الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ب) أضرب الخبر:
عمت أن الخبر هو: ما يحتمل الصدق والكذب لذاته، فهو مظنة التكذيب.
وقد نظر البلاغيون إلى أحوال المخاطب الذي يلقى إليه الخبر، فوجدوا أنها: ثلاثة: خلو الذهن، والتردد، والإنكار فقد يكون المخاطب خالي الذهن من هذا الخبر، ولم يكن عنده سابق فكرة عنه، ولا انشغال لخاطره به، وقد يكون متردداً في قبول هذا الخبر ورفضه. وقد يكون منكراً له، رافضاً لقبوله وتتراوح حال الإنكار والرفض عنده بين القوة والضعف.
وخالي الذهن من الخبر لا يحتاج إلى تأكيد، بل يلقى إليه الكلام خالياً من أي تأكيد، لأنه يصادف ذهناً خالياً، فيتمكن منه بمجرد وصوله إليه.
والمتردد في الخبر: عنده شك فيه، فهو طالب لنوع من التأكيد يزيل به تردده، فيلقى إليه الكلام موكداً بمؤكد واحد فقط.
والمنكر يحتاج إلى تأكيد أقوى من تأكيد المتردد وهذا التأكيد يكون على حسب الإنكار قوة وضعفاً. فيلقى الخبر مؤكداً بأكثر من تأكيد واحد أي بتأكيدين أو أكثر على حسب إنكاره في القوة والضعف.
ولهذا وجد البلاغيون أن أضرب الخبر ثلاثة:
الابتدائي: وهو ما يلقى إلى خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر، ومن التردد فيه، وهذا الضرب لا يحتاج إلى تأكيد؛ لأنه
- كما أسلفنا - يلقى إلى خال الذهن، إذ يصادف ذهناً خالياً، فيتمكن منه عند وصوله إليه، وذلك كقولك: نجح محمد، ومحمد ناجح.
ومنه قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (1).
وقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (2).
وقولك: الكريم محمود، والبخيل مذموم.
وإنما سمي هذا الضرب ابتدائياً: لأنه يلقى إلى المخاطب ابتداء دون سابق علم للمخاطب به.
والطلبي: وهو ما يلقى إلى المتردد في قبول الخبر ورفضه.
وهذا الضرب يحسن تقويته بمؤكد واحد، كقولك: لمحمد ناجح، وإن محمد ناجح.
ومنه قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (3).
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (5).
ومنه قول أمير الشعراء:
دقات قلب المرء قائلة له
…
إن الحياة دقائق وثوان (6)
(1)
…
النجم 31.
(2)
…
الكهف 46.
(3)
…
التوبة: 111.
(4)
…
النساء 48، 116.
(5)
…
المائدة: 90.
(6)
…
الشوقيات جـ 2، ص 168.
وإنما سمي هذا الضرب طلبياً، لأن المخاطب به طالب لنوع من التأكيد يزيل به تردده.
والإنكاري: وهو ما يلقى إلى المنكر للخبر؛ والرافض لقبوله.
وهذا الضرب يجب تأكيده بحسب قوة الإنكار وضعفه، فكلما ازداد الإنكار؛ زيد في التأكيد.
وذلك مثل قولك لمنكر نجاح محمد: إن محمداً لناجح، فإذا زاد في إنكاره قلت له: والله إن محمداً لناجح، وهكذا.
انظر كيف قد رجت الآية الكريمة في التأكيد وفق إنكار المنكرين في قول الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (1).
فالآية الكريمة تصور حواراً جرى بين الرسل - أصحاب القرية التي أرسلوا إليها، وقد جاء خطاب الرسل لأصحاب القرية في المرة الأولى مؤكداً بإن، واسمية الجملة؛ لأنهم كذبوا؛ بدليل قوله تعالى:"فكذبوهما".
فلما رد عليهم أصحاب القرية بقولهم: "ما أنتم إلا بشر مثلنا" مؤكدين ردهم بالنفي والاستثناء: أي: لستم رسلاً؛ لاعتقادهم أن الرسول لا يكون بشراً، مردفين بقولهم:"وما أنزل الرحمن من شيء" وهو تأكيد ثان لنفي الرسالة عنهم بصورة أبلغ؛ لأنهم نفوا أن يكون الله تعالى قد أنزل شيئاً عليهم أو على غيرهم.
(1)
…
يس: 13 - 16.
[سقطت من المصور]
لا يجتمعان وسرعة العقاب، فاستبعدوا منه الغفران والرحمة وكأنهم أنكروهما، فنفى الله إنكارهم هذا بإتيانه الخبر مؤكداً بإن واللام.
