الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 1 -
(ب) مراحل البحث البلاغي:
اشتهر العرب - في جاهليتهم - بفصاحة اللسان وبلاغة القول، وجمال التعبير؛ كما اشتهروا بالإيجاز والاختصار في أقوالهم. والبعد عن فضول الكلام في أحاديثهم، حتى يكون كلامهم مؤدياً للغرض المقصود من أقرب طريق.
وقد بلغوا في إتقان أقوالهم، وتهذيب كلامهم. وتنسيق عباراتهم، مبلغاً جعل الجاحظ يدعي للعرب الفضل على الأمم (1) قاطبة في الخطابة والبلاغة، فقد كان فيهم (2) الخطباء المصانع، والشعراء المتلقون.
وقد وصفوا كلامهم في أشعارهم فجعلوها كبرود العصب، وكالحلل والمعاطف، والديباج والوشى وأشباه (3) ذلك ووصف الجاحظ كلامهم يكرم الديباجة. وعجيب الرونق، وجودة السبك والنحت، مما لا يستطيع أشعر الناس - على حد تعبيره - ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثله إلا في اليسير النادر (4).
وهذا خالد بن صفوان يقول عنهم: كيف نجاريهم، وإنما نحكيهم، أم كيف نسابقهم وإنما نجري على ما سبق إلينا من أعراقهم (5)؟
(1) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 117.
(2)
المصدر السابق ص 22.
(3)
البيان والتبيين ج 2 ص 90 (الطبعة الأولى بالمطبعة العلمية سنة 1211 هـ).
(4)
ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 118.
(5)
نفس المصدر.
وقد وصفهم الله تعالى بالجدل، واللدد في الخصومة؛ فقال - جل وعلا -: "ما ضربوه لك إلا جدلاً؛ بل هم قوم خصمون (1)، وقال - سبحانه -:{وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} (2).
فإذا ما علمنا بأن البيان كان عند الجاهلين متى إمارات السيادة وشروطها، ودليلاً على اكتمال النباهة وأماراتها، علمنا بأنهم كانوا قد أوتوا حظاً من الإفصاح وقوة الإبانة لم تؤته أمة من الأمم.
فقد ذكر الجاحظ في كتاب "شرائع المروءة" أن العرب كانت تسود على أشياء .. وكان أهل المدينة لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء، والنجدة، والصبر، والحلم، والتواضع، والبيان، وصار في الإسلام سبعاً (3).
ولعل السر في تفوق الجاهليين على غيرهم في الفصاحة والبلاغة: أنهم كانوا أميين؟ لا يقرأون ولا يكتبون، ولم يكن لهم من وسيلة تحفظ أيامهم ووقائعهم، وأخلاقهم ومكارمهم وأحسابهم، وأنسابهم إلا الذاكرة التي تعتمد اللسان أساساً في نشرها وإذاعتها، وإظهار ما خفي منها.
ولهذا فإنهم قد اجتهدوا في أن تكون كلماتهم معبرة أصدق تعبير، وأوضحه، وأجعله، عما نجيش به نفوسهم، وما تعتمل به صدورهم، وما تختزنه ذاكرتهم.
فقد كان اللسان - إذن - أداتهم الوحيدة في نقل أفكارهم وأخبارهم. والتعبير عن أمالهم وآلامهم، والتغني بما تعتمل به صدورهم من شوق وحنين إلى مرابعهم التي كانوا غالباً ما يرحلون عنها طلباً للماء والمرعى. إذا ما أجدبت، وخلت من متطلبات الحياة.
(1) الزخرف: 580.
(2)
مريم: 97.
(3)
خزانة الأدب للبغدادي ج 3 ص 95.
ولهذا - أيضاً - كنوا باللسان عن اللغة؛ فقال أعشى بأهلة:
إني أتتني لسان لا أسر بها
…
من علو لا عجب منها ولا سخر
قال ابن بري: اللسان هنا: الرسالة والمقالة؛ ومثله قول الآخر:
أتتني لسان بني عامر
…
أحاديثها بعد قول نكر
ومنه قول الله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (1).
ولهذا قالوا: رجل لسن، بين اللسن إذا كان ذا بيان وفصاحة، وقد سمى الله تعالى القرآن لساناً؛ فقال عز من قائل:{وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً} (2).
على أنهم وإن كانوا يحبون البيان والطلاقة والتحبير والبلاغة والتخلص والرشاقة - كما يقول الجاحظ - فإنهم كانوا يكرهون السلاطة والهذر والتكلف والإسهاب والإكثار؛ لما في ذلك من التزيد والمباهاة وإتباع الهوى والمنافسة في العلو والقدر كما كانوا يكرهون الفضول في البلاغة؛ لأن ذلك يدعو إلى السلاطة، والسلاطة تدعو إلى البذاء (3).
أما نقدهم فقد نظروا فيه إلى انسجام الوزن؛ كما صنع أهل يثرب مع النابغة الذبياني؛ فقد أقوى في قوله:
أمن آل مية رائح أو مغتد
…
عجلان ذا زاد وغير مزود
زعم البوارح أن رحلتنا غداً
…
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
فلما قدم المدينة عابوا عليه ذلك، ولكنه لم يأبه لقولهم؛ حتى
(1) الروم: 22.
(2)
لسان العرب مادة (ل س ن).
(3)
البيان والتبيين ج 2 ص 79.
أسمعوه إياه في غناء؛ وأهل القرى ألطف نظراً من أهل البدو، فقالوا للجارية: إذا صرت إلى القافية فرتلي، فلما قالت:"الغراب الأسود" بالضم مع أن القافية مكسورة، علم فانتبه، فلم يعد فيه، وقال: قدمت الحجاز وفي شعري ضعة، ورحلت عنها وأنا أشعر الناس (1).
كما أنهم نظروا إلى المعنى وصوابه، كالذي تجده في قصة طرفة مع المسيب بن علس، فقد مر المسيب بمجلس بني قيس بن ثعلبة فاستنشدوه فأنشدهم، فلما بلغ قوله:
وقد أتناسى الهم عند إدكاره
…
بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال طرفة: "أستنوق الجمل".
وأساس نقد طرفة للمسيب: أنه وصف الجمل بما توصف به الناقة؛ إذا أنهم قالو للناقة: ناجية ولم يقولوا للبعير: ناج (2).
