الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا قدم للظرف ليفيد أنه محط الإنكار.
واقرأ قول الشاعر:
أكل امرئ تحسبين امرءاً
…
ونار توقد بالليل ناراً؟ !
تجد أنه إنما قدم المفعول ليفيد أن الإنكار، سلط عليه، إذ هو ينكر عليها: أن كل الناس في حسبانها متساوون؛ ولا فرق بين كامل وناقص، كما أنه ينكر عليها أن كل نار في زعمها نار كرم وسماحة.
وكموافقة كلام السامع: وذاك كما في قولك: "الله دعوت"، و"بالنبي توسلت" في جواب:(من دعوت؟ ) و (بمن توسلت؟ ) فتقدم المعمول ليكون موافقاً مقابله في كلام السائل.
وكالمحافظة على الوزن، أو رعاية الفاصلة:
فمثال الأول قول الشاعر:
صريع إلى ابن العم يلطم وجهه
…
وليس إلى داعي الندى بسريع
أي إن نزعة الشر فيه غالية، فهو إلى الضر والأذى أسرع منه إلى الإحسان والخير.
ومثال الثاني: قول الله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} وقوله -جل شأنه - {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} ، وقوله تعالى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
تقديم بعض المعمولات على بعض
يقدم بعض المعمولات على بعض لأغراض بلاغية:
قالوا: إن من هذه الأغراض: أن يكون الأصل في ذلك البعض هو التقدم على البعض الآخر، ولا مقتفى العدول عن ذلك الأصل، كما في
قولك: هزم خالد الأعداء، فقد قدم خالد على الأعداء، لأنه فاعل، والأصل فيه أن يقدم على المفعول، وكالمفعول الأول في نحو: أعرت محمداً كتاباً، فالأصل فيه التقديم، لما فيه من معنى الفاعلية، لأنه الآخذ الكتاب، فهو في قوة قولك: أخذ محمد كتاباً.
ومنها: أن يكون ذكره أهم، والعناية به أتم، بأن يكون تعلق الفعل ذلك المقدم هو المقصود بالذات الغرض من الأغراض، كما إذا عاث شقي في البلاد فساداً، فهاجه شرطي وقتله، فأردت أن تخبر بذلك قلت:(قتل الشقي الشرطي)، إذ المقصود الأهم هو تعلق القتل والشقي، لينجو الناس من شره ويتقوا أذاه، فلا يعنيهم: أقتله شرطي أم غير شرطية؟
فإذا كان ثم رجل ضعيف هزيل لا يستطيع أن يدفع الأذى عن نفسه، أقتل رجلاً، وأردت أن تخبر عن ذلك قلت: قتل فلان رجلاً، فتقدم الفاعل حينئذٍ، لأن الذي يهم الناس من شأن هذا القتل صدوره من رجل لا يظن فيه ذلك، ولا يهمم بعد ذلك كان المقتول زيداً أم عمراً.
ولهذا قدم الله تعالى الوعد برزق المخاطبين على الوعد برزق أولادهم في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، لأن الخطاب هنا للفقراء بدليل قوله ومن إملاق، أو بسبب فقر وعوز، لأن رزقهم موضع اهتمامهم ومحط آمالهم.
وقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد بروقهم، في قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} ، لأن الخطاب هنا الموسرين بدليل قوله:"خشية إملاق"، لأن الخشية إنما تكون مما لم يقع، فكان رزق أولادهم هو المطلوب والمهم عندهم.
ومنها: أن يكون في تأخير المعمول إخلال بالمعنى المراد، بأن يكون موهماً لمعنى آخر غير مراد، ولهذا يقدم دفعاً لهذا الإيهام: وذلك كما
في قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} ، فقد قدم هنا: قوله: "من آل فرعون" على قوله: "يكتم إيمانه"، لأنه لو قال: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون، لتوهم أن قوله "من آل فرعون، من صلة "يكتم" أي متعلق به، وفي هذا إخلال بالمعنى المقصود إذ لا يفهم منه حينئذ أن ذلك الرجل كان من آل فرعون. والغرض هو بيان أنه منهم لإفادة ذاك مزيد عناية به ورعايته له.
وإنما كان تعلق الجار والمجرور بقوله: "يكتم" متوهماً، لأن الكثير الغالب في هذا الفعل: أنه يتعدى بنفسه يقول الله تعالى: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ويندر أن يتعدى "بمن".
ومنها: أن يكون في تأخير المعمول إخلال بالتناسب، فيقدم المعمول حينئذ لرعاية الفاصلة، كما في قول الله تعالى:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} قدم الجار والمجرور، والمفعول به على الفاعل، لأن في ذاك رعاية للتناسب بين الفواصل المختومة بالألف لتكون على نسق واحد.
وبعد: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله به"؛
حسن إسماعيل عبد الرازق
الزيتون: 6 من جمادى الآخرة سنة 1403 هـ.
الموافق? ? من مارس سنة? ? ? ? م.