الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) تعريف المسند
فرق عبد القاهر الجرجانى بين تعريف المسند وتنكيره بأمرين:
أولهما: أنك إذا قلت - مثلا -: (زيد منطلق) كان كلامك مع من لم يعلم أن انطلاقاً كان، لا من زيد ولا من عمرو، فأنت تفيد ذلك ابتداء.
ولكنك إذا قلت: (زيد المنطلق) كان كلامك مع من عرف أن انطلاقاً كان إما من زيد وإما من عمرو فأنت تعلمه أنه كان من زيد دون غيره.
والنكته - كما يقول عبد القاهر - هي أنك تثبت في الأول الذي هو: (زيد منطلق) فعلا لم يكن يعلم السامع، أنه كان من أصله وتثبت في الثاني الذي هو:(زيد المنطلق) فعلا قد علم السامع أنه كان، ولكنه لم يعلمه لزيد فائدته ذلك.
بمعني أن السامع كان قد جوز أن يكون الانطلاق من زيد أو من غيره، فإذا قلت:(زيد المنطلق) صار الذي كان معلوما له علي جهة الجواز معلوماً له علي جهة الوجوب.
فإذا أرادوا أن يؤكدوا هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمى فعلا بين الجزئين فقالوا: (زيد هو المنطلق)
وثانيهما: أنك إذا نكرت الخبر جاز أن تأتي بمبتدأ ثان علي أن تشركه بحرف العطف في المعنى الذي أخبرت به عن الأول، ولكنك إذا عرفت الخبر لم يجز ذلك.
ومعني هذا: أنك تقول: زيد منطلق وعمرو، تريد: وعمرو منطلق أيضاً.
ولكنك لا تقول: زيد المنطلق وعمرو، لأن المعني مع التعريف علي أنك أردت أن تثبت انطلاقاً مخصوصاً قد كان من واحد، فإذا أثبته لزيد لم يصح أن تلثه لعمرو.
ومن الواضح في تمثيل هذا النحو من القول: قولنا: هو القائل ببيت كذا، كقولك: جرير هو القائل.
(وليس لسيفي في العظام بقية) فلو حاولت أن تشرك في هذا الخير غيره، فتقول: جرير هو القائل هذا البيت وفلان، حاولت محالا.
ومن هذا الأصل تنفرع أغراض تعريف المسند:
فقد يكون الغرض من تعريف المسند هو: قصر المسند علي إليه لقصد المبالغة، كقولك: زيد الكريم، وعمرو العالم، فتفيد قصر جنس الكرم علي زيد، وقصر جنس العلم علي عمرو لا تقصد القصر الحقيقي، وأنه لم يتصف أحد بالكريم إلا زيد، ولم يتصف أحد بالعلم إلا عمرو، وإنما تقصد المبالغة في وصف زيد بالكرم، ووصف عمرو بالعلم، فتخيل بهذا قصر هاتين الصفتين علي زيد وعمرو قصدا المبالغة، وأنك لم تعتد بهاتين الصفتين في غيرهما.
ومثله قول أبي الطيب المتنبي بمدح سيف الدولة (1):
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
…
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
(1) ديوان أبى الطيب 1/ 290، 291
قاربه من لا يسير مشمرا
…
وغني به من لا يغني مغرداً
أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما
…
بشعري أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
…
أنا الصائح المحكي والآخر الصدى
يقول إن الدهر يروي قصائدي، فينشط لسماعها من كان كسولا، ويطرب لسماعها من لم يكن مغنيا، فإذا أنشدك شاعر - في مديحك - شعراً فأعطني، فإن الذي أنشدته شعري يردده المادحون فلا تلتفت إلى شعر غيري، فإنه ليس بشيء
والشاهد هنا قوله: (أنا الصائح المحكي) حيث قصر المسند المعرف "بأل" علي المسند إليه لقصد المبالغة.
ومنه قول مزرد بن ضرار:
فقد علمت فتيان ذبيان أتي
…
أنا الفارس الحامي الذمار المقاتل
أي أنه لا فارس سواء، لأن غيره من الفرسان لا يعتد بهم.
