الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقربنه التحوز فيها: صدور هذا القول من مؤمن يرى أن الله تعالى مصدر الأفعال كلها.
فالقرينة - إذن - في هذين الموضعين معنوية، إذ ليس في الكلام لفظ صريح يدل على التجوز في الإسناد، وإنما الدال عليه أمر معنوي (1).
الفرق بين المجاز العقلي والمجاز اللغوي:
فرق الإمام عبد القاهر الجرجاني بين المجاز اللغوي، والمجاز العقلي بأن الأول يقع في المثبت، وأن الثاني يقع في الإثبات، وأن المتصرف في الإثبات هو العقل الذي يقيم الروابط والصلات، فالذي يعود إلى واضع اللغة أن (ضرب) لإثبات الضرب وليس لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمان ماض، وليس لإثباته في زمان مستقبل، فأما نعين متى يثبت له، فيتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين والمعبرين عن ودائع الصدور والكاشفين عن المقاصد والدعاوى صادقة كانت تلك الدعاوى أو كاذبة، ومجرأة على صحتها، أو مزالة عن مكانها من الحقيقة وجهتها (2).
تقسيم المجاز العقلي باعتبار طرفيه:
ينقسم المجاز العقلي باعتبار حقيقة الطرفين ومجازيتهما إلى أربعة أقسام:
الأول: ما كان الطرفان فيه حقيقتين لغويتين. كما في قول المؤمن:
(1)
…
المنهاج الواضح في البلاغة للأستاذ حامد عوني.
(2)
…
أسرار البلاعة صـ 327.
شفى الطبيب المريض فكل من (شفى) و (الطبيب) مستعمل في المعنى الذي وضع له، ولكن التجوز إنما هو في إسناد (شفى) إلى (الطبيب).
ومنه قول الله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (1) فقد أسندت زيادة الإيمان إلى الآيات على سبيل المجاز العقلي، لأن الآيات سبب فيها، ومع هذا فإن الطرفين وهما: الزيادة، والآيات؛ مستعملان في معنييهما.
ومنه قول جميل بن معمر:
وشبب أيام الفراق مفارقي
…
وأنشرن نفسي فوق حيث تكون
"مفارقي" جمع مفرق على زنه مقعد ومجلس: وهو في الأصل: وسط الرأس حيث يفرق الشعر، والمراد هنا: عامة الشعر و"وآنشرن" رفعن، يقول: أن أيام الفراق - لما فيها من آلام السهر والفكر - أشاعت الشيب في رأسي على غير موعد، ونزعت النفس من مكانها حتى بلغت الحلقوم.
وقد أسند التشبيب إلى أيام الفراق، على سبيل المجاز العقلي، لأن الفعل قد أسند إليه إلى زمانه، والطرفان مستعملان في حقيقتيهما.
والثاني ما كان الطرفان فيه مجازين لغويين، وذلك كما في قولك:"أحيا الأرض شباب الزمان" فالإحياء - وهو إيجاد الحياة - قد استعمل (2)
(1)
…
الأنفال: 2.
(2)
…
الزلزلة: 2.
في غير معناه، وهو: إيجاد نضارة الأرض وإحداث خضرتها، فقوله:(أحيا) استعارة تبعية.
وكذلك الشباب مستعمل في غير معناه، لأنه فترة القوة والحيوية في الإنسان، وقد استعيرت لزمن الربيع.
وكما في قولك: "أحيتنا مصابيح الإسلام"، أي: هدتنا علماؤه، فالطرفان وهما:(أحيا) و (مصابيح) مستعملان في غير ما وضعا له، وذلك لأن الإحياء في الأصل: إيجاد الحياة في الحيوان، ثم نقل إلى معنى الهداية على سبيل الاستعارة التبعية.
والمصابيح في الأصل، جمع مصباح، وهو السراج، ثم استعمل في العلماء على سبيل الاستعارة الأصلية.
ولعل هذه الصورة من صور المجاز لم تدر على السنة العرب، ولهذا لم نجوا أحدًا ممن شرحو تلخيص الخطيب القزويني قد أتى بشاهد مأثور لهذه الصورة، لا من الشعر ولا من النثر.
اللهم إلا ما تكلفوا من أمثلة مصنوعة، ليتموا بها قسمتهم العقلية.
