الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: إيراد المسند فعلا أو اسما:
الفرق بين إثبات المعني عن طريق الاسم، وإثباته عن طريق الفعل فرق لطيف ودقيق تمس الحاجة في علم البلاغة إليه - كما يقول الإمام عبد القاهر -.
وهذا الفرق هو: أنك إذا عبرت عن معني بطريق الاسم، فقلت - مثلا - (زيد منطلق) كنت قد أفدت انطلاقاً ثابتاً، ولكنك إذا قلت:(زيد منطلق) كنت قد أفدت انطلاقا يتجدد، فصيغة الاسم تدل علي الثبوت من غير تجدد، وصيغة الفعل تدل علي الحدوث والتجدد.
فقولك: زيد منطلق مثل قولك: زيد طويل، من حيث دلالته علي أنه طويل دون أن يشعر بتجدد الطول وحدوثه، وقولك زيد ينطلق، مثل قولك: زيد يطول، من حيث دلالته علي حدوث الطول وتجدده.
ويظهر هذا الفرق واضحاً في قولك: الورد أحمر، وقولك: الوجه يحمر من الخجل، فقولك:(أحمر) أفاد أن الحمرة صفة ثابتة في الورد لا تحدث ولا تتجدد.
وقولك (يحمر) أفاد أن الوجه يتحول إلى الحمرة شيئاً فشيئا، فالحمرة فيه تحدث وتتجدد وإذا اتضح لك هذا الفرق بين التعبير عن المعني بالاسم، والتعبير عنه بالفعل، عرفت أن التعبير عن المعني بالاسم له مقام يقتضيه، والتعبير عنه بالفعل له، أيضاً، مقام يقتضيه.
استمع إلى قول النضر بن جؤبة يتمدح بالكرم: (1)
(1) حاشية الدسوقي 2/ 26
فإن الغدر قد أمسي وأضحي
…
مقيما بين خبت إلى المسات
الهنات: الأمور المنكرة، ورزئنا: بمعني فجعنا، وخبت والمسات: ما آن لكلب،
فالشاعر يهجو بني كلب متهكما بهم مكررا تهكمه بهم وهو (فنعم الحي كلب! ) لأنه رأي في جوارهم أموراً منكرة، ورزئ في بنيه وبناته، ولهذا فإنه يؤكد أن الغدر قد أقام عندهم صباح مساء، فليسوا من الوفاء في شيء.
وفي ذكر الأطلال والديار نجد تكرير المسند في قول امراء القيس، بعد أن خاطب الطلل وحياه تحية الجاهليين، ثم رجع عنها مستبعدا أن ينعم الطلل وقد طال عهده بفراق أحبته:
وتحسب سلمي لا تزال تري طلا
…
من الوحش أو بيضا بميثاء محلال.
وتحسب سلمي لا تزال كعهدنا
…
بوادي الخزامى أو على رأس أو عال
فقد كرر "تحسب" لأن فيه معني سيطر علي مشاعره، وهو أنه يعيش حلما جميلا رأي فيه سلمي بهذا المكان ولكنه لم يلبث أن أدرك أن هذا الحلم وهم لا حقيقة له، فقد فنيت ديارها، وتبدلت طللا دارسا.
قالت طريفة: ما تبقي دراهمنا
…
وما بنا سرف فيها ولا خرق
إنا إذا اجتمعت يوما دراهما
…
ظلت إلى طرق الخيرات تستبق
لا يألف الدرهم المضروب صرتنا
…
لكن يمر عليها وهو منطلق
حتى يصير إلى نذل يخلده
…
يكاد من صره إياه يتمزق
فالشاعر يفخر بأن دراهمه لا تبقي، لأنه ينفقها في طرق الخير، والدرهم الذي يأتيه لا يبقي إلا ربما يمر بصرته مرور الكرام، حتى يأتي إلى نذل يبقيه بقاء الدهر، لأنه لا ينفقه بل يصره حتى يكاد أن يتمزق من صره إياه.
والشاهد هنا قوله: (وهو منطلق) حيث عبر بمنطلق للأشعار بان انطلاق الدراهم من الصرة أمر ثابت لا يتجدد وأن الدراهم ليس لها استقرار في الصرة، مبالغة في المدح بالكرم.