وقد يكون الغرض هو قصر المسند علي المسند إليه حقيقة، وذلك كقولك: علي الشاعر، إذا لم يكن ثمة شاعر سواء، ومثل هذا القول يمكن أن يقال في الأمثلة التي أسلفناها.
وقد يفيد المعنى المقصود بقيد يخصصه، ويجعله في حكم نوع برأسه، كأن يقيد بوقت أو حال، وذلك مثل أن تقول:(هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيراً) فأنت هنا لا تقصر الوفاء مطلقاً علي من تتحدث عنه، ولكنك تقصر جنسا معينا من الوفاء، وهو الذي يأتي في وقت ينعدم فيه الوفاء.
وكأن يقيد بمفعول مخصوص، كما في قول الأعشى:
هو الواهب المائة المصطفا
…
ة، إما مخاضاً وإما عشاراً
فالمعني علي أن الممدوح هو المختص بهبة المائة من الإبل في إحدى الحالتين، أما مطلق الهبة فلله ولغيره، فهناك فرق بين أن يختص بالهبة، وأن يختص بجنس معين من الهبة.
وقد يكون الغرض من تعريف المسند هو تقرير المسند إليه، وأن
ثبوته له أمر ظاهر ومعروف لا يشك فيه أحد، وذلك كما في قول الخنساء ترثي أخاها صخرا:
إذا قبح البكاء علي قتيل
…
رأيت بكاءك الحسن الجميلا
فالخنساء لم ترد أن تقصر صفة الحسن علي بكاء خيها، ولكنها أرادت أن تقرر البكاء عليه جنس الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد، ولا يشك فيه شاك.
ومثله قول حسان بن ثابت رضي الله عنه يهجو أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه:
وإن سنام المجد من آل هاشم
…
بنو بنت مخزوم ووالدك العهد
فقد أراد أن يقرر العبودية لوالد المهجو، وأن يبين أن ذلك الأمر ظاهر معروف لا ينكره أحد.
ولو قال: والدك عبد بتنكير المسند، لما أفاد إلا إثبات العبودية له
ومثله قول الغرزهق يهجو الحجاج بن يوسف الثقفي:
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف
…
كما كان عبداً من عبيد إباد
زمان هو العبد المقر بذله
…
يراوح أبناء القرى ويغادى
أي: إن بني مروان هم الذين قد رفعوا من قدر الحجاج، ولولاهم لظل علي خسته ووضاعته عبداً من عبيد إباد، أيام أن كان معروفاً بعبوديته مقراً بذلته ومهانته، يعلم صبيان القري في الصباح والمساء، فقد كان الحجاج - كما قالو - معلم صبيان، ملقباً بكليب، وفيه يقول الشاعر:
أينسى كليب زمان الهزال
…
وتعليمه سورة الكوثر؟ !
رغيف له فلكة ما ترى
…
وآخر كالقمر الأزهر؟ !
وقد يكون الغرض من تعريف المسند هو: الإشارة إلى بلوغ المسند إليه في الصفة حد الكمال او أنه بلغ فيها حقيقتها المتخيلة في الذهن: وذلك ما تجد في قولهم. (هو البطل المحامى) أي: أنه هو البطل الذي بلغ في صفة البطولة حد الكمال، أو أنه بلغ فيها حقيقتها المتخيلة في الذهن.
ومثله ما تجده في قول ابن الرومى:
هو الرجل المشروك في جل ماله
…
ولكنه بالمجد والحمد مفرد.
أي: إذا تصورت في ذهنك رجلا يشرك، في معظم أمواله، عفاته وجيرانه، ومعارفه فإنه هو ذلك
الرجل (1)
ومثله ما تجده في قول المجنون، قيس بن الملوح:
أنا الفاحل المهموم والقائم الذي
…
يراعي الثريا، والخليون نوم (2)
أي: إذا تصورت في ذهنك، رجلاً أضناء الوجد وأسقمته الهموم يقوم الليل مشدود البصر إلى النجوم في الوقت الذي يسعد فيه الخليون بالنوم والراحة والمتعة، فأنا ذلك الرجل.
(1) الدلائل ص 141.
(2)
ديوان مجنون ليلي ص 44.
