المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - حذف المسند: - النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق

[حسن إسماعيل عبد الرازق]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌1 - البلاغة:

- ‌(أ) جهود العلماء في محاولة تحديد معنى البلاغة:

- ‌(ب) مراحل البحث البلاغي:

- ‌2 - النقد الأدبي

- ‌وللنقد الأدبي ثلاثة مناهج رئيسية:

- ‌إحداها: المنهج الفني:

- ‌وثانيها: المنهج النفسي:

- ‌وثالثها: هو المنهج التاريخي:

- ‌مكان البلاغة من النقد

- ‌الباب الأولالنظم البلاغي

- ‌الفصل الأولمنابع فكرة النظم

- ‌الفصل الثانينظرية النظم عند عبد القاهر

- ‌الباب الثانيتطبيق النظم البلاغي على النص الأدبي

- ‌الفصل الأول‌‌الفصاحة والبلاغة

- ‌الفصاحة والبلاغة

- ‌فأما فصاحة الكلمة:

- ‌الكلمة على أقسام:

- ‌والتعقيد معناه: ألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المعنى المراد؛ وله سببان:

- ‌السبب الأول: لفظي

- ‌والسبب الثاني من أسباب التعقيد: معنوي:

- ‌علم المعاني(معاني النحو فيما بين الكلم)

- ‌الفصل الثانيأحوال الإسناد الخبري

- ‌تمهيد:

- ‌(1) أغراض الخبر:

- ‌(ب) أضرب الخبر:

- ‌(جـ) المجاز في الإسناد:

- ‌ علاقات المجاز العقلي

- ‌1 - الفاعلية:

- ‌2 - المفعولية:

- ‌3 - المصدرية:

- ‌4 - الزمانية:

- ‌5 - المكانية:

- ‌6 - السببية:

- ‌الفرق بين المجاز العقلي والمجاز اللغوي:

- ‌تقسيم المجاز العقلي باعتبار طرفيه:

- ‌إن أسرار بلاغة المجاز العقلي - كما تصورها الإمام عبد القاهر - تتمثل فيما يلي:

- ‌1 - سعة الخيال:

- ‌2 - المبالغة:

- ‌3 - تفخم العبارة:

- ‌4 - تأكيد العلاقة بين الفاعل المجازي والفاعل الحقيقي

- ‌5 - التركيز في اختيار العلاقة

- ‌6 - الإيجاز:

- ‌7 - إثبات الفعل بدليله

- ‌الفصل الثالثأحوال المسند إليه

- ‌(1) حذف المسند إليه:

- ‌2 - ذكر المسند إليه:

- ‌(ب) تكرير المسند إليه:

- ‌3 - تعريف المسند إليه:

- ‌التعريف باسم الإشارة:

- ‌التعريف بأل:

- ‌التعريف بالإضافة:

- ‌4 - تنكير المسند إليه:

- ‌إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌أولاً: وضع المضمر موضع المظهر وعكسه:

- ‌ثانياً: وضع المظهر موضع المضمر:

- ‌7 - الالتفات

- ‌قيمته البلاغية:

- ‌وإليك صور الالتفات كما تصورها جمهور البلاغيين:

- ‌الصورة الأولى:الالتفات من التكلم إلى الخطاب

- ‌الصورة الثانية:الالتفات من التكلم إلى الغيبة

- ‌الصورة الثالثة:الالتفات من الخطاب إلى التكلم:

- ‌الصورة الرابعة:الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:

- ‌الصورة الخامسة:الالتفات من الغيبة إلى التكلم

- ‌الصورة السادسة: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب:

- ‌(8) أسلوب الحكيم

- ‌9 - القلب

- ‌التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه

- ‌الفصل الرابعأحوال المسند

- ‌1 - حذف المسند:

- ‌(2) ذكر المسند

- ‌أولاً: ذكر المسند:

- ‌ثانياً: تكرار المسند:

- ‌ثالثاً: إيراد المسند فعلا أو اسما:

- ‌(3) تعريف المسند

- ‌فرق عبد القاهر الجرجانى بين تعريف المسند وتنكيره بأمرين:

- ‌(4) تقديم المسند

- ‌(5) تقييد المسند بالشرط

- ‌الفصل الخامسأحوال متعلقات الفعل

- ‌أولا: حذف المفعول:

- ‌والفعل المعتدي إذا اسند إلى الفاعل ولم يذكر له مفعول، كان الغرض من ذلك هو أحد أمرين:

- ‌تقديم المفعول على الفعل

- ‌تقديم بعض المعمولات على بعض

- ‌المراجع والمصادر

الفصل: ‌1 - حذف المسند:

‌الفصل الرابع

أحوال المسند

1 -

حذفه.

2 -

ذكره.

3 -

تعريفه.

4 -

تقديمه.

5 -

تقييده بالشرط.

‌1 - حذف المسند:

أسلفنا لك - عند الحديث على حذف المسند إليه -: أن من أسباب قوة العبارة: أن تأتي موجزة محكمة التركيب، محذوفاً منها ما قامت القرائن على وجوده مقدراً، لأن ذكره حينئذ مما يؤدي إلى ثقل العبارة بما يمكن الاستغناء عنه، كما أنه يؤدي إلى إطالة العبارة وترهلها، والبلاغة الإيجاز - كما يقولون -.

ونحن لا نرى بأساً من إعادتها، حيث الحديث عن حذف المسند؛ لأن هذا القول مما ينطبق على حذف المسند، والسند إليه كليهما.

وقد عبر البلاغيون عن حذف المسند إليه بالحذف، وعن حذف المسند بالترك لنكتة لطيفة، وهي: أن المسند إليه أقوم ركن في الكلام وأعظمه، والاحتياج إليه فوق الاحتياج إلى المسند، فحيث لم يذكر لفظاً، فكأنه أتى به - لفرط الاحتياج إليه، ثم سقط لغرض، بخلاف المسند، فإنه ليس بهذه المثابة في الاحتياج، فيجوز أن يترك ولا يؤتي به لغرض (1).

(1) المطول ص 140.

ص: 362

على أن أغراض حذف المسند لا يمكن حصرها، لأنها تتنوع بتنوع مقتضيات الأحوال، وهذه لا يمكن حصرها أو تحديدها.

ولكننا نسوق إليك أمثلة من حذف المسند، لتتبين منها أسرار حذفه في كل منها، لتكون لك مصابيح هداية في طريق تتبع أنماط الأساليب التي وردت محذوفة المسند.

فمن ذلك قول ضابي بن الحارث البرجمي، وهو في سجن عثمان رضي الله عنه (1):

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب

فلا تجز عن قيار من حبس ليلة

قضية ما يقضى لنا فنؤوب

وما عاجلان الطير تدني من الفتى

رشاداً، ولا عن رئيهن يخيب

ورب أمور لا تضيرك ضيرة

والقلب من مخشاتهن وجيب

فلا خير فيمن لا يوطن نفسه

على غائبات الدهر حين تنوب

وفي الشك تفريط، وفي الحزم قوة

ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب

ولست بمستبق صديقاً ولا أخا

إذا لم تعد الشيء وهو يريب

(1) الأصمعيات: ص 184.

ص: 363

فالشاعر يشكو ما يعانيه هو وجمله: قيار من ألم الغربة بالمدينة، فقد حن في نفسه، وآلمه أن يرى نفسه غريب الدار، بعيد المزار، غائباً عن الأهل والوطن، في الوقت الذي يرى فيه غيره - من أهل المدينة - ينعم باجتماع شمله بأهله ووطنه، ولهذا فإنه يستشعر الصبر ويأخذ قياراً به - أيضاً - لأن ما يلقاه الأحياء، إنما هو قضاء الله وقدره، والناس يفزعون من النوائب قبل حلولها، وإذا وطنوا أنفسهم عليها لم يجدوا لها ذلك الخوف والفزع، ولا خير في الظن وإنما هو اليقين والحزم، وغفران زلة الصديق مما يستسقيه ويحفظه.

