الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجاء المتأخرون فوضحوا كلام عبد القاهر على النحو التالي:
قال الخطيب - في مقدمة حديثه عن حذف المفعول -: حال الفعل مع المفعول، كحالة مع الفاعل؛ فكما أنك إذا أسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك أن تفيد وقوعه منه لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط، كذلك إذا عديته إلى المفعول، كان غرضك أن تفيد وقوعه عليه، لا أن تفيد وجوده في نفسه، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان ليعلم التباسه بهما، فعمل الرفع في الفاعل ليعلم التباسه به من جهة وقوعه منه، والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه.
أما إذا أريد الإخبار بوقوعه في نفسه من غير إرادة أن يعلم ممن وقع في نفسه، أو على من وقع فالعبارة عنه أن يقال: كان ضرب، أو: وقع ضرب أو: وجد، أو: نحو ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد (1).
والفعل المعتدي إذا اسند إلى الفاعل ولم يذكر له مفعول، كان الغرض من ذلك هو أحد أمرين:
أولهما: أن يكون الغرض هو مجرد إسناد الفعل إلى الفاعل، دون النظر إلى المفعول، وحينئذ يكون الفعل المعتدى بمنزلة الفعل اللازم، فلا يذكر له مفعول، لئلا يفهم السامع أن الغرض هو: الإخبار بوقوع الفعل باعتبار تعلقه بالمفعول، لا مجرد إفادة نسبته إلى الفاعل الذي هو المقصود، ألا ترى أنك إذا قلت:"هو يعطي الدنانير": كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السامع أن الدنانير تدخل في عطائه أو أنه يعطيها خصوصاً دون غيرها، وكان غرضك - على الجملة - بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء نفسه (2).؟
(1)
…
الإيضاح ص 61.
(2)
…
دلائل الإعجاز ص 119.
وهذا الفعل المنزل منزلة اللازم ضربان:
أحدهما: أن يذكر الفعل، ولا ينوي له في النفس مفعول أصلاً، لأن الغرض هو: إثبات الفعل في نفسه أو نفيه، وذلك كما في قوله تعالى:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ؟ .
فالفعل متعد قطعا إلى مفعول، إذ الأصل: هل يستوي الذين يعلمون الدين والذين لا يعلمونه؟ فحذف المفعول المذكور، ونزل الفعل منزلة اللازم، وصار المراد من الفعل حقيقته، والمعنى، هل يستوي الذين وجدت فيهم حقيقة العلم والذين لم توجد عندهم حقيقته؟
فالغرض - إذن - هو ففي المساواة بين من هم من أهل العلم؟ ، ومن هم ليسوا من أهله، مبالغة في ذمهم بالجهل بالدين، وأن الذين لا علم لهم به كأن لا علم عندهم أصلاً.
والآية الكريمة - وإن كان أسلوبها إنشائي وموضوعنا في الأساليب الخبرية - فإنه يمكننا أن تمثل بقول الله تعالى: ، "وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا" وينحو قولهم:(فلان يحل ويعقد، ويأمر وينهى) وقولهم: (فلان يضر وينفع، ويعطى ويمنع) ففي كل هذه الأمثلة لا تعرض لحديث المفعول، لأن الغرض هو إثبات الفعل في حد ذاته.
وثانيهما: أن يذكر الفعل، وينوي له في النفس مفعول خاص قد علم موضعه من سبق ذكر أو قرينة حال ولكنك تنسيه نفسك وتخيل أنك لم تقصد إلا إلى ذات الفعل قاصدا بذلك المبالغة فيه، وهو ذلك كما في قول البحتري، يمدح المعتز بالله الخليفة العباسي، ويعرض بأخيه المستعين بالله، وكان ينازعه الخلافة:
شجو حساده، وغيظ عداه
…
أن يزي مبصر، ويسمع واع
أي: ليس في الوجود ما يرى ويسمع الا آثاره المحمودة، فإذا أبصر مبصر، لا يرى إلا محاسنه، وإذا سمع سامع لا يسمع إلا محاسنه، فغيظ عداه أن يقع إبصار أو سمع، لأنه لا يقع إلا على محاسنه.