ونظروا إلى المقام وما يقتضيه من كلام، كالذي رووه من أن النابغة الذبياني كان حكم العرب في الجاهلية وكانوا يضربون له قبه من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فيقول فيه كلمته فتسير في الناس، ولا يستطيع أحد أن ينقضها؛ قالوا: وقد جلس النابغة للفصل مرة وتقاطر عليه الشعراء ينشدون بين يديه آخر ما أحدثوه من الشعر، أو أجود ما أحدثوه. وكان فيمن أنشده: أبو بصير ميمون أعشى بني قيس، فما إن سمع قصيدته حتى قضى له، ثم جاء من بعده شعراء كثيرون فيهم حسان بن ثابت الأنصاري، فأنشدوه، وجاءت في أخريات القوم: تماضر بنت عمرو بن الشريد، الخنساء، فأنشدته رائيتها التي ترثى فيها أخاها صخراً، والتي تقول فيها:
(1) الموشح للمرزباني ص 38.
(2)
القاموس المحيط ج 4 ص 157.
وإن صخراً لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
فيروقه هذا الكلام ويأخذ بمجامعه، فيقول للخنساء لولا أن أبا بصير أنشدني آنفاً لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، ويسمع حسان ذلك فتأخذه الغيرة ويذهب الغضب بتجلده، فيقول للنابغة:"أنا - والله - أشعر منها، ومنك، ومن أبيك: فيقبل عليه أبو إمامة، فيسأله: "حيث تقول ماذا؟ فيقول: حيث أقول:
لنا الجفنات الغر، يلمعن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
…
فأكرم بنا خالا، وأكرم بنا ابنما
فيقبل عليه النابغة، فيقول له:"إنك شاعر، ولكنك أقللت حنانك، وسيوفك، وقلت يلمعن بالضحى، ولو قلت: "يبرقن بالدجى" لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف في الليل أكثر، وقلت: "يقطرن من نجدة دماً" ولو قلت: "يجرين" لكان أكثر لأنصاب الدم.
كما أنهم قد رووا - أن النابغة قدم المدينة فدخل السوق، فنزل عن راحلته، ثم جثا على ركبته، ثم اعتمد على عصاه، ثم قال: ألا رجل ينشد؟ فتقدم إليه قيس بن الخطيم فجلس بين يديه وأنشده:
أتعرف رسماً كاطراد المذهب؟
فلم يزد على نصف بيت حتى قال له: أنت أشعر الناس يا ابن أخي!
هكذا حدثنا الرواة، وليس يعنينا أن تصدق هذه الروايات أو تكذب، لأن لها على أية حال دلالة صادقة على ما نريد أن نقوله هنا، وهو أن للعلماء الذين رووا شعر الجاهليين، كانوا يعرفون للعرب في جاهليتهم بصراً
بالنقد، وعلماً بما تقتضيه أحوال الكلام، من القصد في القول أحياناً، والمبالغة فيه أحياناً أخرى، وكان لهم مع ذلك خبرة بما يحسن أن يستعمل من الكلام في مواطن كالفخر دون غيره، وبما يجمل بالمتكلم أن يهجره ولا يعمد إليه (1).
على أن الجاهليين في نقدهم لم يكتفوا بالنظر إلى صحة الوزن وانسجامه، وإلى المعنى وصوابه فحسب، وإنما تعدت نظرتهم إلى القصيدة بتمامها، كما يتضح لك هذا من اختيارهم للمعلقات، وإلى نتاج الشاعر جميعه، كما يتضح لك من نبذهم عدى بن ربيعة بالمهلهل لما رأوا في شعره من اختلاف واضطراب (2)، وكما يتضح لك من تلقييهم شعراءهم بألقاب تدل على مدى إحسانهم في رأيهم، كالمرقش، والمثقب، والمنخل، والمتنخل، والأفوة، والنابغة (3).
ومن هذه الروايات وأمثالها مما لم يتسع المجال لذكره، نجد أن العرب في جاهليتهم كان لهم بصر بنقد الأساليب، ومعرفة بما يجدر أن يكون عليه الكلام من مطابقة لمقتضى الحال، وملاءمة الألفاظ والمعاني، وعناية بتصوير المعاني صوراً رائعة أخاذة، واهتمام بما يجب أن يبدو فيه الأسلوب من خلال الجمال اللفظي والمعنوي.
على أننا نقرأ في تاريخ الأدب العربي أن زهيراً صاحب الحوليات، وهي القصائد التي كانت ينظمها وبعيد النظر فيها حولاً كاملاً حتى يستقيم بناؤها، ويصح نظمها، ويصبح خالياً من التعقيد، بعيداً من كل ما قد يكون مظنة القدح أو النقد.
(1) تهذيب السعد ج 1 ص 6.
(2)
محاضرات في تاريخ البلاغة العربية للدكتور/ محمد عبد الرحمن الكودي ص 9.
(3)
البلاغة تطور وتاريخ د/ شوقي صيف ص 10.
ومدرسة زهير كان أصحابها رواة، يتخرج فيها بعضهم على بعض، فالتلميذ يلزم أستاذاً له، يأخذ برواية شعره ومعرفة طريقته، وما يزال به حتى تتفتح مواهبه، ويسيل الشعر على لسانه، وحينئذ ورد عليه بعض ملاحظاته على ما ينظم، وقد يصلح له بعض نظمه (1).
فهل نقول بعد ذلك: إن معرفتهم بأحوال الكلام، وبصرهم بالنقد كان ص 22 وطبعاً؟ لا .. إن مدرسة زهير وهي التي كانت تعتني بالقصيدة حولاً كاملاً، تنقية وتثقيفاً وتهذيباً لهي خير شاهد على أن الأمر لم يكن متروكاً الطبع "وليس أدل على ذلك من أن العرب في جميع عصورهم لم يعنوا بشيء قط عنايتهم بفصاحة اللفظ وجزالته، ورقيق الأسلوب ورصانته، وقد جعلوا الإعراب واصطفاء اللفظ، والملاءمة بين الكلمة والكلمة في الجرس الذي ييسر على اللسان نطقه ويزين في الأذن وقعه أساساً لكل هذه
الخصال (2) ".
يقول ابن خلدون: "يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن ص 22 أن الصواب للعرب في لغتهم إعراباً وبلاغة أمر طبيعي ويقول: كانت للعرب تنطق بالطبع، وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع وهذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه .. فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التراكيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم
…
واستعير لهذه الملكة عندما ترسخ وتستقر اسم الذوق (3) ".
(1) البلاغة تطور وتاريخ د/ شوقي ضيف ص 23.
(2)
ألوان د/ طه حسين ص 14 دار المعارف ط 4.
(3)
مقدمة ابن خلدون ص 562، ص 563.