وهكذا تجد أن التأكيد يأتي على قدر الإنكار، أو التردد، وأن عدم التأكيد لا يكون إلا إذا ألقى الكلام إلى خالي الذهن من الخبر.
على أن الذي أوحى إلى البلاغيين بأضرب الخبر إنما هي قصة الفيلسوف الكندي، مع أبي العباس ص 130، فقد روي عن ابن الأنباري أنه قال: ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس، وقال له: إني لأجد في كلام العرب حشواً، فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ ؛ فقال: أجد العرب يقولون: عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله لقائم، فالألفاظ متكررة والمعنى واحد، فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فقولهم: عبد الله قائم: إخبار عن قيامه، وقولهم: إن عبد الله قائم: جواب عن سؤال سائل، وقولهم: إن عبد الله لقائم: جواب عن إنكار منكر قيامه فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني، قال: فما أحار المتفلسف جواباً" (1).
ويسمى إخراج الكلام على الوجوه المذكورة - أعني الخلو من التأكيد لخالي الذهن، والتقوية بمؤكد استحساناً للتردد، ووجوب التأكيد للمنكر - إخراجاً للكلام على مقتضى الظاهر، أي الإتيان بالكلام على مقتضى ظاهر حال المخاطب.
وقد يأتي الكلام على خلاف ظاهر الحال، فلا يعتد المتكلم بواقع حال المخاطب، ولكنه يجري على أمور اعتبارية يلحظها هو في كلامه، فيجعلها مقامات، ويصوغ عبارته على مقتضاها كأن ينزل خالي الذهن
(1)
…
دلائل الإعجاز ص 6، 2.
منزلة المتردد، وذلك إذا قدم له في الكلام ما يلوح له بالخبر، فيستشرف له استشراف الطالب المتردد، وحينئذ يحسن تأكيد الخبر له بمؤكد واحد يزيل تردده.
انظر إلى قوله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (1) فمطلع الكلام وهو قوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} معناه: لا تدعني يا نوح في شأن قومك، واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك، وهذا كلام يوحي بالخبر، ويهيئ النفس لأن تظن بأنهم مغرقون، وخصوصاً بعد أن تقدم قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا، فقد أوحى الله إليه بأن قومه لن يؤمنوا، ثم أمره بصنع الفلك، فالإيحاء بأنهم لن يؤمنوا: إشارة إلى أنهم سيقع بهم عذاب، والأمر بصنع الفلك: إشارة واضحة إلى أنهم مغرقون لا محالة.
ولما تضمن سابق الكلام هذا الإيحاء بالخبر، صار المقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم هل صاروا محكوماً عليهم بالإغراق أم لا؟ وبطلبه، فنزل منزلة السائل، وقيل:"إنهم مغرقون" مؤكداً، أي: محكوم عليهم بالإغراق.
ويكثر هذا الأسلوب في القرآن الكرين، حتى إنه - كما يقول عبد القاهر - لا يدركه الإحصاء، ويأتي بعد الأوامر والنواهي.
استمع إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (2).
(1)
…
هود: 37، والمؤمنون:27.
(2)
…
الحج: 1.
لما أمر بتقوى الله تعالى والخوف من عقابه، تطلعت نفس المخاطب إلى السؤال عن السبب الذي من أجله كان هذا الأمر، فأردف ذلك بقوله {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} .
واستمع إلى قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (1).
المخاطبون هنا لا ينكرون غفران الله تعالى للذنوب، فكان ظاهر حالهم يدعون إلى الإتيان بالكلام خالياً من أي تأكيد، ولكن لما كانوا قد أصرفوا على أنفسهم في مقارفة الذنوب، ونهاهم الله تعالى عن اليأس من رحمته، تطلعت نفوسهم إلى الخبر، طالبة له، وكأنهم سألوا: هل سيغفر الله الذنوب جميعاً؟ فقيل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} مؤكداً بتأكيد واحد يجيب عن تساؤلهم ويذهب ترددهم.
وهكذا الشأن في قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (2)، وقوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (3)، وقوله تعالى: على لسان لقمان -: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (4).
وقوله - جل وعلا - {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (5).
على أن هذا الأسلوب - وهو من خصائص التعبير القرآني - قد
(1)
…
الزمر: 53.
(2)
…
الذاريات: 55.
(3)
…
هود: 90.
(4)
…
لقمان: 17.
(5)
…
التوبة: 103.