فالفعلان: "يرى" و "يسمع" من الأفعال المتعدية، فالمعنى - لا محالة - أن يرى مبصر آثاره، ويسمع واع أخباره - ولكنهما هنا، نزلا منزلة اللازم، لأن المقصود هو: مجرد إثبات الرؤية والسماع للفاعل دون النظر إلى تعلقهما بمفعول خاص، وذلك ليتسنى له أن يشعر الناس بأن محاسن الممدوح وفضائله قد بلغت من الوضوح والشهرة حداً لا تخفى عنده على ذي بصر أو سمع، بحيث يكفي في إدراكها مجرد أن يكون ذو بصر، وذو سمع، فيعلم الرائي والسامع أنه لا يليق لمقام الخلافة سواه، فلا يجد أعداؤه وحساده إلى منازعته سبيلا، فحساده وأعداؤه يتمنون ألا يكون في الدنيا ذو بصر وسمع ليخفى استحقاقه للإمامة، فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته.
ولا يخفى على من له بصرير ياضة التراكيب أن هذا الغلو في المدح يفقد عند ذكر المفعول، أو تقديره.
ومنه قول عمرو بن معذ يكرب الزبيدي (1).
لحا الله جرما كلما ذر شارق
…
وجوه كلاب، هارشت فاز بأرت
فلم تغن جرم نهدها إذ تلاقينا
…
ولكن جرماً في اللقاء أبذعرت
ظللت كأني للرماح درية
…
أقاتل عن أبناء جرم وقرت
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم
…
نطقت، ولكن الرماح أجرت
لحا الله جرماً: أي قبحهم ولعنهم على المجاز، وذرت الشمس: بدأ قرنها أول: للطلوع، والشارق: الشمس، ونصب وجوه كلاب على الذم.
(1)
…
ديوان الحماسة لأبي تمام 1/ 52، 53.
والمهارشة: المواثبة، أز بأرت أي: تهيأت للقتال. أبذعرت: تفرقت وجرم ونهد: قبيلتان، درية: أي عرضة، أجرت: الإجراء، شق لسان الفصيل لئلا يرضع أمه، ويجعل فيد عويد.
وكان من خبر هذه الأبيات: أن قبيلة جرم قتلت رجلا من بني الحرث فارتحلت جرم، فتحولوا إلى بني زبيد قوم عمرو، فجاءت بنو الحرث يطلبون بدم صاحبهم، فعبأ عمرو جرماً لبني نهد، وتعبأ هو وقومه لبني الحرث فكرهت جرم دماء بني نهد، ففرت وانهزمت بنو زبيد، فلا مهم عمرو.
والشاهد في البيت الأخير، ومعناه، لو أن قومي أبلغوا في الحرب بلاء حسنا لمدحتهم وذكرت بلاءهم، ولكنهم قصروا فأجروا لساني فما انطلق بمدحهم.
فقوله: (أجرت) فعل متعد والمعنى: أجرتني، ولكنه نزل منزلة اللازم قصدا إلى إثبات الفعل للفاعل، أي: إثبات الإجرار للرماح، دون نظر إلى تعلقه بمفعول، لأنه يريد أن يقول: أنه كان منها ما من شأنه أن يجر كل لسان ويخرسه عن النطق بمدحهم والإشادة بهم.
ولو أنه ذكر المفعول فقال: "أجرتني" لما أمكن أن يتأول على هذا المعنى، لجواز أن يوجد مثل ذلك في قوم آخرين فلا يجرح مشاعرهم.
ومنه قول طفيل الغنوى:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت
…
بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبو أن يملونا ولو أن أمنا
…
تلاقي الذي لافته من الملت
هموا خلطونا بالنفوس وألجأوا
…
إلى حجرات أدفأت وأظلت
فالشاعر يرجو لبنى جعفر حسن الجزاء: لأنهم أقالوا عثرته حين زلت قدمه، وقد احتملوا في سبيل ذلك عنتا شديداً لا تحتمله أم لأبنها، وقد مزجوه بأرواحهم وآووه في غرف أورثته الدفء والظل.
