المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب القضاء ــ كتاب القضاء لما كان أكثر المنازعات تقع في الديون والبياعات - النهر الفائق شرح كنز الدقائق - جـ ٣

[سراج الدين ابن نجيم]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب العتق

- ‌باب العبد يعتق بعضه

- ‌باب الحلف بالدخول

- ‌باب العتق على جعل

- ‌باب التدبير

- ‌كتاب الإيمان

- ‌باب اليمين في الدخول والخروج والسكنى والإتيان وغير ذلك

- ‌باب اليمين في الأكل والشرب واللبس والكلام

- ‌باب اليمين في الطلاق والعتاق

- ‌باب اليمين في البيع والشراء والتزويج والصوم والصلاة وغيرها

- ‌باب اليمين في الضرب والقتل وغير ذلك

- ‌كتاب الحدود

- ‌باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه

- ‌باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها

- ‌باب حد القذف

- ‌فصل في التعزير

- ‌كتاب السرقة

- ‌باب قطع الطريق

- ‌كتاب الجهاد

- ‌باب الغنائم وقسمتها

- ‌باب استيلاء الكفار

- ‌باب المستأمن

- ‌باب العشر والخراج والجزية

- ‌فصل في الجزية

- ‌باب المرتدين

- ‌باب البغاة

- ‌كتاب اللقيط

- ‌كتاب اللقطة

- ‌كتاب الآبق

- ‌كتاب المفقود

- ‌كتاب الشركة

- ‌فصل في الشركة الفاسدة

- ‌كتاب الوقف

- ‌كتاب البيوع

- ‌باب خيار الشرط

- ‌باب خيار الرؤية

- ‌باب خيار العيب

- ‌باب البيع الفاسد

- ‌باب الإقالة

- ‌باب التولية

- ‌باب الربا

- ‌باب الحقوق

- ‌باب السلم

- ‌باب المتفرقات

- ‌كتاب الصرف

- ‌كتاب الكفالة

- ‌كتاب الحوالة

- ‌كتاب القضاء

- ‌باب كتاب القاضي إلى القاضي وغيره

الفصل: ‌ ‌كتاب القضاء ــ كتاب القضاء لما كان أكثر المنازعات تقع في الديون والبياعات

‌كتاب القضاء

ــ

كتاب القضاء

لما كان أكثر المنازعات تقع في الديون والبياعات والمنازعات محتاجة إلى قطعها أعقبها بما هو القاطع وهو القضاء، كذا في (العناية) و (فتح القدير) وهو صريح في أن المراد القضاء الحكم وح فكان ينبغي بيان وجه التأخير عما قبله كذا قيل، ويمكن أن يقال: أرادوا بيان من يصلح للقضاء أي الحكم لتصح الدعوى عنده فلا جرم أن ذكر قبلها ولا خفاء أن وجه التأخير عما قبله مستفاد من أكثر المنازعات في الديون والحوالة المطلقة مختصة بها فذكر بعدها، وكما جاء بمعنى الحكم لغة جاء أيضًا بمعنى: الفراغ والأداء والإنهاء والصنع والتقدر كما في (الصحاح) قال ابن قتيبة: وكلها ترجع إلى الختم والفراغ من الأمر يعني بإكماله وعرفًا فصل الخصومة، كما في (الشرح) تبعًا (للمحيط) قال العيني: والأولى أن يقال: هو قول ملزم يصدر عن ولاية عامة وليس بجامع لأن فعله حكم أيضًا كما سيأتي، وعرفه ابن الغرس بأنه الإلزام في الظاهر على صفة مختصة بأمر ظني لزومه في الواقع شرعًا، والمراد بالإلزام التقرير التام سواء كان إلجاء إلى فعل أو ترك فهو كالجنس وقوله في الظاهر فصل عما ألزم به الشرع في نفس الأمر لأن ذلك الإلزام راجع إلى الخطاب، ومعنى في الظاهر في الصورة الظاهرة إشارة إلى أن القضاء مظهر للأمر الشرعي لا مثبت له وما يفهم عن الحنفية أنه مثبت أخذًا من قول الإمام بنفوذ القضاء بشهادة الزور ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ فهم قاصر إذ الأثر الشرعي في مثل ذلك ثابت تقديرًا والقضاء يقدره ظاهر، إلا أنه أثبت أمرًا لم يكن وقوله على صفة فصل عن مطلق الإلزام إذ المعتبر ههنا الإلزام بالصيغة الشرعية كألزمت وحكمت وقضيت وأنفدت عليه القضاء، وفي ثبت عندي خلاف سيأتي وقولنا بأمر الخ فصل عن الجوز والتشهي وما في معنى ذلك، وأورد أن التعريف غير منعكس لخروج القضاء بقطعي كالقضاء بالحرية مثلًا.

وأجيب بأنه لابد للقضاء في كل قضية من الظني، إما في المقضي به أو في متعلقه أو في متعلقهما انتهى ملخصًا وركبه قوله: أو فعل فالقول ما مر ومنه قوله بعد إقامة البينة للمعتمد بعد البرهان اقسمه واطلب الذهب منه وظهر أوضح عندي أو علمته فهذا كله حكم في المختار، كذا في (القنية) ومنه أشهد عليه كما في (الخزانة) وليس منه أرى أن الحق للمشهود له لأنه بمنزلة أظن، ولو قاله لم يكن قضاء كذا في (الخانية) وينبغي أن يكون بضم الهمزة، أما إذا كان بمعنى اعلم فقد مر أن علمت تكون حكمًا، وليس منه أيضًا لا أرى لك حقًا في هذه بهذا الدعوى ما

ص: 593

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لم يقل أمضيت أو أنفذت عليك القضاء، وكذا قوله للمدعى عليه سلم هذه الدار إليه بعد إقامة البرهان وهذا نص على أن أمره لا يكون بمنزلة قضائه، وذكر شمس الأئمة أنه حكم لأنه أمر إلزام قال البزازي: ويدل على أنه ليس بحكم ما ذكره الظهري وقف على الفقراء واحتاج بعض قرابته فأمر القاضي أن يصرف شيئًا من الوقف إليه فهو بمنزلة الفتوى حتى لو أراد أن يصرفه لآخر صح، ولو حكم بأن لا يصرف إلا إلى أقربائه نفد حكمه دل هذا أن أمره ليس بحكم انتهى.

وفي وقف (فتح القدير) استبعدت صحة الحكم وكيف ساغ بلا شرط حتى ظفرت بقوية بأن هذا الحكم لا يصح ولا يلزم انتهى. وهو ظاهر في أنه مع شروطه تصح اتفاقًا بأن أعطاه المتولي سنة ثم منعه وأراد إعطاء غيره فترافعا إلي القاضي فرأى أن الدفع إليه أصلح فحكم على المتولي بأن لا يعطي غيره، ولم يحكوا خلافًا إن أمره بحبس الخصم قضاء بالحق كما في (القنية)، وأما الثبوت فصح البزازي أنه حكم قال في (الفتاوى الكبرى): وعليه الفتوى، أي قول القاضي ثبت عندي ما ادعاه عليك هذا، وأما إذا لم يكن هذا المعنى فليس بحكم قطعًا ويظهر ذلك في مسائل منها ما لو قالوه في خيار العيب من أنه إذا لم يكن ظاهرًا فلابد لصحة الدعوى به من ثبوت قيامه حال الدعوى وذلك من تمامها، وما ذكروه بالحكم بالنفاذ من أنه يشترط له أن يثبت عند القاضي بالبينة أن العقار في يد المدعى عليه ولا يكفي في ذلك تصادقهما ومنها ثبوت ملك البائع للعين وهو المسمى بينة الخ بأن من أحل صحة البيع أو الوقف أو الإجارة، وقد سئل قارئ (الهداية) هل يشترط في صحة حكم الحاكم بوقف أو بيع أو إجارة ثبوت ملك الواقف أو البائع أو المؤجر وحيازته أم لا يشترط؟ أجاب إنما يحكم بالصحة إذا ثبت/ أنه مالك لما وقفه، أو أن له ولاية الإيجار والبيع لما باعه، وإن لم يثبت من ذلك لا يحكم بالصحة بل بنفس الوقف والإجارة والبيع لما باعه، والحاصل أن الثبوت إن وقع في مقدمات الحكم لم يكن حكمًا وإلا كان حكمًا يعني بعد الدعوى الصحيحة.

واعلم أن ظاهر كلامهم الاتفاق على اعتبار الحكم بالصحة على سبيل الاستقلال، ونظر فيه ابن الغرس بأن القضاء في حقوق العباد إنما هو لدفع النزاع ومن المعلوم أنه لا يقع في صحة العقد وفساده بل في آثار ذلك ومتعلقاته فما الداعي إلى القضاء يقضي بالصحة فالوجه أن القضاء بها لا يصح على وجه الاستقلال وإن يكون ذلك ضمنًا، فإن لم يكن وقوع التداعي والتخاصم في ذلك لم يكن انتهى ملخصًا،

ص: 594

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وأما فعله فإذا لم يكن موضعًا للحكم فليس بحكم كما أذنته مكلفة بتزويج نفسها فزوجها، وإن كان موضعًا له فظاهر كلامهم أنه حكم ففي (التتمة) و (الخانية) لو باع مال اليتيم من نفسه أو باع من اليتيم لم يجز لأن بيع القاضي قضاء منه وأنه لا يصح قاضيًا لنفسه، وفي (التتمة) لو زوج اليتيمة من ابنه لا يصح وفي (الأصل) حضر الورثة وفيهم صغير أو غائب وطلبوا قسمة العقار قال الإمام: لا أقسم بإقرارهم حتى يقيموا البينة على الموت والوارث لأن فيه قضاء على الغائب أو الصغير بقولهم لأن قسمة القاضي قضاء منه، وقالا: لا ينقسم إلا أنه في نكاح (فتح القدير) قال في مسألة التزويج الإلحاق بالوكيل يكفي للحكم مستغنيًا عن جعل فعله حكمًا مع انتفاء شرطه وكذا إذا باع مال يتيمة من نفسه بكل من الوجهين والأوجه ما ذكرنا انتهى.

وأقول: ومما يدل على أنه ليس بحكم إثباتهم خيار البلوغ للصغير والصغيرة بتزويج القاضي على الأصح، ولو كان تزويجه حكمًا للزم نقضه غير أن الإلحاق بالوكيل لا يأتي فيما لو زوج اليتيمة من ابنه أو باع منه مال يتيم لنصهم أن الوكيل لو باع لمن لا تقبل شهادته له لو بأكثر من القيمة جاز بلا خلاف، كما في (النهاية) وغيرها، ولذا لا يأتي في مسألة القسمة التي هي نص محمد في (الأصل)، وفي (البحر) لما كثر في كلامهم أن فعله حكم فالأولى أن يقال: إنه يحتاج إليها في الحكم القولي لا في الفعلي تصحيحًا لكلامهم أنه لا خلاف في اشتراطها صحيحة للحكم القولي، وقد حكى العلامة قاسم في (فتاواه) الإجماع عليه أي إجماع فقهائنا فإن لم يوجد كان إفتاء كما صرح به في (الفصول) و (البزازية) وغيرهما وبه عرف أن التنفيذ الواقع في ديارنا ليس من الحكم في شيء إذ غايته إحاطة القاضي الثاني بحكم الأولى على وجه التسليم له ومعنى ما سيأتي من قول المص وإذا رفع إليه حكم قاض أمضاه أي ألزم الحكم به يعني إذا حصلت فيه خصومة من مدع على خصم ويدل على ذلك ما في (الخلاصة) و (البزازية) وإذا أرادوا أن يثبتوا حكم الخليفة عند الأصل فلابد من دعوى صحيحة على خصم حاضر وإقامة البينة كما لو أرادوا إثبات قضى قاض آخر انتهى. فإذا وجدت الدعوى كان حكمًا لأن القضية الشخصية الواحدة يجوز أن يتوارد عليها الأحكام المتعددة المتفق عليها، لكني لا أرى للثاني فائدة بعد صحة الأول إلا مجرد التقوية.