تأثر به ابن المقفع في إرشاداته وتوجيهاته انظر إلى قوله: "لا تكونن نزر الكلام والسلام ولا تفرطن بالهشاشة والبشاسة. فإن إحداهما من الكبر، والأخرى من الخسف".
فقوله: "إن إحداهما من الكبر، جاء مؤكداً، لأنه تعليل لهذه النصيحة، وكأنه حين نهى عن النزر في القول، والإفراط في الهشاشة والبشاشة، تطلعت النفس المتلقية إلى معرفة سبب ذلك، وصارت كأنها مترددة فأسعفتها بهذه الجملة المؤكدة"(1).
وانظر إلى قوله: "أعلم أن حسن الكلام لا يتم إلا بحسن العمل، وأن المريض الذي قد علم دواء مرضه إن لم يتداو به، لم يغن عليه به شيئاً، ولم يجد لدائه راحة ولا خفة، فاستعمل رأيك ولا تحزن لقلة المال، فإن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال، كالأسد الذي يهاب وإن كان رابضا، والغني الذي لا مروءة له يهان وإن كان كثير المال، كالكلب لا يحفل به، وإن طوق، وخلخل بالذهب، فلا تكبرن عليك غربتك، فإن العاقل لا غربة له: كالأسد الذي لا ينقلب إلا ومعه قوته، فلتحسن تعاهدك لنفسك: فإنك إذا فعلت ذلك جاءك الخير يطلبك كما يطلب الماء انحداره"(2).
ثم أعد النظر في هذه الجمل: (فإن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال)(فإن العاقل لا غربة له)(فإنك إذا فعلت ذلك جاءك الخير يطلبك) تجد أن كل جملة منها قد أكدت بتأكيد واحد شأن الجمل التي تلقى إلى السائل المتردد، مع أنها ألقيت إلى خالي الذهن، ولكن لما تقدم على كل منها ما يلوح بالخبر - وذلك عن طريق النهي عن الحزن قبل الجملة الأولى،
(1)
…
خصائص التراكيب 51.
(2)
…
كتاب "كليلة ودمنة" جـ 121.
والنهي عن الشعور الزائد بالغربة قبل الثانية، والأمر بإحسان تعاهد النفس قبل الثالثة - تطلع المخاطب إلى معرفة الخبر، فنزل منزلة السائل المتردد، وأكد له الكلام بتأكيد واحد في كل جملة من الجمل الثلاثة - كما رأيت -
وقد جعل البلاغيون قصة بشار مع أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر، أصلا في هذا الباب.
فقد روي عن الأصمعي أنه قال: كان أبو عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر يأتيان بشاراً فيسلمان عليه بغاية الاعظام.
ثم يقولان: يا أبا معاذ، ماذا أحدثت؟ فيخبرهما. وينشدهما" ويكتبان عنه متواضعين له، حتى يأتي وقت الزوال، ثم ينصرفان، فأتياه يوماً، فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما، قالا بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب، قال: نعم: إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما:
بكرا - صاحبي - قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح في التبكير
حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت - يا أبا معاذ - مكان (إن ذاك النجاح)(بكرا فالنجاح) كان أحسن، فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية، فقلت:(إن ذاك النجاح).
كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت:(بكرا فالنجاح) كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فقبل بين عينيه (1).
(1)
…
دلائل الإعجاز ص 178.
فقول بشار: "إنما بنيتها أعربية وحشية" دليل على أن تلك الطريقة في التعبير إنما هي طريقة الأعراب الخاص، الذين لم تدنس عربيتهم شوائب اللحن.
ومثل بيت بشار: قول بعض العرب:
فغنها - وهي لك الفداء -
…
إن غناء الإبل الحداء
لما طلب الشاعر من مخاطبة الغناء للإبل، تطلعت نفسه إلى معرفة سبب هذا الطلب، فكأنه سأل: وهل غناء الإبل هو الحداء؟ فجاء الخبر مؤكداً بأن؛ لإزالة تردد مقدر عن المخاطب.
على أن التأكيد بإن بعد الأوامر والنواهي، إنما هو من خصائصها إذا كان مراداً بها إزالة تردد مقدر من المخاطب، لأنك ترى الجملة إذا هي دخلت بها ترتبط بما قبلها وتأتلف معه، وتتحد به حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغاً واحداً، وكأن أحدهما قد سبك في الآخر هذه الصورة، حتى إذا جئت إلى (إن) فأسقطتها رأيت الثاني قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه، ورأيته لا يتصل به، ولا يكون منه بسبيل حتى تجيء بالفاء فنقول: بكرا - صاحبي قبل الهجير، فداك النجاح في التبكير، وغنها وهي لك الفداء فغناء الإبل الحداء، ثم لا ترى الفاء تعيد الجمليتن إلى ما كانت عليه من الألفة وترد عليك الذي كنت تجد بإن من المعنى (1).