ولسنا بحاجة إلى إقامة دليل على أن العرب كانوا يعرفون الفن البياني الذي عرفه المتأخرون بأنه علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه، قائلين إن قول زهير:
ما أرانا نقول إلا معاراً
…
أو معاداً من قولنا مكروراً
دليل على أن العرب في الجاهلية قد عرفوا الفن البياني، وأن قول زهير يتفق وتعريف المتأخرين لعلم البيان، لأنه لا يتجاوز إعادة المعنى المعروف بألفاظ مختلفة!
ذلك لأن العرب قد عرفوا الفن البياني مراناً وممارسة بعد أن عرفوه ملكة وذوقاً، لأن ملكة البيان عندهم إنما جاءت بالممارسة، فلما رسخت هذه الملكة فيهم واستقرت سميت ذوقاً (1) - كما يقول ابن خلدون.
(2)
وانبثق فجر الإسلام، وطلعت شمس النبوة، وأشرقت الأرض بنور ربها، وتوالى نزول آيات القرآن، بلسان عربي مبين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم فيتلوها على أصحابه، ويتلوها أصحابه على أسماع المسلمين فيحفظونها وتتردد على أسماعهم آناء الليل، وأطراف النهار.
وانبهر العرب ببلاغة القرآن الكريم، وعجزوا عن مجاراتها، وسلموا بعجزهم عن أن يجيئوا بمثل أقصر سورة من سور القرآن، وصار المعاندون ممن كفروا به وأنكروه، يقولون مرة: إنه شعر، ومرة أخرى: إنه سحر! وقد كانوا يجدون له وقعاً في القلوب، وقرعاً في النفوس، يريبهم ويحيرهم. فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعاً من الاعتراف، ولهذا قال قائلهم: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة (2).
(1) نفس المصدر.
(2)
ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 28.
سمع المسلمون القرآن، وقرأوه وحفظوه؛ فتمثلوا فيه جلائل المعاني، ونفائس الأفكار، وذخائر الألفاظ وروائع النظم، فعرفوا أن بلاغة القرآن الكريم فوق مقدور البشر، وهان أمر بلاغتهم أمام بلاغته، وضعف أمر فصاحتهم أما فصاحته؛ وصدق قول الله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (1).
فأقبل المسلمون على القرآن الكريم، يتزودون من معينه الذي لا ينضب، ويرتشفون من رحيقه العذب، ويرتوون من مائه السلسبيل، حتى رق إحساسهم، وأرهفت مشاعرهم، وسلمت أذواقهم، وعرفوا من خواص التراكيب ما لم يكونوا يعرفون، وشهدوا من مظاهر النظم وخصائصه ما لم يكونوا يشهدون!
وكانت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي أعطى جوامع الكلم ولا ينطق عن الهوى - تتردد على الأسماع؛ يحرص المسلمون على سماعها حرصهم على سماع آيات القرآن الكريم، ويتناقلونها فيما بينهم في شغف ولهفة وشوق وقد وصف الجاحظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم فقال، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغشاه بالقبول وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أقصد لفظاً ولا أعدل وزناً ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى من كلامه صلى الله عليه وسلم (2).
(1) الإسراء: 17.
(2)
البيان والتبيين ج 2 ص 12.
وقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يتعجبون لفصاحة النبي صلى الله عليه وسلم ويرون أنه أفصح العرب، فابن الأعرابي يحدثنا بأن رسول الله كان جالساً مع الصحابة، فسألوه عن سحابة فأجابهم، فقالوا: يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أفصح منك! فقال. وما يمنعني؟ وإنما أنزل القرآن بلساني، بلسان عربي مبين (1).
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ فقال: في اللسان؛ يريد: البيان (2).
ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعني أن أشد العناية بتخير لفظه، وانتقاء كلماته المعبرة: ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي كراهة أن يضيف المسلم الخبث إلى نفسه (3).
والخلفاء الراشدون - رضوان الله عليهم - كانوا خطباء مفوهين، وكانوا يتخيرون ألفاظهم في أحاديثهم، لتكون معبرة أصدق تعبير عما في نفوسهم، مهتدين في ذلك بهدى القرآن الكريم وحديث رسوله الكريم ومما يدل على إرهاف حسهم، ودقة شعورهم: هذه الرواية الشهيرة عن أبى بكر رضي الله عنه وهي: أنه عرض لرجل معه ثوب فقال له: أنبيع الثوب؟ فأجابه: لا، عافاك الله، فتأذى أبو بكر مما يوهمه ظاهر اللفظ، إذ قد يظن أن النفي موجه إلى الدعاء، عليه بدلاً من الدعاء له فقال له: "لقد علمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا وعافاك الله (4).
(1) مجالس ثعلب ص 454.
(2)
الحيوان جـ 1 ص 335.
(3)
الحيوان (طبعة الحلبي) جـ 1 ص 335.
(4)
البيان والتبيين جـ 1 ص 261.
وربما كان شيوع هذه الرواية وتردادها على ألسنة البلاغيين هو الذي حدا بهم إلى أن يفتحوا في البلاغة باباً خاصاً هو: باب "الفصل والوصل"(1).
وكان عمر رضي الله عنه فصيحاً بليغاً، فقد ضرب الرواة مثلاً لفصاحته وبلاغته؛ بأنه كان يستطيع أن يخرج الضاد من أي شدقيه شاء (2).
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن يجاريه أحد في مضمار الفصاحة والبلاغة، وخير ما يثبت هذا: كتاب "نهج البلاغة" المنسوب إليه، وقد عرف هو البلاغة، فقال:"البلاغة: إيضاح الملتبسات بأسهل ما يكون من العبارات"(3).
وإلى جانب كلام الله تعالى، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب الخلفاء الراشدين وملاحظاتهم في نقد الكلام وبلاغته، فإن أموراً جدت بالإسلام، دعت إلى الاهتمام بصياغة القول، ونظم التراكيب، وتصوير المعاني صوراً رائعة جذابة.
ومن هذه الأمور التي جدت: الصراع حول العقيدة بين المسلمين والمشركين، وانطلاق الشعراء من المشركين في هجاء الإسلام والمسلمين، وانطلاق الشعراء من المسلمين في الرد عليهم بهجاء الشرك والمشركين.
وقد كان يمثل شعراء المشركين: عبد الله بن الزبعري، كما كان يمثل شعراء المسلمين: حسان بن ثابت الأنصاري.
(1)
…
فن البلاغة د. عبد القادر حسين صـ 18.
(2)
…
البيان والتبيين جـ 1 صـ 62.