الثالث: ما كان فيه المسند حقيقة، والمسند إليه مجازًا، وذلك في قولك:
هدتنا مصابيح الإسلام، فالمسند وهو "الهداية" مستعمل في حقيقته، والمسند إليه - وهو المصابيح - مستعمل في مجازه، والإسناد مجاز عقلي" من إسناد الفعل إلى سببه، لأن الهادي هو الله تعالى والعلماء سبب في الهداية.
ومنه قول ابن خفاجة:
وإني إذا ما شاقني لحامة
…
رنين وهزتني لبارقة ذكرى
لأجمع بين الماء والنار لوعة
…
فمن مقلة ريا ومن مقلة حرى
فقد أراد بالرتين صوت الحمامة، وإنما هو الهديل والسجع والترجيع، والتطريب، فاستعمال الرنين في صوت الحمامة مجاز بتشبيه هديلها بالرنين، وإسناد الشوق إلى الرنين مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى سببه.
وفي هذا التجوز توضيح للأثر العميق الذي أحسه الشاعر بسماع صوت الحمام وكأنه هو الذي فعل فيه الشوق وأحدثه.
الرابع: ما كان المسند - فيه - مجازًا، والمسند إليه حقيقة، وذلك كما في قوله تعالى - حكاية عن زكريا عليه -:{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (1).
أراد بالاشتعال، ظهور شيب الرأس، على سبيل الاستعارة التبعية، ليفيد معنى العموم والمفاجأة في الظهور، ثم أسند الاشتعال إلى الرأس؛ والرأس مكان الاشتعال لأن المشتعل هو الشعر، ليفيد بهذا الإسناد إحساسه بمعموم الشيب واستغراقه لجميع رأسه؛ وهو مجاز عقلي علاقته المكانية.
ومنه قول أبي الطيب:
وتحيي له المال الصوارم وألقنا
…
ويقتل ما تحيي التبسم والجدا
فالشاعر يصف قوة بطش الممدوح، وبسطة كمفه بالعطاء، وانتزاعه
(1)
…
مريم.
المال من أيدي الأعداء بقوة السلاح ثم اهتزازه للندى وبذله ما أستلبه من المال لذوي الحاجات والمعوزين.
وقد استعار الإحياء لجمع المال وانتزاعه من يد الأعداء، واستعار القتل لبذلته وإنفاقه على المعوزين والمسند - في الموضعين - مستعمل "في غير معناه الحقيقي، ثم أسند الإحياء إلى الصوارم والقنا، وأسند القتل إلى التبسم والجدا، على سبيل المجاز العقلي، إسنادًا للفعل إلى سببه.
وقد نبه عبد القاهر إلى أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز العقلي بسهولة، بل إنك لتجد نفسك - في كثير من الأمر - محتاجًا إلى أن تهيئ لذلك بشيء تتوخاه في نظم الكلام.
ثم ألمح إلى مقصوده بذكر مثال لتلك الصورة الرابعة من صور المجاز العقلي، فقال، وإن أردت مثالًا في ذلك، فانظر إلى قوله:
تناس طلاب العامرية إذا فات
…
بأسجح مر قال الضحى قلق الضفر
إذا ما أحسته الأفاعي تحيزت
…
شواة الأفاعي من مثلة سمر
تجوب له الظلماء عين، كأنها
…
زجاجة شرب؛ غير ملآي ولا صفر".
الأسجح من الإبل هو الرقيق المشفر، ومر قال الضحى: المسرع للسير فيه، وهو وقت الحر. والضفر: الحزام؛ وقلقه يكون من الضمور، وتحوز عنه: تنحى، وتحوزت الحية: تقلبت، والشواة، الجلوه، والمثلمة السمر: هي الأخفاف؛ وثلبها يكون من السير على الحجارة؛ أي إذا مشى ليلًا والأفاعي خارجة من جحورها، وأحست به: انقبضت جلودها عن طريق خوفًا من أخفافها، وجاب المغازة: قطعها، وجاب الشيء خرقه؛ والشرب: جماعة الشاربين، والصغر: الخالية.
يصف الشاعر جملًا له؛ ويريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء، ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها، ولولاها لكانت الظلماء كالسد والحاجز الذي لا يجد شيئًا يفرجه به، ويجعل لنفسه فيه سبيلًا.