وقد ينزل المنكر منزلة غير المنكر، وذلك إذا كان معه من الأدلة والشواهد ما إن نأمله ارتدع عن إنكاره وذلك كما تقول لمنكر الإسلام، (الإسلام حق) هكذا من غير تأكيد؛ لأن لديه من الأدلة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما إن لارتدع عن إنكاره.
(1)
…
دلائل الإعجاز ص 206، 207.
وهذا شأن الحقائق الكبرى، والقضايا العظيمة التي تلقى دون احتفال بإنكار المنكرين أو اهتمام بتكذيب المكذبين، لأنها أرفع من أن تحاط بتأكيد أو تقرير.
ثم إن لهذا الأسلوب أثره الغالب في النفس حين تجد الكلام الذي يواجه الرفض والجمود خاليًا من الاحتفال والتوكيد، خافت النبرة هامسًا بالحقيقة في غير جلجلة وضجيج (1).
ويكثر هذا الأسلوب في القرآن الكريم:
استمع إلى قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (2).
فهو خبر عظيم يفيد أن كل ما في السموات وما في الأرض من حيوان، ونبات، وجماد يسبح لذلك القدوس، وهو منكور عند الجاحدين، ولكن القرآن الكريم لم يعبأ بهذا الإنكار، وساق تلك الحقيقة الكبرى في هدوء واثق حكيم.
ومن هذا الأسلوب في الشعر قول أمير الشعراء - يرثي جدته - (3):
خلقنا للحياة وللممات
…
ومن هذين كل الحادثات
ومن يولد يعش ويمت كأن لم
…
يمر خياله بالكائنات
ومهد المرء في أيدي الرواقي
…
كتعش المرء بين النائحات
وما سلم الوليد من اشتكاه
…
فهل يخلو المعمر من أذاه؟
هي الدنيا قتال، نحن فيه
…
مقاصد للحمام وللقناة
(1)
…
خصائص التراكيب صـ 54.
(2)
…
الجمعة: 1.
(3)
…
الشوقيات جـ 3 ص 42.
وكل الناس مدفوع إليه
…
كما دفع الجبان إلى الثبات
نروع ما نروع ثم نرمي
…
بسهم من يد المقدورات!
فقد سرد أمير الشعراء قضايا عدة دون تأكيدها، على الرغم من أنها ليست مسلمًا بها من جميع الناس، ولكن لما كانت أدلة صحتها كثيرة، لو تأملها الجميع لآمنوا بها، ساقها مساق الأمور المسلمة لا اعتراض لأحد عليها.
ومن هذا القبيل قول أبي الطبيب يمدح سيف الدولة:
رأيتك محض الحلم في محض قدرة
…
ولو شئت كان الحلم منك المهندا
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
…
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وإن أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
…
مضر، كوضع السيف في موضع الندى
ولكن تفوق الناس رأيًا وحكمة
…
كما فقتهم حالًا، ونفسًا، ومحتدًا
فقد ساق أبو الطيب قضايا غير مسلم بها، ولكنه لم يؤكدها لعدم اهتمامه بإنكار المنكرين لتلك القضايا مع أن هذه القضايا ما هو من الأمور الخطيرة، فقد جعل سيف الدولة، يفوق الناس جميعًا في رأيه، وحكمته، بل وفي حاله، ونفسه ومحتده!
* * *
وقد ينزل غير المنكر منزلة المنكر: وذلك إذا ظهر عليه شيء من علامات الإنكار، فيلقى إليه الكلام مؤكدًا، وإن لم يكن في ظاهر حاله منكرًا.
فالمسلم المهمل في أداء الصلاة، نقول له:(إن الصلاة واجبة) تنزيلًا له منزلة المفكر، وإن لم يكن منكرًا لفرضية الصلاة، لأن إهماله في أداء الصلاة أمارة من أمارات الإنكار.
ومن هذا القبيل قول الله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} (1) فإتيان الساعة حقيقة لا ينكرها المسلمون، ولكن تصرف المسلمين حيال هذه الحقيقة تصرف من لا يؤمن بها، ولهذا خوطبوا خطاب المنكرين لقيام الساعة.
