الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مكان البلاغة من النقد
عرفت مما سبق أن النقد الأدبي بتعريفه الذي توصل إليه النقاد والمحدثون: هو استعراض القطع الأدبية، والحكم عليها بالجودة أو الرداءة، ومعرفة القواعد التي بها نستطيع الحكم على تلك القطع.
"والنقد الأدبي" بهذا المفهوم يجعل البلاغة أساساً من أسسه، أو جزءاً لا غنى عنه من أجزائه.
والواقع أننا إذا ما استعرضنا تطور البلاغة والنقد الأدبي منذ نشأتهما فإننا لا نجد تغيراً يطرأ على هذا المفهوم الذي رأيناه:
فأول بارقة للنقد الأدبي نجدها في قول عمر رضي الله عنه عن زهير: كان لا يعاظل بين القول، ولا يتتبع حوشى الكلام ولا يمدح الرجل إلا بما هو فيه (1).
وقد رأى عمر رضي الله عنه أن زهيراً بهذا يستحق أن يكون أشعر الشعراء وقد بنى حكمه على نفي المعاظلة، وحسن اختيار الألفاظ، والبعد عن التعقيد في القول، والصدق في المديح، وتلك أحكام "بلاغية" عبر عنها المتأخرون بالبعد عن الغرابة، والتعقيد اللفظي والمعنوي، وعدم المبالغة.
على أن النقد الأدبي، ليس بلاغة وحسب، فثمة نقد نحوي، ونقد عروضي، ونقد لغوي:
(1)
…
الشعر والشعراء صـ 86.
فمن النقد النحوي: ما رآه عيسى بن عمر من أن النابغة قد أساء في قوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة
…
من الرقش، في أنيابها السم ناقع
وقال: موضعه "ناقعاً" أي تنصب على أنها حال (1).
ومن النقد العروضي: ما أنكره عبد الله بن أبي إسحق على الفرزدق من قوله:
مستقبلين شمال الشام تضربنا
…
بحاصب من نديف القطن منثور
على عمائمنا تلقى رواجلنا
…
على زواحف تزجى مخها: رير.
يرفع "رير" فقد قال ابن أبي إسحق: ألا قلت: على زواحف تزجيها محاسير؟ ، ويقصد بذلك: أن الفرزدق قد أقوى في شعره هذا، فأورد روياً مرفوعاً في قصيدة رويها مجرور.
ومن النقد اللغوي: ما يروى من أن الأصمعي قد قرأ على أبي عمرو بن العلاء شعر النابغة الذبياني - فلما بلغ قوله في وصف الناقة:
كناز البضيع جمالية
…
إذا ما بغمن تراها كتوما (2)
فأبو عمرو قدر أي أن الألفاظ يجب أن يراعى فيها الدقة في استعمالها فيما وضعت له، لأنه من استقراء كلام العرب وجد أن صياح الفحول يكون من نشاطها، وصريف الإناث يكون من إعيائها، وأن النابغة قد
(1)
…
الموشح للمرزباني صـ 41.
(2)
…
دراسات في نقد الأدب العربي صـ 113، 114.
انفرد من بينهم بعكس هذا الاستعمال والحقيقة أن ناقد الأدب ليس رجلاً نحوياً، ولا علماً من أعلام اللغة، ولا عالماً بالصرف أو العروض، ولا راوية للمأثور من الأدب والأخبار والأنساب، ولكنه في الواقع كل أولئك الرجال، وثقافته تمثل كل تلك الثقافات، لأنها مادته التي يعتمد عليها في إصدار حكم صادر مستوعب (1)، فعبارة "النقد الأدبي" ينبغي أن تكون شاملة للنقد بأنواعه: النحوي، والعروضي، واللغوي والبلاغي.
فإذا تقدمنا قليلاً، وطالعتنا بوادر التأليف في "النقد الأدبي" التقينا بصحيفة بشر بن المعتمر، التي اعتبرها المحدثون من النقاد دعامة من دعائم النقد الأدبي، بل والأساس الذي قامت عليه الدراسات البلاغية أيضاً.
وفي تلك الصحيفة يوصي بشر باختيار الكلام، والبعد عن التعقيد، واختيار اللفظ الشريف للمعنى الشريف، مع مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
وتلك قيم بلاغية على درجة كبيرة من الأهمية، ومع ذلك فإن بعض النقاد المحدثين قد رأى أنها شاملة "لقواعد النقد الأدبي" وأصوله، بل إنه يرى أن تلك المفاهيم التي حوتها صحيفة بشر: أبعد الأشياء عن البلاغة بمعناها الاصطلاحي! !
