الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) تقييد المسند بالشرط
اهتم البلاغيون بتقييد المسند " بأن " و " إذا " لأن لهما خصائص لغوية لها اتصال وثيق بالأغراض البلاغية، ولكثرة مباحنهما الشريفة المهملة في علم النحو - كما يقول صاحب المطول - و"لإن" و"إذا" موضع يشتركان فيه وموضع آخر يختلفان فيه:
أما موضع اشتراكهما: فهو أن كلاً منهما أداة شرط في الاستقبال، أي تعليق حصول مضمون جملة علي حصول مضمون جملة أخري.
فإذا قلت: (إن تحضر إلى أكرمك) أو (إذا تحضر إلى أكرمك) كان حصول إكرامك له في المستقبل معلقاً علي حصول حضوره في المستقبل أيضاً.
ولأن (إن) و (إذا) للشرط في الاستقبال كما أسلفنا - فإنه يشترط في جملتيهما أن تكونا فعليتين استقباليتين:
أما سبب ذلك في جملة الشرط: فلأن المفروض حصول مضمونها في المستقبل، والجملة الاسمية تدل علي الثبوت والدوام، وهما غير الحدوث والاستقبال، ولدلالة الجملة الماضوية علي المضي، وهو نقيض الاستقبال.
وأما سبب ذلك في جملة الجزاء: فهو أن حصول مضمونها معلق علي حصول مضمون جملة الشرط في الاستقبال، فلا يصح - أيضاً - أن تكون جملة أسمية ولا أن تكون جملة ماضوية، لأن الاسمية - كما أسلفنا - تدل علي الثبوت، ويمتنع تعليق الثابت علي حصول ما سيحصل في المستقبل.
علي أن هذا الاستعمال هو الاستعمال الغالب، فقد تستعمل (إن) في غير
الاستقبال، أي في الماضي - لفظاً ومعنى - مع (كان) كما في قول الله تعالى:" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا " إذ الريب قد وقع فعلا في الماضي.
واستعمالها في هذا المعنى مع غير كان قليل، كما في قول أبى العلاء:
فيا وطني إن فاتني بك سابق
…
من الدهر فلينعم لساكنك البال
أي إن كان زمن سابق من الدهر قد فوت علي السكنى في وطني، ولم يتيسر لي الإقامة فيه فلا لوم على، لأني ما تركته طواعية، فليطلب ساكنه نفسا، ولينعم به بالا.
وغرضه بذلك إظهار تحسره وتحزنه علي مفارقة أهله ووطنه. والشاهد في البيت قوله: (إن فاتني) حيث استعمل (إن) في الماضي لفظاً ومعنى مع غير (كان) وهذا قليل.
وكما تستعمل (إن) في غير الاستقبال تستعمل (إذا) - في غير الاستقبال - كذلك، كما في قوله تعالي:{حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} وقوله تعالي: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وهذا الاستعمال قليل - كما عرفت -.
وإذا لم يكن كل من جملتي الشرط والجزاء فعلية استقبالية، بأن كانتا غير فعليتين، أو غير استقباليتين ولو لفظا، فلا بد لذلك من نكتة بلاغية لأن ظاهر الجمال يقتضي مراعاة المطابقة بين اللفظ والمعنى، ولا يعدل عن هذه الموافقة إلا لنكته وهذه النكته هي:
إظهار غير الحاصل في صورة الحاصل:
ويكون ذلك لأغراض تقتضيه: كأن تكون الدواعي المقتضية لحصوله قوية والأسباب المؤدية إلى حصوله متوافرة والشيء إذا تجمعت أسبابه وتوافرت دواعيه، عد - في عرف البلغاء - حاصلا وعبر عنه بما يبرزه في حدود الحاصل، وذلك كأن تقول:" إن قرأت هذا الكتاب لخصت لك ما فيه " - تقول هذا وقت توافر أسباب القراءة لديك - ولهذا تعبر بالفظ الماضي لقصد إبراز المعنى الذي لم يحصل بعد باللفظ الدال علي المعنى الحاصل بالفعل لقوة أسباب القراءة.
وكالإشارة إلى أن ما هو واقع - لا محالة - كالواقع، وذلك كأن تقول:" إن مت ورثني فلان "
فقد عبرت بلفظ الماضي لإبراز ما لم يحصل في صورة الحاصل فعلا، لأن الموت من شأنه الوقوع، فكأنه قد وقع فعلاً.
وكالتفاؤل وإظهار الرغبة من المتكلم في وقوعه، فإن طالب الشيء إذا عظمت رغبته فيه كثر تصوره له، ربما تخيله واقعاً، فيعبر عنه بلفظ الماضي كما تخيله، وذلك كما في قولك " إن نجحت في الامتحان
تصدقت بكذا ".