(3)
…
البيان والتبيين جـ 1 صـ 14.
ومنها: التنافس الذي قام بين الأنصار والمهاجرين على الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان كل منهما يحاول أن يؤيد رأيه بما يراه من حجج، خطباً كانت أو محاورة. أو جدلاً، مستعيناً في ذلك كله باختيار اللفظ. وإحكام الصياغة، والتأنق في العبارة. حتى تتحقق له فصاحة القول، وبلاغة التعبير للتأثير في نفوس سامعيه.
ومنها: الخلاف الذي نشب بين علي ومعاوية، ذلك الخلاف الذي أدى إلى انقسام المسلمين في ذلك الوقت إلى أحزاب ثلاثة:
حزب يؤيد علياً، ويرى أنه أحق بالخلافة من معاوية، وهو حزب الشيعة وحزب يؤيد معاوية، ويرى أنه أحق بالخلافة من علي، وهو حزب بني أمية. وحزب "ثالث" لا ينضم إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، فهو يرى أن الخلافة ليست من حق علي، وأنها ليست من حق معاوية كذلك، وإنما هي لمن يصلح لتوليها من عامة المسلمين، وهو حزب الخوارج:
واحتاج كل حزب من هذه الأحزاب الثلاثة للدفاع عما يدعو إليه من رأي، إلى بلاغة الخطباء والشعراء وفصاحتهم إلى جانب ما يحتكم إليه في ساحة القتال من حسام.
فلما كان عصر بني أمية كثرت الملاحظات البلاغية والبيانية لعوامل مختلفة:
منها: ازدهار الخطابة في هذا العصر نتيجة لأمور سياسية، ودينية، واجتماعية، لقد تنوعت الخطابة إلى: سياسية، ودينية، وحفلية.
فكان من خطباء السياسة: زياد والحجاج، وكان من خطباء الشيعة: زيد بن الحسين بن علي، وكان لسناً جدلاً يجذب الناس بحلاوة لسانه، وسهولة منطقه وعذوبة كلامه. وكان من خطباء المحافل: سحبان وائل،
الذي خطب خطبة بين يدي معاوية سميت لحسنها باسم الشوهاء، وكان من خطباء الوعظ: غيلان الدمشقي، والحسن البصري، وواصل بن عطاء.
وقد كان خطباء الوعظ يتحلقهم تلاميذهم، ويدربونهم على حسن الإلقاء وقرع الدليل بالدليل. ودمغ الحجة بالحجة.
ومنها: أن العرب قد تحضروا، واستقروا في المدن والأمصار، وأخذوا يتجادلون في أمورهم السياسية والعقيدية.
ومنها: قيام الأسواق الأدبية على غرار سوق عكاظ في الجاهلية، فكانت سوق المربد بالبصرة، وسوق الكناسة بالكوفة يأتي إليهما الشعراء من الحضر والبوادي، فيسمعون الناس أحدث ما نظموه من شعر.
وظهر فيهما جرير والفرزدق مرتقيين بفن الهجاء، ليصبح دراسة لحقيقة الشاعرين وحقيقة قبيلتيهما، وحقيقة قيس وتميم والناس من حولهم يهتفون كلما مر بهم بيت نافذ الطعنة.
واتسع نطاق الملاحظات البلاغية في أوائل العصر العباسي نتيجة لتطور الشعر والنثر، مع تطور الحياة العقلية والحضارية والثقافية ولظهور طائفتين من المعلمين: طائفة عنيت بتعليم اللغة والشعر، وطائفة عنيت بتعليم الخطابة والمناظرة، وطائفة ثالثة هي طائفة المتكلمين الذين عنوا بمسائل البلاغة والبيان، لأنها كانت عوناً لها على ما تقوم به من الخطابة والمناظرة في مساجد البصرة والكوفة.
ولهذا كثر الحديث عن قوة الحجة، ووضوح العبارة، ودقتها، وعن جهارة الصوت، وملامح المتكلم، وملاءمته بين كلامه والمستمعين.
وتجرد الجاحظ - وهو من أئمة المعتزلة - لدراسة البيان والبلاغة، وأتحف اللغة العربية بكتابه:"البيان والتبيين".
وقد جمع فيه ملاحظات السابقين من العلماء في البلاغة، مضيفاً إليها ملاحظات غير العرب، وكثيراً من ملاحظات معاصريه.
وتحتدم المعركة النقدية بين المحافظين والمجددين في الشعر، فينتج عن هذه الخصومة نشاط بلاغي خصب يؤدي إلى وضع كتاب "البديع" لعبد الله بن المعتز الذي دافع به عن المحافظين، ورد هجمات المتفلسفة الذين يجرون وراء مقاييس البلاغة اليونانية.
ويتجرد قدامة بن جعفر، ويصنف كتابه "نقد الشعر" تحدياً لابن المعتز وغيره ممن يتبعون أثره في الرد على المتفلسفة.
ويكثر المتكلمون من مباحثهم حول إعجاز القرآن الكريم، من حيث بلاغته وبيانه، فتكتمل بذلك أولى مراحل البحث في البلاغة، وهي مرحلة: النشأة والنمو.
(3)
ويأتي القرن الرابع الهجري، وتكون البلاغة العربية قد نمت نمواً جعل النقاد من الأدباء يأخذون في تطبيقها على النصوص الأدبية، ويأخذ النقد الأدبي دوره من خلال البلاغة العربية الأصيلة، فتؤتي ثمارها، وتطبق تطبيقاً عملياً في كل من "عيار الشعر"، لابن طباطبا المتوفى سنة 322 هـ و"الموازنة بين أبي تمام والبحتري" للآمدي، المتوفى سنة 371 هـ و"الوساطة بين المتنبي وخصومه" لعلي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى سنة 392 هـ.
ولكن فريقاً آخر من الأدباء والشعراء يتجردون للبحث في البلاغة، مهيئين بذلك لانفصال البلاغة عن النقد الأدبي، ويتجهون بها وجهة علمية بحتة. وإن كانوا قد اتفقوا على الإكثار من التمثيل بتراث هائل من الشعر العربي الجاهلي والإسلامي، ومن الأحاديث النبوية الشريفة،
ومن كلام الفصحاء، وخطبهم وأمثالهم وحكمهم، إلى جانب ما أوردوه من آيات القرآن الكريم، فنجد "سر الصناعتين" لأبي هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ.
و"العمدة في صناعة الشعر ونقده" لابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 463 هـ.
و"سر الفصاحة" لابن سنان الخفاجي المتوفى سنة 466 هـ.