وأنت ترى أن في هذا القول مبالغة ليست في محلها فقد حوت الصحيفة أهم قضية من قضايا البلاغة، وهي:"مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، وقد صار هذا المفهوم تعريفاً للبلاغة حتى عصرنا الحاضر.
على أن هذا الرأي - بما فيه من مبالغة - يعطيك الدليل القوي على صحة ما نقول، وهي أن البلاغة قسم من أقسام النقد الأدبي، أو جزء لا غنى عنه من أجزائه.
(1)
…
نفس المرجع صـ 41.
(4 - النظم البلاغي)
فإذا ما التقينا بأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ في كتابه: "البيان والتبيين"، الذي اعتبره النقاد من أقدم الآثار في النقد الأدبي عند العرب، وجدناه يعالج من بين قضايا النقد الأدبي مسائل بلاغية كثيرة، كمحاولة تعريف البلاغة، واللفظ والمعنى، ووجوب مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والإيجاز والإطناب ومواضعهما، والازدواج والسجع والاحتراس، والسرقات الشعرية، وغير ذلك من القضايا البلاغية التي جعلته أهلاً لأن يعد - غير منازع - مؤسس البلاغة العربية.
على أنه لا يقدح في صحة نظرتنا إلى البلاغة على أنها قسم من أقسام النقد الأدبي، وأن نقاد الأدب قد جعلوا النقد البلاغي جزءاً هاماً من النقد الأدبي أن نرى أبا عبد الله محمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة 232 هـ في كتابه:"طبقات الشعراء" لا يتعرض للناحية البلاغية وإنما يمضي لناحية أخرى هي: تقسيم الشعراء إلى طبقات.
وذلك لأن ابن سلام قد اتجه في مؤلفه هذا اتجاهاً تاريخياً، وهذا الاتجاه هو أحد المناهج الرئيسية للنقد الأدبي - كما أسلفنا - هذا إلى تقسيمه الشعراء إلى مجموعات بحسب تفاوتهم في كثرة الإنتاج أو في جودته، أو في قدرته على التصرف في فنون الشعر، وهذه ثقافة نقدية لازمة للناقد حتى يستطيع الحكم على النصوص الأدبية من الناحية الفنية.
ويقرب من ذلك الاتجاه ومن تلك الثقافة النقدية: جهود ابن قتيبة النقدية في كتابه "الشعر والشعراء".
وأبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، المتوفى سنة 291 هـ، مع أن الشعر لم يكن ميدانه، ولم تكن له قدم راسخة في البلاغة وإنما كان من أئمة اللغة والنحو، وراوية من رواة الأدب وحفاظه، يؤلف كتابه:"قواعد الشعر"، ويذكر أن من فنون الشعر: التشبيه، والإفراط في الإغراق
ولطافة المعنى، والاستعارة، وحسن الخروج، ومجاورة الأضداد، والمطابق.
ولأن تلك القضايا التي تناولها ثعلب معدودة من بين قضايا النقد، فإنه قد عدها من فنون الشعر، أو ص 51 نقاد الشعر يعتبرون ثعلباً حلقة في سلسلة النقاد، كما يعتبرون كتابه مصدراً من مصادر النقد الأدبي عند العرب.
ولعل تلك النغمات التي رددها ثعلب في "قواعد الشعر" من عدة ص 51 تلك المسائل البلاغية الآنفة من فنون الشعر هي التي ألهمت معاصره عبد الله بن المعتز المتوفى سنة 296 هـ أن ينتقل بالنقد الأدبي في كتابه "البديع" إلى طور جديد هو طور العناية بالصورة ودراسة الشكل، وقد كانت جهود النقاد الذين سبقوه مقصورة على المعاني والأفكار، أو على تقسيم الشعراء إلى طبقات.
أما هو فقد اتجه إلى دراسة شكل النص الأدبي وصورته، وكيفية تحسينه وتزيينه، ولهذا فإنه يورد في كتابه بعض الألوان البديعية التي بها تحسن الصورة الأدبية، وتكتسي ثوباً جميلاً، ومعرضاً شيقاً، ويعد من هذه الألوان البديعية: الاستعارة، والتجنيس، والمطابقة، ورد الإعجاز على ما تقدمها، والمذهب الكلامي، ثم عدد ألواناً أخرى بها يحسن الكلام، والشعر كالالتفات: والاعتراض، والرجوع، وحسن الخروج، وتأكيد المدح، وتجاهل العارف، والهزل الذي يراد به الجد، وحسن التضمين والتعريض والكناية، والإفراط في الصفة، وحسن التشبيه، ولزوم ما لا يلزم، وحسن الابتداء.
