المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولمنابع فكرة النظم - النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق

[حسن إسماعيل عبد الرازق]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌1 - البلاغة:

- ‌(أ) جهود العلماء في محاولة تحديد معنى البلاغة:

- ‌(ب) مراحل البحث البلاغي:

- ‌2 - النقد الأدبي

- ‌وللنقد الأدبي ثلاثة مناهج رئيسية:

- ‌إحداها: المنهج الفني:

- ‌وثانيها: المنهج النفسي:

- ‌وثالثها: هو المنهج التاريخي:

- ‌مكان البلاغة من النقد

- ‌الباب الأولالنظم البلاغي

- ‌الفصل الأولمنابع فكرة النظم

- ‌الفصل الثانينظرية النظم عند عبد القاهر

- ‌الباب الثانيتطبيق النظم البلاغي على النص الأدبي

- ‌الفصل الأول‌‌الفصاحة والبلاغة

- ‌الفصاحة والبلاغة

- ‌فأما فصاحة الكلمة:

- ‌الكلمة على أقسام:

- ‌والتعقيد معناه: ألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المعنى المراد؛ وله سببان:

- ‌السبب الأول: لفظي

- ‌والسبب الثاني من أسباب التعقيد: معنوي:

- ‌علم المعاني(معاني النحو فيما بين الكلم)

- ‌الفصل الثانيأحوال الإسناد الخبري

- ‌تمهيد:

- ‌(1) أغراض الخبر:

- ‌(ب) أضرب الخبر:

- ‌(جـ) المجاز في الإسناد:

- ‌ علاقات المجاز العقلي

- ‌1 - الفاعلية:

- ‌2 - المفعولية:

- ‌3 - المصدرية:

- ‌4 - الزمانية:

- ‌5 - المكانية:

- ‌6 - السببية:

- ‌الفرق بين المجاز العقلي والمجاز اللغوي:

- ‌تقسيم المجاز العقلي باعتبار طرفيه:

- ‌إن أسرار بلاغة المجاز العقلي - كما تصورها الإمام عبد القاهر - تتمثل فيما يلي:

- ‌1 - سعة الخيال:

- ‌2 - المبالغة:

- ‌3 - تفخم العبارة:

- ‌4 - تأكيد العلاقة بين الفاعل المجازي والفاعل الحقيقي

- ‌5 - التركيز في اختيار العلاقة

- ‌6 - الإيجاز:

- ‌7 - إثبات الفعل بدليله

- ‌الفصل الثالثأحوال المسند إليه

- ‌(1) حذف المسند إليه:

- ‌2 - ذكر المسند إليه:

- ‌(ب) تكرير المسند إليه:

- ‌3 - تعريف المسند إليه:

- ‌التعريف باسم الإشارة:

- ‌التعريف بأل:

- ‌التعريف بالإضافة:

- ‌4 - تنكير المسند إليه:

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌أولاً: وضع المضمر موضع المظهر وعكسه:

- ‌ثانياً: وضع المظهر موضع المضمر:

- ‌7 - الالتفات

- ‌قيمته البلاغية:

- ‌وإليك صور الالتفات كما تصورها جمهور البلاغيين:

- ‌الصورة الأولى:الالتفات من التكلم إلى الخطاب

- ‌الصورة الثانية:الالتفات من التكلم إلى الغيبة

- ‌الصورة الثالثة:الالتفات من الخطاب إلى التكلم:

- ‌الصورة الرابعة:الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:

- ‌الصورة الخامسة:الالتفات من الغيبة إلى التكلم

- ‌الصورة السادسة: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب:

- ‌(8) أسلوب الحكيم

- ‌9 - القلب

- ‌التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه

- ‌الفصل الرابعأحوال المسند

- ‌1 - حذف المسند:

- ‌(2) ذكر المسند

- ‌أولاً: ذكر المسند:

- ‌ثانياً: تكرار المسند:

- ‌ثالثاً: إيراد المسند فعلا أو اسما:

- ‌(3) تعريف المسند

- ‌فرق عبد القاهر الجرجانى بين تعريف المسند وتنكيره بأمرين:

- ‌(4) تقديم المسند

- ‌(5) تقييد المسند بالشرط

- ‌الفصل الخامسأحوال متعلقات الفعل

- ‌أولا: حذف المفعول:

- ‌والفعل المعتدي إذا اسند إلى الفاعل ولم يذكر له مفعول، كان الغرض من ذلك هو أحد أمرين:

- ‌تقديم المفعول على الفعل

- ‌تقديم بعض المعمولات على بعض

- ‌المراجع والمصادر

الفصل: ‌الفصل الأولمنابع فكرة النظم

‌الفصل الأول

منابع فكرة النظم

عندما تحدى القرآن الكريم العرب أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة منه، وعجزوا عن ذلك ضاع صوابهم وضربوا أخماساً في أسداس من حيرتهم؛ لأنهم لم يستطيعوا مجاراة القرآن الكريم في بلاغته وهم أرباب الفصاحة وفرسان البلاغة، وسادة الكلام!

