الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم تأمل ثانية تجد أن هذه الأحكام قد تدرجت معهم في أحوالهم الثلاثة، وأن كل حكم منها قد ترتب على سابقه؛ فهم قد كلفوا في الدنيا فكفروا؛ ثم بعثوا ليحاسبوا على كفرهم فغللت أعناقهم، ثم ألقي بهم في النار ليخلدوا فيها عقاباً لهم على كفرهم.
(ب) تكرير المسند إليه:
قد يكون لدى الشاعر أو الأديب معان يحرص على إشاعتها في كلامه؛ فيكرر الألفاظ التي تحمل هذه المعاني لتنتشر في كلامه؛ ومن ذلك تكرير المسند إليه:
ويكثر هذا التكرير في أسماء الصواحب لما توحي به هذه الأسماء من معان جميلة، يحرص الشعراء والأدباء على إشاعتها في كلامهم؛ ولما يجدون نحوها من استعذاب لسماعها واستلطاف لترديدها.
يقول ابن رشيق: "ولا يجب للشاعر أن يكرر اسما إلا على جهة التشوق والاستعذاب؛ إذا كان في تغزل أو نسيب (1) ".
يقول مجنون ليلى:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا
…
ليلاي منكن أم ليلى من البشر؟ !
فكرر ذكر المسند إليه في الشطر الثاني من البيت وهو (ليلى) لقصد التلذذ بسماع اسم محبوبته.
ومنه قول قيس بن ذريح:
(1))) العمدة لابن رشيق حـ 2 صـ 74 (ط بيروت)
ألا ليت لبنى لم تكن لي خلة
…
ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هيا
فقد كرر ذكر المسند إليه في الشطر الثاني من البيت وهو (لبنى) تلذذا بسماعه.
ومنه قول امرئ القيس:
ديار لسلمى عافيات بذي الخال
…
ألح عليها كل أسحم هطال
وتحسب سلمى لا تزال كعهدة
…
بوادي الخزامى أو على رأس أو عال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا
…
من الوحش أو بيضاً بميثاء محلال
ليالي سلمى، إذ تريك منضداً
…
وحيداً كجيد الريم ليس بمعطال
والشاهد هنا قوله: (وتحسب سلمى) إذ كرر المسند إليه وهو: "سلمى" تلذذاً بسماع اسمها.
ومن ذكر أسماء الصواحب للتلذذ بسماعها. قول أمير الشعراء أحمد شوقي - على لسان المجنون (1): -
ليلى نداء لليلي رن في أذني
…
فداء ليلى الليالي الخرد الغيد!
ليلى اسمعي البيد هل مادت بأهلها
…
وهل ترنم في المزمار داوود؟ !
ليلى تردد في سمعي وفي خلدي
…
كما تردد في الأيك الأغاريد
(1))) مسرحية مجنون ليلى لأمير الشعراء
إذا سمعت اسم ليلى ثبت من خبلي
…
وثاب ما صرعت مني العناقيد
ليلى! لعلي مجنون يخيل لي
…
لا الأهل نادوا على ليلى ولا نودوا
وكما يكثر أسماء الصواحب تلذذا بسماعها، كذلك يكثر أسماء أماكن اللهو والمرح والمتعة أيام الشباب، لما توحي به هذه الأماكن من ذكريات جميلة يعيش الشاعر على تذكارها، واسترجاع ما كان فيها من لهو ومتعة، ووصال للأحباء: استمع إلى قول مالك بن الريب - وقد شعر بدنو أجله وهو في خراسان:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت للغضا لم يقطع الركب عرضه
…
وليت الغضا ماشي الركاب لياليا؟ !
لقد كان في أهل الغضا لودنا الغضا
…
مزارا، ولكن الغضا ليس دانيا!