ولو قال: (وهو ينطلق) لأفاد أن الانطلاق يتجدد، ومعني هذا أنهم يمسكون الدراهم زمانا ثم ينفقونها.
ومنه قول الله تعالي: " وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ " فالمعني علي أن الكلب علي هيئة ثابتة هي بسط الذراعين بفناء الكهف، ولو قال: وكلبهم يبسط زراعيه، لكان المعني أن الكلب يتجدد منه بسط الذراعين شيئاً
فشيئاً، وليس مراداً، وإنما المراد أن أصحاب الكهف ظلوا علي هيئتهم الثابتة وصورتهم الجامدة التي توحي بالجلال والرهبة أزماناً طويلة "لو اطلعت عليهم لو ليت منهم قراراً ولمئت منهم رعباً".
واستمع إلى قول الأعشى:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
…
إلي ضوء نار في يفاع تحرق
تثب لمقرورين يصطليانها
…
وبات علي النار الندي والمحلف.
فقد قال: (في يفاع تحرق، أي تتحرق) واليفاع المكان المرتفع، أي أن النار في مكان عال تتحرق، ولو قال متحرقه، لآفاد أن النار متحرقة فقط دون أن يحدث التحرق منها ويتجدد شيئاً فشيئاً وليس ذلك غرض الشاعر، إذ الشاعر يقصد أن الغار في يفاع تتحرق أي يحث التحرق منها ويتجدد شيئاً فشيئاً، لأن المحلق قد بات بجوارها يجدد اشتعالها، ويعلي لهبها، لتهدي إليه أضياف الليل.
وقول طريف بن تميم:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة
…
بعثو إلى عريفهم يتوسم.
فتوسموني إنني أنا ذلكم
…
شاكي سلاحي في الحوادث معلم.
تحبي الأغر وفوق جادي نثرة
…
زغف ترد السيف وهو مثلم
حولي أسيد والهجيم ومازن
…
وإذا حللت فحول بينى خصم
وعكاظ: سوق بين نخلة والطائف كانت تقام في مستهل ذي القعدة، وتستمر عشرين يوماً تجتمع فيه قبائل العرب، فيتعاكظون أي: يتفاخرون ويتناشدون، وكان فرسان العرب إذا حضروا عكاظ وأمن بعضهم من بعض لكون عكاظ في شهر حرام تقنعوا حتى لا يعرفوا، وذكر عن طريف هذا أنه كان من الشجعان وكان يتقنع كما يتقنعون، فاتفق له أنه وافي عكاظ وكان طريف قبل ذلك قد قتل شراحيل الشيباني، فقال حصيصة ابن شراحيل: أروني طريفاً، فأروه إياه، فجعل حصيصة كلما مر به طريف تأمله ونظر إليه حتى فطن له طريف، فقال له: مالك تنظر إلى مرة بعد مرة؟
فقال له حصيصة اتو سمك لأعرفك فلله علي إن لقيتك في حرب لأقتلنك أو لتقتلني، فقال طريف هذه الأبيات
والشاهد هنا قوله: (يتوسم) حيث عبر بالفعل، لأنه أراد أنه يصدر منه التوسم، أي يتفرس الوجوه طالباً له، لأن له جناية في كل قوم، لأن المعني علي توسم وتأمل ونظر يتجدد من العريف هناك حالا فحالا، وتصفح منه الوجوه واحداً بعد واحد، ولو قال: بعثوا إلى عريفهم متوسما لم يفد ذلك.
علي أن إفادة الاسم الثبوت من أصل وضعه، كما أن إفادة الفعل التجدد من أصل وضعه - أيضاً - ولكن الاسم قد يفيد الدوام والاستمرار مع الثبوت، كما أن الفعل قد يفيدهما - أيضاً - مع التجدد
والحدوث، ولكن ذلك رهن بمعونة القرائن، كأن يكون المقام مقام مدح - كما أسلفنا -
* * *
وقد يقيد الفعل بأحد المفاعيل ونحوها لتربية الفائدة وتكشيرها:
فإذا قلت: فلان حفظ، ولم تكن زدت علي نسبة الحفظ إليه شيئاً،
ولكنك إذا زدت مفعولا، فقلت (صحيح البخاري) زادت الفائده، وهى أن الحفظ كان لحديث البخاري، فإذا قلت: بالمدينة - مثلا - زادت الفائدة، وهى: أن حفظ الحديث كان بالمدينة، فإذا قلت: أمام الروضة الشريفة، زادت الفائدة، وهي أن حفظ الحديث بالمدينة كان أمام ذلك
المكان.