قالو: وعليه قول الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} الأصل: إن يردن ولكنه أثر التعبير بلفظ الماضي، لما عرفت من أن الطالب لشيء يكثر تصوره إياه حتى يخيل إليه غير الواقع واقعا، والقرآن نزل بلغة العرب، فجاء علي طريقتهم في كلامهم، وخاطبهم بما يخاطبون به أنفسهم فآثر صيغة الماضي علي صيغة المضارع لإظهار الرغبة في إرادة التحصن من الفتيات.
والمراد بالفتيات: الإماء وفائدة تعليق النهي عن الإكراه علي إرادة التحصن: هي أن يبشع عند الغاصب الوقوع فيه لكي يتيقظ أنه كان ينبغي
له أن يأنف من هذه الرزيلة وإن لم يكن زاجر شرعى، ووجه التبشيع هو أن مضمون الآية هو النداء بأن أمته خير منه لأنها أثرت التحصن عن الفاحشة وهو يأبى إلا إكراهها. ولو أبرزت مكنون هذا المعنى لم يقع الزاجر من النفس موقعه - هكذا يقول ابن المغير صاحب كتاب الأنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال (1).
وأما موضع اختلافهما: فهو أن الأصل في " إن " أن تستعمل في المعنى الذي يشك المتكلم ويتردد في وقوعه، ولهذا كان الحكم النادر وقوعه موقعاً لها، وغلب دخولها علي المضارع لعدم دلالته علي الوقوع قطعا.
وأما " إذا " فإن الأصل فيها: هو أن تستعمل في المعنى الذي يجزم بوقوعه أو يغلب على رأيه وقوعه ولهذا كان الحكم الكثير الوقوع موضعاً لها وغلب دخولها علي الماضي لكونه أقرب إلى القطع بالوقوع باعتبار لفظه، وان كان باعتبار معناه استقباليا، لأن "إذا" الشرطية لقلب الماضي إلى المستقبل.
وبما ذكروه شاهداً علي ما أسلفناه لك من موضعي الاتفاق والافتراق قول اله تعالي: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} فمعنى الآية - والله أعلم بمراده - إذا وفاهم منا إحسان قالوا: هذا خير اختصنا الله به لكمال ديننا وصالح أعمالنا، وإن يصابوا بجدب وبلاء تشاءموا بموسى ومن معه، وقالوا: هذا شر لحقنا بسببهم لنقصان دينهم وسوء أعمالهم والشاهد هنا: هو التعبير (بإذا) في جانب الحسنة، و (بإن) في جانب السيئة.
(1) الكشاف 3/ 66 (حاشية ابن المنير).
فقد استعملت (إذا) في المعني المجزوم بوقوعه أو المظنون وقوعه - وهو مجيء الحسنة، لأن المراد بها: مطلق الخبر، كالخصب والنماء، وصحة الأبدان، وكثرة الفصل، وغيرها مما هو خير، وربما كان تعريفها (بأل) الجنسية مشيراً إلى هذا المعنى، لأن جنس الحسنة يشمل جموع أنواع الحسنات، فوقوع أي فرد منها مقطوع به عادة لكثرتها، ولهذا جاء التعبير بلفظ الماضي الدال علي الوقوع قطعا في جانب إذا.
وقد استعملت (إن) في المعنى غير المجزوم بوقوعه، وهو مجيء السيئة لأن المراد بها نوع خاص من أنواعها وهو الجدب، والضيق، والنوع الخاص غير محقق الوقوع، لاحتمال وقوع نوع آخر، وربما كان تنكيرها مشيراً إلى هذا المعنى، لأن من معانى التنكير التقليل، وهو مؤذن بعدم الجزم بالوقوع.
ومنه قول الله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فقد عبر في جانب الرحمة (بإذا) وفي جانب السيئة (بإن) مشيراً بذلك إلى أن الله تعالى واسع الرحمة، فياض بالخير لا يريد إلا ما فيه صلاح للناس وإسعادهم، لأن جانب الخير منه
تعالي أقرب إلى التحقق.
ولعلك قد لحظت أن الله تعالي قد عبر بالإذاقة في جانب الرحمة، وبالإصابة في جانب السيئة، وذلك لأن الرحمة، وكل ما هو متعة ولذة إنما يناسبه الإذاقة والإطعام، كما أن السيئة، وكل ما هو ضرر وأذى إنما يناسبه الإصابة والابتلاء.
وللفرق الذي رأيته واضحا بين موضع استعمال (إذا) وموضع استعمال (إن) عابوا علي عبد الرحمن بن حسان قوله يخاطب بعض الولاة بعد أن سأله حاجة فلم يقضها، ثم شفع له فقضاها:
ذممت ولم تحمد، وأدركت حاجتي
…
قولي سواكم غيرها واصطناعها.
أبى لك كسب الحمد رأي مقصر
…
ونفس أضاق الله بالخير باغها.