والغضا: شجر في ديار أهله، وأهل الغضا: أهل نجد لكثرته هنالك (1)، والشاعر يقصد مكان الغضا، كما قصده البحتري في قوله:
فسقا الغضا والساكنيه وإن هم
…
شبوه بين جوانحي وضلوعي
والشاهد في الأبيات قوله: (وليت الغضا) وقوله: (لودنا الغضا) وقوله: (ولكن الغضا ليس دانيا).
(1))) لسان العرب مادة (غضا)
فقد كرر الشاعر المسند إليه - وهو الغضا - في تلك التراكيب الثلاثة؛ لما يوحي به هذا الاسم من ذكريات عزيزة كانت له في هذا المكان أيام لهوه وشبابه.
وكذلك يكثر تكرير الأسماء إذا جاءت على سبيل المدح، أو على سبيل القدح: وذلك ليتسنى للشاعر أن يسند إليها ما شاء من صفات المدح إذا كان مادحا، أو صفات الذم إذا كان هاجيا.
فمن تكرير المسند إليه لإشاعة صفات المدح قول الخنساء، تعدد محاسن أخيها صخر:
وإن صخرا لمولانا وسيدنا
…
وإن صخرا - إذا نشتو - لنحار
وإن صخرا لتأتم الهداة به
…
كأنه على في رأسه نار
فقد كررت الشاعرة اسم (صخر) وو مسند إليه؛ لكي تشيع في كلامها معاني العظمة والشرف والمهابة، لأنها تعدد محاسنه ومآثره ومناقبه بعد موته.
يقول ابن رشيق: "وأولى ما تكرر فيه الكلام باب الرثاء؛ لمكان الفجيعة، ونشوة الفرحة التي يجدها المتفجع (1) ".
ومما تكرر فيه اسم الممدوح لإشاعة معناه - من غيرها باب المسند إليه - قوله أبي الأسد:
ولائمة لامتك يا فيض في الندى
…
فقلت لها: هل يقدح اللوم في البحر؟
أرادت لتثني الفيض عن هادة الندى
…
ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر؟ !
(1))) العمدة جـ 2 صـ 76
كأن وفود الفيض يوم تحملوا
…
إلى الفيض لاقوا عنده ليلة القدر
مواقع جود الفيض في كل بلدة
…
مواقع ماء المزن في البلد القفر
ومن تكرير الأسماء إذا جاءت على سبيل الهجاء: قول جرير في سدوس:
أخلاي الكرام سوى سدوس
…
ومالي في سدوس من خليل
إذا أنزلت رحلك في سدوس
…
فقد أنزلت منزلة الذليل
وقد علمت سدوس أن فيها
…
منار اللؤم واضحة السبيل
فما أعطت سدوس من كثير
…
ولا حامت سدوس عن قليل
فالشاعر يهجو قبيلة (سدوس) فينفي الكرم عن أفرادها جميعا، فهو لم يخالل واحدا منهم، لأن أخلاءه كرام، وهم ليسوا بهذه المثابة، ثم يلتفت إلى المخاطب وإلى كل من يسمع شعره هذا قائلا: إذا ما اضطررت إلى النزول بهذه القبيلة فإنك تكون قد نزلت منزلة الذلة والمهانة، لأن أهلها قد جبلوا ذلك، وهم جميعاً يعلمون هذا فلا هم أعطوا عن كثرة، فهم بخلاء، ولا هم دافعوا عن القليل، فهم جبناء.
وأنت تشعر معي بأن الشاعر قد حرص على تكرير اسم قبيلة (سدوس) هذا، لكي يمرغ هذه القبيلة في أوحال هجائه، وهو يشعر في قرارة نفسه بمهانة هذه القبيلة وذلتها وكأن اسمها أصبح - في نظره - مبعث الحقارة، ومنبع المهانة.
والشاهد في هذه الأبيات قوله. (فما أعطت سدوس) وقوله: (ولا حامت سدوس) حيث كرر المسند إليه في الأبيات لهجائه.