الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب كتاب القاضي إلى القاضي وغيره
ويكتب القاضي إلى القاضي في غير حد وقود
ــ
باب كتاب القاضي إلى القاضي وغيره
هذا الباب ليس من القضاء لأنه إما نقل الشهادة، أو حكم وكل ذلك ليس منه وإنما أورد فيه لأنه من عمل القضاء، كذا في (الشرح) لكن في (فتح القدير) هذا أيضًا من أحكام القضاء غير أنه لا يتحقق في الوجود إلا بقاضيين فهو كالمركب بالنسبة إلى (التجنيس)، وادعى في (البحر) أن هذا أولى مما (في الشرح)، لأنه حيث كان من عملهم كان منه فكيف ينفيه، وعندي أنه لا ينافي بينهما بوجه إذ المنفي في كلام الشر كونه قضاء، والمثبت في (الفتح) كونه من أحكام القضاء، ولا يلزم منه أن يكون قضاء، نعم كونه من أحكامه أدخل في ذكره في كتاب القضاء وأراد بالغير هو قوله: وتقضي المرأة إلى آخره (يكتب القاضي إلى القاضي) ظاهر إطلاقه ولو كان في مصر واحد، وهو المروي عن محمد وشرط في ظاهر الرواية أن يكون بينهما مسافة القصر، وحكى الطحاوي عن الإمام وأصحابه أنه يجوز فيما دونها، وقال بعض المتأخرين: هذا قول أبي يوسف ومحمد، كذا في (الفتح)، فيجوزان عن محمد روايتان. وفي (البحر) عن أبي يوسف أن الشاهد لو كان بحيث لو عد الأداء الشهادة لا يستطيع أن يبيت في أهله صح الإشهاد والكتابة، قال في (السراجية): وعليه الفتوى. قال في (السراج): ولا يكتب قاضي رستاق إلى قاضي مصر، ويكتب قاضي مصر إلى قاضي السواد والرستاق.
وفي (الفتح) لو كتب القاضي إلى الأمير الذي ولاه، أصلح الله الأمير ثم قص عليه القصة وهو معه في المصر فجاء به ثقة يعرف الأمير فالاستحسان أن للأمير إمضاؤه لأنه متعارف، ولا يليق بالقاضي أن يأتي في كل حادثة إلى الأمير ليخبره، وشرطنا فيه شرط كتاب القاضي إلى القاضي، ولو سمع يعني الخصم وصول كتاب القاضي فهرب إلى بلدة أخرى كان للقاضي المكتوب إليه أن يكتب إلى قاضي تلك المدينة ما ثبت عنده من كتاب القاضي، فكما جوز للأول الكتابة جوزنا للثاني والثالث وهلم جرا للحاجة (في غير حد وقود) أي: فيما ثبت مع الشبهة كالدين والنكاح والطلاق والعتاق والشفعة والوصية والإيصاء والموت والورثة والقتل إذا كان موجبه المال والنسب من الحي والميت والغصب والأمانة المجحودة من وديعة ومضاربة وعارية والأعيان المنقولة والعقار إذا بين حدوده الأربع فيما يروى عن محمد
فإن شهدوا على خصم حاضر حكم بالشهادة وكتب بحكمه وهو المدعو سجلًا وإلا لم يحكم وكتب الشهادة ليحكم المكتوب إليه بها وهو الكتاب الحكمي وهو نقل الشهادة في الحقيقة
ــ
وعليه المتأخرون قال الإسبيجابي: وعليه الفتوى للحاجة، وظاهر الرواية عدم الجواز في المنقول للحاجة إلى الإشارة إليه في الدعوى والشهادة لكن الإشارة تتحقق عند القضاء من الثاني فاكتفى بها، (فإن شهدوا على خصم حاضر حكم بشهادته وكتب بحكمه وهو المدعو سجلًا) يريد بالخصم الحاضر من كان وكيلًا من جهة المدعى عليه أو مسخرًا وهو من ينصبه القاضي وكيلًا عن الغائب ليسمع الدعوى عليه وإلا لو أراد الخصم المدعى عليه لم يبق حاجة إلى الملك الآخر لأن الخصم حاضر عند هذا القاضي وقد حكم عليه، كذا في (الفتح).