ووصفوا القرآن الكريم تارة بأنه شعر وتارة أخرى بأنه سحر.

أما أنه شعر: فلأنهم رأوه منظوماً؛ ولكنه نظم خاص؛ فلا هو بالشعر - وفيهم الشعراء المفلقون - ولا هو بالنثر - وفيهم الخطباء المفوهون -!

وأما أنه سحر: فلأنهم قد وجدوا له وقعاً في قلوبهم لم يستطيعوا مغالبته، وتأثيراً في نفوسهم لم يقدروا على التخلص منه.

على أن أحد خصوم الرسول الألداء - ويقال إنه الوليد بن المغيرة المخزومي - قد استمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو بعض آي القرآن الكريم؛ فقال: "والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا هو من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة (1) ".

وقد جاء في حديث أبي ذر - في سبب إسلامه - أنه قال: قال لي أخي أنيس: إن لي حاجة إلى مكة، فانطلق فراث، فقلت: فما يقول الناس؟ قال:

(1)

تفسير الزمخشري في سورة المدثر.

ص: 60

يقولون شاعر، ساحر، كاهن قال أبو ذر: وكان أنيس أحد الشعراء، فقال: تالله لقد وضعت قوله على إقراء الشعراء فلم يلتئم على لسان أحد؛ ولقد سمعت الكهنة فما هو بقولهم؛ والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون (1).

والحق أن القرآن الكريم ليس شعراً، وليس سحراً؛ فقد أقسم الله تعالى للعرب في محكم كتابه قائلاً لهم:{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) ومَا لا تُبْصِرُونَ (39) إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ (41) ولا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (42) (2)} .

ولما بحث العلماء مسألة الإعجاز في القرآن لم تغب عن أذهانهم فكرة النظم القرآني - على الرغم من أن منهم من ذهب إلى أن القرآن الكريم معجزة لتضمنه أخبار غيبية، كالأخبار ص 61 عن الأمم السابقة، وكالأخبار ص 61 عما سيحدث في المستقبل؛ ومنهم من ذهب إلى أن الله تعالى قد صرف العرب عن معارضة القرآن الكريم - وإن كانت في مقدورهم - إلا أن فكرة النظم هي التي انتصرت في النهاية كسر عظيم لإعجاز القرآن الكريم.

فها هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ يؤديه إحساسه العميق بروعة النظم، وما يكسبه الكلام من الماء والرونق والحيوية والنضرة والروعة إلى أن يصيح في معاصريه: إن إعجاز القرآن الكريم في نظمه، ويؤلف كتاباً في هذا المعنى، ولكنه يسقط من يد الزمن.

ولكنه يكرر هذا المعنى في كتاباته، كقوله: في كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد (3).

(1)

ثلاث رسائل في إعجاز القرآن 124، 125.

(2)

×××× ص 61.

(3)

البلاغة تطور وتاريخ صـ 52.

ص: 61

وها هو الأديب اللغوي المحدث أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي المولود في سنة 319 هـ والمتوفى سنة 388 هـ يصنف رسالة في "بيان إعجاز القرآن".

وفي هذه الرسالة يقرر الخطابي أن الناس قديماً وحديثاً قد ذهبوا في هذا الموضوع من القول كل مذهب، ولكنهم لم يصدروا عن ري؛ ثم يناقش فكرة الصرفة؛ فيدحضها ولا يرتضيها؛ ثم يناقش فكرة تضمن القرآن الكريم أخباراً مستقبلية، ولكنه لا يرتضيها شرحاً لأسرار الإعجاز.

وأما القول بأن السر في إعجاز القرآن الكريم إنما هو: بلاغته التي أعجز بها العرب، فهو قول صحيح؛ ولكن أصحاب هذا الرأي - وهم الغالبية العظمى - لم يحاولوا أن يتبينوا مرجع هذه البلاغة قائلين: قد يخفى سببه عن البحث، ويظهر أثره في النفس. لأنك تجد كلامين: أحدهما يهزك ويطربك وهما معاً فصيحان؛ ثم لا يوقف لشيء من ذلك على علة! .

ومثل هذا القول لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشفي من داء الجهل به؛ وقد استشهد بعضهم على هذا بمثل ما فعل ذو الرمة وجرير:

فقد ذكرت الرواة أن جريراً مر بذي الرمة، وقد عمل قصيدته التي أولها:

نبت عيناك عن طلل بحزوى

عفته الريح وامتنح القطارا

فقال: ألا أنجدك بأبيات تزيد فيها؟ فقال. نعم، فقال:

يعد الناسبون بني تميم

بيوت المجد أربعة كبارا

يعدون الرباب وآل تيم

وسعدا، ثم حنظلة الخيارا

ص: 62

ويذهب بينها المرئي لغواً

كما ألغيت في الدية الحوارا

فوضعها ذو الرمة في قصيدته، ثم مر به الفرزدق، فسأله عما أحدث من الشعر، فأنشد القصيدة، فلما بلغ هذه الأبيات، قال: ليس هذا من بحرك، مضغها أشد لحيين منك! قال: فاستدركها بطبعه، وفطن لها بلطف ذهنه (1).

