الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) تقديم المسند
قالوا: إن تقديم المسند يكون لتخصيصه بالمسند إليه، أي تقصر المسند إليه علي المسند، وذلك كما تقوم:(مصري أنا) فتقديم المسند هنا قد أفاد قصر المتكلم علي المصرية لا يتعداها إلى الشامية، فيكون قصرا إضافيا، أولا يتعداها إلى غيرها من سائر الصفات فيكون قصرا حقيقياً إدعائياً.
ومنه قول الله تعالي: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أي أن دينكم مقصور عليكم لا يتجاوزكم إلي، وديني مقصور علي لا يتجاوزني إليكم فالقصر هنا إضافي في الموضعين.
ومنه قول الله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} الغول: ما يتبع شرب خمر من وجع الرأس وثقل الأعضاء وغياب العمل وغير ذلك والمعني: أن خمور الجنة لا غول فيها، بخلاف خمور الدنيا فإن فيها غولا.
والشاهد في الآية الكريمة تقديم المسند وهو (الجار والمجرور) لإفادة تخصيصه بالمسند إليه، وأن اقتضاء الغول خاص بخمور الجنة.
ومما يدل علي إفادة التقديم التخصيص: قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} فالظرف هنا - وهو المسند - لم يقدم علي المسند إليه فلم يقل: لا فيه، لأنه لو قدم لأوهم التقديم ثبوت الريب في سائر الكتب السماوية بناء علي اختصاص عدم وقوع الريب بالقران الكريم مع أن الريب منتف عنها.
ومنه قول أبي تمام يمدح محمد بن عبد الملك الزيات:
لك قلم الأعلى الذي بشباته
…
يصاب من الأهوال الكلي والمفاصل
شباة القلم: حده يقول: إنك قد خصصت بقلم له شأن خطير، إذا حدث أسباب من الأمور محزها، وجرت علي أسلته كبريات الأحداث.
ونشاهد في البيت: أن الشاعر قدم المسند في قوله (لك القلم) لإفادة معني التخصيص أي: إن القلم الموصوف بتلك الصفات لك لا لغيرك.
ومن تقديم المسند لإفادة التخصيص قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1).
وقوله تعالي: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (2).
وقوله تعالى: {ِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (3) وقوله تعالي: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (4).
وقد ذهب ابن الأثير - وتابعه العلوي - إلى أن التقديم في الآيات السابقة إنما هو لمراعاة الحسن في نظم الكلام بتطابق رؤوس الآي.
ويقيم إبن الأثير الدليل علي أن التقديم في الآيات السابقة لحسن النظم السجعي، بأن التأخير يفسد حسن نظم الكلام، ولا ينكر أن هذه الآيات مفيدة للاختصاص - ويتابعه العلوي أيضاً - ولكن الاختصاص مفهوم من طبيعة المعنى، أي مفهوم من قرائن أخرى غير التقديم.
(1)
…
القيامة: 22، 23.
(2)
…
القيامة: 29، 30.
(3)
…
القيامة: 12.
(4)
…
هود: 88.
وكثير من البلاغيين لا يوافقون ابن الأثير علي تفسير الخصائص البلاغية في القران تفسيراً يرجع إلى اللفظ، ولهذا فإنهم يرفضون كلام ابن الأثير وكلام العلوي الذي تابعه في رأيه.
ويري الدكتور محمد ابو موسي: أنه لا تزاحم في الأسرار وأن التقديم في الآيات الكريمة يفيد الفائدتين: فائدة معنوية، وهي الاختصاص، وفائدة لفظية وهي - في تقديره - جزء من التعبير كالمعنى تمامً: وهي الحفاظ علي التنغيم الآخذ، والتوازن الصوتي الذي يشارك مشاركة فعالة في تحريك القلوب وبعث خوافى الإحساس والشعور (1).
وابن الأثير مغرم بطريقة القاضي الفاضل في الغرام بالسجع - كما هو معروف - ويترسم خطاه لأنه كاتب مثله من كتاب الدواوين، ولهذا فإنك لا تكاد تجد سطرا من كتبه أو خطبه يخلو من السجع، فهو مغرم بالسجع مفتون به، ولهذا فإنك تراه يدافع عن هوايته تلك بكل الوسائل والسبل، فهو يستشهد بالقرآن الكريم، وبالحديث النبوي الشريف، وبكلام الصحابة رضوان الله عليهم علي أن السجع وسيلة مشروعة من وسائل التعبير، ويرد علي المعترضين اعتراضاتهم بلباقة وذكا، ثم هو يشفع ذلك كله بما كتبه من خطب أو تقليدات.
ولهذا فإنه لا يقبل كلام البلاغيين في أن التقديم في الآيات السابقة للتخصيص، ويذكر أنها لحسن النظم السجعي.
ورد الدكتور أبو موسي يتضمن الجمع بين رأي ابن الأثير ورأي من خالفه من البلاغيين.
(1) خصائص التراكيب ص 250.
أي أن التقديم قد أفاد الفائدتين معاً: التخصيص وحسن النظم السجعي.
غير أن الذي نريد أن نناقشه مع ابن الأثير هو: أنه يقول: إن التقديم في الآيات السابقة من أجل حسن النظم السجعى فحسب، بدليل أنه لو أخر لفات هذا النظم السجعى. أما التخصيص فمفهوم من قرائن أخري.
ونحن نقول له: إن التقديم هنا يفيد التخصيص، وأما حسن النظم السجعى فقد جاء تبعاً للمعني. اما قولك بأنه لو أخر لفات هذا النظم السجعى، فننا نقول لك - أيضاً - إنه لو أخر لفسد النظم البلاغى الذي هو تتبع معاني النحو فيما بين الكلم علي حسب الأغراض التي يساق لها الكلام، وتبعه فوات حسن النظم السجعى، لأن الألفاظ - كما يقول عبد القاهر - خدم المعاني وتابعة لها.
وقد يكون تقديم المسند للتنبيه من أول الأمر علي أنه خبر لا نعت، وذلك كما في قول حسان بن ثابت رضي الله عنه في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
له همم لا منتهي لكبارها
…
وهمته الصغرى أجل من الدهر
فإنه لو قال: همم له، لتوهم السامع أن (له) نعت لهمم لأن النكرة تحتاج إلى صفة أكثر من احتياجها إلى الخبر.
وهذا التوهم - وإن كان يزول بمجرد النطق ببقية البيت إلا أن الإسراع بإيقاع المعنى في النفوس لأول وهلة انسب بمقام المدح.
وقد يقدم المسند للتشويق إلى ذكر المسند الآية: كالذي رووه من قول محمد بن وهب في مدح المعتصم بالله العباسي:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها
…
شمس الضحى وأبو اسحق والقمر
يحكي أفعاله في كل قائلة
…
الغيث والليث، والصمصامة الذكر
وذلك لأنه لما قال ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها، اشتاقت النفوس إلي
معرفتهم لأن في المسند ما يشعرهم بأنهم ذوو خطر، لأن الدنيا تشرق ببهجتهم، فلما آتي بالمسند إليه، وقع في النفس موقعاً كريماً.