ومنه قوله تعالى - مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء"(2)، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينكر أنه لا يستطيع إسماع الموتى، وإسماع الصم. ولكن لما كان مبالغًا في الإلحاح على دعوة المكابرين من الكفار إلى الإسلام نزل منزلة المنكر بهذه الحقيقة، وخوطب خطاب المنكر.
ولهذا قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (3) مؤكدًا إثبات الموت بتأكيدين - وإن كان مما لا ينكر - لأنه نزل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده، ولهذا قيل (ميتون) دون (تموتون) وأكد إثبات البعث تأكيدًا واحدًا - وإن كان مما ينكر - لأنه لما كانت أدلته
(1)
…
الحج: 1.
(2)
…
الروم: 53.
(3)
…
المؤمنون: 15، 16.
ظاهرة، كان جديرًا بألا ينكر، بل إما أن يعترف به، أو يتردد فيه، فنزل المخاطبون منزلة المترددين تنبيهًا لهم على ظهور أدلته، وحثًا على النظر فيها، ولهذا جاء تبعثون على الأصل (1).
ومما هو أصل في هذا الباب قول حجلة لن فضلة الباهي:
جاء شقيق عارضًا رمحه
…
إن بني عمك فيهم رماح
فقد رأى الشاعر شقيقًا مقبلًا غير مكترث بقومه، إذ جاء عارضًا رمحه، أي واضعًا له بالعرض على فخذه غير متهيئ لقتال، كأنه ينكر أن يكون فيهم من يستطيع لقاءه، فنزل منزلة من ينكر أن في بني عمه رماحًا، وإن لم يكن منكرًا في الحقيقة، فقال له:(إن بني عمك فيهم رماح).
وبعد: فقد رأيت مما أسلفنا لك: أن التوكيد وعدمه إنما ينظر فيهما إلى حال المخاطب الحقيقية والاعتبارية.
وقد ذكر الدكتور محمد أبو موسى: أن هناك ضروبًا أخرى من التوكيد لا ينظر فيها إلى حال المخاطب وإنما ينظر فيها المتكلم إلى حال نفسه، ومدى انفعاله بهذه الحقائق، وحرصه على إذاعتها. وتقريرها في النفوس كما أحمسها ص 139 مقررة أكيدة في نفسه، ولم ينس أن يرجح الفضل إلى ابن جني في هذا الباب، حيث أنه قد ذكر أن التوكيد قد يكون مرجعه إلى اهتمام المتكلم بالمعنى وأنه مستعظم له، وأن يريد أن ينقله إلى سامعه كما يجده في نفسه (2).
ومن هذا الباب قول الله تعالى: - حكاية عن سيدنا إبراهيم - في ضراعته: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
(1)
…
الإيضاح: صـ 18.
(2)
…
خصائص التركيب صـ 60.
الْمُحَرَّمِ} (1) وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} (2) فالتأكيد هنا لم ينظر فيه إلى حال المخاطب وإنما نظر فيه إلى حال النفس الراجية، وبين مدى انفعالها بهذا الرجاء.
ومثله {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (3).
وقد يكون التأكيد لرغبة المتكلم في تقوية الكلام عند المخاطب وتقريره في نفسه - وإن كان غير مفكر له - كقوله تعالى - في مخاطبة النبي عليه السلام: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} (4).
وقوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (5).
وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (6).
وقد يكون التأكيد لتحقيق الوعد - كما في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (7).
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (8).
(1)
…
إبراهيم: 37.
(2)
…
إبراهيم: 38.
(3)
…
آل عمران: 9.
(4)
…
الإنسان: 22.
(5)
…
طه: 14.
(6)
…
الشعراء: 191، 192.
(7)
…
الحج: 38.
(8)
…
الأنبياء: 101.
وقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1).
وقد يكون التأكيد لغرابة الخبر، وحرص المتكلم على أن يؤنس به نفس المخاطب وإن كان المخاطب لا ينكره، ومثله قوله تعالى:{لَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
ومنه قوله تعالى يخاطب موسى عليه السلام لما رأى أفاعيل السحرة وأوجس في نفسه خيفة قال له الله تعالى: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} (2).
وقد يكون التوكيد إظهارًا لمعتقد النفس وإبرازًا له لتزداد النفس يقينًا به، لأن مقامها يقتضي ذلك، ومثله قوله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (3).
قال الدكتور أبو موسى: وقد يأتي التوكيد في الجمل التي كأنها نتائج لمقدمات فيلفت إليه وكأنها هي المقصودة والأهم وموضع العناية في السياق، ثم مثل بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (4).
(1)
…
الحج: 39.
(2)
…
طه: 68.
(3)
…
البقرة: 156.
(4)
…
الحج: 5 - 6.