وأقول: في الشر إنما يكتب السجل حتى لا تنسى الواقعة على طول الزمان ولتكون الكتابة تذكيرًا لها وإلا فلا يحتاج إلا كتابة الحكم لأنه قد يتم بحضور الخصم نفسه أو من يقوم مقامه إلا إذا قدر أنه قال بعد الحكم عليه وجحد الحكم فحينئذ يكتب له ليسلم إليه حقه أو لينفذ حكمه انتهى. وهذا كما ترى صريح في أن الرماد بالخصم إما المدعى عليه أو وكيله وأنه لو أريد بالخصم المدعى عليه كان إلى الكتاب الآخر ما قد علمت من الفوائد، وأما القضاء على المسخر فالمنقول عن (الذخيرة) أن فيه روايتين قال: والاعتماد على أن القاضي إن علم أنه مسخر لا ينفذ قضاؤه وإلا نفذ، وقوله وهو المدعي سجلًا مبني على عرفهم قال في (المصباح): السجل كتاب القاضي والجمع سجلات وسجل القاضي بالتشديد حكمه وأثبت حكمه في السجل انتهى.
وفي عرفنا ما يكتب فيه صورة الحجة المحكوم فيها أو الدعوى وما ترتب عليها أو الإجارة أو الإقرار فالواقعة تارة تكتب بها حجة وتنزل صورتها في السجل أو لا تنزل في السجل فقط (وإلا) وإن لم يكن ثمة خصم ولا من يقوم مقامه (لم يحكم) لأن القضاء على الغائب لا يجوز، ولو حكم به حاكم يرى ذلك ثم نقل إليه نفذه بخلاف الكتاب الحكمي حيث لا ينفذ قضاؤه وسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى، (وكتب الشهادة) بعدما سمعها وعدلت (ليحكم) القاضي (المكتوب إليه بها وهو الكتاب الحكمي) المقابل للسجل نسبة إلى الحكم باعتبار المال (وهو) أي: الكتاب الحكمي (نقل الشهادة في الحقيقة)، ولهذا يحكم المكتوب إليه برأيه وإن كان مخالفًا لرأي الكاتب بخلاف السجل لأنه سجله أي أحكمه بالحكم ونقض الحكم لا يجوز، ولم أر ما لم وافق رأي المكتوب إليه/ هل له رده؟ والظاهر إذا كان قد اتفقا
وقرأ عليهم وختم عندهم وسلمه إليهم فإن وصل إلى المكتوب إليه نظر إلى ختمه ولم يقبله
ــ
عليه في مذهبه وجب عليه قبوله وإن كان مختلفًا فيه، فإن كان الراجح ما فيه الكتاب الحكمي عمل به وإلا رده وبه عرف أنه لو كان مخالفًا لمذهبه بالكلية رده على كل حال. ونقل في (البحر) عن (منية المفتي) ورد كتاب القاضي قاض إلى قاض آخر في حادثة لا يراه القاضي المكتوب إليه وهو مختلف فيها لا ينفذ، وإن ورد فيها سجلًا نفذه لأن السجل محكوم به دون الكتاب ولهذا له أن لا يقبل الكتاب دون السجل انتهى. ولم أجد هذا في نسختي (وقرأ) القاضي الكتاب (عليهم) أي: على الشهود ليحفظوا ما فيه فيشهدون به عند الثاني.
قال في (منية المفتي): ويجبرهم بما فيه ويشترط أن يحفظوا ما فيه لأن معرفة ما في الكتاب شرط ويدفع إليهم نسخة تكون معهم انتهى. يعني يستعينون بها على الحفظ إذ لابد من التذكر من وقت الشهادة إلى وقت الأداء عندهما، ولم يذكر عنه أن الكتاب مع أنه شرط أيضًا وهو أن يكتب فيه اسم أبيه وجده واسم المكتوب إليه كذلك، فإن أخل بشيء من ذلك لم يقبل كما لو كتبه على الظاهر، وقيل: في عرفنا يكتب على الظاهر ويكتب فيه اسم المدعي والمدعى عليه وحدهما ويذكر الحق والشهود إن شاء وإن شاء اكتفى بذكر شهادتهم وقال أبو يوسف آخرًا: لا يشترط الختم ولا العنوان.
