الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (1)، فقد أسند إخراج الأثقال إلى الأرض، لأنها مكان الإخراج، والفاعل الحقيقي لهذا الإخراج هو الله تعالى فهو مجاز عقلي علاقته المكانية.
6 - السببية:
وهي: أن يسند للفعل إلى سببه: ومن أمثلتهم لهذه العلاقة قولهم: "محبتك جاءت بي إليك، فالمحبة لم تجيء بك، وإنما أنت الذي جئت بسبب هذه المحبة، فإسناد المجيء إلى المحبة مجاز عقلي علاقته السببية.
قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} (2) فأسند التدبيح إلى فرعون، وليس فاعلًا حقيقيًا له، وإنما هو آمر فقط بالتدبيح، فهو سبب فيه، ولهذا فإن الإسناد مجاز عقلي علاقته السببية.
وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} (3) فأسند زيادة النفور إلى النذير وليس فاعلًا حقيقيًا له، فهو مجاز عقلي علاقته السببية.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (4) أسند زيادة الإيمان إلى الآيات لأنها سبب فيها.
ومنه قول أبي الطيب:
وتحيى له المال الصوارم والقنا
…
ويقتل ما تحيي التبسم والجدا
(1)
…
الزلزلة: 2.
(2)
…
القصص: 4.
(3)
…
فاطر: 42.
(4)
…
الأنفال: 3.
لما كان الصوارم والقنا سببًا في إحياء المال بمعنى جمعه، وكان التبسم والجدا سببًا بمعنى إنفاقه على العافين، جاز أن يسند الأحياء إلى الصوارم والقنا، وأن يسند القتل إلى التبسم والجدا، على سبيل المجاز العقلي، لعلاقة السببية.
هذه هي العلاقات التي تصورها الخطيب للجاز العقلي، لأنها هي التي يشملها تعريفه، حيث قصر المجاز العقلي على إسناد الفعل أو ما في معناه.
وقد نبه العلامة السبكي إلى هذا، وذكر علاقتين أخريين لم يشملهما تعريف الخطيب وهما:
(أ) الوصف أو الإخبار بالمصدر، في مثل وجل عدل، وقول الخنساء:
ترتع ما غفلت حتى إذا أذكرت
…
فإنما هي إقبال وأدبار
(ب) وصف الشيء: بوصف محدثه وصاحبه، كما في: الكتاب الحكيم، والأسلوب الحكيم، إذ الحكمة في الحقيقة ليست وصفًا للكتاب وإنما هي وصف لصاحبه وليست في الحقيقة وصفًا للأسلوب وإنما هي وصف لصاحبه كذلك.
ومن العلاقات التي ذكرها الزمخشري - وأغفلها تعريف الخطيب:
(أ) إسناد الفعل إلى الجنس كله - وهو في الحقيقة مسند إلى بعضه - كقولهم بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتل رجل منهم.
ومثله قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} (1) أسند العقر إليهم جميعًا، مع أن العقر لم يباشره إلا بعضهم.
(1)
…
الأعراف: 77.
(ب) إسناد الفعل إلى آلته، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (1).
(جـ) إسناد الفعل إلى ما له مزيد اختصاص وقربي بالفاعل الحقيقي، كما في قوله تعالى:{إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} (2) أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم - وهو لله وحده - لما لهم من القربى والاختصاص بالله - كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا وأمرنا بكذا، والمدبر والآمر هو الملك. وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنهم لا يتميزون عنه (3).
ولهذا كان تعريف عبد القاهر للمجاز العقلي بأنه "كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه في الفعل لضرب من التأول" هو التعريف الأمثل للمجاز العقلي، لأنه لم يحدد علاقاته.
وقد أشار الخطيب - في تعريفه - بقوله: "بتأول": إلى أن قول الجاهل: شفى الطبيب المريض، ليس من باب المجاز، بل هو من باب الحقيقة، لأن الجاهل لا يتأول في كلامه.
ولهذا لم يحمل قول الشاعر الحماسي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
…
كر الغداة وهو العشى
على المجاز ما لم يعلم أو يظن أن قائله لم يرد ظاهره، كما استدل على أن إسناد (ميز) إلى (جذب الليالي) - في قول أبي النجم:
(1)
…
البقرة: 283.
(2)
…
الحجر: 60.
(3)
…
خصائص التراكيب صـ 76.
قد أصبحت أم الخيار تدعى
…
على ذنبا كله لم أصنع
من أن رأت رأسي كراس الأصلع
…
ميز عنه تنزعا من تنزع
جذب الليالي أبطئي أو أسرعي
مجاز بقوله عقيبه:
أفناه قيل الله الشمس أطلعي
…
حتى إذا وأراك أفتى فارجعي
والذي يدلنا على أن المتكلم متأول في كلامه: هو القرينة التي تصرف السامع مع إرادة الظاهر إلى المراد من الكلام: وهي ضربان: لفظية ومعنوية:
فاللفظية: هي أن يكون في الكلام لفظ يصرفه عن إرادة ظاهرة، أي عن أن يكون الإسناد على حقيقته، وذلك كما في قول الصلتان العبدي، من قصيدة ينصح بها ابنه:
أشاب الصغير، وأفني الكبير
…
كر الغداة ومر العثى ص 156
نروح وتغدو لحاجاتنا
…
وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته
…
وتبقى له حاجة ما بقى
إلى أن قال:
ألم تر لقمان أوصى ابنه
…
وأوصيت عمرًا، ونعم الوصي
فملتقا، أننا مسلمون
…
على دين صديقنا والغبي ص 156
والشاهد: أفي البيت الأول: حيث أسند الشاب وأفنى إلى كر الغداة ومر العشى، وهو إسناد مجازي من إسناد الفعل إلى سببه، وقرينته،
البيتان الأخيران، فإن مراده بوصية لقمان: قوله: "يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم، وفي هذا القول دليل على أن القائل متجوز في كلامه - سيما البيت الأخير -، فهو أصرح في الدلالة على هذا التجوز، فكلا البيتين قرينة "لفظية صارفة" عن أن يكون إسناد الإشابة والإفناء إلى تعاقب الأيام والليالي إسنادًا حقيقيًا.
والمعنوية: هي: ألا يكون في الكلام لفظ يصرفه عن إرادة الظاهر منه، بل هو أمر خارج عن اللفظ وذلك لأحد أمرين:
الأول: أن يكون صدور المسند من المسند إليه، أو قيامه به مستحيلًا عقلًا أو عادة.
فالمستحيل عقلًا، كما في قولك:"محبتك جاءت بي إليك" فإسناد المجيء إلى المحبة مجاز عقلي علاقته السببية وقرينته، استحالة صدور المجيء من المحبة عقلًا.
والمستحيل عادة: كما في قولهم هزم القائد الجيش، فإسناد الهزيمة إلى القائد مجاز عقلي: علاقته السببية، وقرينته: استحالة أن يهزم القائد الجيش وحده عادة - وإن أمكن ذلك عقلًا -.
ومنه قولهم: "بني صلاح الدين القلعة" و"فتح عمرو بن العاص مصر".
الثاني: أن يكون الكلام صادرًا عن الموحد، كقول غلام لبشام بن عبد الملك:"أصابتنا سغون ثلاثة: فسنة "أكلت اللحم، وسنه أذابت الشحم، وسنة طحنت العظم، فهذه الأسانيد الثلاثة مجازات عقلية، من إسناد الفعل إلى الزمان، أو إلى السبب.