ولأن البحث البلاغي في هذه المرحلة الخصبة الغنية بتحليل النصوص الأدبية ونقدها قد تناوله الأدباء والشعراء من النقاد، فإن هذه المرحلة جديرة بأن تسمى "مرحلة البحث البلاغي في ظلال الأدب".
بيد أن هذه المرحلة من مراحل البحث في البلاغة، لم تصل إلى الدرجة التي يمكن أن يقال عنها إنها قد وفت النص الأدبي حقه، ذلك لأن البلاغة فيها قد طبقت في حدود ما توصل إليه البلاغيون آنئذ، ولم تكن البلاغة العربية قد اكتمل نظامها بعد، بل لم تكن قد تعمقت في الغوص إلى معاني النص الأدبي، واستخراج دررها الغالية من بحارها العميقة.
(4)
وهنا يأتي عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ بعقليته النادرة، وبصيرته الواعية، وأسلوبه الرشيق، فيتحف البلاغة العربية بكتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، متعمقاً في فهم فكرة النظم التي تلقفها من سابقيه، ويجعلها نظرية يدير عليها علم البلاغة الذي يقوم على المعاني المستوحاة من نظم الكلام وعلى الصورة المعبرة عما في نفس المتكلم، والموضحة لما يقصد إليه من أغراض، متضمناً قيماً جمالية نابعة
من جمال المعاني قبل أن تكون زينة للألفاظ، فيقيم بهذا صرح البلاغة العربية على أسس متينة.
ويتلوه جار الله الزمخشري، فيطبق آراءه تطبيقاً عملياً - في كشافه ص 31 - على آيات القرآن الكريم، مضيفاً إليها ما عن له من خواطر وإضافات.
ولأن هذه الرحلة قد وضعت فيها أسس البلاغة النهائية، واكتمل فيها بنيان البحث البلاغي فإنها تعد بحق:"مرحلة ازدهار البحث البلاغي".
(5)
ولكن البلاغة العربية - بعد هذين الإمامين - قد بدأت تنحدر من حالق انحداراً أخذ في الازدياد شيئاً فشيئاً حتى ارتطمت بمنطق السكاكي المتوفى سنة 626 وفلسفته، وظلت حبيستهما قروناً طويلة، وأجيالاً عديدة.
ومُني الشعر العربي منذ المائة السابعة حتى العصر الحديث بطائفة من الشعراء كل عتادها ألوان من البديع محفوظة، فإذا ما قالوا شعراً سلكوا به مسالك التكلف والتصنع، ووجهوا عنايتهم إلى رص ألوان البديع فيما عرف باسم البديعيات، وهي في حقيقتها عبث ظاهر أضعف من متانة الشعر وهد من قوته، وأورده موارد التكلف الثقيل.
ثم هي من ناحية أخرى قد شعبت ألوان البديع وفرعته حتى ظن بعضهم أنها لا تحصى عدداً، كما أنها قد خلطت الغث بالثمين، فعدت في البديع ما هو جدير بأن يكون مقبحاً لا محسناً! .
ولأن هذه المرحلة المظلمة من مراحل البحث البلاغي قد وقعت بين منطق العلماء وفلسفتهم من جهة، وبين صنعة الشعراء وتكلفهم من جهة أخرى فإنها "مرحلة البحث البلاغي بين المنطق والتكلف".
وبعد نقد وصل البحث البلاغي إلى ما وصل إليه - كما رأيت - على يد المناطقة والمتفلسفة، وعلى يدي المتكلفين والمتعلمين ص 32 من الشعراء، وظل الحال على ما هو عليه، من الدوران في فلك القوالب المنطقية التي وضعتها المدرسة السكاكية، ومن إيراد الشواهد المكررة المعادة إلى العصر الحديث حتى نادى بعض أعداء العربية بالانصراف عن البلاغة العربية.
ولهذا فإن بعض الغيورين على اللغة العربية وعى تراثها البلاغي الخالد قد قصدوا للدفاع عن البلاغة العربية، منادين بإصلاح حالها، وذلك بإعادة دراستها من جديد، وفتح باب الاجتهاد في البحث البلاغي الذي أوصدته المدرسة السكاكية، والاستفادة من التراث البلاغي الأصيل، مضيفين إليه ما يمكن أن يلائم مقتضيات العصر وتقدم الحضارة.
فكان من هذه الأبحاث:
1 -
"دفاع عن البلاغة" للأستاذ أحمد حسن الزيات: وهو ذو شخصية ممتازة من بين كتاب العربية في العصر الحديث وصاحب أسلوب رائع بين الأساليب العربية، وقد أرجع ما تعانيه البلاغة العربية في هذا العصر إلى بلايا ثلاث (1):
الأولى: السرعة فقد جنت الآلة على الناس، وكانت جنايتها على الفكر بعامة: أن استحال تقدير القيم التي يحتاج وزنها إلى الروية والتأمل، فظهر الخبيث في صورة الطيب، ودخل الرديء في حكم الجيد، وكانت جنايتها على البلاغة: أنها أصابت الأذهان، فلم تعد تملك الإحاطة بالأطراف ولا الغوص على الأعماق، وأصابت الأفهام فلم تعد تصبر على معاناة الجيد من بليغ الكلام، وأصابت الأذواق، فلم تعد تميز بين الحلو والمر.
(1)
…
دفاع عن البلاغة صـ 5 (مطبعة الرسالة - القاهرة 945).
الثانية: هي الصحافة، لأنها تخاطب الجماهير، فلا مندوحة لها من التبذل والتبسط والإسفاف، مراعاةً للموضوعات التي تكتب فيها، والطبقات التي تكتب لها، فطغت العامية، وفشت الركاكة، وفسد الذوق وأصبحت العناية بجمال الأسلوب تكلفاً، والمحافظة على البلاغة رجعة إلى الوراء! .
الثالثة: هو التطفل؛ فقد تكلفت فئة من أرباب المناصب ما ليس في طباعهم من صناعة البيان، فوقعوا في النقص وهم يريدون الكمال، ودفعهم إصرارهم على أن يعدوا من كبار الكتاب - مع ما فيهم من تخلف الطبع وجمود القريحة وضعف الأداة - إلى مشايعة الجهلاء في تنقص البلاغة.
وتكلم في حد البلاغة وأورد عدداً من تعريفاتها عند العرب والأجانب، فوجد بينهما تشابهاً، وانتهى إلى أن البلاغة: "ملكة يؤثر بها صاحبها في عقول الناس وقلوبهم عن طريق الكتابة أو الكلام، فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلمة والمفسرة، والتأثير في القلوب عمل الموهبة الجاذبة والمؤثرة ومن هاتين الموهبتين تنشأ موهبة الإقناع على أكمل صورة.