فلا بد - إذن - من سبب لاستحسان كلام دون آخر.

وبحث عن السبب فوجده، ولم يتعد هذا السبب: النظم.

والسبب الحقيقي - في رأي الخطابي - أن أجناس الكلام مختلفة؛ فمنها: البليغ الرصين الجزل، ومنها: الفصيح الغريب السهل، ومنها: الجائز الطلق الرسل.

والقسم الأول: هو أعلى طبقات الكلام وأرفعه.

والقسم الثاني: هو أوسط الكلام وأقصده.

والقسم الثالث: هو أدناه وأقربه.

وقد حازت بلاغة القرآن الكريم من كل هذه الأقسام الثلاثة حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة فانتظم بامتزاج هذه الأوصاف الثلاثة نمط من الكلام يجمع بين الفخامة والعذوبة، فكان اجتماع هذين الأمرين - الفخامة والعذوبة - في نظمه، مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن الكريم.

(1)

ثلاث رسائل في إعجاز القرآن صـ 25.

ص: 63

ولا تقوم أجزاء الكلام إلا على هذه الأمور الثلاثة: (لفظ حامل، ومعنى قائم، ورباط لهما ناظم).

ومن هنا كانت فكرة النظم - كما ترى - وهي الفكرة التي استقى منها عبد القاهر الجرجاني، ومن كتابات أخرى تالية لها حتى نضجت نظرية متكاملة، واضحة المعالم والخطوط في كتابه "دلائل الإعجاز".

وأما أن النظم هو أساس صور البيان - كما سيتضح لك عند الحديث عن النظم عند عبد القاهر - فقد استقاها من قول الخطابي:

"وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر؛ لأنها لجام الألفاظ، وزمام المعاني وبه تنتظم أجزاء الكلام، ويلتئم بعضه ببعض، فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان"(1).

على أن الخطابي قد وجد لإعجاز القرآن الكريم وجهاً آخر، وهو: صنيعه بالقلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة، قد عراها الوجيب والقلق وتغشاها الخوف والفرق؛ تقشعر منه الجلود، وتنشرح له القلوب، يحول بين النفس ومضمراتها وعقائدها الراسخة فيها.

فكم من عدو للرسول - صل الله عليه وسلم - من رجال العرب وفتاكها أقبلوا

(1)

ثلاث رسائل في إعجاز القرآن صـ 26.

ص: 64

يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن الكريم، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوته موالاة، وكفرهم إيماناً، وقصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه خير شاهد على هذا (1).

ولعلك لاحظت أن الخطابي قد ركز على أمرين لبيان إعجاز القرآن الكريم، وهما: النظم، وتأثير القرآن الكريم في النفوس.

وأن هذين الأمرين قد لاحظهما هو الآخر بدوره من وصف العرب للقرآن الكريم حين تحداهم - تارةً بأنه شعر، لأنهم رأوه منظوماً (2) - على حد تعبير الخطابي نفسه - وتارةً بأنه سحر، وذلك لتأثيره في نفوسهم تأثيراً لم يستطيعوا دفعه عنها.

ولعلك تلاحظ - أيضاً - أن هذين الأمرين هما اللذان أدار عليهما عبد القاهر كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"؛ فقد أدار أولهما على نظرية النظم، وأدار الثاني على مدى تأثير صور البيان في النفوس.

ويمضي في نفس الطريق أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ - وهو من المتكلين على مذهب الأشاعرة - في كتابه: "إعجاز القرآن"، فيرد على مطاعن الملاحدة على أسلوب القرآن الكريم مبيناً أن الحاجة إلى الحديث عن إعجاز القرآن أمس من الحاجة إلى البحوث اللغوية والنحوية وإن الجاحظ قد صنف في نظم القرآن كتاباً، غير أنه لم يزد على ما قاله المتكلمون من قبله أما هو فيصرح بأنه سيضيف إلى من سبقوه ما يجب وصفه من طرق البلاغة وسبل البراعة.

(1)

ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 70، 71.

(2)

ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 28.

(5 - النظم البلاغي)

ص: 65

وفي أول فصل من كتابه: يبين أن القرآن الكريم معجز ببلاغته.

ثم يعقد فصلاً ثانياً: يرد فيه على القائلين بفكرة الصرفة، كالنظام، والرماني.

وفي فصل آخر يبين وجوه الإعجاز القرآني - في رأيه ورأي أصحابه من الأشعريين - فيرجعها إلى أمور ثلاثة:

أولهما: ما تضمنه القرآن الكريم من الإخبار عن الغيوب.