وفي (الشرح) لو كان العنوان من فلان بن فلان أو من أبي فلان إلى أبي فلان لا يقبل لأن مجرد الاسم والكنية لا يتعرف به إلا أن تكون مشهورة كأبي حنيفة وابن أبي ليلا قيل: هذا رواية عن أبي سليمان وفي سائر الروايات لا تقبل لأن الناس يشتركون في الكنى، ولو نسبه إلى أبيه فقط أيضًا إلا أن يكون مشهورًا كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وإنما الشرط أن يشهدهم أن هذا كتابه، وأن يكتب القاضي الحاجة التي لابد من معرفتها، واختاره السرخسي.
قال في (الفتح): ولا شك عندي في صحته، فإن الغرض إذا كان عدالة الشهود وهم حملة الكتاب فلا يضر كونه غير مختوم مع شهادتهم أنه كتابه مع عدالتهم، وإن كان مع المدعي اشترط حقهم لما فيه ولم يشترط أبو يوسف العنوان أيضًا، بل إذا لم يكن معنونًا وكان مختومًا وشهدا بالختم كفى، ومن الشروط أن يكتب فيه التاريخ، فلو لم يكتبه لا يقبل (فإن وصل) الكتاب (إلى) القاضي (المكتوب إليه نظر إلى ختمه) وعبارة القدوري فإذا وصل إليه لم يقبله إلا بحضرة الخصم فإذا شهد الشهود إليه نظر إلى ختمه وهو الأولى إذ لا معنى للنظر إليه بلا حضور الخصم (ولم يقبله)
بلا خصم ولا شهود فإن شهدوا أنه كتاب فلان القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقرأه علينا وختمه فتحه القاضي وقرأه على الخصم وألزمه ما فيه ويبطل الكتاب بموت الكاتب وعزله وموت المكتوب إليه إلا إذا كتب بعد اسمه وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين
ــ
أي: لم يقرأه وإلا فمجرد قبوله لا يترتب عليه الحكم (بلا) حضور (خصم) لأن هذا الكتاب للحكم به فلا يقبله إلا بحضور الخصم كالشهادة ثم إن كان الخصم مقرًا استغني عن الكتاب، وإن أنكر وقال المدعي: معي الكتاب القاضي طالبه بالبينة عليه وهذا معنى قوله (وشهود) إما رجلان أو رجل وامرأتان يشهدان على أنه كتاب لفلان القاضي وأنه ختمه، ولابد من إسلامهما فلا تقبل شهادة الذميين على كتاب قاضي المسلمين، ولو كان الكتاب لذمي على مثله هذا إذا أنكر الخصم أنه كتاب القاضي فإن اعترف استغنى عن الشهادة، (فإن شهدوا أنه كتاب فلان القاضي) قبله، وإن لم تثبت عدالتهم عنده وقوله:(سلمه إلينا في مجلس حكمه وقرأه علينا وختمه) شرط للحاكم به حتى لو قالوا: لم يسلمه إلينا ولم يقرأه ولم يختمه بحضرتنا لم يعمل به (فتحه القاضي) ولم يشترط ظهور عدالتهم لفتحه تبعًا لما ذكره محمد، وذكر الخصاف عندهما أنه لا يفتحه إلا بعد ظهور عدالتهم.
قال في (المغني): وما قاله محمد أصح إلا أنه في (الهداية) قال: الأصح ما ذكره الخصاف لأنه ربما يحتاج إلى زيادة الشهود وإنما يمكنهم أداء الشهادة بعد قيام الختم (ويبطل الكتاب بموت) القاضي (الكاتب وعزله) وهذا شرط آخر لقبول الكتاب والعمل به وهو أن يكون القاضي الكاتب على قضائه حتى لو مات أو عزل أو خرج عن أهلية القضاء بجنون أو عمى قيل: أو فسق بناء على عزله به قبل قراءته بطل، وبه عرف أن في كلامه إرسالًا غير واقع واقتصر على الموت والعزل لأن غيرهما عزل أيضًا، قيدنا بما قبل القراءة لأنه لو مات أو عزل بعدها لم يبطل في ظاهر الرواية وقال أبو يوسف في (الأمالي): إنه لا يبطل ولو مات قبل القراءة، ولو حكم به قاض ثم رفع إلى آخر وأمضاه جاز لما عرف من الاختلاف إذا كان في نفس القضاء ينفذ بتنفيذ قاض آخر، فإن كان في المقتضى به استغنى عن ذلك.