فلولا أنه قال: (تجوب له)؛ فعلق (له) بتجوب "لما صلحت العين لأن يسند (تجوب) إليها، ولكنت لا تتبين جهة التجوز في جعل (تجوب) فعلًا للعين كما ينبغي؛ وكذلك لو قال: - مثلًا -: تجوب له الظلماء عينه؛ لم يكن له هذا الموقع، ولا اضطرب عليه معناه وانقطع السلك من حيث كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به الآن (1).
على أن هذه التهيئة المجاز العقلي في قول الشاعر، "تجوب له الظلماء عين" شبيهة بما في قول أبي الطيب:(وتحيي له المال الصوارم والقنا)؛ فإن موقع (له) هنا سبيه بموقعها هنا لك.
رأيت أن المجاز هو فرع الحقيقة؛ وأن المجاز العقلي هو فرع الحقيقة العقلية؛ فهل يلزم في كل مجاز عقلي أن يكون للمسند فاعل على حقيقي في تقدير المتكلم؟ أم أن هذا الأمر ليس يلازم؟ إنك إذا ما راجعت تراكيب المجاز العقلي، وجدت منها ما يمكنك أن ترجع بالفعل فيه إلى فاعله الحقيقي، وذلك كما في قول الله تعالى:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} لأنه يمكنك أن تقول: فما ربحوا في تجارتهم؛ وكما قولهم: "أخرج الغيث النبات" فإنه يمكنك أن تقول؛ أخرج الله النبات بالغيث. وكما في قوله، (تجوب له الظلماء عين" فإنه يمكنك أن تقول: يجوب الجمل الظلماء بعينه.
ولكنك إذا فعلت ذلك كنت قد أذهبت من الكلام مزيته التي تجلت في النظم البلاغي، وأتيت بحديث مرذول، وقول مغسول - كما يقولون -.
(1)
…
دلائل الإعجاز: صـ 195.
ومنها: ما لا يمكنك أن ترجع بالفعل فيه إلى فاعله الحقيقي؛ وذلك كما في قولهم: أقدمني بلدك حق لي على فلان؛ فالإقدام - هنا - مسند إلى الحق؛ والحق ليس فاعلًا حقيقيًا للإقدام وإنما هو سبب فيه؛ فهو مجاز عقلي علاقته السببية، ولكنه لا يمكنك أن ترجع بالفعل فيه إلى فاعله الحقيقي لأنهم لم يتعودوا الإسناد الحقيقي لهذا التركيب.
وكذلك قول الشاعر:
وصيرني هواك وبي
…
- لحيني - يضرب المثل
يقول إن هواك صيرني مثلًا يضرب الهلاك المحب، فأسند صير إلى هواك، والهوى لم يصيره، وإنما هو سبب فقط، فهو مجاز عقلي علاقته السببية، ولكنه لا يمكنك أن ترجع بالفعل فيه إلى فاعله الحقيقي، لأنهم لم يتعودوا الإسناد الحقيقي لهذا التركيب - أيضًا - وهكذا الشأن في قول أبي نواس:
يزيدك وجهه حسنًا
…
إذا ما زدته نظرًا
يقول: إنك كلما ازددت نظرًا إلى وجهه، تكشفت لك روائع حسنه، فأسند الزيادة إلى الوجه، وهو ليس فاعلًا حقيقيًا للزيادة، ولكنهم لم يتعودوا الرجوع بهذا الإسناد إلى حقيقته.
ولهذا قال عبد القاهر: "واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إن أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة، مثل أن تقول في: "فما ربحت تجارتهم" ربحوا في تجارتهم وفي: "يحمي نساءنا ضرب": نحمي نساءنا بضرب، فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء، ألا ترى أنه لا يمكنك أن تثبت الفعل - في قولك: "أقدمني بلدك حق لي على إنسان" فاعلًا سوى الحق؟ وكذلك لا تستطيع في قوله:
وصيرني هواك، وبي
…
- لحيني - يضرب المثل
وقوله:
يزيدك وجهه حسنًا
…
إذا ما زدته نظرًا
أن تزهم أن لصيرني فاعلًا قد نقل عنه فجعل الهوى، كما فعل ذلك في "ربحت تجارتهم" و"يحمي نساءنا ضرب"؟ ولا تستطيع كذلك أن تقدر ليزيد في قوله:"يزيدك وجهه: فاعلًا غير الوجه"(1).