وأعلم أن السلف إنما كانت أحكامهم صرائح فيقولون قضى له بالدار ونحو ذلك، ثم تعورف القضاء بالموجب تيسيرًا وهو عبارة عن المعنى المتعلق عما

ص: 595

أهله أهل الشهادة

ــ

أضيف له في ظن القاضي شرعًا من أنه يقضي به، فإذا حكم حاكم حنفي بموجب بيع مدبر كان معناه الحكم ببطلان البيع، ولو قال الموثق وحكم بمقتضاه لا يصح لأن الشيء لا يقتضي بطلان نفسه وبه ظهر أن الحكم بالموجب أعم ثم هو لا يخلو إما أن يكون أمرًا واحدًا أو أمورًا يستلزم بعضها بعضًا أو لا.

فالأول: كالقضاء بالأملاك المرسلة والطلاق والعتاق إذ لا موجب لهذا سوى ثبوت ملك الرقبة للعين والحرية وانحلال قيد العصمة، والثاني: كما إ ذا ادعى رب الدين على الكفيل بدين له على الغائب المكفول له وطالبه به فأنكر الدين فأقام البينة على الدين والكفالة فحكم بموجب ذلك فالموجب هاهنا أمران، لزوم الدين للغائب ولزوم أدائه على الكفيل.

والثاني يستلزم الأول في الثبوت والثالث كما إ ذا حكم شافعي بموجب بيع عقار فتم الحكم على ما وقعت به الدعوى فلا يكون حكما بأنه لا شفعة وهكذا في نظائره، هذا حاصل على ما قرره ابن غرس، وبقي قسم رابع نص عليه في (منية المفتي) وغيرها فقال في فسخ اليمين المضافة لو قال القاضي: قضيت بالنكاح بينهما صح وإن كان له أيمان مختلفة، ولو لم يبطل القاضي حتى أجاز نكاح فضولي بالفعل ثم طلقها ثلاثًا ثم تزوجها بنفسه ثم رفع الأمر إلى القاضي، فإن علم يتقدم نكاح الفضولي ومع ذلك قضى/ بالنكاح بينهما صح وكان قضاء ببطلان اليمين وببطلان نكاح الفضولي وبطلان الثلاث بعده وإن لم يتقدم نكاح الفضولي انتهى. فهذا الأمور التي استلزمها الحكم بالنكاح توقف إيقاعها على علمه بها والله الموفق.

وقد وقعت حادثة هي أن شخصًا وقع في حقه عليه الصلاة والسلام بما يوجب كفره فحكم حنفي بموجب ذلك هل يكون حكمًا بهدم قبول توبته؟ فليس للشافعي أن يحكم بقبولها وقياس مسألة الشفعة أن لا يكون مانعًا من الحكم بقبول توبته وهو الذي ملت إليه هنا، وليس من الشرائط المصر فيصح القضاء في السواد وبه يفتى، كما في (البزازية) ولا كون المتداعيين من بلدة القاضي في غير العقار، وأما العقار الذي لا في ولاته فالأصح فيه الجواز، كما في (الخلاصة) وغيرها (أهله) أي: القضاء (أهل الشهادة) أي: أدائها على المسلمين، كذا في (الحواشي السعدية) ويرد عليه أن الكافر لو ولى قاضيًا ليحكم بين أهل الذمة جاز، صرح به الشر في التحكيم وشرط أن يكون من أهل الشهادة لأن كلًا منهما يستمد من أمر واحد هو شروط الشهادة من الإسلام والتكليف والحرية وكونه غير أعمى ولا محدودًا في قذف ولا أصم ولا أخرس، وأما الأطرش الذي يسمع القوي من الأصوات فالأصح جواز توليته،

ص: 596

والفاسق أهل للقضاء كما هو أهل للشهادة إلا أنه لا ينبغي أن يقلد ولو كان القاضي عدلًا ففسق بأخذ الرشوة

ــ

وظاهر أن الكلية أعني كل من كان أهل الشهادة هو أهل للقضاء مطردة غير منعكسة عكسًا لغويًا فلا يرد أن من فعل ما يخل بالمروءة فهو أهل للقضاء دون الشهادة، ولأن شهادة العدو عن عدوه من حيث الدنيا لا تقبل وقضاؤه عليه صحيح (والفاسق أهل للقضاء) أي: لتولية القضاء (كما هو أهل للشهادة) أي: لأدائها على معنى أن القاضي لو قضى بشهادته فقد أثم كما يأثم بتولية الفاسد وصرح بذلك في (إيضاح الإصلاح) وأفصح بهذه الجملة دفعًا لقول من قال: إنه ليس بأهل له فلا يصح قضاؤه لأنه لا يؤمن عليه لفسقه وهو قول الثلاثة واختاره الطحاوي. قال العيني: وينبغي أن يفتى به خصوصًا في هذا الزمان انتهى.

أقول: لو اعتبر هذا لانسد باب القضاء خصوصًا في زماننا فلذا كان ما جرى عليه المص هو الأصح، كما في (الخلاصة) وهو أصح الأقاويل كما في (العمادية) واستثنى أبو يوسف ما إذا كان الفاسق ذا جاه ومروءة فإنه يجب قبول شهادته، كذا في (البزازية) وعليه فلا إثم أيضًا بتوليته القضاء حيث كان كذلك إلا أن يفرق بينهما (إلا أنه لا ينبغي) أي: لا يليق (أن يولى) لأنه لفسقه يستحق الإهانة لا التعظيم بتوليته القضاء (ولو كان القاضي عدلًا ففسق بأخذ الرشوة) قبل القضاء أو بعده لا فرق بين رشوته ورشوة ولده ومن لا تقبل شهادته، وكذا أعوانه إذا علم بذلك خصها بالذكر لأنها معظم ما يفسق به القاضي وإلا فالفسق قد يكون بغيرها كشرب الخمر ونحوه (لا ينعزل) فيه إيماء إلى أن قضاءه نافذ فيما ارتشى فيه وهذا أحد أقوال ثلاثة، والثاني: لا ينفذ فيه وينفذ فيما سواه، واختاره السرخسي والثالث: لا ينفذ فيهما، والأول اختاره البزودي واستحسنه في (الفتح) لأن حاصل أمر الرشوة فيما إذا قضى بحق إيجاب فسقه وقد فرض أنه لا يوجب العزل فولايته قائمة وقضاؤه يحق فلم ينفذ وخصوص هذا الفسق غير مؤثر، وغاية ما وجه أنه إذا ارتشى عامل لنفسه أو ولده يعني والقضاء عمل لله تعالى، وأنت خبير بأن كون خصوص هذا الفسق غير مؤثر ممنوع بل يؤثر بملاحظة كونه عملًا لنفسه وبهذا يترجح ما اختاره السرخسي وفي (الخانية) إذا ارتشى لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى فيه وقيل: إنه ينعزل لأنه حين ولاه اعتمد على عدالته فكانت ولايته مقيدة بها فيتحول بزوالها، ولا شك أن الولاية تقبل التقييد والتعليق كما إذا وصلت مكة فأنت قاضيها أو أنت أمير الموسم، والإضافة أيضًا كجعلتك قاضيًا في رأس الشهر، والاستثناء كجعلتك قاضيًا إلا في قضية كذا قال في (إيضاح الإصلاح) وعليه الفتوى، إلا أن ظاهر المذهب وعليه

ص: 597

لا ينعزل ويستحق العزل، وإذا أخذ القضاء بالرشوة لا يصير قاضيًا،

ــ

البخاريون والسمرقنديون أنه لا ينعزل إذ لا يلزم من اختيار ولايته لصلاحيته تقييدها به على وجه يزول بزواله، ولو شرط في التقليد أنه متى فسق انعزل، فإنه ينعزل كما في (البزازية) وغيرها وهذا ينبغي أن يكون مجمعًا عليه ويستحق العزل أي يجب على السلطان عزله، كذا في (الفصول) وغيرها ولا ينافيه ما في (الدراية) من أنه يحسن عزله لمن تأمل.

قال في (الفتح): واتفقوا في الأمرة والسلطنة على عدم الانعزال بالفسق لأنها مبنية على القهر والغلبة انتهى. وفي أول دعاوى (الخانية) الوالي إذا فسق فهو بمنزلة القاضي (يستحق العزل) ولا ينعزل (ولو أخذ القضاء بالرشوة) بتثليث الراء (لا يصير قاضيًا) وهي الجعل وارتشى أخذها واسترشى طلبها، وأرشاه حاباه وصانعه وأرشاه/ أعطاه الرشوة كذا في (القاموس) وهي كما قال بعضهم: ما يعطيه إن بعينه والهداية لا شرط فيها. قال في (البحر): ولم أر ما لو تعين عليه القضاء ولم يول إلا بمال هل يجوز له بذله ينبغي أن يحل وإن عزله لا يصح انتهى.

وأقول: هذا ظاهر في صحة توليته وإطلاق المص يرده، وأما عدم صحة عزله فممنوع. قال في (الفتح): للسلطان أن يعزل القاضي بريبة، وبلا ريبة ولا ينعزل حتى يبلغه العزل انتهى. نعم لو قيل: إنه لا يحل عزله في هذه الحالة لم يبعد كالوصي العدل، واعلم أنهم قسموا الرشوة إلى أربعة أقسام حرام على الآخذ والمعطي وهو الرشوة على تقليد القضاء والإمارة، وأما الذي قلد بواسطة الشفعاء فكالذي قلد احتسابًا، كذا في (الفتح) الثاني ارتشى ليحكم وهو كذلك حرام من الجانبين، الثالث: أخذ المال ليثبتوا أمره عند السلطان دفعًا للضرر وجلبًا للنفع وهو حرام على الآخذ لا الدافع، وفي (القنية) أبرأه عن الدين ليثبتوا أمره عند السلطان لا يبرأ وهو رشوة انتهى. وحيلة آكلها للآخذ أن يستأجره يومًا إلى الليل أو يومين فتصير منافعه مملوكة، ثم يستعمله في الذهاب إلى السلطان في الأمر الفلاني ومن حوادث الفتوى أن أويس باشا أجر نفسه لبعض الأمراء ليكف الظلم عنه في بلدة معينة ثم مات هل الإجارة على إقامة واجب تعين عليه، ويدل على ذلك ما في (الخلاصة) وغيرها معزيًا إلى (الأقضية) الهدية ثلاثة حلال من الجانبين للتودد، وحرام منها وهو الأخذ للإعانة على الظلم وحرام على الآخذ وهو الأهدى للكف عن الظلم والحيلة أن يستأجره ثلاثة أيام ليعمل هل ثم يستعمله إذا كان فعله تجوز عليه الإجارة كتبليغ الرسالة ونحوها وإن لم يبين لمدة لا يجوز انتهى.