والشاهد هنا قوله: "أدفأت"، "أظلت" حيث نزل الفعل المتعدي منزلة اللازم قاصدا بذلك التوفر على إثبات الفعل للفاعل دون نظر إلى التعلق بمفعول، ليكون أن الشأن في مثل هذه الحجرات أن تدفئ وتظل كل من آوى إليها مبالغة.
ولا يخفى على من له ذوق بلاغي أنه لو ذكر لمفعول، لاختفى هذا المعنى اللطيف.
وهذا التفسير - وهو أن يحذف المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل، ليكون المعنى: أن الفعل من شأنه وطبيعته أن يثبت للفاعل - هو ما رآه الإمام عبد القاهر.
ولكن الخطيب قد رأى أن المفعول إنما حذف هنا ليكون الفعل مطلقا عن التقييد بالمفعول كناية عنه مقيداً بمفعول خاص، بادعاء الملازمة بينهما.
فقد جعل مطلق الرؤية - في بيت البحتري - كناية عن رؤية آثار الممدوح، كما جعل مطلق السماع كناية عن سماع إخباره، إذ يلزم من إثبات الرؤية، أو السماع على جهة الإطلاق: رؤية آثاره وسماع أخباره وهكذا يقال في الأمثلة التالية.
والثاني: أن يقصد تعلق الفعل بمفعول وأن يراعى في الكلام ويلتفت إليه، وحينئذ يجب تقدير هذا المفعول بحسب القرينة الدالة، إن عاما فعام وإن، خاطا فخاص، يعي إذا كان المدلول عليه بالقرينة عاما فاللفظ المقدر
عام "وذلك نحو قول الله تعالى: "والله يدعو إلى دار السلام" فالدعوة إلى الجنة عامة، ولهذا كان اللفظ المقدر عاما، أي: كل حد، وإذا كان اللفظ المدلول عليه بالقرينة خاصا فاللفظ المقدر خاص كذلك، وذلك نحو قول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت منه ولا أرى مني" تقصد: العورة.
فإذا ما وجب تقدير المفعول تعين أنه مقصود وأنه إنما حذف لغرض بلاغي.
ومن هنا تعلم أن حذفه مشروط بشرطين: وجود القرينة الدالة، والغرض الموجب للحذف.
فمن الأغراض الموجبة للحذف: البيان بعد الإبهام:
وبناء الكلام على الإيضاح بعد الإبهام من أبرز المزايا البلاغية في صياغة العبارة وأمسها بطبائع النفس فقد فطر الله الناس على التعلق بما يجهلون مما يلوح لهم منه طرف من العلم والانكشاف، أما مالا يلوح منه هذا الطرف فإن الناس في غفلة عنه، والأسلوب المختار هو الذي يهتدي إلى فطرة هذه النفس ويأتيها من جهتها، وحينئذ يمتلك زمامها وتسلس له قيادها (1).
فمن الإيضاح بعد الإبهام: فعل المشينة إذا وقع شرطاً، ولم يكن تعلقه بالمفعول المحذوف غريبا وكفعل المشيئة كل ما في معناه كالإرادة والمحبة:
وذلك كما في قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فمفعول فعل المشيئة محذوف تقديره: ولو شاء هدايتكم لهداكم.
(1)
…
خصائص التراكيب صـ 379.
(27 - النظم البلاغي)
ونكتة الحذف هنا هي: البيان بعد الإيهام، لأنه لما قيل: ولو شاء، علم أن هناك شيئا تعلقت به المشيئة لكنه مبهم؛ فلما جيء بجواب الشرط، وضح ذلك الشيء وعلم أنه الهداية.
فكل من الشرط والجواب قد دل على المفعول، بيد أن الشرط دل عليه إجمالا، والجواب دل عليه تفصيلا، ولا ريب أن الإيضاح بعد الإبهام أوقع في النفس؛ لأن السامع حين يسمع قوله:"ولو شاء" تتحرك نفسه في شوق إلى ما تعلقت به المشيئة، فإذا جاء بعد ذلك جاء والنفس في ولع ولهف ترقب قدومه، فلا يلبث أن يقع منها موقع الماء القراح من ذي الغلة الصادي.
