباحة، والحظر أيضًا [161/أ] المحرم، فإنه اراد بالمحظور أنه منهي عنه.

ص: 464

فظاهر الحديث يبين قوله، وإن أراد أنه محرم على الأمة ففيه نظر، وأني يسمع القول بتحريمه، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة: (فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال؛ واصل بهم يوما، ثم يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخرت لزدتم، كالمنكل بهم، حين أبى أن ينتهوا، والحديث يدل على خلاف ذلك، وهو أن الوصال كان محرمًا، لو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليواصل بهم، ولم يكن الصحابة، وهم أشدّ

الناس انتهاء عما حرم عليهم، ليأبوا عن الانتهاء عنه.

فالوجه أن نقول: إنَّ القوم قد علموا أنه نهاهم عن ذلك شفقة عليهم ورحمة، فظنوا أن صنيعهم ذلك قرية إلى الله - تعالى- ولا مدخل له في خلاف الرسول صلى الله عليه وسلم - وذلك مثل الرجل يأتي ليعين الرجل على حمله او دابته، فيقول له: لا تفعل، إكرامًا له وشفقة عليه، فيأبى صاحبه إلا ان يفعل ذلك، فواصل بهم تأديبًا لهم وتقويمًا، وإرشادا إلي ما هو الأسد والأمثل، ثم إنا نقول: إن النهى وإن تعلق

بالعموم، للمعاني التي ذكرناها؛ فإن الخصوص إذا اظاهر عليها، ورأوا حالهم فيها بخلاف حال غيرهم، فلهم أن يواصلوا، والفوج الذي نقل عنهم الوصال من خواص الأمة وأقويائها، مع علمهم بالسنن والأحكام وتشددهم في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما شرعوا فيما شرعوا استيثاقًا بما أشرفنا إليه.

وقد ذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يواصل، وقد صح عن ابن الزبير رضي الله عنه أنه كان يواصل سبعًا، ولم يبلغنا نكير عمن كان في زمانه من الصحابة. والظن بأولئك السادة أن المباشر لم يباشر إلا وعنده أسوة، والساكت عنه لم يسكت إلا وقد صوب سبيله، ولهذا نظائر في الحديث، منها ما ذكرنا، ومنها ما تذكر طرفًا منه.

والقضية الأخرى: قوله: (إني أبيت أطعم وأسقى) ويحتمل أن يكون يؤتى على الحقيقة بطعام وشراب يطعمها، فيكون ذلك خصيصي وكرامة لا يشركه فيها أحد من أصحابه.

قلت: ونحن لا نستبعد من فضل الله وقدرته أن يؤتى هذه الكرامة من آثر هديه، واقتفى أثره، فكيف وهو المخصوص بالآيات التي تتحير الألباب دون سطوعها، ولكننا نقول: إن هذا الاحتمال يأباه قضية الحال؛ وذلك أنه ثبت بالأحاديث الصحاح، كحديث أبي هريرة هذا، وحديث أنس [161/ب] وأبي سعيد وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل مع ما تبين لنا من جوابه - حين قالوا:(إنك تواصل) - أنه كان يواصل، فكيف سيصح القول بالوصال مع الطعام والشراب، وسيان الحالان في تناولهما، ان يؤتي بهما

عن طريق القدرة، أو من طريق الحكمة.

(ومن الحسان)[1359] حديث حفصة رضي الله عنه (من لم يجمع الصيام من الليل

الحديث). لم يجمع،

ص: 465

أي لم يعزم عليه، قال الله تعالى {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} أى: أحكموه بالعزيمة، حتى اجتمعت آراؤهم عليه. ومنه: إجماع المسلمين على الشيء، وأكثر ما يقال: أجمعت، فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة.

وهذا الحديث رواه أكثرهم موقوفًا على حفصة، ورواه أبو داود وأبو عيسى بإسناديهما عن عبد الرحمن ابن أبي بكر بن حزم مرفوعًا، ولفظه يقتضي العموم، وإلى خلاف ذلك ذهب الجمهور من العلماء، فمنهم من يرى ذلك فى صيام النذر والكفارة والقضاء، ومنهم من يرى ذلك في كل صوم، إلا ما كان تطوعًا، فإنه استثنى التطوع بحديث عائشة -رضى الله عنها:(دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندك شيء؟ قلت: لا، فقال: إنى إذًا صائم) وقد ذهب جابر بن زيد أبو الشعشاء إلى خلاف الفئتين، فرأى النية فى التطوع أيضًا واجبًا، وتقل عن ابن عمر أنه كان لا يصوم تطوعًا حتى يجمع من الليل، ومن رأى العمل بحديث حفصة [

] عنه، ومن لم ير العمل به لما يوجبه النظر والاستدلال في النذر والكفارة والقضاء، فله أن يأول قوله (فلا صيام له) على ان المراد منه نفي الكمال.

ص: 466