وأنت ترى أن تلك المباحث كلها مباحث بلاغية، وأنها في الوقت نفسه - كما رأى النقاد الأوائل - داخلة في إطار النقد الأدبي.
وفي مطلع القرن الرابع الهجري نجد محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي
الأصبهاني المتوفى سنة 222 هـ والذي كان من شعراء عصره ونقاده يؤلف كتابه "عيار الشعر" ليبحث فيه صناعة الشعر، والميزان الذي به تقاس بلاغته، وقد اعتبر هذا الكتاب من أهم كتب النقد التي صنفت في القرن الرابع الهجري.
وفي هذا الكتاب القيم: تجد ابن طباطبا يجعل التشبيه أهم مباحثه، لأنه يعتبره جوهر الشعر ولبه، فيستقصي جميع وجوهه وأقسامه.
حتى إذا ما وصلنا إلى قدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 هـ وجدنا النقد الأدبي في كتابه: "نقد الشعر" يأخذ طريقاً آخر غير ما ألفه النقاد من قبله، فقد كانوا يبحثون في تقسيم الشعراء إلى طبقات، أو في رسم الصورة المثلى للقطع الأدبية، أو في وجوه تحسينها وتزيينها، أما قدامة فقد اتجه اتجاهاً خاصاً هو البحث في تخليص جيد الشعر من رديئه، ولهذا فإنه يسميه:"علم جيد الشعر من رديئه" فعرف الشعر، وأخرج محترزات تعريفه، ثم بدأ في سرد صفات الشعر التي إذا اجتمعت فيه كان في غاية الجودة، وذكر منها: الترصيع، والتشبيه، وصحة التقسيم، وصحة المقابلات، وصحة التفسير، والتتميم، والاحتراس، والمبالغة والطباق، والالتفات، والمساواة، والتعريض والكناية والجناس، فهو يؤلف كتاباً في "نقد الشعر" وهو في الوقت نفسه يورد مسائل بلاغية كثيرة لها صلة وثيقة بنقد الشعر.
وعندما جاء التطبيق العملي للنقد الأدبي كان كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري لأبي الحسن بن بشر الآمدي المتوفى سنة 371 هـ وكتاب: "الوساطة بين المتنبي وخصومه" للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى سنة 392 هـ رأينا فيهما النقد الأدبي قد أخذ صورته العملية وتضافرت جميع أقسامه فيها لتخدم النص الأدبي.
فالنقد النحوي، والنقد العروضي، والنقد اللغوي، إلى جانب النقد
البلاغي، جميعها قد تعاونت في سبيل إصدار حكم نقدي شامل مستوعب على أشعار كل من: أبي تمام، والبحتري، والمتنبي، مما يؤكد رأينا الذي نقول به، وهو أن النقد الأدبي شامل للنقد بجميع أقسامه، ومنها: النقد البلاغي. ومن ثم فإنه لا ينبغي أن تفصل البلاغة عن النقد الأدبي.
وإذا ما أردنا تحديد الأسباب التي أدت إلى انفصال البلاغة عن النقد. أو بمعنى آخر: توضيح الاتجاهات التي أدت إلى تمييز علوم البلاغة عن النقد الأدبي، وانكماشها عن أن تسير به نحو رعاية النصوص الأدبية وتهذيبها وتزيينها بحلل من جمال المعنى وحسن اللفظ وقوة الأسلوب ووضوحه، وجدنا هذه الأسباب كامنة في تأثر المتكلمين من المعتزلة بالفلسفة، فقد تسلحوا بها للرد على خصومهم وإثبات حججهم، وإقامة براهينهم على دعائم من البلاغة والفلسفة والدين.