إذا هي حنته علي الخير مرة
…
عصاها، وإن همت بشر أطاعها.
فقالوا: عبر (بإذا) في موضع (إن) وعبر بأن) في موضع (إذا) ولو عكس لأصاب، لأن الشر من النفس أقرب إلى التحقق من الخير، فكان من المناسب أن يعبر (بإذا) الدالة علي تحقيق الوقوع في جانب الشر، وأن يعبر (بأن) الدالة علي عدم الجزم بالوقوع في جانب الخير، ليتوافق اللفظ والمعنى.
وربما يلتمس لهذا الصنيع من الشعر نكتة لطيفة وهي: أنه أشار (بإذا) إلى معني التحقيق في حث نفس الوالي إياه علي فعل الخير، وهو - مع ذلك - يعصيها، كما أنه أشار إلى معنى توهم نفسه للشر، وهو - مع ذلك - يبادر إليه، وهذا أبلغ في الذم والهجاء.
وقد تخرج (إن) عن أصلها الذي أسلفناه لك، فتستعمل في المعنى المجزوم به لنكتة بلاغية:
وذلك كالتجاهل - إذا اقتضي المقام ذلك - كما في قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} فنفي الولد عن الله تعالى أمر مجزوم به، ولكنه استعمل فيه (إن) التي تفيد الشك والتردد تجاهلا حتى لا يصطدم بالمعاندين، لأنه يريد التنزل معهم، والمساهلة وإرخاء العنان لهم: ليرتب علي كلامه مالا يستطاع نقضه، فتلزمهم الحجة.
ومن التجاهل الذي يقتضيه المقام أن تسأل خادماً عن سيده: هل هو في الدار؟ - وهو يعلم أنه فيها - فيقول متجاهلا خوفا من سيده: (إن كان في الدار أخبرك) فاستعمل (إن) الموضوعة للشك في مقام الجزم بتفي الشرط تجاهلا منه.
وكإجراء الكلام علي سنن حال المخاطب بأن يكون المخاطب غير جازم بوقوع الشرط والمتكلم جازماً بوقوعه، فيجري المتكلم الكلام علي سنن اعتقاد المخاطب، كأن تقول لمن يشك في صدقك: إن صدقت فماذا يكون؟ ، فالمتكلم جازم بصدقه، وكان مقتضي هذا أن يعبر (بإذا) الموضوعة للجزم،
ولكنه استعمل (إن) التي للشك إجراء للكلام علي سنن ما عند المخاطب وكتنزيل المخاطب الذي يعلم بوقوع الشرط، أو بعدم وقوعه منزلة الشاك في وقوعه أو في عدم وقوعه لعدم جريه علي مقتضي علمه.
وذلك كأن تقول لمن يؤذي والده: (إن كان أباك فلا تؤذه) فالمخاطب جازم بوقوع الشرط أي أنه أبوه، ومقتضي ذلك: أن يعبر له (بإذا) الموضوعة للجزم والتحقق، لكنه لما رآه يؤذي أباه وذلك أمر منكر نزله منزلة الشك في أبوته، فعبر (بأن) الموضوعة للشك إجراء للكلام معه على سنن حالة تنزيلا.
وكأن تقول لمن يكذب في قوله: (إن كان تقوله صدقا فلا تخشي بأسا) فالمخاطب جازم بعدم وقوع الشرط أي بأنه غير صادق، وكان مقتضاه أن يعبر له (بإذا) لكن حين رآه المتكلم يكذب نزله منزلة الشاك في صدق ما يقول، فعبر (بإن) إجراء للكلام علي سنن حاله تنزيلا.
وكالتغليب - أي تغليب المشكوك في اتصافه بالشرط علي المجزوم بإنصافه به، وذلك كما إذا كان الاجتهاد قطعي الحصول من (محمد) وغير قطعي الحصول من (علي) فتقول لهما:
(أن اجتهدتما كافأتكما) فقد استعملت (أن) في المجزوم به وهو اجتهاد (محمد) وكان الأصل أن يستعمل فيه (إذا) لدلالتها على القطع، وذلك لتغليب من لم يقطع باجتهاده على من تحقق منه الاجتهاد.
وكما تستعمل (أن) في مقام الجزم لنكت بلاغية - كما أسلفنا - تستعمل (إذا) في مقام الشك لنكته بلاغية كذلك، وذلك كأن تقول في شأن فتى مقتر:(إذا تصدق فلان بكذا من المال كان خيراً له) فما لا شك فيه أن تصدق البخيل أمر مشكوك فيه، ولكنك استعملت (إذا) على خلاف الأصل فيها لنكته بلاغية: وهي الإشعار بأن التصدق منه - مع سعة ذات اليد - لا ينبغي أن يشك فيه، غير أن استعمال (إذا) في مقام الشك نادر، بخلاف استعمال (أن) في مقام الجزم - كما رأيت -.