وهكذا: كلما زدت قيدا زادت الفائدة.
وقد لا يقيد الفعل بشيء مما ذكر لمانع يحول دون تربية الفائدة: كخوف فوات الفرصة، أو إرادة عدم إطلاع الحاضرين علي زمان الفعل أو مكانه، أو مفعوله، أو عدم العلم بالمقيدات.
* * *
قالوا: يؤتي بالمسند جملة لواحد من أمرين:
الأمر الأول نقوي الحكم، لأن المقام يقتضي تقويته، ومعني تقوية الحكم، أن المبتدأ يستدعي أن يسند إليه شيء، فإذا ما جاء ما يصلح أن يسند إليه صرفه المبتدأ إلى نفسه مثبت له ثم إذا كان متضمنا لضمير المبتدأ صرفه ذلك الضمير إلى المبتدأ ثانياً، فيكتسي الحكم قوة لتكرر الإسناد، كما في قولك:(محمد يحب القراءة) فحب القراءة يطلبها كل من محمد وضميره، وفي هذا تكرار لإسناد الفعل المذكور، والتكرار أساس التقوي.
الأمر الثاني: كون المسند سببياً: ومعناه - كما فسره السكاكي - أن يكون المسند جملة علقت علي مبتدأ بعائد لا يكون مسنداً إليه في هذه الجملة كما في قولك: علي أخوه كريم ومحمد عطفت عليه، وإبراهيم صاحبته، وعصام طالعت كتبا في مكتبته.
فالغرض من مجيء المسند جملة فعلية هو إفادة التقوي، لأن كون المسند سبباً مما يقوي الحكم - أيضاً - لأنك في قولك:(محمد عطفت عليه) عندما قلت: محمد، تطلب الخير، فعندما أسندت إليه عطفك عليه تمكن الخبر من النفس، ولما كان في الخير ضمير عائد علي المبتدأ كان ذلك عقوباً للربط بين طرفي الجملة.
وإذا كان الفرق بين التعبير عن المعني بصيغة الاسم، والتعبير عنه بصيغة الفعل هو أن الأول يفيد الثبوت، والثاني يفيد التجدد، فإن هذا الفرق موجود بين التعبير بالجملة الاسمية، والتعبير بالجملة الفعلية.
أنظر إلى قول الله تعالي. . {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ (1)} .
فقد عبروا في خطاب المؤمنين بالجملة الفعلية (آمنا) أي حدث الإيمان بعد أن لم يكن، ولكنهم في خطاب إخوانهم عبروا بالجملة الاسمية (إنا معكم) أي ثابتون مستمرون علي ما كنا عليه من الكفر.
وأنظر إلى قول اله تعالي {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (2)} .
فقد جاءت الجملة الأولى (أدعوتموهم) فعلية، والجملة الثانية:(أنتم صامتون) أسمية، لتفيد الأولى التجدد والحدوث والثانية: الدوام والاستمرار، وعلي هذا فالمعني، سواء عليكم أن تحدثوا دعاءهم، أو أن تستمروا علي صمتكم.
وكان الوثنيون من عادتهم أنهم لا يدعون هذه الأصنام إذا نزلت بهم
(1) البقرة 14.
(2)
الأعراف 193.
شدة وإنما يدعون الله فقيل: سواء عليكم أأحدثتم الدعاء علي غير العادة، أم بقيتم مستمرين علي عادة صمتكم.
ومنه قول الله تعالى. . {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} (1). فقد عبروا بالجملة الفعلية في قولهم، (أجئتنا) لتفيد التجدد والحدوث، أي أحدث منك مجيء بالحق بعد أن لم تكن كذلك؟ وعبروا بالجملة الاسمية في قولهم، (أنت من اللاعبين) لتفيد الدوام والاستمرار، أي، أم أنت مستمر في لعبك الذي ألفناه منك؟ .
(1) الأنبياء 55.