ومن هذا القبيل قول البحتري:
لو شئت عدت بلاد نجد عودة
…
فحللت بين عقيقه وزروده
العقيق والزرود بفتح الزاي: موضعان ببلاد نجد
أي: لو شئت عيادة بلاد نجد عدتها.
ومنه قول البحتري - أيضا -:
يا يوسف بن أبي سعيد والغنى
…
للمغمد العزمات غير مساعد.
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم
…
كرما، ولم تهدم مآثر خالد.
أي: لو شئت عدم إفساد سماحة حاتم لم "تفسدها"، لكنه حذف مفعول المشيئة، فتحركت النفس لتعرف حقيقة مشيئة هذا الرجل
ذي العزمات، فأدركها الشاعر ببيان هذه المشيئة، فارتاحت النفس لوقوعها منها هذا الموقع الجميل.
قال الإمام عبد القاهر معلقا على قول البحتري: "فليس يخفي انك لو رجعت إلى ما هو أصله فقلت: لو شئت أن تفسد سماحة حاتم لم تفسدها صرت إلى كلام غيث، وإلى شيء يمجه السامع وتعافه النفس، وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام، وبعد التحريك له أبدأ، لطفا ونبلا، لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك: وأنت إذا قلت: لو شئت، علم السامع وتعافه النفس، وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام، وبعد التحريك له أبدا، لطفا ونبلا، لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك: وأنت إذا قلت: لو شئت، علم السامع أنك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء، فهو يضع في نفسه أن هينا شيئا تقتضي مشيئته له أن يكون أو لا يكون، فإذا قلت: لم تفسد سماحة حاتم عرف ذلك الشيء (1).
ومن حذف مفعول المشيئة: قول حميد بن مالك:
إذا شئت غنتنى بأجزاع بيشة
…
أو الزرق من تثليث أو بيلمليما
مطوقة ورقاء تسجع كلما
…
دفا الصيف وإنجاب الربيع فأنجما
أجزاع: جمع جزع بالكسر وجزع الوادي جين تجزعه أي تقطعه، وقيل: منقطعه، وقيل: جانبه ومتقطعه، وبيشة: واد بطريق اليمامة، والرزق: أكثبة، وفي القاموس: ونال فالدهشاء.
وتثليث: موضع، وقيل: لمم واد عظيم، ويلملم: مبقات أهل اليمن.
(1)
…
دلائل الإعجاز صـ 136.
ومنه قول البحتري في مدح الفتح بن خاقان؛ من قصيدته التي يذكر فيها مبارزته للأسد، ومطلعها:
أجندك ما ينفك يسرى لزينبا
…
خيال إذا آب الظلام تأوبا
سرى من أعالي الشام يجلبه الكرى
…
هبوب نسيم الروض يجلبه الصبا.
يقول منها:
غداة لقيت الليث والليث مخدر
…
يحدد نابا للقاء ومخلبا.
إذا شاء غادى صرمة أو غدا على
…
عقائل سرب أو تنقض ربربا.
الليث المخدر: المقيم في عرينه، والصرمة: جماعة من الإبل، وعقائل السرب قطيع الظباء، ويطلق على النساء والرب: القطيع من بقر الوحش، وغاداه: باكره، وغدا عليه: مثله، يريد هنا: البكور إلى الصيد، على أنك تلحظ مما سبق من أمثلة أن المفعول المحذوف فيها دائماً هو: مصدر فعل الجواب.
فإن كان في تعلق فعل المشيئة بالمفعول غرابة لم يستحسن حذف المفعول لأن الجواب لا يدل عليه لغرابة موضعه، وينبغي ذكره ليتقرر في ذهن السامع ويأنس به.
أنظر إلى قول أبي الهنام الخزاعي، يرثي ابنه الهندام، من قصيدة مطلعها:
قضى وطراً منها الحبيب المودع
…
وجل الذي لا يستطاع فيدفع.
