الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن قد يقال: إن المقدمات التي سبقت التأكيد في الجمل الأخيرة، تضمنت إيماءات وإيحاءات وإشارات إلى الخبر، فتطلعت نفس السامع إلى الخبر، فجاء الكلام في النهاية مؤكدًا.
ويشبه هذا قولهم: وقد ينزل غير السائل منزلة السائل إذا قدم ما يلوح له بحكم الخبر، فيستشرف له استشراف المتردد والطالب (1).
(جـ) المجاز في الإسناد:
علمت مما أسلفنا لك: أنه لا بد في الجملة من مسند. ومسند إليه، وإسناد، حتى تؤدي الجملة معنى من المعاني وأن الإسناد: هم ضم كلمة أو ما يجري مجراها إلى أخرى بحيث يفيد الحكم بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى أو منفي عنه.
والإسناد يأتي على ضربين: حقيقي، ومجازي:
فأما الإسناد الحقيقي، فهو: إسناد الفعل أو ما في معناه، كالمصدر واسم الفاعل أو نحوهما مما هو في معنى الفعل، إلى ما هو له في الحقيقة.
وذلك كما في قولك. شفى الله المريض، فإسناد الشفاء إلى الله تعالى، إسناد حقيقي، لأن الفاعل الحقيقي للشفاء إنما هو الله تعالى، وكذلك تقول في: نصر الله الجيش، وأنزل الله الغيث.
ويسمى هذا الإسناد: "حقيقة عقلية".
وإما الإسناد المجاري: فهو: إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في الحقيقة.
(1)
…
الإيضاح: ص 17.
وذلك كما في قولك: أنبت الربيع البقل، فإسناد الإنبات إلى الربيع إسناد مجازي، لأنه ليس الفاعل الحقيقي للإنبات، وكذلك تقول في: بني الأمير المدينة، لأن الأمير ليس هو الفاعل الحقيقي للبناء، وإنما بني العمال المدينة بأمر منه.
ويسمى هذا الإسناد: "مجازًا عقليًا".
وقد أشار إليه كل من سيبويه (1)، والمبرد (2)، وابن رشيق (3)، ولكنهم لم يضهوا له اسمًا (4)، وقد سماه عبد القادر في الأسرار: مجازًا عقليًا، لأن المتصرف في الإسناد هو العقل ولكنه عاد فسماه في الدلائل: مجازًا حكميًا، لأن المجاز ليس في ذات الكلمة، وإنما هو في حكم جرى عليها (5).
وقد بين عبد القادر الجرجاني قيمته البلاغية، وروعته في نظم الكلام ووصفه بأنه "كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق، والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان، والاتساع في طرق البيان، وأنه يجيء بالكلام مطبوعًا مصنوعًا، وأنه بضعه بعيد المرام قريبًا من الإفهام (6).
وقد أنكر السكاكي المجاز العقلي، وجعله من قبيل الاستعارة المكنية، فأخرجه من علم المعاني وأدخله في علم البيان.
ولكن الخطيب قد استنكر ما ذهب إليه السكاكي، فأخرجه من علم البيان وأدخله مرة أخرى في علم المعاني.
(1)
…
الكتاب حـ 1 صـ 169.
(2)
…
الكامل حـ 1 صـ 118.
(3)
…
العمد حـ 1 صـ 179، صـ 180.
(4)
…
أسرار البلاغة 297، 298.
(5)
…
دلائل الإعجاز صـ 193.
(6)
…
نفس المصدر.
ولما لم يكن من المستطاع تصور المجاز العقلي قبل تصور الحقيقة العقلية قدم البلاغيون بحثهم للحقيقة العقلية بين يدي بحثهم للمجاز العقلي.
وقد عرف الخطيب الحقيقة العقلية بأنها: "إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر (1).
وما في معنى الفعل هو: المصدر، واسم الفاعل، واسم المفعول وظرف الزمان وظرف المكان؛ واسم التفضيل.
أما قوله: (إلى ما هو له) فمعنا: إسناد الأفعال إلى فاعليها الحقيقيين، كالذي أسلفنا لك من نحو قولك: شفى الله المريض، ونصر الله الجيش وأنزل الله الغيث.
على أنه - وإن كنا نعتقد بأن الأفعال كلها مخلوقة لله تعالى - لا ينبغي أن ننسب كل فعل إلى الله تعالى، لأن منها ما لا يصح نسبته إليه سبحانه، كالأكل والشرب والقيام والقعود.
ولهذا لخص العلامة بهاء الدين السبكي وجوه الإسناد الذي يوصف بأنه حقيقي في ثلاثة أقسام:
الأول: إسناد الفعل لمن يقع منه الفعل حقيقة، ويؤثر في وجوده، وذلك لا يكون إلا الفاعل واحد هو الله تعالى، وأفعاله مثل: خلق الله، ورزق الله:
الثاني: إسناد الفعل لمن يقع منه حكمًا مثل: قام زيد.
(1)
…
الإيضاح صـ 15.
الثالث: إسناد الفعل إلى ما يتصف به مثل: مرض زيد، وبرد الماء، وأمطرت السماء (1).
وأما قوله: (عند المتكلم) فمعناه: أن العبرة بما يعتقده المتكلم، وأن الحكم على قوله بأنه حقيقة، إنما يتوقف على اعتقاده، فالمسلم حين يقول أنبت الله الزهر يكون كلامه جاريًا على نهج الحقيقة في الإسناد. وإذا قال أنبت الربيع الزهر، كان كلامه جاريًا على نهج المجاز في الإسناد.
ولكن الملحد إذا قال: أنبت الربيع الزهر، كان كلامه جاريًا على نهج الحقيقة، لأنه استند الفعل إلى ما هو له عنده وفي اعتقاده؛ ومنه قول الله تعالى - حكاية عن الكافرين - {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (2).
إذا اسندوا الإهلاك إلى الدهر وهم يعتقدون ذلك، فقد أسندوا الفعل إلى ما هو له في اعتقادهم.
وقد أشار بقوله "في الظاهر" إلى أن الإسناد في قول القائل إنما يكون حقيقة إذا كان ذلك ظاهرًا من حاله، أما ما يضمره في نفسه فلا شأن لنا به.
ولهذا كان قول الملحد لمن لا يعرف حاله: أنبت الله البقل حقيقة، لأنه - وإن لم يكن يعتقد ذلك - إلا أنه لا يعرف حاله.
ولهذا كانت صور الإسناد الحقيقي - عند الخطيب - أربعة:
الأولى: صورة تطابق الواقع والاعتقاد كليهما وذلك كقول المؤمن "أنبت الله البقل".
(1)
…
عروس الأفراح 1/ 228.
(2)
…
الجاثية: 24.