ولا شك أن هذا الفعل مما لا يجوز عليه الإجارة لما قد علمته، الرابع: ما يدفع

ص: 598

والفاسق يصلح مفتيًا وقيل: لا،

ــ

لدفع الخوف من المدفوع إليه على نفسه وماله حلال للدافع حرام على الآخذ، وجعل في (الدراية) من هذا القسم ما يأخذه الشاعر، ويجوز المصانعة في أموال اليتامى وبه يفتى (والفاسق يصلح) أن يكون (مفتيًا) لأنه قد يتحرى الصواب حذرًا من النسبة إلى الخطأ (وقيل: لا) يصح لأن خبره غير مقبول في الديانات وإن قبل في المعاملات كما سيأتي. قال العيني: واختاره كثير من المتأخرين وجزم به في (المجمع) و (شرحه) وقال في (التحرير): الاتفاق على حل استفتاء من عرف من أهل العلم بالاجتهاد والعدالة أو رآه مفتيًا والناس يستفتونه معظمين، وعلى امتناعه إن ظن عدم أحدها فإن جهل اجتهاده دون عدالته فالمختار منع استفتائه بخلاف المجهول من غيره إذ الاتفاق على المنع انتهى.

تكميل: لا خلاف في اشتراط إسلام المفتي وعقله وشرط بعضهم تيقظه، نعم لا يشترط أن يكون حرًا ولا ذكرًا ولا ناطقًا فيصح إفتاء الأخرس حيث فهمت إشارته بل الناطق إن قيل له: أيجوز هذا؟ فحرك رأسه أن نعم جاز أن يعمل بإشارته وينبغي أن يكون منتزهًا عن خوارم المروءة فقيه النفس سليم الذهن حسن التصرف، والأصح أن الإفتاء غير مكروه لمن كان أهلًا وعلى ولي الأمر أن يبحث عمن صلح للفتوى ويمنع من لا يصلح ونقل عن بعض الشافعية أنه إن لم يكن غير تعين عليه وإلا فرض كفاية، وسئل محمد بن الحسن متى يحل للرجل أن يفتي؟ قال: إذا كان صوابه أكثر من خطئه، وفي (منية المفتي) يجب أن يكون المفتي حليمًا دينًا لين القول منبسط الوجه وينبغي له أن يقدم أولًا من جاه أو لا ولا يقدم الشريف على الوضيع، وإذا أجاب ينبغي أن يكتب عقب جوابه والله أعلم، ونحوه وقيل في المسائل التي اجتمع عليها أهل السنة يكتب والله الموفق أو بالله التوفيق، ولا ينبغي له أن يحتج للفتوى إذا لم يسأل عنه، وإذا أخطأ رجع ولا يستحي ولا يأنف ثم الفتوى مطلقًا بقول الإمام ثم بقول أبي يوسف، ثم بقول محمد، ثم بقول زفر بقول الحسن بن زياد وقيل: إن كان الإمام في جانب وصاحباه في جانب فالمفتي بالخيار وإلا فبالأصح إذا لم يكن مجتهدًا انتهى. وفي (الحاوي القدسي) أن العبرة بقوة المدرك وما في (المنية) أضبط والله أعلم.

تتمة: اشتقاق الفتوى من الفتى لأنها جواب في حادثة أو حوادث حكم أو تقوية لبيان مشكل وعرفها الشيخ اللقاني المالكي بأنها الإخبار عن الحكم على غير وجه الإلزام قيل: احترز بالقيد الأخير عن القضاء وفيه نظر، إذ القضاء إنشاء فلا يصدق ما قبل هذا القيد عليه بل إنه يلاحظ فيما ينبئ عنه المفتي من الحدوث

ص: 599

ولا ينبغي للقاضي أن يكون فظًا غليظًا جبارًا عنيدًا، وينبغي أن يكون موثوقًا به في عفافه وعقله وصلاحه وفهمه وعلمه بالسنة والآثار ووجوه الفقه، والاجتهاد

ــ

والقوة، كذا في حاشية (الكشاف) للسيد والكلام في آداب المفتي والمستفتي طويل وفي ما ذكرناه كفاية (ولا ينبغي للقاضي أن يكون فظًا) أي: سيئ الخلق جافيًا (غليظًا) أي: قاسي القلب قاله المصنف وقاله البيضاوي وعليه جرى مسكين وقال العيني: أنه شديد في الكلام متفاحشًا، وفي (المصباح) فظ الرجل يفظ من باب تعب فظاظة/ حتى يهاب في غير موضعه، وغلظ الرجل اشتد فهو غليظ وفيه غلظة أي غير لين ولا سلس (جبار) أي: متكبرًا مقبلًا بغضب قال العيني: وقال مسكين: الجبار من جبره على الأمر بمعنى أجبره أي لا يجبر غيره على ما لا يريد ويوافقه ما في (المصباح) وهو الحامل غيره على الشيخ أو الشيء قهرًا أو غلبة (عنيدًا) أي: معاندًا وهو المجانب للحق والمعادي لأهله، وفي (المغرب) رجل عنيد يعرف الحق فيأباه (وينبغي أن يكون موثوقًا به) من وثقت به أثق به أثق بكسرهما ثقة ائتمنة (في عفافه) وهو الكف عن المحارم وخوارم المروءة (وعقله) وهو كما في (التحرير) قوة بها إدارك الكليات للنفس فلا يولى ناقص العقل وهو الأحمق ومن علاماته طول لحيته وكثرة الالتفات والعجلة في الأمور بحيث لا ينظر في عواقبها، قالوا: ولا دواء لهذا الداء إلا الموت.

وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: (عالجت الأكمه والأبرص وأبرأتهما وعالجت الأحمق فلم يبرأ)(وصلاحه) قال الخصاف: أهل الصلاح عندنا من كان مستورًا ليس بمهتوك ولا صاحب ريبة مستقيم الطريقة سليم الناحية كامن الأذى قليل السوء ليس بمعاقر للنبيذ ولا غلبة الرجال وليس بقذاف للمحصنات ولا معروفًا بالكذب (وفهمه) قيل: الفهم قوة من شأنها أن تغذ النفس لاكتساب الآراء والمطالب وجودة الزكاء تلك القوة (وعلمه بالسنة) وهي أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريره وهو سكوته عن أمر يعانيه من مسلم (والآثار) الواردة عن أصحابه (ووجوه الفقه) أي: الطريق التي يستنبط منها الفقه والأصول التي ينبني عليها. وقال مسكين: الفقه عند عامة العلماء اسم لعلم خاص في الدين لا لكل علم وهو العلم بالمعاني التي تعلقت بها الأحكام من كتاب وسنة وإجماع ومقتضياتها وإشاراتها.

فائدة: قال في (التتارخانية): من آداب القضاء القاضي يطلق عليها اسم خليفة رسول الله بلا خلاف، واختلفوا في إطلاق اسم خليفة الله تعالى انتهى. (والاجتهاد)

ص: 600

شرط الأولوية، والمفتى ينبغي أن يكون هكذا

ــ

لغة بذل المجهود والطاقة في تحصيل ذي كلفة وعرفًا ذلك من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ونفى الحاجة إلى قيد الفقه للتلازم بينه وبين الاجتهاد سهو، ثم هو تعريف بفرع من الاجتهاد لأن ما في العقليات اجتهاد غير أن المصيب واحد والمخطئ آثم والأحسن تعميمه بحذف ظني، كذا في (التحرير) قال في (التلويح): ومعنى بذل الطاقة أنه يحس من نفسه العجز عن المزيد عليه وشرطه الإسلام والعقل والبلوغ وكونه فقيه النفس أي شديد الفهم بالطبع وعلمه باللغة العربية وكونه حاويًا لكتاب الله تعالى مما يتعلق بالأحكام وعالمًا بالحديث متنًا وسندًا وناسخًا بالقياس، وهذه الشرائط إنما هي في حق المجتهد المطلق التي يفتى في جميع الأحكام، وأما المجتهد في حكم دون حكم فعليه معرفة ما يتعلق بذلك الحكم مثلًا الاجتهاد في حكم متعلق بالصلاة لا يتوقف على معرفة جميع ما يتعلق بالنكاح انتهى. وزاد المص هنا الاجتهاد بالمعنى الأول (شرط الأولوية) لتعذر وجوده في كل حين، على أنه يجوز خلو الزمن عنه عند الأكثر وح فتصح تولية الجاهل لأن إيصال الحق إلى مستحقه يحصل بالعمل بفتوى غيره قيل: المراد به المقلد بدليل جعل الاجتهاد شرط الأولوية غير أن الدليل لا يناسبه إذ المحتاج إلى فتوى غيره هو من لا يقدر على أخذ المسائل من كتب الفقه وضبط أقوال الفقهاء، كذا في (الحواشي اليعقوبية) وعلى ذلك القيل جرى ابن الغرس فقال: ليس مرادهم بالجاهل العامي المحض بل لابد من تأويل العلم والفهم وأقله أن يحسن بعض الحوادث والمسائل الدقيقة، وأن يعرف طريق تحصيل الأحكام الشرعية من كتب المذهب وصدور المشايخ وكيفية الإيراد والإصدار في الوقائع والدعاوى والحجج ويدل على ذلك قولهم: العالم إذا تعين للقضاء وجب عليه قبوله وإذا تركه أثم، وما لم يتعين فالقبول أفضل وإذا كان الجاهل أهلًا للقضاء فمتى يتعين.

وأقول: وجود الجاهل لا يمنع من تعينه وذلك أنه إذا لم يوجد غيره ولم يقبل أثم، وإن وجد جاهل تصح توليته نعم قال البزازي في الأيمان: المفتي يفتي بالديانة والقاضي يقضي بالظاهر دل هذا على أن الجاهل لا يمكنه القضاء بالفتوى أيضًا فلابد من كون الحاكم في الدماء والفروج عالمًا دينًا كالكبريت وابن الكبريت الأحمر وأين العلم انتهى.

(والمفتي ينبغي أن يكون كذلك) أي: موثوقًا به في علمه وأمانته إلى آخره وإن مجتهدًا. قال في (الفتح): واعلم أن ما ذكر في القاضي ذكر في المفتي إلا المجتهد، وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد فمن يحفظ أقوال المجتهدين

ص: 601

وكره التقلد لمن خاف الحيف وإن أمنه لا، ولا يسأل القضاء

ــ

فيلس بمفت والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كأبي حنفية على جهة الحكاية فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ المستفتي، وطريق نقله كذلك من المجتهد أحد أمرين إما أن يكون/ له فيه سند إليه أو يأخذه من كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد ابن الحسن ونحو هاتين من التصانيف المشهورة للمجتهدين لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور هكذا ذكر الرزاي، فعلى هذا لو وجد بعض نسخ (النوادر) في زماننا لا يحل عزو ما فيه إلى محمد ولا إلى أبي يوسف لأنها لم تشهر في عصرنا في ديارنا ولم يتداول نعم إذا وجد النقل عن (النوادر) مثلًا في كتاب مشهور معروف (كالهداية) و (المبسوط) كان ذلك تعويلًا على ذلك الكتاب.