ومنها يقول:
ولو شئت أن أبكى دما لبكيته
…
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وبعد البيت قوله:
وأعددته ذخرا لكل ملة
…
وسهم الزرايا بالذخائر مولع
وأني وإن أظهرت منى جلادة
…
وصانعت أعداء عليه لموجع
والشاهد قوله: {ولو شئت أن أبكي دما لبكيته} حيث صرح بمفعول المشيئة وهو (أن أبكى دما) لأنه من الغرابة بمكان أن يريد الإنسان بكاء الدم، ولهذا صرح به - وإن كان الجواب دالا عليه - ليتقرر في ذهن السامع، فتأنس النفس إليه.
ومن هذا القبيل: قوله تعالى: " لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ" لأنه من الغرابة بمكان أن يتخذ رب العالمين ولدا.
وقد يذكر الشاعر مفعول المشيئة وهو غير مستغرب، وذلك لأن الواقع بعده لا يدل عليه، لأنه ليس من نوعه:
ومما جاء على هذه الطريقة قول أبي الحسن علي بن أحمد الجوهري، أحد شعراء الصاحب بن عباد:
فلم يبق مني الشوق غير تفكري
…
فلو شئت أن أبكى بكيت تفكرا
الشاعر يريد أن يبالغ في فنائه ونحوله، حتى إنه لم تبق فيه مادة سوى التفكير، فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه هو بكاء الدمع، وأراد بالبكاء الثاني: بكاء التفكير، ولهذا فإنه لا يصلح للبكاء الثاني بياناً للبكاء الأول لمباينته له.
فذكر مفعول المشيئة في البيت إنما هو لعدم قيام الدليل عليه، وذلك لأنه لو حذف فقبل:(لو شئت بكيت تفكرا) لم يوجد ما يدل عليه، وأوهم أن المراد بكاء التفكر، مع أن المراد هو: بكاء الدمع.
ومن الأغراض الموجبة لحذف المفعول: دفع توهم السامع - في أول الأمر - إرادة غير المراد، كما في قول البحتري تمدح أبا صقر الشيباني:
وكم ذدت عني من تحامل حادث
…
وسورة أيام حززن إلى العظم
فالشاعر يذكر فضل أبي صقر عليه، من دفعه عنه عاديات الزمن، وحادثات الأيام، فيقول:(حززن إلى العظم) كناية عن بلوغها الغاية في الشدة، فحذف المفعول - كما ترى - ولو ذكره فقال:(حززن اللحم) لجاز أن يدور في خلد السامع قبل ذكر ما بعده أن الحز كان في بعض اللحم، ولم يصل إلى العظم، وهو غير مراد، ولكن المراد أن الحز جاوز اللحم إلى العظم، ودفعاً لهذا التوهم حذف المفعول ليدل الكلام على المقصود من أول الأمر.
يقول الإمام عبد القاهر: (الأصل - لا محالة - حززن اللحم إلى العظم إلا أن بحثه به محذوفاً، وإسقاطه له من النطق، وتركه في الضمير مزية عجيبة، وفائدة جليلة، وذلك أن من حذف الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعاً يمنعه من أن يتوهم في بدء الأمر شيئاً غير المراد، ثم ينصرف إلى المراد، ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال: وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم، لجاز أن يوقع في وهم السامع قبل أن يجيء إلى قوله (إلى العظم) أن هذا الحز كان في بعض اللحم دون كله، وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم، فلما كان كذلك ترك ذكر اللحم وأسقطه من اللفظ ليبرئ السامع من هذا الوهم، ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف الفهم، ويتصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلا العظم).
ومن أغراض حذف المفعول. إيراد ذكره ثانياً بحيث يعمل الفعل في صريح لفظه لا في ضميره العائد عليه إظهاراً لكمال العناية بوقوع الفعل عليه، كالذي تراه من قول أبي عبادة البحتري في مدح المعتز بالله:
قد طلبنا فلم نجد لك في السوء
…
دد، والمجد والمكارم مثلا.
