الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال عبد الله بن الدمينة متغزلاً (1):
أما يستفيق القلب إلا انبرى له
…
قوهم صيف من سعاد ومربسع
أخادع عن أطلالها القلب؛ إنه
…
متى تعرف الأطلال عينك تدمع
عهدت بها وحشا عليها برافع
…
وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع
يقول الشاعر: كيف لا يصحو القلب إلا وقد تعرض له خيال سعاد في المصيف والمربع؟ إنني أموه على عيني في رؤية الأطلال. لأنها إذا عرفتها بكت، لقد كنت ألقى بها أيام عمرانها سرباً من الحبيبات يخرجن في البراقع أما اليوم فإنني أرى بها سرباً من البقر الوحشي لم يتبرقع.
فالشاعر يعاقب نفسه على شغل قلبه بسعاد، ويذكر تجلده في تناسبها، ويشكو عينيه أنها تبكي كلما رأت آثار ظك الأطلال.
والشاهد في الأبيات قوله: (إنه متى تعرف الأطلال عينك تدمع) حيث أتى بضمير الشأن منبهاً به إلى ما يفسر بعده من خير يثير كواهن الشوق في قلبه، وهو أنه كلما عرفت عينه الأطلال سالت دموعها.
ثانياً: وضع المظهر موضع المضمر:
والمظهر الذي يوضع موضع المضمر: إما أن يكون اسم إشارة، وإما أن يكون غيره، كأن يكون علماً، أو معرفاً باللام، أو بالإضافة أو نحو ذلك.
(1) ديوان الحماسة لأبي تمام 2/ 57.
فإذا كان اسم إشارة فإن أغراضه قد سبق ذكر أغلبها ضمن أغراض تعريف المسند إليه باسم الإشارة.
ومن هذه الأغراض: كمال العناية بتمييز المسند إليه لاختصاصه بأمر عجيب:
ومن ذلك قول ابن الراوندي:
كم عاقل عاقل أعبث مذاهبه
…
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
…
وصير العالم التحرير زنديقاً
والشاهد في البيتين قوله: (هذا الذي) فقد عبر عن المسند إليه باسم الإشارة، وكان ظاهر الحال يقتضي أن يعبر عنه بالضمير، فيقال:(هما) وذلك لتقدم مرجعه، وهو ما أفاده البيت الأول، من حرمان العاقل، وإعطاء الجاهل، ولكنه عدل عن الضمير إلى اسم الإشارة - كما رأيت - لكمال العناية بتمييزه، لاختصاصه بحكم بديع، وذلك لأن هذا الأمر لما كان قد خرج عن المألوف المتعارف، اختص بحكم بديع، وهو، ترك العقول حائرة، وجعل العالم الذكي مزعزع الإيمان ملحداً، ولهذا كان جديراً بأن يميز أكمل تمييز، ليشار إليه، ويسند إليه هذا الحكم.
ومن هذه الأغراض: التهكم بالسامع: كأن يسأل بصير عن شيء، فيجيبه آخر مشيراً إلى شيء.
ومنها: التنبيه على كمال بلادة السامع، وأنه لا يدرك غير المحس بحاسة البصر، أو على كمال فطنته، وأن غير المحس عنده بمثابة المحس.
ومنها: ادعاء كمال ظهور المسند إليه حتى إن العقول قد صار في درجة المحسوس بالبصر.
وإذا كان المظهر - الذي يوضع موضع المضمر - غير اسم الإشارة، فإن ذلك يكون لأغراض من أهمها:
(1)
أن يقصد تمكين المسند إليه في ذهن السامع، لأن المقام يقتضي اعتناء بشأنه.
ومن الاعتناء بشأنه أن لا ينوب عنه ضمير. لأن الضمير - وإن جاز أن ينوب عنه - لا يغني غناء الاسم الظاهر، لما يتضمنه الاسم من معنى له وقع عند المتلقى أو المتذوق - في رأي الشاعر أو الأديب: ففي إظهار الاسم مكان إضماره بيان لعظم أمر ما، شرفاً أو خسة، جودة أو رداءة.