فلقد ظل البيان العربي منذ تأسيسه على يد أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ عربياً خالصاً، ينهل من معين الثقافة العربية الأصيلة، إلى أن اتصل علماء البلاغة من متكلمي المعتزلة بالفلسفة، فأخذوا منها بطرف، ولكنهم ظلوا محافظين إزاءها حفاظاً جعل البلاغة العربية تظل نقية من شوائب الفلسفة، حتى إذا ما أخذت تقترب منها شيئاً فشيئاً، وصار البيان العربي أقرب إلى الفلسفة منه إلى الأدب، بدأ الانفصال يبدو شيئاً فشيئاً، حتى وضع بذوره عبد القاهر الجرجاني بطريقته التقريرية - كما يرى الدكتور طه حسين في مقدمة "نقد النثر"، إذ يقول: "ولقد أنشأ متكلمو المعتزلة - هذا البيان - إذا صح التعبير - وتعهدوه، وقلما كان يفلت من بين أيديهم، وقد بقي أقرب إلى الأدب منه إلى الفلسفة ما بقي أولئك المتكلمون يدرسون الأدب العربي وينهلون من موارده العذبة ولما أصبحوا أكثر اشتغالاً بالفلسفة منهم بالأدب أصبح بيانهم أقرب إلى الفلسفة منه إلى الأدب.
ولذلك لم يكن عبد القاهر الجرجاني عندما وضع في القرن الخامس
كتاب "أسرار البلاغة" المعتبر غرة كتب البيان العربي إلا فيلسوفاً .. وإننا لنجد في كتابه المذكور جراثيم "الطريقة التقريرية التي أودت بالبيان العربي في القرن السادس"(1).
والواقع أن إمعان البلاغيين في تتبع آثار الفلسفة في تآليفهم وأساليبهم هو الذي جعلهم يتجهون بالبلاغة اتجاهات لا صلة بينها وبين البلاغة على الإطلاق؛ وصحيح أن عبد القاهر لم يكن يضارع في طريقة تناوله النصوص ص 54 الأدبية وتحليلها تحليلاً نقدياً بلاغياً موغلاً في التغلغل في أعماق النفس الإنسانية لاستخراج ما في النصوص من أسرار الجمال، ولطائف الروعة والبهاء؛ ولكن من تتبعوه، وحاولوا فهم طريقته وأسلوبه في استجلاء خفايا الإعجاز، واكتشاف أسرار الأساليب وما بها من جمال، لم يكن لديهم القدرة على ذلك إذ كانت تنقصهم الأساليب الأدبية الجميلة، والذوق البلاغي، والحس المرهف، والأذن الشاعرة؛ فجاءوا إلى كتابيه ص 54: وكل ما لديهم من زاد ومعرفة شيئان ص 54 هما: الفلسفة والمنطق؛ فتناولوا البلاغة بهما؛ وما أبعد البلاغة العربية الأصيلة عن متاهات الفلسفة وترهات المنطق!
وكان ما كان مما أدى بالبلاغة العربية إلى الجمود والتعقيد والتعمية والألغاز التي نراها متمثلة في الجزء الثالث من كتاب "المفتاح" للسكاكي؛ فلم يتقدم البيان العربي بعد عبد القاهر تقدماً ما؛ بل أخذ على العكس من ذلك في التأخر والانحطاط.
ومنذ القرن السابع الهجري جعل يفقد كل صفة أدبية له، ويصبح فريسة للشراح والمقررين الذي اضطلعوا بالجدل فيما ليس بشيء وكادوا يجهلون الأدب العربي جهلاً تاماً (2).
(1)
…
نقد النثر صـ 16.
(2)
…
نقد النثر صـ 30.
غير أن جراثيم الطريقة التقريرية "لم تقف عند حد البلاغة لتفسدها؛ وإنما سبقتها إلى النقد الأدبي بصفة عامة على يدي أبي هلالي العسكري في كتابه "سر الصناعتين"؛ فقد أخذت فلسفة اليونان تتغلغل شيئاً فشيئًا في البيئات الأدبية ذاتها؛ كما أخذ الأدب يتطور نحو الصنعة البديعية؛ فوجد مجال واسع لدراسة تلك الأوجه الجديدة والمحسنات المبتكرة؛ وقد عززت تلك الدراسات بفساد الذوق وفقره؛ وإذا بالنقد ينصرف عن النظر في الموازنة بين الشعراء، والوساطة بينهم وبين خصومهم إلى تقسيم أوجه البديع، وشرح الطرق البلاغية؛ وكان عبد العزيز الجرجاني آخر النقاد، والباب الذي يسلمنا ص 55 إلى البلاغيين.
وأخيراً ظهر أبو هلال العسكري. وكان هذا الكتاب (الصناعتين) - فيما نرى - نقطة تحول النقد إلى بلاغة (1).
ولقد كان أبو الهلال بعثاً لقدامة - في منهجه ص 55 التقريري - فاستطاع - بما له من دراية بالأدب العربي؛ شعره ونثره - أن يفصل آراء قدامة ويضيف إليها أمثلة جديدة، وأن يضيف إلى تقاسيمه الفلسفية تقاسيم أخرى.