ويبدو أن الأبيات من قصيدة طويلة يعاقب فيها صديقاً من أهل المدينة لم يزره في حبسه. ولكن لم يعثر منها إلا على هذه الأبيات، لأنك تجد أولى هذه الأبيات معطوفاً على ما قبلها من أبيات أخرى.

ولئن كان محقق النص لم يأت في أولى بيت منها بحرف الغطف فإن هذا البيت لا يصلح بدونه إذ ينكسر وزنه. لأن القصيدة من بحر الطويل الذي أول تفصيلة منه (فعولن).

ولأن البيت الأخير دليل على أنه يعاتب صديقاً.

والشاهد في الأبيات قوله: (فإني وقيار بها لغريب) فلفظ البيت خبر، ولكن معناه التحسر على الغربة والتوجع من الكربة، وقد حذف فيه المسند إلى "قيار"، وكان أصل الكلام أن يقول: فإني لغريب بها وقيار غريب، ولكنه حذف المسند في الجملة الثانية، لأن ذكره في العبارة بعد دلالة القرينة عليه عبث واضح، ولأن نفسه تؤثر الإيجاز لما هي فيه من ضيق وحزن وضجر والسر في تقديم (قيار) على خير إن - كما يقول العلامة سعد الدين التفتازاني - قصد التسوية بينه وبين جمله في التحسر على الغتراب، وكأنه أثر في غير ذي العقل أيضاً.

ص: 364

وبيان ذلك: أنه لو قيل: (إني لغريب وقيار) لجاز أن يتوهم أن له مزية على قيار في التأثر بالغربة؛ لأن ثبوت الحكم أولاً أقوى؛ فقدمه ليتأتى الإخبار عنهما دفعة بحسب الظاهر؛ تنبيهاً على أن قياراً مع أنه ليس من ذوي العقول قد تساوى مع العقلاء في استحقاق الإخبار عنه بالاغتراب قصداً إلى التحسر (1).

وقال عمرو بن امرئ القيس الخزرجي (2):

يا مال؛ والسيد المعمم قد

يبطره بعد رأيه السرف

يا مال؛ والحق إن قنعت به

فالحق فيه لأمرنا نصف

خالفت في الرأي كل ذي فجر

والحق يا مال غير ما تصف

لا يرفع العبد فوق سنته

والحق يوفى به ويعترف

إن بجيراً مولى لقومكم

يا مال والحق عنده فقفوا

أوتيت فيه الوفاء معترفا

بالحق فيه لكم فلا تكفوا\

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف.

وكان من خير هذه الأبيات: أنه كان لمالك بن العجلان مولى يقال له بجير؛ وكان قد جلس مع قوم من الأوس، ففضل مالكاً عليهم فقتلوه، فلما علم مالك بذلك طلب إليهم أن يعطوه القاتل ليقتص منه فأبوا، وطلبوا منه أن يأخذ فيه دية العبد فأبى إلا أن يأخذ فيه دية الحر فأبوا ورأوا في ذلك شططاً؛ فقامت الحرب بين الأوس والخزرج، ثم احتكموا إلى عمرو بن امرئ القيس الخزرجي، فقال هذا

الشعر (3).

(1) المطول ص 140.

(2)

جمهرة أشعار العرب 530 واللسان (فجر).

(3)

لسان العرب مادة (فجر).

ص: 365

فالشاعر يقول هذا الشعر لمالك بن العجلان بعد أن ضاقت به الحيل في سبيل الوصول إلى رضا مالك بقبول دية العبد، ولهذا فإنه آثر الإيجاز.