وثانيها: ما تضمنه من القصص وسير الأنبياء مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمياً، لا يقرأ ولا يكتب.

وثالثها: بلاغته.

وهنا يتحدث عن نظرية الإعجاز القرآني، فيقول عن القرآن الكريم:"إنه بديع النظم عجيب التأليف متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه".

ولا يزيد على هذا القدر في رؤيته لفكرة النظم، ولم يتعمق في الوقوف على خصائص النظم - كما فعل عبد القاهر الجرجاني من بعده - اللهم إلا أن يقرر أن القرآن الكريم لا تتفاوت آيه، ولا تتباين بخلاف كلام الفصحاء، فإنه يتفاوت من موضوع إلى موضوع، وإن القرآن الكريم يخرج في بلاغة صياغته عن طوق الإنس والجن.

ثم يذكر أنه مما يبين لك روعة القرآن الكريم: أن الكلمة منه إذا ذكرت في تضاعيف كلام فإنها تتألق بين جاراتها تألقاً، وأنه قد وضع في أوائل سوره حروفاً مجموعها: أربعة عشر حرفاً، هي نصف حروف المعجم، ليبين بذلك أن كلامه منتظم من نفس الحروف التي تستخدمها العرب، ومع ذلك فإنهم قد عجزوا عن معارضته.

ص: 66

هذا إلى أنه قد خلا من الغريب الوحشي المستكره، ومن الصنعة المتكلفة الممقوتة.

وبهذا فإن الباقلاني لم يخرج عن قوله: إن القرآن الكريم معجز ببلاغته، وأن بلاغته ترجع إلى نظمه الفريد، ولم يستطع الولوج إلى نظرية النظم لبيان أسرارها وخصائصها.

غير أن أديباً معاصراً له هو القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى سنة 392 هـ قد تحدث عن النظم في كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه" واستطاع أن يزيل شيئاً من الغموض الذي كان يحيط بنظرية النظم، وأن يزيح الستار قليلاً عن بعض جوانبها، وأن يلهم تلميذه عبد القاهر من بعده كيفية الوصول إلى معالمها، وأن يعطيه النبراس الذي يهتدي به للوقوف على أسرارها.

ومع أن القاضي الجرجاني لم يكن يتعرض لنظرية الإعجاز القرآني في كتابه هذا، إلا أنه قد تحدث عن النظم باعتباره معياراً من معاييره البلاغية في وساطته بين المتنبي وخصومه.

أورد القاضي الجرجاني - في وساطته - كلمة النظم كثيراً، كقوله: فما هذا من المعاني التي يضيع لها حلاوة اللفظ وبهاء الطبع ورونق الاستهلال، ويشيح عنها حتى يهلهل لأجلها النسج ويفسد النظم (1).

وكقوله - وهو يعيب على قول أبي تمام -:

يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعاً

من راحتيك درى ما الصاب والعسل

فحذف عمدة الكلام وأخل بالنظم (2)، وكقوله: "وهلا بلغ أقصى

(1)

الوساطة صـ 98. ص 67

(2)

الوساطة 79.

ص: 67

ما يحتمله الوزن وأكثر ما يمكنه النظم" (1). وكقوله: "ومنها ما خانه السبك فساء ترتيبه، وأخل نظمه" (2) وكقوله:"وبين الكلامين في صحة النظم وعذوبة المنطق ما تراه"(3) وكقوله: "وتتبين تفاوتها في سوء الترتيب واختلال النظم"(4).

وكقوله في قول الأعشى:

إذا كان هادي الفتى في البلاد

صدر القناة أطاع الأمير

فإن هذا البيت - كما نراه - سليم النظم من التعقيد بعيد اللفظ عن الاستكراه (5).

وكقوله في بيت أبي الطيب:

إذا ما ضربت القرن ثم أجزتني

فكل ذهباً لي مرة منه بالكلم

فلم يحفل بسوء النظم، وهلهلة النسخ لما حصل له الغرض في إنهار الطعنة (6).

وبعد: فماذا قصد الجرجاني من كلمة النظم في المواضع التي ذكرها فيها؟ .

في الواقع إنه لم يكن يقصد منها إلا ما قصده تلميذه عبد القاهر من بعده، وهو تتبع معاني النحو فيما بين الكلم إذ من المستبعد أن يكون قد قصد بها وزن الشعر - مثلاً - لأن الأبيات التي نقدها في هذه المواضع لم تكن مختلة الوزن، كما أنه لا يمكن أن يكون قد قصد بها مجرد ترتيب لا يكون على حسب معاني النحو، لأن الترتيب إذا كان بهذه المثابة أدى إلى هلهلة النسج التي يأباها، فلم يبق إلا أن يكون قد قصد بها تتبع معاني النحو فيما بين الكلم - كما قصد عبد القاهر تلميذه من بعده -.