ولكن الخطيب القزويني قد ذهب إلى أن الفعل في المجاز العقلي يجب أن يكون له فاعل في التقدير إذا أسند الفعل إليه يكون الإسناد حقيقة، غير أنه تارة يكون ظاهرًا، يدرك بأدنى تأمل كما في قول الله تعالى:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ، أي: فما ربحوا في تجارتهم، وتارة يكون خفيًا، لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل، كما في (سرتني رؤيتك)، أي سرني الله عند رؤيتك، وقوله:
يزيدك وجهه حسنًا
…
إذا ما زدته نظرًا
أي: يزيدك الله حسنًا في وجهه، لما أودعه من دقائق الحسن والجمال.
وكأن الخطيب - برأيه هذا - يعرض بالشيخ عبد القاهر، ويرد عليه فيما أسلفنا له من رأى في هذا الموضوع.
وقبل الخطيب القزويني لخص الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله في نهاية الإيجاز، كتابي عبد القاهر: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، واعترض على رأيه هذا، بأن الفعل لابد أن يكون له فاعل حقيقة لامتناع صدور الفعل لا عن فاعل. فهو إن كان ما أسند إليه الفعل فلا مجاز، وإلا فيمكن تقديره.
(1)
…
دلائل الإعجاز صـ 193، صـ 194.
ثم جاء أبو يعقوب السكاكي فزهم أن اعتراض الرازي حق، وأن فاعلي هذه الأفعال هو الله تعالى، وأن الشيخ عبد القاهر لم يعرف حقيقتها لخفائها، فتتبعه الخطيب القزويني على هذا الرأي؛ يقول العلاقة سعد الدين التفتازاني في مختصره:"وفي ظني أن هذا تكلف وأن الحق ما ذكره الشيخ"(1).
وقد تابع الدكتور محمد أبو موسى رأي العلامة سعد الدين التفتازاني في هذا الموضوغ وحمل على الإمام الرازي حملة شعراء لأن كثيرًا من الشراح قد انصرفوا عن رأي عبد القاهر وشايعوا الرازي والسكاكي فيما ذهبا إليه ودافع عن الشيخ دفاعًا مخلصًا، يتخلص فيما يلي:
أولًا: أن القول بأن الفعل لابد له من فاعل كلام لا ينقضه من له عقل، ولكنه لا يرد على عبد القاهر لأن عبد القاهر لم يتعرض لهذه القضية، وإنما يقول: إن هناك تراكيب جرت في لسانهم على أسلوب المجاز في الإسناد ولم يعهدها لسانهم جارية على أسلوب الحقيقة، وهو لا يدعى أن هناك أفعالًا تصدر من غير فاعل.
ثانيًا: أن عبد القاهر لا ينكر عن ناحية العقل تلك التقديرات التي ذهب إليها السكاكي في هذه الصور التي قال عنها عبد القاهر: "إنه لا يمكنك أن تثبت للفعل فيها فاعلًا سوى المذكور" من مثل قوله: أقدمتني نفسي لأجل حق على فلان، وصبرني الله بسبب هواك، ويزيدك الله حسنًا في وجهه، وإنما ينكر أن تكون هذه الاستعمالات متعارفة، وأنها مما جرى بها لسانهم.
ثالثًا: أن هذه التأويلات تكلف وتطلب لما لا يقصد في الاستعمال، ولا يتعلق به الغرض من التركيب - كما أشار البنائي -.
(1)
…
مختصر العلامة سعد الدين التفتازاني (شرح التلخيص) جـ 1 ص 263.
غير أن صريح كلام عبد القاهر يفيد أنه لا يمكنك أن تثبت للفعل في هذه الأفعال، أو أن تزعم أن لها فاعلًا قد نقل عنه للفعل.
وأما القول بأن عبد القاهر يقول: إن هناك تراكيب جرت على لسانهم على أسلوب المجاز في الإسناد، ولم يعهدها لسانهم جارية على أسلوب الحقيقة، فإن هذا القول إنما هو تفسير - فقط - لكلام عبد القاهر، وليس صريح كلامه.
على أن القول أن عبد القاهر لا ينكر - من ناحية العقل - تلك التقديرات التي ذهب إليها السكاكي، وإنما ينكر أن تكون هذه الاستعمالات متعارفة، وأنها مما جرى بها لسانهم فكلام لم يقم عليه دليل، لأن عبد القاهر نفسه لم يقدرها، حتى ولو من باب ذكرها للتنبيه على عدم جدواها.
ولو كانت تلك التقديرات ممكنة - في أريه - لكان عليه أن يقول: ويمكن أن تقدر لكل فاعل من هذه الأفعال فاعلًا حقيقيًا، ولكن العرب العربي لم يجر بذلك.