والشاهد في هذه الأبيات قوله: (نحن بما عندنا رأفت بما عند راض) حيث حذف المسند إلى "نحن" وأصله: (نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض) إيثاراً للإيجاز والاختصار لعدم تقبل المخاطب لرأيه، ولعدم رغبته في إطالة الحديث معه، يدلك على هذا: أنه لا ينطق باسمه كلاماً ولكنه يرخمه فيقول: بإمال، بدلاً من أن يقول: يا ملك.

وقد جاء ترخيم مالك - في قراءة علي وابن مسعود رضي الله عنهما: "ونادوا يا مال، ليقض علينا ربك" لأن أهل النار يومئذ في ضيق شديد فهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه (1).

وقال أبو الطيب المتقي من قصيدة يمدح بها شجاع بن محمد الطائي المنيجي (2):

إن إلى سفكت دمى يجفونها

لم تدر أن دمي الذي تتقلد.

قالت: - وقد رأت أصفر أرى - من به؟

وتنهدت؛ فأجبتها: المتنهد!

يعنى: إن الفتاة التي نظرت إلى فقتلتني بنظرتها، لم تدر أنها قد باءت بإثمي، وأن دمى في عنقها؛ ولما رأت تغير وجهي واصفراره قالت من قتل؟ أو من فعل به هذا الذي أراه؟ ثم تنهدت؛ فأجبتها عن سؤالها:

المتنهد المطالب به، أو الفاعل بي هذا.

والشاهد هنا: قوله: "المتنهد" حيث حذف منه المسند لضيق صدره

(1)

الكشاف 3/ 496.

(2)

الأصمعيات 244.

ص: 366

بما ألم به من ألم الهوى والتقدير: المتنهد هو المطالب به والمسئول عنه أو التقدير: فعل به المتنهد.

ومن أغراض حذف المسند: إتباع الاستعمال الوارد، كأن تقول - لمن قال لك: إن القوم إلب عليك فهل لك أحد؟ -: "إن محمداً وإن علياً" أي: إن لي محمداً، وإن لي عليا، وذلك لأن الاستعمال الوارد هو: حذف الخبر عند تكرار "إن" وتعدد اسمها، وذلك كما في قول الأعشى:

إن محلاً، وإن مرتحلاً

وإن في السفر إذ مضوا مهلاً

أي إن لنا في الدنيا حلولاً، وإن لنا عنها إلى الآخرة ارتحالاً، والسفر: الرفاق قد توغلوا في المضي لا رجوع لهم، ونحن على إثرهم عن قريب.

ومن حذف المسند لإتباع الاستعمال الوارد: قول الله تعالي: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي" فقد حذف هنا: المسند إلى ضمير المخاطبين، وذلك لأن "أنتم" فاعل لفعل محذوف دل عليه المذكور، لأن "لو" لا تدخل إلا على الأفعال.

ومنه قول حاتم الطائي: "لو ذات سوار لطمتني" فقد روى الأصمعي أن حاتماً هو ببلاد عنزة فناداه أسير لهم أن يطلقه ولم يكن مع حاتم شيء يساومهم به، فقال: أطلقوه واجعلوا يدي في القيد، مكانه، ففعلوا، ثم جاءته امرأة أمة ببعير ليفصده فقام فنحره، فلطمته، فقال لها ذلك.

المعنى: لو أن التي لطمتني أحدى الجرائر لآخذتها.

ومنه قول المتلمس يعاتب خاله الحارث بن التوءم اليشكرى؟ :

فلو غير أخوالي أرادوا نقيضي

جعلت لهم فوق العرائين ميسما.

وما كنت إلا مثل قاطع كفه

بكف له أخرى فأصبح أجذما.

ص: 367

العرانين: جمع عرنين، وهو الأنف كله، أو ما صلب منه، والميمم العلامة.

يقول: لو أن الإساءة قد أتت من غير أخوالي لانتقمت لنفسي منهم وأذللتهم وجعلتهم عبرة بين الناس، ولكن الإساءة قد أتت من أخوالي، فهم أهلي وعشيرتي، وليس لي إليهم من سبيل، لأني إذا ما انتقمت منهم كنت كمن يقطع بكفه كفه الأخرى.