لم يزل حقك المقدم يمحو
…
باطل المستعار حتى اضمحلا
أي أننا أعياناً البحث عن مثيل لك، دون أن نعثر على هذا المثيل، فلا نظير لك، لأن شمس حقك أزالت باطل غيرك.
والشاهد هنا: قولة: (قد طلبنا) حيث حذف مفعوله، لأن الأصل: قد طلبنا لك، ولكنه حذف لإيقاع الفعل المنفي على صريح لفظه - كما جاء عليه البيت -، ولو أنه ذكر المفعول فقال: طلبنا لك مثلا، لناسب أن يقول بعد ذلك: فلم نحدده، لأن المقام حينئذ يكون للضمير لتقدم مرجعه، فيفوت المقصود وهو: إيقاع الفعل المنفي على صريح لفظ المفعول الدال صراحة على عدم وجود المثل، وذلك أنسب بمقام المدح.
إذ لو سلط الفعل على ضميره - والضمير يصح أن يعود على شخص آخر غير الممدوح - لما كان نصا صريحاً في نفس المثل عنه.
على أنه يمكن أن يكون الغرض من حذف المفعول في البيت المذكور هو: التحرج من مواجهة الممدوح بطلب مثل له مبالغة في التأدب معه تعظيما له.
كما أنه يمكن أن يكون الغرض هو: البيان بعد الإبهام، لن المطلوب أبهم أولا، ثم بين أنه المثل، ولهذا أثر حميد في النفس.
ومن أغراض حذف المفعول: قصد التعميم في المفعول مع الاختصار:
وذلك كقولك: قد كان منك ما يؤلم، أي: كل أحد. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} ، أي جميع الكلفين.
ومنها: استهجان التصريح بالمفعول، كما في قول عائشة رضي الله عنها:(ما رأيت منه ولا رأي مني) يريد. العورة.
ومنها: رعاية الفاصلة في النثر، أو مراعاة الوزن في النظم:
أما الأول: فكما في قوله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أي: ما قلاك خدي المفعول محافظة على الروي، حتى يتوافق مع ما قبله وما بعده.
ويمكن أن يكون الغرض من الحذف في الآية الكريمة هو: ترك مواجهته صلى الله عليه وسلم بإيقاع لفظ (قلى) الذي معناه: أبغض على ضميره حتى ولو كان منفياً.
وأما الثاني: فكما في قول الشاعر:
بناها فأعلى والقنا يقرع؟ ؟ ؟ ؟
…
وموج المنايا حولها متلاطم.
يقصد: فأعلاها، ولكنه حذف المفعول محافظاً على وزن البيت.
ومنها: قصد الاختصار المجرد عن أي اعتبار، وذلك كما في قولهم: أصغيت إليه؛ أي: أذني، وأغضبت عنه، أي: بصري، فحذف المفعول في المثالين لمجرد الاختصار.
ومنه قول الله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أي: أرني ذاتك.
وقد أورد السكاكي ما حذف المفعول فيه لمجرد الاختصار: قول الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا} والتقدير، يسقون مواشيهم، وتذودان غنمهما، ولا نسقي غنمها.
والحق ما ذهب إليه عبد القاهر وهو أن الحذف فيها التوفر على إثبات الفعل الفاعل، ليكون المعنى، أنه كان من الناس سقي، ومن المرأتين ذود، لأن الذي أثار إشفاق موسى عليه السلام على هاتين المرأتين حتى دفعه إلى أن يسقي لهما: هو ما رآه من معاناتهما الذود عن موارد الماء حين اشتدت حركة السقي من أولئك الرعاء، أما كون المسقي، أو المذود غنماً أو إبلاً فخارج عن الغرض، لأنه لم يبذل لهما المعونة من أجل نوع المسقي أو المذود. بل من أجل ما رآه من معاناة المرأتين مشاق الذود توقيا الزحام:
وثمة أغراض أخرى تقتضي حذف المفعول، كإخفائه عن السامعين خوفاً عليه، أو التمكن من إنكاره إن مست الحاجة إلى ذلك، أو إيهام صونه عن اللسان أو صون اللسان عنه، وهكذا.