(1)

الوساطة صـ 99.

(2)

الوساطة 100.

(3)

الوساطة صـ 192.

(4)

الوساطة صـ 417.

(5)

الوساطة صـ 418.

(6)

الوساطة صـ 424.

ص: 68

ولقد شد انتباهي طويلاً ذلك الفصل الذي عقده في وساطته، وعنون له بعبارة "مواقع الكلام".

فلقد حاول أن يثبت فيه أن مزية الكلام إنما ترجع إلى نظمه، لا إلى جزالته وقوته ولا إلى ما فيه من تنميق وتزويق، ولكنه لا يستطيع أن يبين لنا أسباب تلك المزية كما بينها عبد القاهر من بعده، إذ هو لا يستطيع أن يفصح عن تلك الأسباب بأكثر من أن هذا أمر تستخبر به النفوس المهذبة، وتستشهد عليه الأذهان المثقفة، بل إنه ليجهر بأنك لا تستطيع أن تذكر لهذه المزية سبباً، بل ويقيم الدليل على هذا من الأمور الحسية المشاهدة، فيقول:

"وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنفس وأسرع ممازحة للقلب، ثم لا تعلم - وإن قاسيت واعتبرت ونظرت وفكرت - لهذه المزية سبباً، ولما خصت به مقتضياً.

فالقاضي الجرجاني يدرك جمال الأساليب، ولكنه لا يكلف نفسه عناء البحث عن أسبابه، وكيف لا؟ وهو الذي يعتبر السائل عن السبب متعنتاً متجانفاً؟ "ولو قيل لك: كيف صارت هذه الصورة وهي مقصورة عن الأولى في الأحكام والصفة، وفي الترتيب والصنعة، وفيما يجمع أوصاف الجمال، وينتظم أسباب الاختيار - أحلى وأرشق وأحظى وأوقع؟ لأقمت السائل مقام المتعنت المتجانف، ورددته رد المستبهم الجاهل، ولكان أقصى ما في وسعك وغاية ما عندك أن تقول: موقعه في القلب ألطف وهو بالطبع أليق، ولم تعدم مع هذه الحال معارضاً يقول لك: فما عبت من هذه الأخرى؟

ص: 69

وأي وجه عدل بك عنها؟ ألم يجتمع لها كيت وكيت، وتتكامل فيه ذيه وذيه؟ وهل للطاعن إليها طريق؟ وهل فيها لغامز مغمز؟ يحاجك بظاهر تحسه النواظر، وأنت تحيله على باطن تحصله الضمائر (1).

وهكذا يذكر الجرجاني: أن من يحاجك في مثل هذه الصور السابقة إنما ينظر إلى ظاهر تحسه النواظر، وأنت ترجعه إلى باطن تحصله الضمائر، فما ذلك الظاهر الذي يقصده من الكلام؟ وما ذلك الباطن الذي يقصده منه؟ .

إن الظاهر الذي يقصده هو: ما يجتمع للكلام من جزالة وقسوة، وما يتوافر فيه من تزويق، وتنميق، وكأن تكتمل فيه نواحي الجمال الظاهرة، من صور بيانية، أو بديعية، وأما الباطن الذي يريده فهي: المعاني اللطيفة، والدقائق الخفية التي تحصل عليها من النظم، أو من نفس الكلام وجوهره وموقعه، ومكانه - على حد تعبيره -، فهو يطبق تلك النظرية على الكلام بعد أن طبقها على الصورة الحسية التي تدركها الأبصار، فيقول:

"كذلك الكلام: منثوره، ومنظومه، ومجمله ومفصله، تجد منه المحكم الوثيق والجزل القوي، والمصنع المحكم، والمنمق الموشح، قد هذب كل التهذيب، وثقف غاية التثقيف، وجهد فيه الفكر، وأتعب لأجله الخاطر، حتى احتمى ببراءته عن المعائب، واحتجز بصحته عن المطاعن، ثم نجد لفؤادك عنه نبوة، وترى بينه وبين ضميرك فجوة، فإن خلص إليهما، فبأن يسهل بعض الوسائل أذنه ص 69، ويمهد عندهما، حاله، فأما بنفسه وجوهره، وبمكانه وموقعه، فلا (2).

(1)

الوساطة صـ 412.

(2)

الوساطة صـ 412، 413.

ص: 70

فالمدار عند القاضي الجرجاني - في مجال تفضيل نظم على آخر - هو جوهر الكلام، ومكانه وموقعه - كما ترى - وقد تأثر بهذه العبارة الأخيرة معاصره القاضي عبد الجبار المتوفى سنة 415 هـ فقال:

"اعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع. وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة، أو حركتها، أو موقعها، ولا بد من هذا الاعتبار في كل كلمة، ثم لا بد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض. لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه إنما تظهر مزية الفصاحة لهذه الوجوه دون ما عداها (1).