(وكره) تحريمًا كما في (الفتح)(التقليد) أي: تقليد الخليفة القضاء (لمن خاف) منه (الحيف) أي: الظلم وفي نسخة التقليد أي تقليد القضاء لمن خاف الحيف على نفسه وخوف عدم العدل لعجزه كخوف الجور لأن الغالب هو الوقوع في محظوره ومحل الكراهة ما لم يتعين عليه، فإذا انحصر الأمر فيه وصار فرض عين عليه وعليه ضبط نفسه إلا إذا كان السلطان يمكنه أن يفصل الخصومة ويتفرع لذلك، كذا في (الفتح) وإذا لم يمكنه الفصل وفي البلدة قوم صالحون فامتنعوا كلهم أثموا، كذا في (البزازية) وهل للسلطان إجبار أحد منهم أو من تعين عليه؟ قال في (البحر): لم أره والظاهر جواز إجباره (وإن أمنه) أي: الحيف (لا) أي: لا يكره التقليد لأن كبار الصحابة والتابعين تقلدوه، وفي (النهاية) منهم من قال: لا يجوز الدخول فيهم إلا مكروهًا وأبو حنيفة منهم، والصحيح أن الدخول رخصة والامتناع غريمة انتهى.

وعلى هذا فالأولى عدمه وقيل: إن الدخول فيه غريمة والامتناع رخصة فالأولى الدخول فيه قال البزازي: وعامة المشايخ على الأول وجزم به في (الفتح) معللًا بأن الغالب خطأ ظنًا من ظن من نفسه الاعتدال فيظهر منه خلافه فالحاصل أنه قد يكون فرض عين إن تعين، وفرض كفاية للمتأهل عند وجود غيره ومكروهًا عند خوف الظلم وحرامًا إن غلب على ظنه ذلك ومباحًا كما مر (ولا يسأل القضاء) أي: لا يحل له سؤاله، زاد القدروي ولا يطلبه لرواية أبي داود (من طلب القضاء وكل إلى نفسه ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده) أي: يلهمه رشده وأخرجه ابن ماجة بلفظ من سأل القضاء، وجعل في (المصطفى) السؤال باللسان والطلب بالقلب وظاهر أن

ص: 602

ويجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر

ــ

السؤال الشيء باللسان لا يكون غالبًا إلا عن طلب القلب له فلهذا اقتصر المص على السؤال، وهذا أولى مما في (الينابيع) من أن الطلب أن يقول للإمام: ولني والسؤال أن يقول للنافي، لو ولاني أجبته وكل ذلك يكره انتهى. إذ السؤال على هذا الوجه مما لا إثما فيه وكما لا يجوز الطلب لا يجوز التولية ولذا قال في (الخلاصة) وغيرها: لأن طالب الولاية لا يولى لا فرق في ذلك بين القضاء والتولية على الوقف والوصاية إلا إذا تعين عليه القضاء فإن الطلب يكون واجبًا حينئذ قال في (الدراية): واستحبت الشافعية طلبه لحامل الذكر لنشر العلم انتهى. وهكذا ذكر المالكية وعبارة مختصر وندب ليشهر علمه وينبغي أن يخص من تولية الوقف ما إذا عزل منه وادعى أن العزل من القاضي الأول بغير جنحة، فإن له طلب العود من القاضي الجديد وحين ذلك يقول له القاضي: أثبت أنك أهل الولاية، ثم يوليه نص عليه الخصاف، وأن تكون التولية مشروطة له فإذا طلبها في هذه الحالة فإنما طاب تنفيذ الشرط.

(ويجوز تقلد القضاء من السلطان العادل) هذا ظاهر في اختصاص تولية القضاء بالسلطان ونحوه، كالخليفة حتى لو اجتمع أهل بلدة على تولية واحد القضاء لم يصح بخلاف ما لو ولوا سلطانا بعد موت سلطانهم، كما في (البزازية) وقال أبو يوسف: للإمام الذي ولاه السلطان ناحية وجعله له خراجها وأطلق له التصرف في الرعية ما يقتضيه الأمارة أن يقلد ويعزل ويشترط فيه التكليف من العقل والبلوغ، ومن ثم قال البزازي: لو مات السلطان فاتفقت الرعية على تولية صغير له ينبغي أن يفوض أمر التقليد إلى وال ويعد نفسه تبعًا لابن السلطان، فإذا بلغ يحتاج إلى تقليد جديد وفي النصراني والعبد إذا استؤمر روايتان، كذا في (البزازية) وفي (شرح مسكين) قبيل الصرف لابد أن يكون الإمام مكلفًا حرًا مسلمًا عدلًا مجتهدًا ذا رأي وكفاية سميعًا بصيرًا ناطقًا وأن يكون من قريش، فإن لم يوجد فمن العجم وتنعقد بيعته بأهل الحل والعقد من العلماء المجتهدين والرؤساء انتهى. والعادل كما قال الكرماني هو الواضع كل شيء في موضعه وقيل: هو المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط سواء كان في العقائد أو في الأعمال أو في الأخلاق، وقيل: هو الجامع بين أمهات كآلات الإنسان الثلاث وهي الحكمة والشجاعة والفقه التي هي أوساط القوى الثلاث/.

أعني القوى العقلية والغضبية والشهوانية وقيل: المطيع لأحكامه تعالى المراعي لأمور الشرعية (و) من السلطان (الجائر) أي: الظالم لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم تقلدوه من معاوية في نوبة علي، قال في (الفتح): وهذا تصريح يجوز والمراد في خروجه لا في أقضيته، ثم إن ما يتم إذا ثبت أنه ولي القضاء قبل تسليم الحسن له.

ص: 603

ومن أهل البغي، فإن تقلد يسأل ديوان قاض قبله وهو الخرائط التي فيها السجلات والمحاضر وغيرهما .....

ــ

وأما بعد تسليمه فلا ويسمى ذلك العام عام المحاجة ولا كلام في ظلم الحجاج وقد تقلد منه علماء السلف وإذا صحت التولية صح العزل أيضًا، فإذا ولى سلطان البغاة باغيًا وعزل قاضي العدل ثم ظهرنا عليهم احتاج قاضي أهل العدل إلى تجديد التولية. وبقي هل يدخل في الجائر الكافر؟ ففي (التتارخانية) الإسلام ليس بشرط فيه أي في السلطان الذي يقلد بلاد الإسلام التي في أيدي الكفرة لا شك أنها بلاد الإسلام لا بلاد الحرب، لأنهم لم يظهر فيها حكم الكفرة والقضاة مسلمون والملوك الذين هم يطيعونهم عن ضرورة مسلمون، ولو كانت من غير ضرورة منهم ففساق وكل مصر فيه وال من جهتهم تجوز فيه إقامة الجمع والأعياد وأخذ الخراج وتقليد القضاة وتزويج الأيامي لاستيلاء المسلم عليه، وأما طاعة الكفرة فذاك مخادعة.

وأما بلاد عليها ولاة الكفار فيجوز للمسلمين إقامة الجمع والأعياد ويصير القاضي قاضيًا بتراضي المسلمين فيجب عليهم أن يلتمسوا واليًا مسلمًا منهم انتهى. وعزاه مسكين في (شرحه) إلى الأصيل ونحوه في (جامع الفصولين) وفي (الفتح) وإذا لم يكن سلطان ولا من يجوز التقليد منه كما في بعض بلاد المسلمين غلب عليهم الكفار كقرطبة إلا أن يجب على المسلمين أن يتفقوا على واحد منهم يجعلونه واليًا فيولي قاضيًا ويكون هو الذي يقضي بينهم، وكذا ينصب إمامًا يصلي بهم الجمعة انتهى. وهذا هو الذي يظهر تطمين النفس إليه فليعتمد.

(و) يجوز أيضًا (من) سلطان (أهل البغي) وهم خرجوا عن طاعة الإمام العدل كما مر ولا خفاء أن صحة التولية تعتمد صحة العزل، وإذا عزل قاضي العدل وولي باغيًا صح، وإذا رفع قضاؤه إلى قاضي العدل نفذه لأنه غايته أنه فاسق وقيل: لا ينفذه، وبه جزم الناصحي في (تهذيب أدب القضاء) للخصاف، وجعل الخوارج كالبغاة معللًا بأنهم يستحلون أموالهم فلا تجوز شهادتهم وإذا لم تجز فلا يجوز قضاؤه.

وقيل: حكمه كالمحكم (فإذا تعذر) القضاء (يسأل) أي: أول ما يبدأ به من الأعمال وهو أنه يسأل أي يطلب (ديوان قاض قبله) منه وأصل الديوان ديوان أبدلت من إحدى المضعفتين ياء تخفيفًا، ولذا ردت في الجمع والتصغير فقيل: دواوين وديون لأنهما يردان الأسماء إلى أصلها، ودنوت الديوان وضعته، ويقال أول من دون الدواوين في العرب عمر، أي: رتب الجرائد للعمال وغيرهم فالمراد به هنا أفاده بقوله: (وهو الخرائط) جمع خريطة وهي الكيس (التي فيها السجلات) جمع سجل بكسر السين والجيم وتشديد اللام وهو الصكوك، وإطلاقه على الخرائط للمجاوزة (والمحاضر) جمع محضر (وغيرهما) من كتب الأوقاف وتقدير النفقات.

ص: 604

ونظر في حال المحبوسين

ــ

وذكر منلا خسروا أن المحضر ما يكتب فيه خصومة المتخاصمين وما جرى من إقرار المدعى عليه وإنكاره والحكم بالبينة أو النكول على وجه يدفع الاشتباه، وكذا السجل والصك ما كتب في البيع والرهن والإقرار وغيرهما والحجة والوثيقة متناولان للثلاثة انتهى. فلا فرق بين أن يكون الورق من بيت المال أو من مال أرباب القضاء أو من مال القاضي في الصحيح، وهذا السؤال لكشف الحال لا يستلزم العمل بمقتضى الجواب فإنه التحق بواحد من الرعايا وفي عرف ديارنا ليس عند القاضي صكوك الناس ولا كتب أوقافهم إلا أن يكون القاضي هو الظاهر انتهى. وهذا الثاني باعتبار عرف زمانه وفي عرفنا أكثر كتب الأوقاف تحت يد القاضي، وكذا التقارير للجهات والدعاوى في خزانة معلومة فيختم على السجل وكذا الخزانة في بعض الأحايين.