وقد رأى أن طالب البلاغة في حاجة إلى ألوان كثيرة من الثقافة. وأقل ما يجب عليه درسه هو: اللغة، والطبيعة والنفس، وذلك لأن اللغة هي أداة القول والكتابة، والطبيعة هو كتاب الفنان الجامع، إذ منها معادته، وعنها اقتباسه ووحيه، وفيها دليله ومثاله، ومنها أخيلته وصورته، والنفس هي الينبوع الثر لما يزخر به الشعر والنثر من مختلف الغرائز والعواطف والأفكار والأحاسيس.
كما رأى أن اختلاف النقاد بين أنصار للفظ، وأنصار للمعنى قد جنى على البلاغة، لأن الذين فسدت فيهم حاسة الذوق أهملوا جانب اللفظ، والذين ضعفت فيهم ملكة العقل غضوا من شأن المعنى، فضلوا جميعاً طريق الأسلوب الحق.
(3 - النظم البلاغي)
وقد تكلم في صفات الأسلوب، وهي في نظره ثلاث: الأصالة، والوجازة، والتلاؤم.
(أ) أما الأصالة: فهي: أن يبنى الأسلوب على ركنين أساسيين عن خصوصية اللفظ، وطرافة العبارة، وتلك هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، فلا يكتب الأديب كما يكتب الناس، بل يكون أصيلاً في نظرته وكلمته وفكرته وصورته ولهجته، فلا يستعمل لفظاً عاماً، ولا تعبيراً محفوظاً، ولا استعارة مشاعة، وخصوصية اللفظ: هي دلالته التامة على المعنى المراد، ووقوعه الموقع المناسب، وطرافة العبارة: أساسها الابتكار في حكاية الخبر، وتصوير الفكر، وتقويم الموضوع.
(ب) وأما الوجازة: فهي أصل بلاغة اللغات، وهي في البلاغة العربية أصل وروح وطبع، لأن الإيجاز يزيد في دلالة الكلام من طريق الإيحاء، لأنه يترك على أطراف المعاني ظلالاً خفية يشتغل بها الذهن ويعمل فيها الخيال حتى تبرز وتتكون، وتتسع وتتشعب إلى معانٍ أخر يحملها اللفظ بالتفسير والتأويل.
(جـ) وأما التلازم، أو الموسيقية، فهي صفة جامعة لكل وصف، لا بد منه للفظ، حتى يكون الكلام خفيفاً على اللسان، مقبولاً في الأذن، مرافقاً لحركات النفس. مطابقاً لطبيعة الفكرة أو الصورة أو العاطفة التي يعبر عنها الكاتب أو الشاعر.
2 -
"الأسلوب" للأستاذ/ أحمد الشايب: وقد رأى المؤلف أن الدراسة النظرية للبلاغة العربية قد انتهت عند المتقدمين إلى علوم: "المعاني" و"البيان" و"البديع": فدرسوا في المعاني الجملة متصلة، أو منفصلة كما درسوا في البيان، والبديع الصورة بسيطة أو مركبة، من تشبيه ومجاز وكناية وحسن تعليل وتوابع أخرى من البديع، إلا أن هذه الدراسات
على أهميتها لا تستوعب أصول البلاغة - في رأيه - كما يجب أن تكون، حتى تساير الأدب الإنشائي في أساليبه وفنونه، وبمقارنته بين أبحاث البلاغة التي دونتها الكتب العربية، وبين موضوعها كما يجب أن يكون فإنه يفرد النتائج التالية:
أولاً: أن نصف البلاغة العربية النظرية مفقود في اللغة العربية، أكثره في قسم الفنون الأدبية، وباقيه في قسم الأسلوب.
ثانياً: أن شطراً من الأسلوب قد درس تحت عنوان: "المعاني"، و"البيان" و"البديع" وهو شطر يعوزه التنسيق، ولا حاجة بنا الآن إلى هذه الأسماء.
ثالثاً: أن البلاغة العربية في حاجة إلى وضع علمي جديد يشمل هذه الأبواب والفنون، ويصل بينها وبين الطبيعة الإنسانية وملابساتها الزمانية والمكانية حتى يخدم الأدب. هذا إلى جانب البحث التاريخي الذي يفرد له بحث خاص.
رابعاً: أن الأدباء هم أولى الناس بدراسة البلاغة حتى يخلصوها من أساليب الفلاسفة ومذاهبهم وألفاظهم.
أما موضوع علم البلاغة فقد حصره في بابين أو كتابين هما: "الأسلوب" و"الفنون الأدبية"(1).
أما الأسلوب: فتدرس فيه القواعد التي إذا اتبعت كان التعبير بليغاً، فتدرس الكلمة والصورة، والجملة والفقرة والعبارة، والأسلوب من حيث أنواعه وعناصره وصفاته ومقدماته وموسيقاه، وقد وضع البلاغة العربية
(1)
…
الأسلوب ص 29 (مكتبة النهضة المصرية القاهرة 1956).
في هذا القسم، فعلم المعاني يدخل عنده في بحث الجملة، كما أن علم البيان وأغلب البديع يدخل في باب الصورة.
وأما الفنون الأدبية: وقد تسمى: قسم الابتكار، فتدرس فيها مادة الكلام من حيث اختيارها وتقسيمها، وتنسيقها، وما يلائم كل فن من الفنون الأدبية، وقواعد هذه الفنون، كالقصة والمقالة والوصف والرسالة والمناظرة والتاريخ.
وقد سار المؤلف - في دراسة الأسلوب - على تقسيم البحث إلى خمسة أبواب:
فالباب الأول: مقدمات تتناول البلاغة بين العلوم الأدبية، وتعريف البلاغة وعلومها، ومكانها بين العلم والفن، وموضوع البلاغة.
والباب الثاني: تعريف بالأسلوب والكلام في حده وتكوينه وعناصره.
والباب الثالث: دراسة للأسلوب وعلاقته بالموضوع، وقد تكلم فيه عن الأسلوب العلمي، والأسلوب الأدبي، وأسلوب الشعر، واختلاف أساليب النثر.
والباب الرابع: دراسة للعلاقة بين الأسلوب والأديب، والأسلوب والشخصية، ودلالة الأسلوب على الشخصية، وأثر تفاوت الشخصيات في اختلاف الأساليب.
والباب الخامس: دراسة لصفات الأسلوب، وهي: الوضوح، والقوة والجمال.