(وموت المكتوب إليه) لأن المكاتب لما خصه فقد اعتمد عدالته والقضاة متفاوتون في ذلك فصح التعيين، (إلا إذا كتب بعد اسمه) أي: اسم القاضي المكتوب إليه (وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين) فلا يبطل لأنه لما عمم بعد التخصيص فقد اعتمد عدالة الكل قيد بقوله بعد اسمه، لأنه لو كتب ابتداء إلى كل من يصل
لا بموت الخصم وتقضي المرأة في غير حد وقود
ــ
إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم فعند الإمام لا يجوز، والظاهر أن محمدًا منعه وجوزه أبو يوسف واستحسنه/ كثير من المشايخ، كذا في (الشرح). وفي (الخلاصة) وعليه عمل الناس اليوم، وفي (الفتح) وهو الوجه لأن إعلام المكتوب إليه وإن كان شرطًا فبالعموم يعلم كما يعلم بالخصوص وليس العموم من قبيل الإجمال والتجهيل فصار قصديته وتبعتيه سواء (لا) يبطل (بموت الخصم) بلا خلاف لقيام وارثه مقامه، وسواء كان تاريخ الكتاب قبل موت المطلوب أو بعده.
فرع
سمع الخصم بوصول الكتاب إلى قاضي بلدة فهرب إلى بلدة أخرى كان للقاضي المكتوب إليه أن يكتب إلى بلدة قاضي تلك البلدة بما ثبت عنده من كتاب القاضي، وكما جوزنا للأول الكتاب يجوز للثاني والثالث وهلم جرا، ولو أقام شاهدًا واحدًا عند القاضي وسئل أن يكتب بذلك كتابًا إلى قاض آخر فعل فإنه قد يكون له شاهد في محل المكتوب إليه، وهل يكتب القاضي بعلمه؟ ففي (الخلاصة) وهو كالقضاء بعلمه، وفي شرح (أدب القضاء) للخصاف وهو الأصح إلا أن التفاوت هنا هو أن القاضي يكتب بالعلم الحاصل قبل القضاء بالإجماع، كذا في (الفتح).
(وتقضي المرأة) أي: يصح قضاؤها (في غير حد وقود) أي: قصاص لما مر من أن أهله أهل الشهادة ولا شك في جواز شهادتها في غير ما ذكر فكذا قضاؤها إلا أن توليها إثم لخبر البخاري (خاب قوم ولو أمرهم امرأة). والظاهر أن الخنثى المشكل كالمرأة هنا وإخبار الشارع بنقصان عقلها لا يفيد أهليتها بالكلية، ألا ترى أنها تصلح شاهدة وناظرة في الأوقاف ووصية على اليتامى؟ ثم هو منسوب إلى الجنس فجاز في المفرد خلافه، كذا في (الفتح) ومن حوادث الفتاوى أن واقفًا شرط الشهادة في وقفه لزيد ثم لولده من بعده فلم يترك بعده إلا بيتًا فأفتى الشيخ الأخ باستحقاقها للوظيفة، واستغربه بعض القضاة ولا اعتبار به بعد ما ذكرنا انتهى.