والشاهد على ذلك قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} لم يقل (هو الصمد) - وإن كان ظاهر الحال يقتضي الإضمار لتقدم المرجع - ولكنه قال: {اللَّهُ الصَّمَدُ} فوضع المظهر موضع المضمر، لأن المقام يقتضي الاعتناء بتمكين لفظ الجلالة من النفوس، وعلى هذا الأسلوب جرى القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه، حيث يريد تربية المهابة في نفوس المؤمنين.
قال في الأقصى القريب (1): "ويكون ذلك لبيان عظم أمر ما كالجودة والرداءة، والشرف والضعة، فمن ذلك ما جاء في قول الله تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} قال - إن إبراهيم - ولم يقل: إنه، لشرف إبراهيم عليه السلام والزيادة في تشريفه بما نسب إليه.
وأما ما جاء منه الذم فنحو قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ
(1) الأقصى القريب التنوخي ص 83 (طبعة السعادة)
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}؛ قال الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} ولم يقل: (له) - وقد سبق ذكرهم في من المبهم، واسم كان المضمر فيها ذماً لهم بالكفر، وتبينا أن عدو الله وملائكته ورسله لا يكون إلا كافراً.
وفي هذه الآية؛ إظهار اسم الله لعظمه تعالى، وهو قوله تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} بعد ضميره في ملائكته ورسله.
ومن شواهد وضع المظهر موضع المضمر، لأن الغرض هو تمكين المسند إليه في ذهن السامع اعتناء بشأنه: قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} لم يقل: (هو الصمد) - وإن كان ظاهر الحال يقتضي الإضمار لتقدم المرجع - ولكنه قال: {اللَّهُ الصَّمَدُ} فوضع المظهر موضع المضمر، لأن المقام يقتضي الاعتناء بتمكين لفظ الجلالة في النفوس.
وعلى هذا الأسلوب جرى القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه، حيث يريد قربية المهابة في نفوس المؤمنين.
ولهذا يرجع الإمام عبد القاهر الجرجاني السر في الإظهار في موضع الإضمار إلى أن للتصريح فضلاً على الكناية والتعريض، ولأنهما لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف، ثم يذكر أزمن البين الجلي في هذا المعنى بيت الحماسة:
شددنا شدة الليث
…
غدا والليث غضبان
وقول النابغة:
نفس عصام سودت عصاماً
…
وعلمته السكر والإقداما
ثم قال: "لا يخفى على من له ذوق حسن هذا الإظهار، وأن له موقعاً
في النفس وباعثاً للأربحية لا يكون إذا قيل: نفس عصام سودته شيء منه؟ ؟ ص 314" (1).
ودونك طائفة من فصيح الشعر تؤيد هذا المعنى وتؤكده:
إقرأ - إن شئت قول الفند الزماني - في حرب اليسوس - وكان بنو بكر بن وائل قد بعثوا إلى بني حنيفة يستصرخونهم فأمدوهم به وبقومه (2):
صفحنا عن بني ذهل
…
وقلنا: القوم اخوان
عسى الأيام أن يرجعـ
…
ن قوماً كالذي كانوا
فلما صرح الدر
…
وأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العدوا
…
ن دناهم كما دانوا
مشينا مشية الليث غدا والليث غضبان
يقول: أعرضنا عن هؤلاء القوم المتحاربين، لأن بينهم رحماً وقرابة، فعسى أن تردهم الأيام إلى ما كانوا عليه من التوافق والتواد، لأنهم إخوان فلما أبوا أن يدعوا الظلم ولم يبق إلا أن نقاتلهم، كما قاتلونا؛ جازيناهم بفعلهم السيئ كما ابتدؤنا به، فمشينا إليهم مشية الأسد أصبح غضبان متلهفاً إلى فريسة.
