الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه
هذا الأسلوب ألحقه ابن الأثير - وقبعه العلوي صاحب الطراز - بالالتفات، ملاحظاً أن الالتفات هو: الانتقال من صيغة - في الكلام إلى صيغة أخرى، كالانتقال من صيغة الماضي إلى صيغة المستقبل أو من صيغة المستقبل إلى صيغة الماضي وهكذا.
وذكر البلاغيون أن نكتة التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي: هي التنبيه على تحقق الوقوع، وأن ما هو للوقوع كالواقع، وأن نكتة التعبير عن الماضي بلفظ المستقبل: هي استحضار الصورة العجيبة، وذلك لقصد المبالغة في كلا التعبيرين، فهو من قبيل الاستعارة التبعية:
وهذا التصرف وإن كان من وظيفة "البيان" إلا أنه من المعاني من حيث إن الداهي إليه: التنبيه على تحقق الوقوع في الأول، واستحضار الحال الماضية في الثاني.
فمن التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي: قول الله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} .
وقول الله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} .
وقول الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} ، {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ} .
فأنت ترى أن المعنى في كل ذلك: يوم ينفخ، ويصعق، ونحشر، ويفزع، وينادي، فجعل المتوقع الذي لابد من وقوعه، والذي لا محالة من مجيئه كالواقع الآن.
على أن ثمة نكتة أخرى لهذا التعبير الذي يصور لك ما سيحدث بصورة الحاصل: فالآيات الكريمة تصور لنا مشاهد يوم القيامة، وتنقلها لنا كأنها حاصلة الآن، ولا ريب أن نقل هذه المشاهد بهذه الصور يجعلنا نتخيل أننا قد بعثنا في يوم القيامة ووقفنا أمام الله تعالى للحساب فرأينا هذه الصور المروعة لقلوب الكافرين وذلك مما يلقي الروع في قلوب الجاحدين فيرجعون إلى الله تعالى، ويسكب الخشوع في قلوب المؤمنين فيزدادون به إيماناً، ولا يحيدون عن طريق الحق، وإن أمعن الشيطان في إغوائهم.
ومما هو من هذا القسم بسبيل: التعبير عن المستقبل باسم الفاعل أو اسم المفعول المنكتة السابقة، وهي: التنبيه على تحقق الوقوع.
ومنه قول الله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} وقوله: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} .
لم يقل وإن الدين لبقع، والدين: هو الجزاء، ولم يقل: ذلك يوم يجمع له الناس، لأن كلا منهما واقع لا محالة، فكأنه قد وقع.
ومن التعبير عن الماضي بلفظ المستقبل: قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} كان مقتضى الظاهر أن يقال: فأثارت، لأن الإثارة وقعت فعلاً، ولكنه عبر عنها بلفظ المضارع، فاصداً بذلك استحضار صورتها في الخيال وكأنها واثعة عياناً، لما فيها من الدلالة على القدرة الباهرة التي تثير السحاب مسخراً بين السماء والأرض.
ومنه قول تأيط شرا:
ألا من مبلغ فتيان فهم
…
بما لاقيت عند رحا بطان
بأني قد لقيت الغول تهوى
…
بسيب كالصحيفة صحصحان
فقلت لها: كلانا تضو أرض
…
أخو سفر فخلى لي مكاني
فشدت شدة نحوي فأهوت
…
لها كفى بمصقول يماني
فاضربها بلا دهش فخرت
…
صريعاً لليدين والجران
فالشاعر يزعم أنه قد لقى الغول في سفره وقد جاءت نحوه فحاول إبعادها عن طريقه ولكنها أمضت في اقترابها منه، فضربها بسيفه فصرعها.
بيد أنه لم يقل فضربتها، وإنما قال "فاضربها" فعبر عن الضرب في الماضي بالضرب في الحال؛ مستخدماً صيغة المضارع مكان صيغة الماضي، ليصور لقومة الحالة التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يقدم لهم صورتها أو يطلب منهم مشاهدتها تعجباً من جزاءته على كل هول، وثباته عند كل شدة.