وهكذا ألهمه القاضي الجرجاني بفصله الذي عقده في وساطته لمواقع الكلام، أن يخطو بنظرية النظم خطوة أخرى.

وربما كان أصرح مما ذكرناه، وأكثر وضوحاً، وأحسن شاهداً على تمثل القاضي الجرجاني لنظرية النظم التي كانت تدور بخلده ولا يستطيع الإفصاح عن مزاياها، قوله:

"وأقل الناس حظاً في هذه الصناعة (النقد) من اقتصر في اختياره ونفيه، وفي استجادته، واستسقاطه على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب وأداء اللغة، ثم كان همه وبغيته أن يجد لفظاً مروقاً، وكلاماً مزوقاً، قد حشي تجنيساً وترصيعاً، وشحن مطابقة وبديعاً، أو معنى غامضاً قد تعمق

(1)

المغني في أبواب التوحيد والعدل الجزء السادس عشر ص 199.

ص: 71

فيه مستخرجه وتغلغل إليه مستنبطه، ثم لا يعبأ باختلاف الترتيب، واضطراب النظم، وسوء التأليف، وهلهلة النسج، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها، ولا يسير ما بينهما من نسب، ولا يرى اللفظ إلا ما أدى إليه المعنى، ولا الكلام إلا ما صوره له الغرض، ولا الحسن إلا ما أفاده البديع ولا الرونق إلا ما كساه التصنيع (1) ".

وهكذا يعتبر القاضي الجرجاني أن النقد الأدبي السليم هو الذي يوجه إلى سلامة النظم، وحسن الترتيب، لا إلى مظاهر الترويق ص 72 ومشاهد التنميق ص 72 ولا إلى ألوان البديع المختلفة، من تجنيس، وترصيع، ومطابقة وهو حريص كل الحرص على تأكيد هذا المعنى، مهتماً كل الاهتمام بمحاولة إبراز ما يدور بخلده عن النظم، ولكنه - كما قلنا - لا يستطيع أن يبين أسباب جماله، وأسرار حسنه، "وقد حملني حب الإفصاح عن هذا المعنى على تكرير القول فيه، وإعادة الفكر له، ولو احتمل مقدار هذه الرسالة استقصاؤه، واتسع حجمها للاستيفاء له، لاسترسلت فيه، ولأشرفت بك على معظمه (2) ".

ولكن الذي نريد أن نثبته هنا هو: أن المعاني اللطيفة، والدقائق التي تنشأ عن نظم الكلام، هي تلك التي أدركها القاضي الجرجاني بقلبه، ولم يستطع الإفصاح عنها، والتي أدركها تلميذه عبد القاهر بقلبه، وبحث عنها فوجدها وبين أسبابها.

ولم لا؟ ألم يورد القاضي الجرجاني من الأبيات التي استحسنها للبحتري هذه الأبيات:

بلونا ضرائب من قد نرى

فما إن رأينا لفتح ضريبا

هو المرء أبدت له الحادثات

عزماً وشيكاً ورأياً صليبا

تنقل في خلفي سؤدد

سماحاً مرجى وبأسا مهيبا

(1)

الوساطة صـ 413.

(2)

نفس المرجع.

ص: 72

ولكنه لم يعلق عليها مبيناً سبب استحسانه لها واستجادته إياها؛ فيأتي عبد القاهر الجرجاني فيبين ذلك السبب؟

فلا يرجعه إلى صور بيانية أو بديعية، أو غيرهما مما هو راجع إلى الصنعة الخارجية؛ وإنما يرجعه إلى المعاني الناشئة عن النظام فيقول:

"وإذ قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف. أو حكمة، أو أدب، أو استعارة، أو تجنيس، أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم وتأمله؛ فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت؛ فانظر إلى حركات الأريحية مم كانت؟ وعند ماذا ظهرت؟ فإنك ترى عياناً أن الذي قلت لك كما قلت: أعمد إلى قول البحتري":

بلونا ضرائب من قد نرى

فما إن رأينا لفتح ضريبا

ويتم الأبيات السابقة، ثم يقول:

"فإذا رأيتها قد راقتك، وكثرت عندك، ووجدت لها اعتزازاً في نفسك، فعد فانظر في السبب، واستقصر في النظر؛ فإنك تعلم ضرورة: أن ليس إلا أنه قدم وأخر، وعرف ونكر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرر، وأتى مأتى يوجب الفضيلة، أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها: قوله: (هو المرء أبدت له الحادثات) ثم قوله: (تنقل في خلقي سؤود) بتنكير السؤود، وإضافة الخلقين إليه، ثم قوله: (فكالسيف) وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ. لأن المعنى - لا محالة - فهو كالسيف، ثم تكرير الكاف في قوله: (وكالبحر) ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطاً جوابه فيه، ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله: (صارخاً) هنالك، و (مستثيباً) ههنا؟ "(1)

(1)

دلائل الإعجاز صـ 58، صـ 59.