تكميل: ينبغي لمن قلد القضاء وكان في بلد أن يقرأ منشوره على أهل البلد، وإن كان غريبًا ينبغي له أن يدخل البلد يوم الاثنين أو الخميس لابسًا عمامة سوداء وينزل وسط البلد ثم يقرأ عليهم منشوره، ولو تأخر عن السير إلى بلد عزله، لأن عمر رضي الله تعالى عنه ولى جابر بن معد الطائي ثم لقيه فقال له: ما منعك أن تسير إلى عملك؟ قال: يا أمير المؤمنين رأيت رؤية هالتني أي خوفتني، قال وما هي؟ قال: رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق في جمع كثير، وكأن القمر أقبل من المغرب حتى اقتتلا قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: اردد علينا عهدنا فقتل بصفين مع معاوية كما في (شرح أدب القضاء) للخصاف (ونظر/ في حال المحبوسين) في سجن القاضي بأن يبعث إلى السجن من يعدهم بأسمائهم ثم يسأل عن سبب حبسهم، ولابد أن يثبت عندهم بسبب وجوب حبسهم وثبوته عند الأول ليس بحجة يعتمدها الثاني في حبسهم لأن قوله لم يبق حجة، كذا في (الفتح).

وعلى هذا فما في (الشرح) لأدب القاضي يجب على القاضي كتابة اسم المحبوس وأبيه وجده وما حبس بسببه وتاريخه فإذا عزل بعث التي فيها أسماؤهم إلى المتولي لينظر فيها يفيد أن النظر في حالهم إنما هو في النسخة التي بعثها القاضي إليه، فلا معنى لوجوب كتابة ما ذكر إذ لا أثر له يظهر هذا، وأما المحبوسان في سجن الوالي فيجب على الإمام النظر في أحوالهم فمن كان منهم من أهل الدعارة والتلصص والجنايات ولزم الأدب أدبه، ومن لم يكن لهم مال فنفقتهم في بيت المال يدفع إلى

ص: 605

فمن أقر بحق أو قامت عليه البينة ألزمه، وإلا نادى عليه وعمل في الودائع وغلات الوقف ببينة أو إقرار ....

ــ

من في يده وفي دورهم في السلاسل شيء عظيم، كذا في الخراج لأبي يوسف، (فمن أقر بحق) من الحقوق (أو قامت عليه بينة) أعم من أن يشهد بأصل الحق ويعدل أو يحكم القاضي عليه.

وأما قول المعزول كنت حكمت عليه لفلان بكذا أو حبسته بحق فلان فلا يقبل إذ شهادة الفرد غير مقبولة لاسيما على نفسه كذا قالوا وهذا يفيد أنه لو شهد مع آخر لا تقبل شهادته (ألزمه) الحبس كذا في مسكين، وفي (الفتح) من التزم ألزمه أياه ورده إلى السجن إلى أن يبلغ المقدار الذي يخرج من السجن عنده.

قال في (البحر): والظاهر عندي ما قاله مسكين لأن الثاني لا يطرد في كل إقرار، إذ المحبوس لو أقر بسبب عقوبة خالصة كالزنا فقال: أقررت عند القاضي المعزول بالزنا ولم يقم الحد علي فإن القاضي لا يعتمد عليه لأن ما كان في مجلس المعزول بطل لكن المولى يستقبل الأمر فإن أقر حده يعني أربع مرات في مجالس مختلفة ولو قال: بينة قامت علي لا يحده وفي الخمر يحده سواء كان بإقرار أو بينة ولو قال: حبست بسبب سرقة أقررت بها، قطع المولى يده وأطلقه بكفيل وإن قال ببينة لا للتقادم ولو قال: بقذف لفلان وصدقه حد مطلقًا، كذا في شرح (أدب القضاء) للصدر الشهيد.

(وإلا) أي: وإن يقر بشيء ولم تقم عليه بينة بل ادعى أنه حبس ظلمًا (نادى) مناد من جهة القاضي (عليه) في محلته أيامًا كلما جلس القاض من كان يطلب فلان بن فلان فليأت إلى القاضي فإن حضر أحد وهو على إنكاره ابتدأ الحكم بينهما وألا يأتي أيامًا على حسب ما يراه وأخذ منه كفيلًا بالنفس على الأصح اتفاقًا وأطلقه فإن قال: لا كفيل لي، وجب أن يحتاط نوعًا آخر من الاحتياط فيتأدى عليه شهر، فإن لم يحضر أحد أطلقه. قال في (الفتح): ولو قيل بالنظر إلى هذا الظاهر بقي أنه حبس بحق يجب أن لا يطلقه بقوله: إني مظلوم حتى تمضي مدة يطلق فيها مدعي الإعسار كان جيدًا.

قال في (البحر): وليس بجيد لأنا لو أبقيناه في الحبس بعد ذلك لسوينا بين المحقق والظاهر (وعمل في الودائع) أي: ودائع اليتامى (وغلات الوقف ببينة) يقيمها الوطيء مثلا على من هي تحت يده أن لليتيم فلان أو ناظر الوقف أن هذه الغلة لوقف فلان (أو إقرار) ذي اليد. قال في (الفتح): والذي في ديارنا في هذا أن أموال الأوقاف تقيم تحت يد جماعة يوليهم القاضي النظر، ودائع اليتامى تحت يد الذي يسمى

ص: 606

ولم يعمل بقول المعزول إلا أن يقر ذو اليد أنه سلمها إليه فيقبل قوله فيهما ويقضي في المسجد أو في داره ..

ــ

أمين القاضي انتهى. وما في (الكتاب) كأنه مبني على عرفهم من أن الكل تحت يد أمين القاضي، وفي زماننا أموال الأوقاف تحت يد نظارها وودائع اليتامى تحت يد الأوصياء، ولو فرض أن المعزول وضع غلة وقف أو وديعة يتيم تحت يد أمين عمل فيها القاضي بما ذكر (ولم يعمل) المولى (بقول المعزول) حتى لو قال: ما في يد هذا المال وديعة يتيم أو مال وقف وقال: هو لي، لم يقبل قوله لأنه بالعزل التحق بالرعايا (إلا أن يقر ذو اليد أنه) أي: المعزول (سلمها) أي: الودائع والغلات (إليه فيقبل قوله فيهما) أنها لزيد سواء قال ذو اليد أنه حين سلمها إليه قال: هي لزيد أو قال: لا أدري وقال المعزول: بل لفلان فالقول للمعزول أيضًا وإقراره غير مقبول فلو قال ذو اليد: هي لفلان بن فلان ثم قال: ودفعتها إلى القاضي وقال القاضي: هي لفلان آخر أمر بالتسليم إلى من أقر له ذو اليد وضمن مثله أو قيمته للمعزول ليدفعه إلى من أقر له به هذا.

وأما لو شهدوا أنهم سمعوا القاضي الأول يقول: استودعت فلانًا مال فلان اليتيم فإنه يقبل ويؤخذ المال لمن ذكره، وكذا لو مات الأول واستقضى غيره فيشهد بذلك، كذا في (الفتح) ثم قال: فرع يناسب هذا، شهد شاهدان أن القاضي قضى لفلان على فلان بكذا وقال القاضي: لم أقض بشيء لا تجوز شهادتهما عندهما ويعتبر قول القاضي خلافًا لمحمد انتهى، وأما لو قال بعدما قضى بالبينة رجعت عن حكمي لا يصح رجوعه كما في (الخلاصة).

قال ابن وهبان: والتقييد/ بالبينة يفهم أنه لو قضى بعلمه جاز رجوعه ويؤيده ما في (القنية) قضى في حادثة ثم ظهر له خطؤه يجب عليه أن ينقض قضاؤه انتهى. (ويقضي في المسجد وفي بيته) قدم المسجد دفعًا لقول من قال بكراهة القضاء فيه وبيانًا لكونه أفضل لأنه عليه الصلاة والسلام قضى فيه وكذا الخلفاء بعده وهذا لأنه عبادة والمساجد لها وضعت، والمسجد الجامع أولى ثم الذي تقام فيه الجماعات وأن تصلى فيه الجمعة.

قال فخر الإسلام: وهذا إذا الجامع وسط البلد فإن كان من طرف منها فلا، والأولى أن يختار مسجدًا في وسط البلد، وجاز في داره لأن العبادة لا تتقيد بمكان شرط أن يأذن للناس على العموم ولا يمنع أحد لأن لكل واحد حقًا في مجلسه،

ص: 607

ويرد هدية إلا من قريبه أو ممن جرت عادته بذلك

ــ

والأولى أن تكون الدار في وسط البلد كالمجلس، وعبارة القدوري ويجلس للحكم جلوسًا ظاهرًا كيلا يشتبه مكانه أو في المطلوب وكالقاضي السلطان والمفتي والفقيه ثم إذا قضى في المسجد خرج للحائض والدابة ولا يضرب في المسجد حدًا ولا تعزيرًا ولا يقضي حال شغل قلبه بفرح أو غضب أو هم أو حاجة إلى الجماع أو برد أو حر شديد أو مدافعة الأخبثين، وينبغي أن يجلس معه من كان يجالس قبله ويستحب أن يحضر مجلسه جماعة من الفقهاء ويشاورهم، كذا في (البدائع).

وقيده الشر بأن يكون جاهلًا حيث قال: وإن كان جاهلًا يستحب أن يقعد معه أهل العلم لأنه لا يؤمن أن يزل عن الحق فينبهونه عليه انتهى، إذ يراد بالجاهل غير المجتهد وعبارة (البزازية) وإن رأى أن يقعد معه أهل الفقه قعدوا ولا يشاورهم عند الخصوم انتهى، وفيها قضى بحق ثم أمر أن يستأنف القضية ثانيًا بمحضر من العلماء لا يفرض ذلك عليه.

فرع

ذكر الصدر الاختلاف في قبول القاضي القصص من الخصوم والمذهب عندنا أنه لا يأخذها إذا جلس للقضاء وإلا أخذها وفي أنه لا يأخذ بما كتب فيها إلا إذا أقر بلفظه صريحًا، (ويرد) القاضي (هدية) وهي كما قدمناه ما يعطى بلا شرط بخلاف الرشوة وإنما يردها لأنها تشبه الرشوة وعلى هذا كانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأفاد بالرد إلى أنه لا يضعها في بيت المال وهو قول عامة المشايخ وإليه أشار في (السير الكبير) وقيل: يضعها فيه ولا خلاف أنه لو تعذر الرد عليه إما لعدم معرفته، أو لبعد مكانه أنه يضعها فيه، فإن جاء المالك ردت عليه، ولو تأذى المهدي بالرد. قال في (الخلاصة): يعطيه مثل قيمتها وفي (الفتح) وكل من عمل للمسلمين عملًا حكمه في الهدية حكم القاضي وعارضه في (البحر) بما في (الخانية) ويجوز للإمام والمفتي قبول الهدية وإجابة الدعوة الخاصة، وزاد في (التتارخانية) الواعظ إلا أن يراد بالإمام إمام الجامع.

وأقول: في (التتارخانية) من خصوصياته ثم الظاهر أن المراد بالعمل ولاية ناشئة من الإمام أو نائبه كالساعي والعاشر ونحوهما (إلا من قريب) محرم، وهذا القيد لابد منه ليخرج ابن العم بما في ردها من قطعية الرحم (أو ممن جرت عادته به) أي: بالإهداء هذا العطف يفيد أن قبولها من القريب غير مقيد تجري العادة منه وهو ظاهر إطلاق القدوري و (الهداية).