والشاهد هنا: حذف المسند إلى "غير" في قوله: (ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي) والأصل فلو أراد غير أخوالي أرادوا نقيصني، وإنما حذف المسند هنا إتباعاً للاستعمال الوارد، لأن "لو" عندهم لا تدخل إلا على الأفعال.

ومنه قول الله تعالي: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي" وتقديره: لو تملكون تملكون مكراً، للتأكيد، ولكن حذف الفعل الأول المسند إلى ضمير المخاطبين لدلالة الفعل الثاني عليه فانفصل الضمير.

قال الزمخشري: "هذا ما يقتضيه علم الإعراب، فأما ما يقتضيه علم البيان فهو: أن "أنتم تملكون" فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ ونحوه قول حاتم: "لو ذات سوار لطمتني"

قول المتلمس:

ولو غير إخواني

أرادوا نقيصتي (1).

وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر، برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر.

(1)

الكشاف 2/ 468.

ص: 368

ومن حذف المسند قول الله تعالي: "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً؟ " أي: كمن لم يزين له سوء عمله؟ والمعني: أفمن زين له سوء عمله من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما كمن لم يزين له سوء عمله؟ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له ذلك قال: لا فقيل: "إن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" أو المعني: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله؟ فحذف لدلالة "فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء".

وقيل: المعني: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات؟ فحذف لدلالة "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات".

ومعنى تزين العمل والإضلال واحد، وهو أن يكون العاصي على صفة يستوجب بها خذلان الله تعلى، فيهم في الضلال، ويعتنق الهوى، فيرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه، ويندرج تحت قول أبى نواس:

أسقن حتى تراني

حسناً عندي القبيح

وإذا خذل الله الممعنين في الضلال فإن على الرسول أن لا يعبأ بهم، ولا يلقى بالاً لهم، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم، لأن الله تعالي خذلهم وتخلى عنهم (1).

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً على أولئك الذين أمعنوا في الضلال والكفر والعصيان من قومه، والله سبحانه وتعالي ينهاه من أن يحزن وتذهب نفسه عليهم حسرات، كان أسلوب الإيجاز في هذا المقام مما يقتضيه الحال.

ومما هو محتمل لحذف المسند إليه: قول الله تعالي: "بل سولت لكم

(1)

الكشاف 2/ 301.

ص: 369

أنفسكم فصبر "جميل" وقوله تعالي: سورة أنزلناها وفرضناها" وقوله تعالي: "وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل: لا تقسموا طاعة معروفة".

فالآية الأولى: يمكن أن تكون من حذف المسند فيكون التقدير: فصبر "جميل" أجمل، وأن تكون من حذف المسند إليه، ويكون التقدير، فأمري صبر "جميل".

والآية الثانية يمكن أن تكون من حذف المسند، فيكون التقدير: فيما أو حينا إليك سورة أنزلناها وأن تكون من حذف المسند إليه، ويكون التقدير: هذه سورة أنزلناها.

والآية الثالثة: يمكن أن تكون من حذف المسند فيكون التقدير: طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الإيمان الكاذبة، وأن تكون من حذف المسند إليه ويكون التقدير: الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا برقاب: كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهرة، لا إيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو طاعة معروفة بأنها بالقول دون العمل.

وعلى أية حال فإن سر الحذف فيما يحتمل فيما يحتمل فيه حذف المسند أو المسند إليه، هو تكثير الفائدة، وذلك بإمكان حمل الكلام على كل من المعنيين.