3 -
"فن القول" للأستاذ أمين الخولي: وهو من الكتابات الجادة
لأحد حاملي ألوية التجديد في البحث البلاغي، فالأستاذ أمين الخولي كان على علم بمنهج البلاغة عند الغربيين، كما أنه مزود بتراث قديم من مناهج البحث البلاغي في اللغة العربية، وقد وضع منهجاً لدراسة "فن القول" فقسمه إلى: مبادئ، ومقدمات، وأبحاث:
(أ) أما المبادئ: فتتصل بفن القول وتعريفه وغايته وصلته بغيره من الدراسات، وصلته بفن الأدب وتاريخه ونقده.
(ب) وأما المقدمات: فهي: مقدمة تدرس الفن وحقيقته ومنزلته بين المعارف الإنسانية وعلاقته بالفلسفة وبالعلم وبالجمال، ومقدمة أخرى نفسية تتناول القوى الإنسانية المختلفة، وصلة بعضها ببعض، ونواحي اتصالها بالعمل الفني، وتأثيرها فيه، وتدرس الحياة الوجدانية والعواطف والمشاعر الإنسانية وما تمد به العمل الفني ولا سيما الأدبي.
(جـ) وأما الأبحاث: فمنها ما يدرس الكلمة من حيث هي عنصر لغوي ويدرس حسنها من حيث جرسها الصوتي، ومن حيث أداؤها لمعناها، وتناسب الصوت والمعنى، والجزالة والرقة، وزيادة حسن أداء الكلمة لمعناها بتأثير الرنين الصوتي في الجناس والسجع والترصيع، والتصريع ورد العجز على الصدر ولزوم ما لا يلزم، ثم دراسة الكلمة من حيث هي جزء من الجملة وحسن دلالتها على معناها في الجملة وتأثيرها بالوضع، والاستعمال، ثم نظم الجملة وله أثره في هذه الدلالة، وفضل القول في هذا، وأدخل كثيراً من مباحث النحو وأبواب البلاغة في هذا المضمار.
ومنها: ما يدرس الجملة وربط جزأيها في الإسناد وإسناد الشيء لما ليس له وما يراعى في ذلك من الاعتبارات الأدبية، وأثره في المعنى والتأكيد والقصر ومعاني أدوات الشرط والإيجاز والإطناب وفي الفقرة يدرس الترقيم اللفظي، وأطلقه على مبحث الفصل والوصل، والإيجاز
والإطناب في الفقرة، ثم بيان أن الفقرة في العمل الأدبي جزء من صورة فنية متناسقة.
وفي تناول صور التعبير: يدرس أثر اختلاف الصور في التأثير، والقوة فيدرس صور "الإيضاح المعلن" كالتشبيه والاستعارة والمجاز والكناية والتجريد والقلب وأسلوب الحكيم والمبالغة وتأكيد المدح بما يشبه الذم والتدبيج والتهكم والفكاهة والتجاهل، وفي كل فن من هذه الفنون يدرس العمل الفني كله وأثره الأدبي، والشواهد الأدبية الكافية، كما يدرس "صور التعبير المظللة" كالرمز والإيماء والإلغاز والتورية والاستخدام.
ثم تبحث البلاغة في القطعة الأدبية، فتدرس عناصر العمل الأدبي وعلاقته ما بين اللفظ والمعنى في العمل الأدبي، ثم الصناعة المعنوية، أي مباحث المعاني الأدبية، فتدرس خصائصها المميزة لها، ومصادر إيجادها وترتيبها، وأثر العوامل النفسية والأدبية في ذلك، واختلافها في المتفننين وأثرها فيهم وعرض المعاني الأدبية وإخراجها واختلاف الأدباء في ذلك ثم دراسة الفنون الأدبية قديماً وحديثاً، وخصائص الشعر في عباراته ومعانيه وموضوعاته، وخصائص كل فن من فنونه.
ثم تدرس البلاغة الأساليب الفنية في الأدب ودلالتها على شخصية الأديب؛ ثم من حيث هي طراز في الإخراج والعرض تميز عمل الأديب كالأسلوب الرمزي والفكاهي والتهكمي في عمل أدبي كامل ومقومات مثل هذا الصنيع، ومميزاته مع الإشارة إلى الروائع الفنية من كل طراز.
ذلكم هو منهج "فن القول" الذي قال عنه صاحبه: إنه "تخطيط لمحاولة تأمل أن تظل رهن التغيير والتعديل وهدف التجديد والتحسين، يضيف إليها ويحذف منها وينسقها من تهيأت له القدرة الصادقة على ذلك،
وكانت له فيه بصيرة خبيرة ليظل هذا الدرس للفن القولي صدى لحياة أهله وسبيلاً لتحقيق غاياتهم في الحياة الوجدانية الراقية".
4 -
"البيان العربي" للدكتور بدوى طبانة (1):
بعد أن عرض الدكتور بدوي طبانة لتطور الفكرة البيانية عند العرب في كتابه هذا؛ فإنه يستخلص من هذا العرض أن البلاغة العربية تدور عند البلاغيين حول "مطابقة الكلام لمقتضى الحال" كما يرى أن تعريف علم المعاني عندهم وهو: أنه "علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق الكلام مقتضى الحال" هذا التعريف ليس مقصوراً على علم المعاني وحده وإنما هو شامل لعلوم البلاغة جميعها؛ وما دامت البلاغة عندهم تدور حول المطابقة، وأنها شاملة لعلوم البلاغة جميعاً، فلنبحث البلاغة - من جديد - على هذا الأساس، ويذكر أن مجالات المطابقة كثيرة ومنها:
(أ) مطابقة الأفكار والمعاني للموضوعات المختلفة، وقد بين أن كتب النقد وكتب البلاغة لم تخل من أمثال هذه الدراسات التي تنشد المطابقة بين المعاني والأفكار، ويضرب الأمثلة لذلك.
(ب) مطابقة الأفكار والمعاني لعقول السامعين والقارئين.
(جـ) أما مجال المطابقة في الصورة فإنها أوسع ويستطيع كل من الأديب والناقد أن يفيد منه فائدة كبرى.
1 -
ففي الفن الشعري - وهو القائم على الوزن والقافية - يدخل النغم ووحدة القافية - وهما لونان من ألوان التناسق والتطابق - في مجالات
(1)
…
البيان العربي الطبعة الخامسة دار العودة بيروت ص 316.