والشاهد في الأبيات قوله: (والليث غضبان).
فقد أتى بالمسند إليه اسماً ظاهراً - وهو الليث - وكان ظاهر المقام يقتضي أن يأتي به ضميراً فيقول: (وهو غضبان) لتقدم مرجع الضمير - ولكنه عدل عن الإضمار إلى الإظهار، ليتمكن الاسم في ذهن السامع، لأن المقام - وهو الحرب - يقتضي الاعتناء به، لأن في لفظ المسند إليه - وهو الليث - ما يشعر بالتفخيم والتهويل.
(1) دلائل الإعجاز ص 428.
(2)
ديوان الحماسة لأبي تمام 1/ 15.
واقرأ قول الفضل بن الأخضر بن هبيرة الضبي: (1)
ألا أيها ذا النابح السيد إنني
…
على فأيها مستبسل من ورائها
دع السيد، إن السيد كانت قبيلة
…
تقاتل يوم الروع دون نسائها
يقول: أيها المتعرض لبني السيد، ينبحها كما ينبح الكلب السحاب: إنني مدافع عنها وإن كنت على بعد منها، دعها فإنها قبيلة تمنع حريمها؛ ويسلمون أنفسهم يوم الحروب ولا يسلمون نساءهم بل يدافعون عن حقيقتهم.
والشاهد هنا. قوله: (إن السيد) فقد أتى بالمسند إليه مظهراً، وكان ظاهر المقام أن يأتي به مضمراً - لتقدم مرجع الضمير - بأن يقول:(إنها) ولكنه آثر الإتيان بالمسند إليه - وهو السيد - اسماً ظاهراً ليتمكن هذا الاسم في نفوس سامعه، لأن المقام يقتضي منه الاعتناء بهذه القبيلة التي يدافع عنها، وإن كان على بعد منها.
ومن الإظهار في موضع الإضمار - وإن كان من غير باب المسند إليه قول عبد الله بن عتمة الضبي من حماسية له (2):
إن تسألوا الحق نعط الحق سائله
…
والدرع محقبة والسيف مقروب
(1) ديوان الحماسة لأبي تمام 1/ 335.
(2)
ديوان الحماسة لأبي تمام 1/ 234.
وإن أبيتم فأنا معسر أنف
…
لا نطعم الخف إن السم مشروب
فازجر حمارك لا يرتع بروضتنا
…
إذا يرد وقيد العير مكروب
الدرع المحقبة: المشدودة في الحقيبة، والسيف مقروب: أي مغمد في قرابه. والعير: هو الحمار.
يقول الشاعر: إن لنا فيه في الخير، فإن أردتم المسالمة وحقن الدماء، أعطيناكم الحق في حال السلم واحتقاب الدروع وإغماد السيوف، وإن أبيتم إلا الحرب فإنا ذوو حمية، وعزة نفس، تصبر نفوسنا على شرب السم، ولا تصبر على أن يتعالى علينا غيرنا، فكف عن التعرض لنا، والدخول في حريمنا فإنك إن لم تفعل ذلك ذممت عاقبة أمرك، وضاق بك المتسع.
والشاهد في الأبيات قوله: (نعط الحق) وقوله: (وقيد العير).
فقد أتى بالمفعول في الموضع الأول اسماً ظاهراً - وهو الحق - وكان ظاهر المقام يقتضي أن يؤتي به ضميراً، لتقدم مرجعه؛ ولكنه آثر الإظهار على الإضمار، لما في لفظ (الحق) من معنى يحرص الشاعر على تمكينه في نفوس مخاطبيه، وهو أنهم يحرصون على إعطاء الحق لمن يستحقه.
وأتى بالمضاف إليه في الموضع الثاني اسماً ظاهراً - أيضاً - وهو العير - وكان ظاهر المقام لإضماره لتقدم مرجعه، ولكنه آثر الإظهار على الإضمار لما في لفظ (العير) من معنى يحرص الشاعر على تمكينه في نفوس مخاطبيه وهو أن عيرهم يقيد ويرد إليهم مكروباً، إن حاولوا الزج به ليرتع في أرضهم.