وفي (النهاية) عن شيخ الإسلام: أنه لا فرق بين القريب والبعيد في أنه لا يقبل

ص: 608

ودعوة خاصة، ويشهد الجنازة ويعود المريض

ــ

هديته إلا إذا كان عادة، نعم إن كان عدمها لفقره وإهدائه لقريبه بيساره بعد توليته فيجوز، كذا في (الفتح) يعني على قول شيخ الإسلام، واعلم أنه يشترط في قبولها عدم الزيادة على العادة، فإن زاد رد الزائد وقيده فخر الإسلام بأن لا يزيد ماله فإن زاد قبل بقدر ما زاد ماله، وأن لا يكون لهما خصومة فإن كان لهما خصومة ردها أما إذا تمت الخصومة فينبغي أن لا يتردد في جواز قبولها، زاد القلانسي موضعين الأول: الوالي الذي تولى الأمر منه، الثاني: وإلى البلد لتقدم الولاية على القضاء، وعلى هذا قبولها من السلطان ومن حاكم البلد المسمى بالباشا في ديارنا وليس له قبولها من الصنجق ويجب أن يقيد أيضًا بأن لا يكون لهما خصومة وفي (الفتح) ويجب أن يكون هبة المستقرض للمقرض كهدية، فإن كان المستقرض له عادة قبل استقراضه فأهدى إلى المقرض فللمقرض أن يقبل منه قدر ما كان يهدى بلا زيادة انتهى.

وجزم في (البحر) بأنه سهو لأن المنقول أنه يحل حيث لم يكن مشروطًا مطلقًا، ونقل (الخانية) أنه ليس له الاستقراض ولا الاستعارة (و) يرد (دعوة خاصة) أي إجابتها وهي التي لا يتخذها صاحبها ولو لم يحضر القاضي، فإن كان يتخذها وإن لم يحضر كانت عامة وقيل: كل دعوة اتخذت في غير العرس والختان فهي خاصة، والصحيح الأول كما في (الهداية) و (الخلاصة) و (السراج) وجزم به في (الخانية) واختاره/ السرخسي كما في (الدراية)، والثاني يحكى عن أبي طاهر عن النسفي.

قال في (الفتح): وعندي أنه حسن فإن الغالب هو كون الدعوة العامة هاتين وربما مر عمر ولم يعرف من اصطنع طعامًا عامًا ابتداء لعامة الناس ولأنه أضبط، وادعى في (البحر) أنه ليس بحسن إذ العامة عرفًا لا ينحصر في هاتين لأن العقيقة كذلك، وكذا طعام القدوم في سفر الحج وفي زماننا يصنع طعام عام في العيدين انتهى. وأنت خبير بأن هذا إن ادعى أن الغالب كون الدعوة العامة هاتين غير وارد ولم يستثن هنا ما في (الهداية) القضاء لأن يجيب قريبه الذي لا خصومة له في الخالصة قاله الخصاف، ولم يحك خلافًا، وذكر الطحاوي أن هذا قول محمد وعندهما لا يجيبه، وفي (التتارخانية) له إجابة دعوة خاصة من أجنبي له عادة باتخاذها كالهدية فلو زاد في الطعام بعد القضاء لا يجيبه إلا إذا زاد ماله انتهى.

ولم يحك خلافًا وهذا يؤيده ما قاله الخصاف إذ صلة الرحم واجبة وقطع العادة وترك إجابة ذي العادة جائز (ويشهد الجنازة ويعود المريض) إن لم يكن له خصومة إلا أنه لا يبطل المكث عنده لما رواه البخاري في كتاب (المفرد في الأدب) من حديث

ص: 609

ويسوي بينهما جلوسًا وإقبالًا وليتق عن مسارة أحدهما

ــ

أبي أيوب الأنصاري (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: للمسلم على أخيه ست خصال واجبة وإن ترك شيئًا منها فقد ترك حقًا واجبًا لأخيه يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويحضره إذا مات، وينصحه إذا استنصحه) ولابد أن يحمل واجبة على معنى ثابتة لأن الوجوب المصطلح عليه عند الفقهاء (ويسوي بينهما جلوسًا) أي: يجب عليه أن يسوي بينهما من حيث الجلوس لما رواه ابن راهوية من حديث أم سلمة (قال عليه الصلاة والسلام: من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليسو بينهم في المجلس). والإشارة والنظر ولا يرقع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر ولأن في عدمها كسر القلب، وإطلاقه يعم الصغير والكبير والخليفة والرعية والدين والشريف والأب والابن والمسلم والكافر، إلا أنه إن كان المعدي هو الخليفة ينبغي للقاضي أن يقوم من مقامه وأن يجلسه مع خصمه ويقعده على الأرض ثم يقضي بينهما، ودلت المسألة على أن القاضي يصلح قاضيًا على من ولاه، ولا ينبغي أن يجلس واحد عن يمينه والآخر عن يساره لأن اليمين فضلًا، ولذا كان عليه الصلاة والسلام يخص به الشيخين بل المستحب باتفاق أهل العلم أن يجلسهما بين يديه كالمتعلم بين يدي معلمه ويكون بعدهما عنه قدر ذراعين أو نحوهما، ولا يمكنهما من التربع ونحوه وتكون أعوانه قائمة بين يديه.

وأما قيام الأخصام بين يديه فليس معروفًا وإنما حدث لما فيه من الحاجة إليه والناس مختلفو الأحوال والأدب وقد حدث في هذا الزمان أمور وسعها فيعمل القاضي بمقتضى الحال، كذا في (الفتح) يعني فمنهم من لا يستحق الجلوس بين يديه ومنهم من يستحق فيعطي كل إنسان ما يستحق. بقي لو كان أحدهما يستحقه دون الآخر وأبى الآخر إلا القيام لم أر المسألة، وقياس ما في (الفتح) أن القاضي لا يلتفت إليه ثم إذا حضر الخصمان خير القاضي بين أن يبتدئهما بقوله: مالكما؟ وأن يتركهما فإذا تكلم المدعي سكت الآخر، ولا يسأله المدعي بعد ذلك؟ وإن لم يسأل المدعى عليه بعد ذلك قيل: لا والأصح أنه يسأله للعلم بالمقصود ويسوي بينهما جلوسًا (وإقبالًا) لأن في إقباله على أحدهما مسكرة لقلب الآخر.

وقالوا: لا يضحك بوجه أحدهما لأنه يجترئ بذلك على خصمه (وليتق مسارة أحدهما) من يساره في أذنه وتساروا تناجوا، كذا في (القاموس) والمراد أنه يجتنب

ص: 610

وإشارته وتلقين حجته وضيافته والمزاح وتلقين الشاهد.

فصل في الحبس

ــ

التكلم معه خيفة وكذلك القيام بين يديه، كما في (الولوالجية) وهو الجواز يمنع الناس من التقدم إليه بل يقيمهم بين يديه على البعد ومعه سوط والشهود يتقربون (وإشارته) أي: إلى أحدهما (وتلقين حجته) لأن في ذلك تهمة وكسر لقلب الآخر، وعن أبي يوسف في رواية أنه لا بأس بتلقين الحجة قال العيني (وضيافته) أي: ضيافة أحدهما لما قيد بأحدهما لأن له أن يضيفهما معًا، وقياسه أنه لو سارهما أو أشار إليهما معًا جاز، (والمزاح) عدل عن الضمير دلالة على أن منعه منه مطلقًا ولو لغيرهما لما فيه من إذهاب مهابته، ويستحب أن يكون فيه عبسة بلا غضب وأن يلزم التواضع في غير وهن ولا ضعف.

(و) ليتق أيضًا (تلقين الشاهد) وهو أن يقول له القاضي كلامًا يستفيد به الشاهد علمًا واستحسنه أبو يوسف/ في غير موضع التهمة لمن استعلت عليه المهابة وترك شيئًا من شرائط الشهادة فيقول له القاضي: أتشهد بكذا؟ وفي (المبسوط) ما قالاه غريمة، وما قاله أبو يوسف خصة قاله لما ابتلى بالقضاء وشاهد حصر الشاهد، فلولا تلقينه لضاع الحق، وفي (الفتح) وظاهر الجواب ترجيح ما عن أبي يوسف، وفي (البزازية) و (القنية) الفتوى على قوله فيما يتعلق بالقضاء والله الموفق.

فصل في الحبس

من أحكام القضاء ما مر ومنها الحبس إلا أنه لم اختص بأحكام كثيرة أفرد بفصل على حدة وعليه حمل قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 32] وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا بالتهمة لكن إنما الحبس في زمنه عليه الصلاة والسلام وفي زمن أبي بكر رضي الله عنه في المسجد أو الدهليز حتى اشترى عمر رضي الله عنه دارًا بمكة بأربعة آلاف درهم واتخذها محبسًا وقيل: لم يكن في زمن عمر ولا عثمان فاتخذه علي من قصب وسماه نافعًا فنقبه اللصوص فبنى غيره من مدر وسماه مخيسا وفي ذلك يقول: ألا تراني كيسًا مكيسا بنيت بعد نافع مخيسا بابًا حصينًا وأمينًا، والكيس حسن التأني في الأمور والكيس المنسوب إلى الكيس، والمختسن بالخاء المعجمة والتاء المثناة الفوقية موضع التخيس أي التذلل وروي بكسر الياء لأنه

ص: 611

وإذا ثبت الحق للمدعي أمره بدفع ما عليه

ــ

كما قالوا: موضع خشن لا فراش فيه ولا غطاء وهذا يفيد أن المحبوس لو جيء له به لا يمكن منه، كما لا يمكن من الدخول عليه للاستئناس إلا أقاربه وجيرانه لكن لا يمكثون طويلًا فإذا احتاج للجماع دخلت عليه زوجته أو أمته إن كان فيه وضع سترة وفيه دليل على أن زوجته لا تحبس معه لو كانت هي الحابسة له وهو الظاهر ولا يخرج لجمعة ولا جماعة ولا لحج فرض ولا لحضور جنازة وقيل: يخرج بالكفيل لجنازة الأصول والفروع وفي غيرهم لا، وفي (الخلاصة) و (النهاية) وعليه الفتوى.

قال في (الفتح): وفيه نظر لأنها إبطال حق آدمي بلا موجب وموت الأب ونحوه غير مبطل بنفسه، ثم إذا لم يكن له من يقوم بحقوق دفنه فعل ذلك، وسئل محمد عما إذا مات والده أيخرج؟ فقال: لا انتهى. قال في (البحر): وقد يدفع بأن ما قاله محمد في المديون أصالة والكلام في الكفيل انتهى.