ص: 73

وأن عبد القاهر قد عنى أستاذه القاضي الجرجاني بقوله: "وإذ قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره".

على أن عبد القاهر قد أخذ من أستاذه القاضي الجرجاني فصلاً من وساطته، وهو الذي سمى "مواقع الكلام"(1).

فحوره عبد القاهر ووضحه وجعل عنوانه "فصل في أن هذه المزايا في النظم بحسب المعاني والأغراض التي تؤم"(2).

فقد بين فيه أن مزية النظم ليست للفروق التي تحدث من حيث هي، وإنما تجب لها بحسب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض، وقد استشهد في ذلك بالصور الحسية كما استشهد القاضي الجرجاني، ثم بدأ يطبقه على الأسلوب شأنه في ذلك شأن أستاذه، وإليك قطعة من هذا الفصل تؤيد صحة ما ذهب إليه.

قال الإمام عبد القاهر: "وإذا عرفت أن مدار النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها، ثم اعلم أن ليست المزية واجبة لها في نفسها ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض، تفسير هذا: أنه ليس إذا راقك التنكير في (سؤدد) من قوله: (تنقل في خلقي سؤدد) وفي (دهر) من قوله: (فلو إذ نبا دهر) فإنه يجب أن يروقك أبداً وفي

(1)

الوساطة صـ 412.

(2)

دلائل الإعجاز صـ 60، صـ 63.

ص: 74

كل شيء، ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسم فاعله في قوله:(وأنكر صاحب) فإنه ينبغي ألا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك هاهنا، بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع، وبحسب المعنى الذي تريده، والغرض الذي تؤم وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصورة والنقش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي موقعها، ومقاديرها، وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها إلى ما لم يتهد إليه صاحبه فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم" (1).

فعبد القاهر الجرجاني يدرك الفروق والوجوه التي تنشأ عن توخي معاني النحو فيما بين بكلم، أي الناشئة عن النظم، والتي أدركها القاضي الجرجاني بطبعه ولم يستطع الإفصاح عنها، ولكنه يستدرك فيبين أن المزية ليست لتلك الفروق في أنفسها، ولكنها تعرض لها بحسب المعاني والأغراض التي يصاغ لها الكلام بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض.

وهذا ما يقصده القاضي الجرجاني بقوله: "ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها ولا يسير ما بينهما من نسب ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب"(2).

وبقوله: "فإن خلص إليهما فبأن يسهل بعض الوسائل إذنه ص 75، ويمهد عندهما حاله، فأما بنفسه، وجوهره، وموقعه، ومكانه فلا"(3).

(1)

دلائل الإعجاز صـ 60.

(2)

الوساطة صـ 413.

(3)

نفس المصدر.

ص: 75

وليست هذه المعاني إلا الأغراض التي يصاغ لها الأسلوب، والتي ذكرها في مقدمة وساطته فقال: "ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً، ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني، فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك، بل ترتب كلاً مرتبته، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف المديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه.

وليس ما رسمته لك في هذا الباب بمقصور على الشعر دون الكتابة، ولا بمختص بالنظم دون النثر، بل يجب أن يكون كتابك في الفتح أو الوعيد خلاف كتابك في التشوق والتهنئة واقتضاء المواصلة، وخطابك إذا حذرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنيت" (1).

وعبد القاهر يضرب مثالاً للأسلوبين يفرق بينهما جمال النظم بما يشاهد من الصور المرئية (2)، تماماً كما فعل القاضي الجرجاني، ثم يعقب ذكر الصورتين المرئيتين بذكر الشاعر والشاعر يفرق بينهما توخى معاني النحو، كما فعل القاضي الجرجاني، إذ أردف ذكر الصورتين المرئيتين بذكر منثور الكلام ومنظومه (3).

(1)

الوساطة ص 413.

(2)

الوساطة ص 6.

(3)

نفس المصدر.

ص: 76

وقد سبق أن عرفت أن عبد القاهر الجرجاني قد فسر نظرية النظم بما استشهد به القاضي الجرجاني، وجعله مثالاً لما استجاده للبحتري (1).

وإذا كان عبد القاهر الجرجاني قد فسر "النظم" بأنه توخي معاني النحو فيما بين الكلم، فإن القاضي الجرجاني قد كشف عن هذا المعنى، حيث أنه جعل فساد النظم نتيجة لعدم الجري على قوانين (2) النحو؛ وإذا كان فساد النظم والإخلال به نتيجة لعدم العمل بقوانين النحو، فإن حسن النظم وسلامته إنما هو في العمل بقوانين النحو وليس ذلك استنتاجنا نحن فحسب، ولكنه - أيضاً - استنتاج عبد القاهر الجرجاني نفسه، فقد استنبط ذلك من تصرف القاضي الجرجاني في كتابه "الوساطة".