وكان علق في (الفتح) قوله في الأوقاف شاهدة، وعندي فيه نظر لأن صاحب (الفتح) إنما استظهر بهذا على عدم سلب ولايتها مع نقصان عقلها، ولا شك أن صلاحيتها في الأموال اتفاقًا فيه إثبات ولايتها والقضاء أهله أهل الشهادة، ولو علق في الأوقاف شاهدة لقصر عن إفادة هذا المعنى المقصود هو الأول لمن تأمل وبتقدير التسليم فعرف الواقفين مراعى، ولم يتفق تقريره أنثى شاهدة في وقف في زمن ما
ولا يستخلف قاض إلا أن يفوض إليه ذلك
ــ
فيما علمنا فوجب صرف ألفاظه إلى ما تعارفوه، وإذا كان هذا المعنى لم يخطر ببال واقف ولم يسر ذهنه إليه وإنما أراد من الشاهد الكامل فكيف يصرف لفظه إلى غير مراده؟ وقد قال شيخ الإسلام عبد البر في شرح (الوهبانية): ينبغي ترجيح رواية دخول أولاد البنات فيما لو وقف على ذريته لأن عرفهم عليه ولا يعرفون غيره ولا يسري إلى أذهانهم غالبًا سواه فاعتبر عرفهم وقال: فيما لو وقف على ولده وولد ولده ينبغي أن تصح رواية دخول أولاد البنات أيضًا قطعًا لأن فيها نص محمد عن أصحابنا، وقد انضم إلى ذلك أن الناس في هذا الزمان لا يفهمون سوى ذلك ولا يقصدون غيره وعليه عملهم وعرفهم انتهى. وهذا برهان بين لما ادعيناه فوجب الحكم مقتضاه، وإذا عرف هذا فتقريرها في شهادة وقف ابتداء غير صحيح والله الموفق.
وفي (الخلاصة) لو قضت في الحدود والقصاص فدفع إلى قاض آخر فأمضاه ليس لغيره أن يبطله انتهى، (ولا يستخلف قاض) أي: لا يصح استخلافه ولو كان مريضًا لأنه فوض إليه القضاء دون التقليد فصار كالوكيل ليس له أن يوكل إلا بإذن، فإذا عقد بحضرة موكله فأجازه صح أي الوكيل بالبيع والنكاح، أما الوكيل بالطلاق والعتاق إذا أجازا وحضر لم يصح لأن المقصود عبارته، كذا في (المنية).
(إلا أن يفوض إليه ذلك) فيصح استخلافه ويصير الثاني عن السلطان حتى لا يملك الأول عزله إلا إذا قال له السلطان: ولٍّ من شئت واستبدل من شئت، أو جعلتك قاضي القضاة لأنه الذي يتصرف فيهم تقليدًا أو عزلًا، كذا في (الفتح) وإذا استخلف من لم يفوض إليه ذلك فقضى الثاني بمحضر من الأول أو بغير محضره إلا أنه أجازه جاز، كالوكيل إذا وكل مع عدم الإذن بشرط أن يكون الخليفة أهلًا للقضاء لا رقيقًا ولا محدودًا في قذف ولا كافرًا، واعلم أن هذا قضاء فضولي ابتداء فيستفاد منه أن الفضولي بلا استخلاف لو قضى، وأجازه القاضي.
وفي (جامع الفصولين) لو كان له ولاية القضاء في كل يومين من كل أسبوع لا غير فقضى في التي لم تكن له ولاية القضاء فيها، فإذا جاءت التولية أجاز ما قضى جاز، وإطلاقه صحة الاستخلاف مع الإذن يفيد أنه لا فرق في الخليفة بين كونه موافقًا لمذهبه أو لا، وفي (البزازية) لو فوض إلى غيره ليقضي على مذهبه نفذ إجماعًا بقي استخلافه قبل وصوله إلى محل ولايته، وقد صرح الشهيد في شرح (أدب القاضي) للخصاف بأنه إنما يصير قاضيًا إذا بلغ الموضع الذي قلد/ فيه القضاء وفيه ينبغي للقاضي أن يقدم نائبه حتى يتعرف على أحوال الناس، ومقتضى الأول أنه لا
بخلاف المأمور بالجمعة
ــ
يستخلف، والثاني أنه يستخلف فيحمل على أن إرسال النائب بإذن الخليفة أو أن ذلك معروف بينهم (بخلاف المأمور بـ) إقامة (الجمعة) بحيث يجوز له أن يستخلف لأن المولى عالم بتوقتها وأنه إذا عرض عارض فاتت لا إلى خلف، ومعلوم أن الإنسان غرض فكان إذنا دلالة فإن قبل شروعه لحدث أصابه لم يجز له أن يستخلف إلا من شهد الخطبة وإن بعد الشروع فاستخلف من لم يشهدها جاز، وإذا رفع إليه حكم حاكم خرج به المحكم فإن له أن لا يمضيه كما سيأتي، ولم يقل آخر ليعلم حكم نفسه، كما في (الإيضاح) أمضاه عبارته في (الجامع الصغير) وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي ثم جاء قاض آخر يرى غير ذلك أمضاه ذكره في (الهداية) بعد كلام القدوري، قال الشارحون: أمضاه كذا في (الفتح) وغيره وهو ظاهر في جواز الاستخلاف للمرض ونحوه وتقييده الشر المسألة بما إذا أحدث لا دليل عليه، وقدمنا في الجمعة مسألة الاستنابة بغير عذر فارجع إليه لوجيهن: الأول: قيد بالفقهاء فأفاد أنه لو لم يكن عالمًا بالخلاف لا ينفذ.