وهذه التقاسيم قد لا تكون ضارة في حد ذاتها؛ ولكن الملاحظ أنها لم تلبث أن جففت ينابيع الأدب وخرجت به إلى الصنعة المقيتة إذ أخذ الأدباء والشعراء يستخدمون تلك الأوجه ليحلوا بها أسلوبهم، وكانت النتيجة أن ضاع من الأدب كل إحساس أو فكر، أو فن صحيح، وغلبت اللفظية والتكلف حتى أماتت الأدب (2).
(1)
…
النقد المنهجي عند العرب د. محمد مندور صـ 319، صـ 320.
(2)
…
نفس المرجع صـ 322.
وعلى الرغم من أن انفصال البلاغة عن النقد الأدبي قد أدى إلى انحطاطهما - كما رأيت - فإن النقاد المعاصرين قد انقسموا حيال هذه القضية إلى فريقين:
ففريق يرى في جلاء ووضوح، بأن معنى النقد شامل البلاغة والنقد الأدبي، بل وبأن البلاغة جزء من النقد الأدبي، وبأنها من أسس النقد الأدبي عند العرب، ومن هذا الفريق الدكتور أحمد بدوي، فهو يقول:"لم يعرف العرب عبارة "النقد الأدبي" - كما رجحنا - ولذا كان من الطبيعي ألا يتحدثوا عنه بهذا التعبير، ولكنهم تحدثوا عن بعض علومه، وهي علوم البلاغة التي أخذت تتميز بالعناية من بين أسس النقد الأدبي"(1).
وهذا الرأي الذي نطمئن إليه، لأنه يستقي براهينه من ينابيع الثقافة العربية الأصيلة، ويستمد شواهده من تراثها الأدبي وتؤيده اتجاهات النقاد الأوائل في نقدهم النصوص الأدبية - كما سبق أن أسلفنا -.
وفريق آخر يفرق بين البلاغة والنقد الأدبي، بل ويحاول التفريق بين البلاغة والنقد بعامة، حتى لكأن البلاغة ليست نقداً ومن هذا الفريق الأستاذ أحمد أمين فهو يفرق بين البلاغة والنقد من وجهين:
الأول: أن البلاغة تغلب فيها الناحية الفنية، فهي تقصد أكثر ما تقصد إلى تمرين المتعلم أن يأتي بقطع بليغة، أما النقد: فهو يوضح النظريات التي تقدر بها تلك القطع.
والثاني: أن البلاغة أكثر ما تعني بالشكل وصورة الكلام، أما النقد فيتعلق بما وراء الشكل (2).
(1) أسس النقد الأدبي عند العرب د. أحمد بدوي صـ 108.
(2)
…
النقد الأدبي لأحمد أمين صـ 17.
ومن هذا الفريق - أيضاً - الدكتور محمد مندور، الذي يذكر أن من الفوارق الجوهرية التي تميز النقد عن البلاغة: أن النقد يدرس ما قيل فعلاً، بينما البلاغة تضع قواعد تحاول أن تخضع لها الشعراء، وأن تحكمها فيهم (1).
بل إنه يتجاوز هذا الحد إلى أن يقول: "إننا لا نزال إلى اليوم ندرس البلاغة، ولربما كنا في ذلك الشعب الوحيد في بلاد العالم المتحضر كله"(2).
وكأنه لا يعترف بنقد الجانب البلاغي من النص الأدبي - على ما له من خطر في نقد الأساليب الأدبية - وهو لا يقف عند هذا الحد للغض من قيمة النقد البلاغي، بل إنه ليعتبر دراسة البلاغة العربية عاراً يجب أن تتبرأ منه الأمة العربية جمعاء! !
وعلى أية حال: فإن المحور الذي يدور حوله أصحاب هذا الرأي هو: أن البلاغة توجيه وتعليم، لأننا تفترض قواعد نظرية تتحكم في أقوال الأدباء والشعراء.
ولكننا نقول: إن قواعد البلاغة لم توضع من فراغ، وإنما وضعت بعد أن ناقش واضعوها نصوصاً أدبية كثيرة، فعرفوا محاسنها ومساوئها ثم حاولوا وضع الصورة المثلى لما يجب أن يكون عليه النص الأدبي قوة، ووضوحاً، وجمالاً.
(1)
…
نفس المرجع ص 322.
(2)
×××× ص 57.