وأقول: هذا سهو وذلك أنه نقل في (الخلاصة) يخرج بالكفيل فسقطت الباء في نسخته، ولو مرض ولم يجد من يخدمه أخرج بكفيل وإلا لا، وفي (الخانية) لو كان له ديون أخرج ليخاصم ثم يحبس، وفي (الخلاصة) الأصح منعه من الكسب ولا يغل ولا يقيد إلا إذا خيف فراره، وفي (البزازية) أن يحول إلى سجن اللصوص ولا يضرب إلا إذا ظاهر وامتنع من التكفير أو أبى الإنفاق على قريبه، صرحوا بذلك في البابين وإلى يؤجر في البابين خلافًا لما عن أبي يوسف، ولو طلب المدعي الحبس في غير سجن القاضي، ففي (القنية) ثبت له دين على بنته وأمر بحبسها فطلب من القاضي حبسها في غير السجن حيث لا يضيع عرضه يجيبه القاضي إلى ذلك، وكذا في كل مدعٍ مع المدعى عليه انتهى. وهذا هو مستند ما أجابه قارئ (الهداية) وقد سئل إذا أراد الحاكم حبس الغريم في مدرسة أو مكان غير الحبس هل له ذلك؟ فقال: العبرة في ذلك لصاحب الحق لا للقاضي انتهى. وينبغي أن لا يجاب فيما إذا طلب حبسه في مكان اللصوص أو في المكان المسمى في ديارنا بالعرقانة ويحبس في الدرهم وما دونه، أي الفضة.

(وإذا ثبت الحق للمدعي) ببينة أو إقرار أو نكول عند القاضي (أمره بدفع ما عليه) ينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يتمكن القاضي من أداء ما عليه بنفسه، كما إذا ادعى عينًا في يد غيره أو وديعة له عنده وبرهن أنها هي التي في يده أو دينًا له عليه وبرهن على ذلك فوجد معه ما هو من جنس حقه كان للقاضي أن يأخذ العين منه وما هو من جنس حقه ويدفعه إلى المالك غير محتاج إلى أمره بدفع ما عليه وقد قالوا: إن رب الدين إذا ظفر بجنس حقه له أن يأخذه وإن لم به المديون فالقاضي أولى، واعلم

ص: 612

فإن أبى حبسه في الثمن، والقرض والمهر المعجل وما التزمه بالكفالة

ــ

أن التقييد يكون الثبوت عند القاضي وقع في (الهداية) وغيرها، وظاهره أن المحكم لا يحبس.

قال في (البحر): ولم أره فإن أبى حبسه بعد طلب المدعي قيد به في (الهداية) ولابد منه لأنه لا يحبسه بدون طلبه إلا في قول شريح وأطلق في الأمر بالدفع فشمل ما إذا ثبت الحق عليه بإقرار أو ببينة، وخصه في (الهداية) بالإقرار أما البينة فيحبسه كما ثبت لظهور مطله وهو المحكي عن الشهيد وهو المذهب عندنا كما في (البحر)، والمروي عن السرخسي عكسه قال الشر: والأحسن ما ذكره هنا فإنه يؤمر بالإيفاء مطلقًا لأنه يحتمل أن يفي فلم يعجل بحبسه قبل أن يبين له حاله بالأمر والمطالبة بذلك والصواب لا يحبسه فيهما إذا طلب المدعي/ ذلك حتى يسأله فإن أقر أن له مالًا أمره بالدفع، (فإن أبى حبسه)، وإن عجز كان القول للمدعي في الأمور الأربعة الآتية، ولو طلب الإمهال ببيع عرضه أمهل ثلاثة أيام، ولو كان له عقار يحبسه ليبيعه ويقضي الدين ولو بثمن قليل (في الثمن) أي ثمن المبيع ولو في ذمة البائع عبد فسخ البيع أو السلم بإقالة (و) بدل (القرض) ولو لذمي أو مستأمن، ولو كان عليه دين تفاوتا في قدره فلصاحب الأقل حبسه وليس لصاحب الأكثر إطلاقه بلا رضاه، ولو أراد أحدهما إطلاقه بعدما رضيا بحبسه ليس له ذلك، كذا في (البزازية).

(و) في (المهر المعجل وما التزمه بالكفالة) لأنه إذا حصل البدل في يده ثبت غناه وإقدامه على التزامه باختياره دليل والمراد بالمعجل ما شرط تعجيله أو تعورف وإطلاقه الكفالة يعم الكفيل وكفيل الكفيل وإن كثروا كما في (البزازية)، وفي (المحيط) للكفيل بالأمر حبس الأصيل إذا حبس وإطلاق الكفالة يعم الكفيل بالدرك، ولم أرها صريحًا وبقي مما يحبس عليه الأجرة ويمكن دخلها في ثمن المبيع لما أنها بيع المنافع والقدوري قال في كل دين لزمه بدلًا عن مال حصل في يده كثمن المبيع أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة فيدخل فيما التزمه بعقد، وكل من العبارتين لا يشمل جنسه على العين المغصوبة، وقد ذكره المص في الغصب والأمانات إذا امتنع الأمين من دفعها غير مدعٍ هلاكها فإنه يحبس عليها أيضًا لأنها صارت مغصوبة، ومن ثم قال القلانسي في (تهذيبه): وفي كل عين يقدر على تسليمها.

واعلم أن عدول المص عن عبارة القدوري لوجهين: الأول: أن في قوله بدلًا عن مال حصل في يده يدخل فيه بدل المغصوب وضمان المتلفات، والثاني: أن قوله وما التزمه بعقد يدخل فيه أيضًا ما التزمه بعقد الصلح عن دم العمد والخلع مع لا

ص: 613

لا في غيره إن ادعى الفقر إلا أن يثبت غريمه غناه

ــ

يحبس في هذه المواضع إن ادعى الفقر (لا) يحبسه (في غيره) أي: في غير ما ذكر من الديون (إن ادعى الفقر) كبدل عتق نصيب الثاني وبدل المغصوب ونفقة المزوجات وأرش الجنايات وبدل جناية العمد ومؤجل المهر بعد الدخول وبدل المتلفات وبدل الخلع.

قال الطرسوسي: وأخطأ صاحب (الاختيار) إذا جعل بدل الخلع من القسم الأول ثم ما جرى عليه المصنف تبعًا للقدوري قال الإمام قاضي خان: إن عليه الفتوى، كذا في (أنفع الوسائل) معزيًا إلى (الفتاوى الكبرى) للخاصي وهذا ليس في فتواه وإنما الذي فيها أن كل ما هو بدل كثمن البيع وبدل القرض لا يقبل قوله فيه، ويقبل قوله فيما عداه وعليه الفتوى انتهى، وهذا اختيار البلخي.

وقيل: يحكم البزي بكسر الزاي أي الهيئة والجمع أزياء، كذا في (القاموس) إلا الفقهاء والعلوية والعباسية، واختاره البلخي، وفي (فروق الكرابيسي) وهو الصحيح، وجعله في (المحيط) ظاهر الرواية فإن ادعى الطالب أنه كان عليه زي الأغنياء ولكن غير زيه، فإن برهن على ذلك قبل منه وإلا لا، واختار الخصاف أن القول قول مدعي الإعسار لتمسكه بالأصل وقيل: ما كان أصله الصلة فالقول فيه قول المدعي وإلا فالقول للمنكر فهذه أقوال ستة، وما في (الكتاب) أعدلها. ولو قال المديون: إن هذا الدين ليس بدل ما ليس بمال، وقال الدائن: بل هو ثمن متاع قال الطرسوسي: لم أرها وينبغي أن يكون القول فيها قول المديون إلا أن يقيم رب الدين بينة (إلا أن يثبت رب الدين غناه) أي: قدرته على وفاء الدين، وفي (البزازية) لو وجد المديون من يقرضه فلم يفعل فهو ظالم وفي كراهة (القنية) لو كان للمديون حرفة تفضي إلى قضي الدين فامتنع منها لا يعذر انتهى.

وكل من الفرعين ينبغي تخريجه على ما يقبل فيه قوله، فإذا ادعى في المهر المؤجل مثلًا أنه معسر ووجد من يقرضه أو كان له حرفة توفيه فلم يفعل حبسه الحاكم، وهذا لأن الحبس إنما هو جزاء الظلم وقد ثبت ظلمه بوجود من يقرضه، وأما ما لا يقبل فيه قوله فظلمه فيه ثابت قبل وجود من يقرضه وهذا فقه حسن فتدبره. ومن نفقات (البزازية) وإن لم يكن لها بينة على يساره وطلب من القاضي أن يسأل من جيرانه لا يجب عليه السؤال، وإن سأل كان حسنًا وإن قالا: سمعنا أنه موسر أو بلغنا ذلك لا يقبله القاضي، وفيها علم القاضي عسرته لكن له مال على آخر يتاقضى غريمه، فإن حبس غريمه الموسر لا يحبسه انتهى. وقياس ما مر أنه لو لم يتقاض الدين من غريمه يحبسه، وإن علم عسرته لقدرته على وفاء الدين وهذا لأنه إذا كان

ص: 614

فيحبسه بما رأى ثم يسأل عنه فإن لم يظهر له مال خلاه

ــ

بالقدرة على الاقتراض يكون موسرًا فعلى وفاء دينه من غريمه أولى (فيحبسه بما رأى) من الزمن، فإن غلب على ظنه أنه لو كان له مال فرج عن نفسه سأل عنه وأطلقه وقدره في رواية محمد شهرين قال الحلواني: وهذا أوفق الأقاويل.

قال في (الهداية): والصحيح أن التقدير غير لازم وهو مفوض إلى رأي القاضي لاختلاف أحوال الأشخاص قال الشهيد: إذا كان حاله مشكلًا عند القاضي وإلا عمل بما/ ظهر له انتهى. وهو ظاهر في أنه لو رأى إطلاقه بعد يوم كان له ذلك، بل لو رأى عدم اختياره بالحبس لظهور حاله كان له ذلك أيضًا.

قال في (الملتقط): قال أبو حنيفة: لا اسأل عن المعسر وأحبسه شهرين أو ثلاثة (ثم يسأل عنه) إلا إذا كان معروف بالنقر فلا أحبسه، لكن في (الخانية) أقام المديون بينة على الإعسار بعد الحبس في الروايات الظاهرة لا تقبل البينة إلا بعد مدة، ثم نقل الاختلاف في المدة ثم قال: والحاصل أنه يفوض إلى رأي القاضي وهذا إذا كان أمره مشكلًا، أما إذا كان فقره ظاهرًا يسأل القاضي عنه آجلًا ويقبل البينة على الإفلاس ويخلي سبيله انتهى. بعد حبسه بما يراه يسأل عنه ممن يعلم بحاله كجيرانه وأصدقائه وأهل محلته، والواحد العدل يكفي والاثنان أحوط، كذا في (الشرح).