قال شمس الأئمة: وهو ظاهر المذهب وعليه الأكثر، الثاني: أنه قيد بكونه يرى غير ذلك، والمص كالقدوري لم يتعرض لذلك فيحتمل أن يكون مراده ما إذا كان موافقًا لرأيه يمضيه بالأولى، ورده في (الفتح) بأن التقييد بالفقهاء لا دلالة فيه بوجه على كونه عالمًا بالخلاف وإنما مفاده أن ما فيه خلاف إذا قضى قاض عالمًا أو غير عالم به ثم جاء قاضٍ آخر يرى خلافه أمضاه وكونه ينفذه وإن كان مخالفًا لرأيه يقيده كلام القدوري أيضًا فإنه أعم من كونه موافقًا لرأيه أو مخالفًا انتهى ملخصًا.
وأقره في (الحواشى السعدية) وعندي فيه نظر وذلك أن الداعي لحمل المشايخ كلام محمد على ما مر أن شرطه أن يكون الحاكم عالمًا بالاختلاف حتى لو قضى في فصل مجتهد فيه وهو لا يعلم بذلك لا يجوز قضاؤه عند عامتهم ولا يمضيه يعني الثاني، كما في (الشرح) وغيره وجزم به في (منية المفتي) حيث قال: قضى في مجتهد فيه ولا يعلم بذلك لم ينفذ فإنه ذكر في (السير الكبير) له مدبرون عتقوا بموته فأثبت رجل دينًا عليه فباعهم القاضي على ظن أنهم عبيد وقضى بجوازه ثم ظهر أنهم مدبرون بطل قضاؤه لعدم علمه بذلك حتى لو علم فاجتهد وأبطل التدبير جاز انتهى. فقوله وما اختلف فيه الفقهاء قضى فيه به القاضي أي بما اختلف فيه الفقهاء يعني عالمًا باختلافهم ليصح قوله أمضاه إذ قد علمت أنه مع غير العلم لا يمضيه فإن قلت في (الخلاصة): هذا الشرط وإن كان ظاهر المذهب لكن يفتى بخلافه.
قلت: كلام محمد إنما هو مبني على ظاهر المذهب وفي (البحر) لم يفهموا
وإذا رفع إليه حكم قاض أمضاه
ــ
مراد صاحب (الهداية) وذلك أنه إنما ذكر ما في (الجامع) بعد كلام القدوري ليفيد أن ما في (الجامع) لا استثناء فيه بل كل مسألة اختلف فيها الفقهاء فإنها تصير محل اجتهاد، فإذا قضى قاضٍ بقول ارتفع الخلاف. وأما عبارة القدوري ففيها الاستثناء ورأيت في (الواقعات الحسامية) ما يفيده قال أبو الليث: رواية محمد أن كل شيء اختلف فيه الفقهاء فقضى به قاض جاز ولم يكن لغيره أن يبطله ولم يذكر فيه الاختلاف وبه نأخذ.