وسواء كان المحذوف هو المسند، أو كان هو المسند إليه فإنه لابد للحذف من قرينة حالية أو مقالية دالة على المحذوف، وإلا لكان الحذف مخلاً بالمعني، وذلك ما يأباه الذوق العربي، ويمجه الإحساس البلاغي: ومن قرائن حذف المسند: وقوع الكلام جواباً عن سؤال مذكور، أو مقدر:

ص: 370

فمن وقوع الكلام جواباً عن سؤال مذكور: قول الله تعالي: {ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (1)} ، : فقوله: "الله" جواب عن سؤال مذكور في الكلام هو قوله {مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ؟ } وقد حذف المسند في الجواب والأصل: خلقهن الله.

ومنه قوله تعالي: {ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ " (2)، فقوله: "الله" جواب - أيضاً - عن سؤال مذكور في الكلام، هو قوله: {مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدِ مَوْتِهَا؟ } وقد حذف المسند - أيضاً - في الجواب؛ والأصل: نزله الله، وأحيا به الأرض.

ومن وقوع الكلام جواباً عن سؤال مقدر قول الله تعالي في قراءة عن قرأ - {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَالِ رِجَالٌ} بهناء "يسبح" للمجهول، فكأنه بعد أن قال. يسبح له فيها بِالْغُدُوِّ والآصَالِ قيل. من يسبحه؟ فقال: رجال.

ومنه قول الحرب بن ضرار بن نهشل يرني أخاه يزيد بن نهشل:

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

المختبط من جاء يطلب المعروف من غير آصرة، والعار اثح: الشدائد.

يقول إن أخاه كان عوناً للضعفاء والمظلومين، ومقصداً لآمال المحتاجين والمكروبين، فليبكه هؤلاء جميعاً، وحق لهم أن يبكوا، فقد ذهبت بذهابه صفات الكرم، وماتت بموته محامد الشيم.

(1)

سورة العنكبوت 63.

(2)

سورة لقمان 25.

ص: 371

والشاهد هنا: قوله: "ضارع لخصومة" حيث حذف المسند إلى "ضارع" والتقدير: "يبكيه ضارع" لأنه واقع في جواب سؤال مقدر تقديره: "من يبكيه؟ ".

وذلك لأنه لما قال: "ليبك يزيد" ببناء الفعل للمجهول وقع فيه إبهام، فكأن سائلاً سأل: من يبكيه؟ فقال: ضارع لخصومة، أي: يبكيه ضارع لخصومة، ونحتبط مما تطيح الطوائح.

وهذا البيت - وإن كان قريب المعني من قول لبيد في رثاء النعمان بن المنذر (1):

ليبك على النعمان شرب وقينة

ومختبطات كالسعالي أرامل

أي. ليبكة الأرامل والضعيفات من طالبات معروفة، فقد حرموا بموته نعيم الحياة، ولذيذ العيش ولتبكة الأرامل والضعيفات من طالبات معروفة فقد حرمن بموته المعين على نواثب الدهر.

إلا أن بيت الحرث بن ضرار بن نهشل قد بني فيه "ليبك" للمجهول، فأسند الفعل إلى نائب الفاعل، وهو "يزيد" بينما بيت لبيد قد بني فيه "ليبك" للمعلوم وأسند الفعل إلى فاعله ولهذا فإن بيت الحرث فيه حذف المسند، بينما بيت لبيد لبس فيه حذف للمسند.

وكان لضيع الحرث بن ضرار من مزايا النظم البلاغي ما رآه البلاغيون مجملاً فيما يلي:

(1)

لسان العرب مادة (خبط).

ص: 372

أولاً: تكرار الإسناد: وذلك أن إسناد الفعل المبني للمجهول إلى نائب الفاعل يوحي بأن له فاعلاً ينبغي أن يسند إليه، وهذا هو الإسناد الأول.

ولما كان "ضارع" فاعلاً لفعل مقدر تقديره: "يبكيه ضارع" فقد جاء الإسناد الثاني.

ولا ريب أن التركيب الذي اشتمل على إسنادين أقوى وأكد مما اشتمل على إسناد واحد.