ويغلب أن يأتي هذا النوع باسم الموصول (الذي) حيث تقدر في ذهنك شيئاً، ثم تعبر عنه بالذي، كما في قول الشاعر:
أخوك الذي إن تدعه لمسلمة
…
يحبك وإن تغضب إلى سيف يغضب
فقد قدرت في ذهنك وتصورت أخا، إن دعوته أجابك وإن غضبت واضطررت إلى حمل السيف غضب وحمل السيف من أجلك ثم عبرت عنه بالذي، ومنه قول الآخر:
أخوك الذي إن ربته قال: إنما
…
أربت وإن عانيته لان جانبه
أي: أخوك هو الذي إن أتيت بما يرتاب فيه قال لك: أربت: أي افتفت عنك الريبه وإن عاتبته قبل عتابك.
فقد تصورت في ذهنك إنسانا هذه صفته، ثم أحلت السامع عليه، وعبرت عنه بالذي.
هذا: وقد ينكر المسند لأن الغرض هو الإخبار بثبوت المسند إليه من غير إرادة عبد أو تخصيص كما في قولك: علي شاعر، ومحمد خطيب.
وقد يكون الغرض من تنكيره التفخيم والتعظيم وأنه قد بلغ من خطورة الشأن حداً لا يدرك نهايته أو مداه، كما في قول الله تعالي:{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} فقد أتي المسند نكرة للدلالة عل كمال هداية الكتاب الكريم وأنها بلغت مبلغاً لا يدرك مداه، ولهذا أكد التفخيم بأن جعل (هدى)
مصدرا مخبرا به عن الكتاب، أي أن الكتاب هو الهداية نفسها.
وقد يكون الغرض من تنكيره التحقير، كما في قوله قيس بن جروة يخاطب عمرو بن هند، وكان قد نقض عهدا بينه وبين طاء:(1)
(1) رفات المثالث والمثاني 2/ 77.
غدرت بأمر كنت أنت دعوتنا
…
إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد
وقد يترك الغدر الفتى وطعامه
…
إذ هو أمسى حلية من دم الفصد
يقول: لقد غدرت بعهد كنت أنت الذي دعا إليه، وبئس - لعمري - شيمة الغدر بالعهد من شيمة، فقد يترفع عنها أفقر الناس، وأقلهم شأنا، فكيف يغدر بالعهد ملك عظيم كعمرو بن هند؟
والشاهد هنا: تنكير (حلبة) التي وقعت خبرا عن (طعامه) لبيان أنه شيء تافه وحقير.
هذا إلى ما تفيده صيغة " فعلة " الدالة علي المرة من إفادة معنى القلة.
وقد يؤتي بالمسند مقيداً بوصف أو إضافة لتكون الفائدة أتم وأكمل لأن المعنى كلما زاد خصوصا كان أتم فائدة، وذلك كقولك: على غنى بخيل وقولك: عمرو قارئ قصص، فقد أتيت بالمسند النكرة موصوفا في الأول ومضافاً في الثاني لزيادة الفائدة بأن عليا غني ولكنه بخيل، وأن عمرا قارئ ولكنه قارئ قصص فحسب.
ومن تخصيص المسند النكرة بالوصف: قول قيس بن الخطيم - بعد أن أخذ بثأر أبيه وجده (1)
وكنت أمراً لا أسمع الدهر سبة
…
أسب بها إلا كشفت غطاءها.
والبيت من قصيدة يذكر فيها أنه قد أخذ بثأر أبيه وجده، وقد كان قيس أبداً شديد الساعدين فنازع يوما في من فتيان بني ظفر، فقال له ذلك الفتى: "والله لو جعلت شدة ساعديك علي قاتل أبيك وجدك لكان
(1) ديوان الحماسة 1/ 61
خيراً لك " فلم يزل من ذلك العهد يطلب بثأرهما حتى ثأر لهما، وفي آخر القصيدة يقول:
ثارت عديا والخطيم فلم أضع
…
ولاية أشياخ جعلت إزاءها.
والشاهد في البيت الأول وهو أنه أتي بالمسند نكرة وهو قوله "امرأ" وقد وصفه بقوله: (لا اسمع الدهر سبه) لتخصيصه بالوصف المذكور:
ومن التخصيص بالإضافة قول الشاعر:
حمي الحديد عليهم فكأنه
…
ومضان برق، أو شعاع شموس