المطابقة، وقد فطن كثير من علماء البلاغة والنقاد العرب إلى هذا الاعتبار فاستخلصوا فنوناً كثيرة تتصل بهذا الفن الشعري، ومنها التصريع؛ والترصيع والتوشيح وهو الإرصاد عند بعض البلاغيين و"التسهيم" عند غيرهم، و"الإيغال" و"التصدير".
2 -
واللفظ هو أساس العبارة أو هو الوحدة التي تتكون منها، والمطابقة في اللفظ تنشد في عدة أمور منها: مطابقة اللفظ لمعناه، ومطابقته لما يجاوره من الألفاظ، ثم مطابقة اللفظ للغرض الذي يعالجه الأديب.
3 -
وأكثر فنون البلاغة إنما تهدف إلى تحقيق المناسبة أو المطابقة، ويتجلى ذلك في ألوان ثلاثة من التناسب:
(أ) تناسب النغم والرنين الموسيقي بين أجزاء العمل الأدبي، ومن مظاهر ذلك فيما عالجه البيان: الترصيع، والتصريع؛ والسجع، والازدواج ولزوم ما لا يلزم.
(ب) تناسب الألفاظ ومنه فيما عَالجت البلاغة العربية: "التجنيس" و"المشاكلة" و"التوشيح".
(جـ) تناسب المعاني، وهو كثير في مباحث البلاغة، فمنه التشبيه الذي تراعى فيه المناسبة بين المشبه والمشبه به، ومنه الاستعارة التي تقوم على المناسبة بين المستعار له والمستعار منه، ومنه مراعاة النظير، والطباق قائم على التناسب بين الأضداد وهكذا.
4 -
وتتلمس المطابقة في الأسلوب من جهة ملاءمته للموضوع، ومن جهة مطابقته لأحوال السامعين والقارئين وعواطفهم وعقولهم وقدرتهم اللغوية، فأسلوب الحقيقة لمن لا يستطيع أن يدرك غيره وأسلوب الكناية والمجاز لمن يستطيع إدراكهما.
تلكم هي اقتراحات بعض المعاصرين لدراسة البلاغة من جديد، وهي - كما رأيتم - منصبة على دراسة البلاغة من خلال النقد الأدبي، وإعادة تنظيم التراث النقدي البلاغي للغة العربية وهي محاولات جد مخلصة وصادقة تستهدف النهوض بالبحث البلاغي.
بيد أنها قد نسيت أن أجدى دراسة كانت للبلاغة، هي دراسة عبد القاهر الجرجاني تلك الدراسة التي لم تفرق بين البلاغة والنقد الأدبي، والتي عالجت فيها موضوعات البلاغة معالجة أمينة جادة، خالصة من شوائب المنطق أو الفلسفة، اللهم إلا فلسفة النفس الإنسانية وأحوالها حين تعتريها أريحية استقبال اللطائف البلاغية والمزايا البيانية.
وقد علمتم ما رأيناه من أن عبد القاهر لم يقسم البلاغة إلى علومها التي نراها اليوم، بل إنه كان ينظر إليها على أنها علم واحد، وإن تعددت قضاياه وتفرعت مسائله.
ولهذا: فإننا نرى أن البلاغة العربية يجب أن يسلك بها السبيل الذي سلكه عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" لدراسة علم البلاغة، وتقوم هذه الدراسة على أن نظرية النظم هي أساس البلاغة، وعن هذه النظرية تتفرع المعاني البلاغية التي نستلهمها من نظم الكلام، وهذه المعاني تدرس فيما سمي "بعلم المعاني" - وإن لم يكن بنا حاجة إلى مثل هذه التسمية.
كما أن الصور البيانية التي تصاغ من هذه المعاني المستوحاة من النظم تبرز المعنى الذي يقصده المتكلم وتوضحه، وهي صور التشبيه، والمجاز، والكناية، التي تدرس فيما سمي بعلم البيان - وإن لم يكن بنا حاجة إلى مثل هذه التسمية.
على أن ألوان البديع داخلة هي الأخرى في الصميم من مسائل البلاغة
سواء أكانت معاني مستوحاة من النظم، أم كانت صوراً من صور البيان والإيضاح.
وبهذا تعيد للبلاغة عهد الإشراق والازدهار، وتخلصها من ركام المنطق والفلسفة والتكلف، وتبرزها خالصة، لا غموض فيها ولا تعقيد.
وعلى ضوء ما أسلفنا من آراء، فإننا نرى ما يلي: -
أولاً: إذا أردنا للبلاغة العربية أن توفي النص الأدبي حقه، فإنه يجب ألا تدرس بمنأى عن النقد الأدبي بل يجب أن تكون البلاغة العربية - دائماً - عماد النقد الأدبي السليم.
ثانياً: يجب أن تصفى البلاغة العربية مما شابها من بقايا فلسفة السكاكي ومنطقه حتى يتسنى للناشئة - وغيرهم - استساغتها وتذوقها. ومن ثم تطبيقها على ما تنتجه القرائح وتعطيه الأفكار، وعلى ذلك فإن مبحث الدلالات الذي يصدر به البلاغيون - عادةً - مباحث علم البيان لا فائدة منه على الإطلاق ويجب أن ينحى عن علم البلاغة وذلك لأنه أمر أقرب إلى المنطق منه إلى البلاغة، بل بينه وبين البلاغة بون شديد.
ثالثاً: يجب أن تدرس البلاغة العربية من خلال النص الأدبي، بمعنى أن تعرض النصوص الأدبية، ثم تستخلص منها الأسرار البلاغية، والمزايا البيانية، لا أن تحفظ القواعد جافة، ثم يطبق لكل قاعدة بمثال.
رابعاً: يجب ألا يقتصر في التدريس البلاغة على نصوص معينة من عصور معينة - كما درجت على ذلك المدرسة السكاكية - بل تدرس نصوص من العصر الحديث، كما تدرس نصوص من الشعر الجاهلي والعصور التي تلته على حدٍ سواء.
خامساً: يجب أن يدرس النص كاملاً، بمعنى أن تدرس قصيدة أي شاعر
كاملة غير منقوصة حتى نحافظ على وحدة القصيدة، لا أن يدرس بيت من هنا وبيت من هناك!
سادساً: يجب ألا تقارن مقاييس البلاغة العربية بغيرها من المقاييس الغربية، وذلك ليس تعصباً منا للغة العربية، ولكن لأن المقاييس البلاغية لأي لغة قد لا تصلح لغيرها من اللغات الأخرى وذلك لأن الجمال أمر اعتباري، فما قد يكون جميلاً عند أمة من الأمم قد لا يكون جميلاً عند غيرها.