وفي (الخلاصة) و (الخانية) إنما يسأل من الثقات وفي (النهاية) فإن أخبره بذلك ثقة عمل بقوله لأن ما سبيله سبيل الإخبار يكتفى فيه بقول الواحد كالإخبار بالتوكيل والعزل انتهى. وأما المستور فإن كان رأي القاضي موافقًا لقوله عمل به وإلا لا، أخذًا من قولهم بعزل الوكيل إذا كان فاسقًا وصدقه انعزل، كذا في (أنفع الوسائل) بحثًا وهو حسن وكيفية الإخبار أن يقول المخبر: إن حاله حال المعسرين في نفقته وكسوته وقد اختبرنا حاله في السر والعلانية وفي (الخانية) يكفي أن يقولوا: لا نعرف له مالًا، ولا يشترط في هذه الأخبار حضرة الخصم ولا لفظ الشهادة. وقيد في (النهاية) الاكتفاء بالواحد بما إذا لم يقع خصومة فإن كانت فإن ادعى المحبوس الإعسار ورب الدين يساره فلابد من إقامة البينة على الإعسار، واعلم أن هذا السؤال ليس بواجب على القاضي لأن الشهادة بالإعسار شهادة على النفي وهي ليست بحجة فكان له أن لا يسأل ويعمل برأيه ولكن لو سأل مع هذا كان أحوط، كذا في (أنفع الوسائل) معزيًا إلى شيخ الإسلام، (وإن لم يظهر له مال خلاه) أي: من الحبس جبرًا على المدين، فإن لم يكن الخصم حاضرًا أخذ منه كفيلًا بالنفس نظرًا للمدعي، فإن لم يجد كفيلًا هل يخلي سبيله؟ قال في (القنية): لابد من الكفيل.

وأفاد البزازي إن كان الدين لصغير ورثه من أبيه لا يطلقه بلا كفيل، يعني لو

ص: 615

ولم يحل بينه وبين غرمائه

ــ

كان الوصي حاضرًا أو الولي وينبغي أن يكون مال الوقف كذلك وفي قوله: خلاه دون أن يقول ثبت إعساره دلالة على أن هذا ليس ثبوت فلا يجوز نقله إلى قاض آخر، ولو أطلقه بلا بينة كان له أن يعيده إليه، كذا في (البحر) معزيًا إلى الطرسوسي وهذا الثاني لم أجد فيه ويجب حمله على ما إذا وقعت خصومة فأطلقه بلا بينة. أما إذا لم تقع فليس له أن يعيده لأن هذا الأمر منوط برأيه، وقد علمت أن السؤال ليس بواجب عليه وإنما هو احتياط فإذا اقتضى رأيه إطلاقه فليس له أن يعيده بعد ذلك، ويدل عليه ما في (البزازية) أطلق القاضي المحبوس لإفلاسه ثم ادعى عليه آخر مالًا وادعى أنه معسر لا يحبسه حتى يعلم غيره انتهى، كما في (أنفع الوسائل) بأن مضت مدة يحتمل فيه حصول الغنى له فيها.

وفي (القنية): أقام المحبوس بينة على إفلاسه فأراد رب الدين أن يطلقه قبل القضاء به بإفلاسه يجب على القاضي القضاء به حتى لا يعيده رب الدين ثانيًا، وفيها حبس الوصي غريمًا بدين الصبي ليس له إطلاقه قبل قضائه إن كان موسرًا أو إن رأى أن يأخذ منه كفيلًا ويطلقه كان له ذلك، ثم رقم إن كان معسرًا جاز إطلاقه.

فرع

أحضر المحبوس الدين وغاب ربه يريد تطويل الحبس عليه إن علم القاضي بالدين ومقداره وصاحبه فإن شاء أخذ المال وخلاه، وإن شاء أخذ منه كفيلًا ثقة بالمال والنفس وخلا سبيه كيلا يتهمه الناس وقال بعضهم: يتركه حتى يقضي الدين (ولم يحل بينه وبين غرمائه) أي: لا يمنعهم من ملازمته عند الإمام في ظاهر الرواية عنه كما في (المحيط) و (الخانية) وهو الصحيح.

وقالا: يمنعهم لأنه منظور بأنظار الله تعالى وله أن يمنعهما بقدرته على الإنفاذ وذلك يمكن في كل وقت فيلازمونه كيلا يكسب شيئًا فيعدمه، ولو اختار المطلوب الحبس والطالب الملازمة.

قال في (الهداية): من الحجر للطالب إلا إذا علم القاضي أن بالملازمة يدخل عليه ضرر بين بأن لا يمكنه من دخوله داره فحينئذ يحبسه دفعًا للضرر انتهى. وفي (البزازية) لو كان في ملازمته ذهاب قوته أكلفه أن يقيم كفيلًا بنفسه ثم يخلى سبيله وللطالب ملازمته بلا أمر إن كان مقرًا بحقه انتهى، ومعنى الملازمة هو أن يدور المدعي أو وكيله معه حيث دار ولا يحبسه في موضع ولا يشغله عن التصرف فإذا انتهى/ إلى داره فإما أن يدخله المطلوب معه أو يجلس على الباب، فإن كان

ص: 616

ورد البينة على إفلاسه قبل حبسه وبينة اليسار أحق وأبد حبس الموسر ويحبس الرجل بنفقة زوجته ......

ــ

المطلوب امرأة قيل: يستأجر امرأة فتلازمها وتقبض على ثيابها بالنهار، وأما بالليل فتلازمها النساء، كذا في (المنية). (ورد) القاضي (البينة على إفلاسه) أي: إعساره (قبل حبسه) لأنها بينة على النفي كما مر، فلا تقبل ما لم تتأيد بمؤيد، وبعده تقبل على الاحتياط لا على الوجوب، والمعول عليه رأيه كما مر عن شيخ الإسلام وهذا هو إحدى الروايتين وهو اختيار العامة وهو الصحيح، وقال ابن الفضل: الصحيح أنها تقبل.

قال القاضي خان بعد نقله: وينبغي أن يكون مفوضًا إلى رأي القاضي إن علم بيساره لا يقبلها، وإن علم إعساره قبلها انتهى. وبقي ما إذا لم يعلم من حاله شيئًا، والظاهر أنه لا يقبلها (وبينة اليسار أحق) بالقبول من بينة الإعسار، لأنها تثبت أمرًا عارضًا هو اليسار والبينات للإثبات. قال في (الفتح): اللهم إلا أن يدعي المدعي أنه موسر وهو يقول: أعسرت بعد ذلك وأقام بينة بذلك، لأن معها علم بأمر حادث وهو حدوث ذهاب المال انتهى. وينبغي أن يكون معنى المسألة أنه بين سبب الإعسار وشهدوا به، وقوله في (البحر): الظاهر أنه بحث منه وليس بصحيح لجواز حدوث اليسار بعد إعساره الذي ادعاه مدفوع بأنهم لم يشهدوا بيسار حادث بل بما هو سابق على الإعسار، وبينة الإعسار الحادث تحدث أمرًا عارضًا فقد مرت، (وأيد حبس الموسر) جزاء لظلمه وهذا ظاهر على قول الإمام.

أما على قولهما من جواز الحجر على المديون وبيع ماله لوفاء ديونه فلا معنى لتأبيد حبسه، وسيأتي في الحجر (ويحبس الرجل في نفقة زوجته) لأنه ظالم بامتناعه وإنما يتحقق ذلك في اليوم الثاني من يوم فرضها ولا يحبسه، فأما بمجرد فرضها لا يحبسه لأن الظلم إنما يكون بالمنع بعد الوجوب ولم يتحقق، وهذا يقتضي أنه إذا لم يفرض لها ولم ينفق عليها في يوم ينبغي إذا قدمته في اليوم الثاني أن يأمره بالإنفاق، فإن لم ينفق عليها أوجعه عقوبة، كما إذا أمره بالقسم ولم يقسم، كذا في (الفتح) أما الماضية المفروضة أو التي تراضيا عليها فإنها وإن تسقط لكنه لا يحبس عليها إذا ادعى الفقر، لأنها ليست ببدل مال ولا التزمها بعقد.

وفي (فتاوى قارئ الهداية) سئل عن المرأة إذا طلبت تقرير النفقة في كل يوم فأبى الزوج إلا أن يطعمها هل يجبر على أن يفرض لها دراهم؟ أجاب لا يجب عليه تقرير دراهم بل الواجب عليه طعام وإدام إلى أن قال: إلا أن يعلم القاضي أنه يضارها

ص: 617

لا في دين ولده إلا إذا أبى من الإنفاق عليه.

ــ

في ذلك فيفرض عليه دراهم بقدر حالهما، وإذا امتنع من أن يفرض شيئًا حبس حتى يفرض انتهى. وهو مشكل فإن للقاضي ذلك فيفرض ولا يحبسه.

(لا) حبس الأب (في دين ولده) لأنه لا يستحق العقوبة بسببه، ألا ترى أن لا قصاص عليه بقتله ولا يقتل مورثه ولا حد عليه بقذفه ولا يقذف أمه الميتة بطلبه؟ والمراد بالأب أصله وإن علا، وبالولد فرعه وإن سفل ولذا قال في (المحيط): لا يحبس الأبوان والجدان والجدتان بدين الولد انتهى، وهو ظاهر في أن الجد الفاسد لا يحبس أيضًا ويدل عليهم قولهم: إنه لا يقتل بقتل ولد بنته.

قال في (البحر): وإذا لم يحبس وكان موسرًا ينبغي أن القاضي يقضيه من ماله إذا كان له مال من جنسه وإلا باعه لقضائه انتهى، وهذا أعني البيع بقولهما أليق كما مر. وبقي العبد لا يحبس بدين مولاه ولا المولى بدين عبده إلا إذا كان مأذونًا مديونًا فيحبس للغرماء لا له، وكذا المكاتب لا يحبس بدين بدل الكتابة، واختلفوا في حبسه بدين آخر وهو ظاهر المذهب أنه يحبس واختار بعض المشايخ أنه لا يحبس لأنه متمكن من إسقاطه بتعجيزه وصححه في (المبسوط) وعليه الفتوى، كما في (أنفع الوسائل) ولا المولى بدين المكاتب إن كان الدين من جنس بدل الكتابة لوقوع المقاصة وقالوا: لا يحبس الصبي أيضًا بدين الاستهلاك إلا تأديبًا فإن كان له أب أو وصي وامتنع من قضاء دينه من ماله حبس، وإلا باع القاضي ماله ووفى دينه، كذا في (الخلاصة) وغيرها.

قال الطرسوسي: ويؤخذ من هذا ليس للقاضي ولا نائبه بيع عقاره ولا ماله مع وجودهما لأنه لو كان له ذلك لأمر بالبيع قبل الحبس، قال ابن وهبان: وهو فائدة حسنة، وكذا لا تحبس العاقلة في دية أو أرش إذا كان لهم عطاء وإنما يؤخذ منه لقضاء ديونهم فإن لم يكن لهم عطاء حبسوا، كذا في (البزازية) وقدمنا أن القاضي لا يحبس المديون إذا كان له مال غائب أو مديون موسر (إلا إذا أبى من الإنفاق عليه) لأنه بمنعها عنه قصدًا هلاكه فيحبس لدفع الهلاك عنه، ألا ترى أن له أن يدفعه بالقتل إذا أشهر سيفه ولم يمكنه دفعه إلا به؟ وهذا حكم الأجداد والجدات وإن علوا/.

واعلم أن هذا الاستثناء منقطع لما قالوه. ومن أن هذا الحبس ليس إلا تعزيرًا لا حبسًا بالدين وقيد الرازي الولد بالصغير زاد الحدادي الفقير ويجب أن لا يكون البالغ كذلك والله الموفق للصواب.

ص: 618