وقد ضرب الحمار مثلاً للأذى، أي كف أذاك عنا.
ومنه قول الحماسي (1):
مرا على أهل الفضا، إن بالفضا
…
رقارق لازرق العيون ولا رمداً
الفضا: موضع بنجد، والرقارق: النساء النواعم، والرمد: جمع رمداء.
والمعنى: يا صاحبي مرا على أهل الفضا، إن به نساء في مقتبل الشباب السن يزرق العيون ولا رمدا، بل هن كحل سود العيون.
والشاهد قوله: (إن بالفضا) وقد كان ظاهر المقام يقتضي أن يضمر فيقول: (إن به) لتقدم مرجع الضمير، ولكنه آثر الإتيان بالاسم الظاهر، لما فيه من معنى يتعلق به الشاعر، ويثير في نفسه ذكريات حبيبة إلى قلبه.
ولعلك قد لاحظت معي ما في هذا البيت من خلل في وزنه، لأنه من بحر الطويل الذي أول تفصيلة منه هي:(فعولن) أي تبدأ هذه التفعيلة بمتحركهن فساكن؛ يعني وقد يجموع - كما يقول العروضيون - ولكنك تجد البيت مبدوءاً بمتحرك فساكن؛ يعني سبب خفيف - كما يقول العروضيون أيضاً -.
ولهذا فإننا نرجح أن يكون البيت مبدوءاً بواو العطف ولكون الأصل ومرا على أهل الفضاء، ولكنها سقطت من الناسخ، وكان على أبي تمام أن
(1) ديوان الحماسة لأبي تمام 2/ 162.
يجيء بما قبل هذا البيت، حتى لا يبدأ بواو العطف، ولكن ربما كانت الذاكرة قد خانته:
ومنه قول الصمة بن عبد الله بن طفيل (1):
حننت إلى ربا ونفسك باعدت
…
مزارك من ربا وشعباكما معاً
فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً
…
ونجزع، إن داعي الصباية أسمعا
قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى
…
وقل لنجد عندنا أن يودعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الثرى
…
وما أحسن المصطاف والمتربعا!
الشاعر كان قد ترك نجداً راحلاً إلى الشام، بعد أن رفض أبوه أن يدفع مهراً لمحبوبته "ربا" ولما طال مقامه بالشام قال هذه الأبيات في الحنين إلى "ربا" وإلى "نجد".
ولذلك فإنك تراه مهتماً بإظهار هذين الاسمين، وكان يمكنه أن يضمرهما لتقدم مرجعيهما فقال:"ونفسك باعدت مزارك من ربا"، ولم يقل:(ونفسم باعدت مزارك منها لتعلقه) الشديد بهذا الاسم الذي يحلو له أن يردده، ويتلذذ بسماعه.
وقال: (وقل لنجد عندنا أن يودعا) ولم يقل: (وقل له أن يودعا) لأن هذا الاسم عنده معنى يميل إليه. ويثير كوامن شوقه، ولواعج حبه.
(1) ديوان الحماسة لأبي تمام 2/ 64.
واقرأ - إن شئت قول الحماسي: (1)
زعم العواذل أن ناقة جندب
…
بحقوب خبت عربت زأجمعت
كذب العواذل لو رأين مناخنا
…
بالقادسية قلن لج وجفت
نجده قد أظهر المسند إليه فقال (كذب العواذل) وظاهر المقام يقتضي إضماره، بأن يقول:(كذبوا) لتقدم مرجع الضمير في البيت السابق، ولكنه خالف الإضمار إلى الإظهار لاهتمامه بتكذيب العواذل، إظهاراً لحقارتهم.
(1) ديوان الحماسة لأبي تمام ص 118.