وأما أن هذه التأويلات: تكلف، وتطلب لما لا يقصد في الاستعمال، ولا يتعلق به الغرض من التركيب فهو حق فوافقه عليه، ولهذا فإننا نؤيد عبد القاهر - في رأيه - من هذه الناحية.
* * *
أسلفنا لك أن عبد القاهر الجرجاني قد أشاد بالمجاز العقلي، ورأى أنه كنز من كنوز البلاغة وأنه قد فرق بينه وبين المجاز اللغوي بأن المجاز فيه إنما هو في الإثبات لا في المثبت وأنه - وهو يكتب الدلائل - لاحظ أن التجوز فيه إنما هو في حكم يجري على الكلمة فقط، فسماه المجاز الحكمي.
ولكن السكاكي قد أنكر المجاز العقلي ونظمه في سلك الاستعارة بالكناية، وأخرجه من علم المعاني وأدخله من علم المعاني وأدخله في علم البيان، ويقول في قولهم:"أنبت الربيع البقل": شبه الفاعل المجازي وهو الربيع، بالفاعل الحقيقي، وهو القادر المختار، في تعلق الفعل بهما، ثم يحذف المشبه ويرمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الإنبات على سبيل الاستعارة بالكناية (1).
واستنكر الخطيب القزويني ما ذهب إليه السكاكي من عده هذا الأسلوب من قبيل الاستعارة بالكناية، وإدخاله إياه في علم البيان، فأخرجه من علم البيان وضمه مرة أخرى إلى علم المعاني (2).
وقد رد الخطيب القزويني كلام السكاكي ردًا قويًا، وأبطل رأيه بما يلي:
أولًا: أن قول السكاكي يستلزم أن يكون المراد بعيشة في قول تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} هو صاحب العيشة لا العيشة، وبما في قوله:{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} فاعل الدفق لا الماء لأن السكاكي كي يجعل الفاعل المجازي مشبهًا بالفاعل الحقيقي، ثم يستعير اللفظ الدال على الشبه إلى المشبه به، أي أن العيشة مشبهة يصاحبها الذي هو الفاعل الحقيقي، ثم استعير لفظ العيشة إلى صاحبها، وهذه طريقة السكاكي في الاستعارة بالكناية، فيكون معنى العيشة هو صاحبها، وتؤول الجملة هكذا: فهو في صاحب عيشة، وهذا فاسد. ومثل هذا يقال في "ماء دافق" لأن الفاعل المجازي هنا هو: الماء، وهو على رأي السكاكي - مشبه بالفاعل الحقيقي وهو الشخص الدافق، ثم استعير لفظ المشبه وهو الماء إلى المشبه به وهو الشخص الدافق" وتؤول الجملة هكذا: خلق من صاحب ماء، وهذا فاسد لأن المراد هو بيان القدرة في خلقه من شيء مهين هو ماء مدفوق لا من صاحب الماء.
(1)
…
شرح المختصر للتفتازاني جـ 1 ص 59.
(2)
…
الإيضاح جـ 1 ص 272.
ثانيًا: أنه يستلزم ألا تصح الإضافة في نحو قولهم: (نهاره صائم) و (ليلة قائم) لأن المراد بالنهار على رأيه هذا هو فلان نفسه؛ وكذلك المراد بالليل هو فلان نفسه؛ وإضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز.
ثالثًا: أنه يستلزم أن لا يكون الأمر بالبناء في قوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} لها مان؛ لأن المراد به حينئذ هو: العملة أنفسهم، وليس كذلك، لأن النداء له والخطاب معه.
رابعًا: أنه يستلزم أن يتوقف نحو قولهم: "أنيت الربيع البقل" و"شفى الطبيب المريض" و"سرتني رؤيتك" مما يكون الفاعل الحقيقي فيه هو الله تعالى على السماع من الشارع، لأن أسماء الله تعالى توقيفية، فلا يطلق عليه اسم لا حقيقة ولا مجازًا ما لم يرد به إذن الشارع، وليس كذلك لأن مثل هذا التركيب صحيح شائع ذائع في كلامهم، سواء سمع من الشارع أو لم يسمع.
خامسًا: أن كلام الكاكي ينتقض بنحو قولهم: (نهاره صائم وليلة قائم) وما أشبه ذلك مما يشتمل على ذكر الفاعل الحقيقي، وذلك لاشتماله على ذكر طرفي التشبيه، وهو مانع من حمل الكلام على الاستعارة.