ثانياً: التفصيل بعد الإجمال، وذلك لأنه لما قال "لبيك يزيد" فأسند الفعل إلى نائب الفاعل قد أبهم الفاعل، ولكنه لما قال "ضارع" وكان التقدير "يبكيه ضارع" قد نص على ذلك الفاعل، ولهذا يكون الشاعر قد أجمل ذكر الفاعل أولاً ثم فصله ثانياً.

ولا ريب أن الإيضاح بعد الإبهام أو التفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس لما هو مركوز في الطباع من أن إبهام الشيء أو إجماله مما يشوق إلى إيضاحه وتفصيله.

ثالثاً: أن نائب الفاعل هنا - وهو "يزيد" هو المقصود من المرئية، لأنها إنما قيلت من أجله، لتعداد مناقبه، وبيان مآثره، فناسب أن يطوي ذكر الباكي ويذكر المبكي عليه وهو "يزيد" ويصير عمدة في الكلام، ولو لم يسلك به الشاعر هذا الصنيع لصار "يزيد" فضلة لا عمدة في الكلام، ولأصبح الاهتمام موجهاً إلى الباكي لا إلى المبكي عليه، وذلك مما لا يناسب مقام الرثاء، ولا يتفق وغرض الشاعر.

رابعاً: أن الشاعر لما قال: لبيك يزيده فاسند الفعل إلى نائب الفاعل كان الكلام بذلك قد تم وليس محتاجاً إلى فاعل ليتم به، ولكنه لما ذكر

ص: 373

الفاعل بعد ذلك فقال: "ضارع" كان محيطه كالغنيمة غير المتوقعة، وذلك أشهي عند النفس وأحلى عندها موقعاً.

ولكنه لو بني الفعل للفاعل. فقال: "ليبك يزيد" بنصب "يزيد" لأصبح الفاعل مترقباً ذكره. لأنه لابد لل××× من فاعل، فلا يكون موقعه في النفس عند مجينه - ذلك الموقع الذي أسلفنا.

وعن حذف المسند الذي قربلته وقوع الكلام جواباً عن سؤال مقدر قوله الله تعالي: "وجعلوا لله شركاء الجن" في أحد الأقوال الواردة فيه.

قالوا: فإن جعل "لله شركاء" مفعولين لجعلوا، فقوله. "الجن" يحتمل وجهين:

الوجه الأول: - وهو رأي الإمام عبد القاهر - أن يكون منصوباً بفعل محذوف دل عليه سؤال مقدر، كأنه قيل. من جعلوا لله شركاء؟ لقيل. الجن، أي. جعلوا الجن ويدخل اتخاذ الشريك من غير الجن - في الإنكار - دخول اتخاذه من الجن في هذا الإنكار.

والوجه الثاني: -وهو رأي الإمام الزمخشري - أن ينصب "الجن" بدلاً من شركاه وبذلك يفيد التركيب إنكار الشريك مطلقاً - كما أسلفنا -.

وإن جعل "لله" لغواً كان قوله: "شركاء الجن" مفعولين قدم ثانيهما على أولهما.

أي: وجعلوا الجن شركاء لله، وفائدة التقديم حينئذ. استعظام أن يتخذ لله شريك، سواء أكان ملكاً أو جنباً، أو غيرهما، ولهذا قدم "لله" على الشركاء.

ص: 374

ولو لم يبين الكلام على التقديم وقيل، وجعلوا الجن شركاء لله لما أفاد الكلام إلا إنكار جعل الجن

شركاء (1).

ومن حذف المسند لوقوعه في جواب سؤال مقدر باب "نعم، وبئس".

وذلك كما تقول. "نعم الرجل محمد" على رأي من يجعل المخصوص مبتدأ خبره محذوف، أي محمد الممدوح، فحذف المسند إلى محمد لوقوعه جواباً عن سؤال مقدر، وكأن سائلاً سأل. من الممدوح، فأجيب: محمد

(1)

الإيضاح ص 51، ص 52.

ص: 375