فذكر أن العلماء - وإن كان يعني القاضي الجرجاني - قد كشفوا عن وجه النظم، فبعد أن بين إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم بقوله:"وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم وتفخيم قدره، والتنويه بذكره - وإجماعهم على أن لا فضل مع عدمه، ولا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ، ويتهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه ولا قوام إلا به وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال (3) "، وبعد أن بين أن النظم ليس إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها (4).

(1)

الوساطة ص 27 ودلائل الإعجاز ص 58، ص 59.

(2)

المعايير البلاغية والنقدية مخطوط للمؤلف بكلية اللغة العربية.

(3)

دلائل الإعجاز ص 54، 55.

(4)

دلائل الإعجاز ص 55.

ص: 77

ذكر الاستنتاج الذي أوضحناه آنفاً، فقال:"هذا هو السبيل فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه - إن كان صواباً - وخطؤه - إن كان خطأً - إلى النظم ويدخل تحت هذا الرسم إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، وعومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وتلك المزية، وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل وذلك الفساد، في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه (1) ".

ثم يقول: "ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه، حيث ذكروا فساد النظم، فليس يخالف في نحو قول الفرزدق:

وما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حي أبوه يقاربه

وقول المتنبي:

ولذا اسم أغطية العيون جفونها

من أنها عمل السيوف عوامل

وقوله:

الطيب أنت إذا أصابك طيبه

والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل

وقوله:

وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه

بأن تسعدا، والدمع أشفاه ساجمه

وقول أبي تمام:

ثانية في كبد السماء، ولم يكن

كاثنين ثان إذ هما في الغار

(1)

دلائل الإعجاز ص 56.

ص: 78

وقوله:

يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعاً

من راحتيك درى ما الصاب والعسل

وفي نظائر ذلك مما تواصفوه بفساد النظم، وعابوه من جهة سوء التأليف، أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب، وصنع في تقديم أو تأخير، أو حذف وإضمار، أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه، وما لا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم.

وإذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله، ألا يعمل بقوانين هذا الشأن، ثبت أن الحكم كذلك في مزيته، والفضيلة التي تعرض فيه، وإذا ثبت جميع ذلك، ثبت أن ليس هو شيئاً غير توخي معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم (1) ".

×××× ص 79 عبد القاهر الجرجاني يذكر أن العلماء - والقاضي الجرجاني منهم - قد كشفوا عن وجه ما أراده، حيث ذكروا فساد النظم وبينوا أسبابه، وهي تنحصر في عدم العمل بقوانين النحو، ويستشهد بما ذكروه في هذا الشأن. وستة الأبيات السابقة قد ذكرها القاضي الجرجاني في وساطته - عدا البيت الخامس - وجعلها في عداد ما عيب من أجل سوء النظم لعدم جريها على حسب قواعد النحو (2).

ثم يقول: "وإذ قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن وتشاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره مما يستحسن

(1)

دلائل الإعجاز ص 58.

(2)

فالبيت الأول ذكره الجرجاني في وساطته ص 419 والثاني والثالث ص 29، ص 89 والرابع ص 98 والسادس ص 79.

ص: 79

له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف، أو حكمة، أو أدب، أو استعارة، أو تجنيس، أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم، وتأمله فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت، واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحية مم كانت، وعند ماذا ظهرت فإنك ترى عياناً أن الذي قلت كما قلت.

اعمد إلى قول البحتري: ثم يورد ص 80 أبيات البحتري التي سبق أن ذكرتها وبينت أن القاضي الجرجاني قد استحسنها واستجادها ولكنه لم يبين لنا سبب تلك الاستجادة ولا سر ذلك الاستحسان وأن عبد القاهر الجرجاني قد تكفل بذلك (1).

ولهذا كله: فإننا نعتقد أن نظرية النظم التي جعلها عبد القاهر الجرجاني أساساً لعلم المعاني - كما سُمي من بعده - والتي فتح مغاليقها وبين أقسامها، وذكر شواهدها، كانت مستوحاة من كلام القاضي الجرجاني في كتاب "الوساطة" وأن عبد القاهر الجرجاني قد أخذ عن أستاذه القاضي الجرجاني أساس فكرة للنظم، ثم تكفل هو بتفسيرها، وتوضيحها وذكر شواهدها.

ولعل عبد القاهر الجرجاني - وهو النحوي البارع الذكي - قد قرأ - أيضاً - ما دار بين أبي سعيد السيرافي وبين أبي بشر: متى بن يونس - في مجلس أبي الفتح بن جعفر بن الفرات - في مناظرة حادة بينهما حول جدوى علم النحو، وفيها يقول أبو سعيد السيرافي:

وإذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يتوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة .. معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطأ في ذلك، وإن زاغ عن التعنت فإنه لا يخلو

(1)

دلائل الإعجاز ص 60 - 3.

ص: 80