ونحن - وإن كنا لا نوافق السكاكي ص 169 على نظمه المجاز العقلي في سلك الاستعارة بالكناية - لا نسلم بأنه خارج عن عقد البيان، ومنظوم في سلك المعاني وذلك لأننا عندما نتصفح دلائل الإعجاز نجد عبد القاهر الجرجاني - وإن كان قد جعله "فنًا" من المجاز اللغوي، لأن كلًا منهما عنده طريق للاتساع في الكلام، فالمجاز عنده إما أن يكون في نفس الكلمة، كالكناية والاستعارة والتمثيل على حد الاستعارة، والمجاز المرسل، وإما أن يكون في حكم يجري على
الكلمة، - لا في الكلمة نفسها - وهو المجاز العقلي - أو المجاز الحكمي -.
ولهذا فإننا نراه يعطي المجاز العقلي ما أعطاه المجاز اللغوي من الحكم بأن كلًا منهما يفخم به المعنى، ويشرف به اللفظ، وتحدث فيه النباهة.
يقول عبد القاهر: "وأعلم أن الذي ذكرت لك في المجاز هناك: من أن من شأنه أن يفخم عليه المعنى، وتحدث فيه النباهة، قائم لك مثله ههنا، فليس يشتبه على عاقل أن ليس حال المعنى وموقعه في قوله: "فنام ليلى وتجلى همي، كحاله موقعه إذا أنت تركت المجاز، وقلت: فنمت في ليلي وتجلى همي، كما لم يكن الحال في قولك: رأيت أسدًا، كالحال في "رأيت رجلًا كالأسد".
ومن الذي يخفي عليه مكان العلو وموضع المزية وسورة الفرقان بين قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} وبين أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم.
وإن أردت أن تزداد للأمر تبينًا، فانظر إلى بيت الفرزدق:
يحمي - إذا اخترط السيوف - نساءنا
…
ضرب تطير له السواعد أرعل
وإلى رونقه ومائه، وإلى ما عليه من الطلاوة، ثم ارجع إلى الذي هو الحقيقة، وقال: نحمي - إذا خترط السيوف - نساءنا بضرب تطير له السواعد أرعل ص 170، ثم أسير حالك هل ترى مما كنت تراه شيئًا؟ .
فكل من المجاز اللغوي والمجاز العقلي يفخم به المعنى، ويشرف به اللفظ، وتحدث به النباهة - كما رأيت -.
وكذلك نرى عبد القاهر يقسم المجاز العقلي إلى العامي المبتذل، والخاصي الذي لا يكمل له كل أحد، تمامًا كما قسم الاستعارة إلى العامية، والخاصية، ويجعلهما قربنين في هنا الأمر الذي تشعر معه بإيراد المعنى الواحد
بطرق مختلفة، كما هو الشأن في علم البيان وكيف لا يدخل في علم البيان الذي يختص بتصوير المعنى أو بالتصوير البياني الذي به يصبح الشاعر أو الأديب في عالم الخيال، وينسج منه صورًا تمتع الذهن وتلهب العواطف وتثير الوجدان؟
وعبد القادر يقول: "وهذا الضرب من المجاز - على حدته - كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المغلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طريق البيان"(1).
بلاغة المجاز العقلي وأثره في التعبير:
حاول الإمام عبد القاهر الجرجاني - وهو يكتب أسرار البلاغة - أن يفصح لنا عن سر بلاغة المجاز العقلي، فتوصل في بحثه هذا إلى حقيقة هامة في حقائق المجاز العقلي، وهذه الحقيقة هي أن المجاز العقلي إنما هو إثبات للفعل مع دليله (2).
ولكنه - وهو يكتب دلائل الإعجاز - قد تكشفت له حقائق أخرى عن بلاغة المجاز العقلي وأثره في اتساع فنون القول، فأجمل ذلك في عبارته التي يقول فيها:
"وهذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المغلق، والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طرق البيان، وأن يجيء بالكلام مطبوعًا مصنوعًا، وأن يضعه بعيد المرام، قريبًا من الإفهام (3).
(1)
…
دلائل الإعجاز صـ 191 - 193.
(2)
…
أسرار البلاغة صـ 309، صـ 310.
(3)
…
دلائل الإعجاز صـ 193.