قلت: هذا خلاف ما ذكر في شرح (أدب القاضي) للخصاف في موضع الاختلاف يجوز وفي موضع الخلاف لا يجوز، أراد بالأول ما كان فيه خلافًا معتبرًا كالخلاف على تفاصيل (أدب القاضي) انتهى. وإنما يمضيه لأن اجتهاد الثاني كالأول وقد رجح باتصال القضاء به فلا ينقض بما هو دونه كذا قالوا: وفيه بحث لأن اعتقادنا لمذهب الغير أنه خطأ يحتمل الصواب، ومذهبنا أنه صواب يحتمل الخطأ فلا يكون الثاني كالأول عندنا، كذا في (الحواشي السعدية) أي يجب علينا أن نعتقد أن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرها خطأ يحتمل الصواب صرح بذلك في (المستصفى)، ولو قضى في المجتهد فيه مخالفًا لرأيه ناسيًا لمذهبه نفذ عنده، وفي (العامد) روايتان وعندهما لا يفذ في الوجهين لأنه قضى بما هو خطأ عنده وعليه الفتوى، كذا في (الهداية) وفي (الصغرى) الفتوى على قول الإمام.
قال في (الفتح): والوجه في هذا الزمان أنه يفتى بقولهما لأن التارك لمذهبه عمدًا لا يفعله إلا لهوى باطل لا لقصد جميل، وأما الناس فلأن المقلد ما قلده لا لمذهب غيره وهذا كله في القاضي المجتهد، فأما المقلد فإنما ولاه ليحكم مذهب أبي حنيفة مثلًا فلا يملك المخالفة فيكون معزولًا بالنسبة إلى هذا الحكم انتهى. وهو ظاهر في كونه عالمًا بالخلاف إنما هو في القاضي المجتهد، وفي (القنية) القاضي المقلد إذا قضى بخلاف مذهب لا ينفذ.
وادعى في (البحر) أن المقلد إذا قضى بمذهب غيره برواية ضعيفة أو بقول ضعيف نفذ، وأقوى ما تمسك به ما في (البزازية) إذا لم يكن/ القاضي مجتهدًا وقضى والنقول على خلاف مذهبه نفذ وليس لغيره نقضه وله نقضه كذا عن محمد وقال الثاني: ليس له أن ينقضه انتهى. وما في (الفتح) يجب أن يعول عليه في المذهب، وما في (البزازية) محمول على رواية عنهما إذ قصارى الأمر أن هذا نزل منزلة الناس لمذهبه وقد مر عنها في المجتهد أنه لا ينفذ فالمقلد أولى، وقدمنا في ديباجة كتاب القضاء أن معنى قوله:(وإذا رفع إليه حكم حاكم أمضاه) أي: ألزم
إن لم يخالف الكتاب والسنة المشهورة والإجماع
ــ
الحكم به بعد دعوى صحيحة وهذا هو التنفيذ الشرعي فارجع إليه، ولا يشترط فيه إحضار شهود الأصل بل تكفي الشهادة على الحكم عند القاضي. قال البزازي: حكم على رجل بمال وسجل ثم مات القاضي وأحضر المدعي المحكوم عليه عند قاض آخر وبرهن على قضاء الأول أجبره الثاني على أداء المال إن كان الحكم الأول صحيحًا ولو قال الشهود: إن القاضي الأول غير عدل لا يمضي الثاني قضاؤه انتهى.
وفي لو ارتاب القاضي في حكم الأول له أن يطلب شهود الأصل، ولم أجد لغيره (إلا أن يخالف الكتاب) ببيان لشرط الاجتهاد كالقضاء بلزوم ثمن متروك التسمية عمدًا فإنه مخالف لظاهر قوله تعالى:{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] بناء على أن الواو في قوله وإنه لفسق للعطف، والضمير راجع إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهي أو إلى الموصل على معنى، وإن أكله لفسق أو جعل ما لم يذكر اسم عليه من نفسه فسقًا، كذا في (الكشاف) واحتمال كونها حالية فيكون قيدًا للنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه كالميتة وما ذكر اسم الله تعالى رد بأن التأكيد بأن واللام ينفيه سلمناه، لكن لا نسلم التأكيد للنهي بل إشارة إلى معنى الموجب له كلا نشرب الخمر وهو حرام وبهذا ظهر ضعف ما في (الخلاصة) من أن القضاء به جائز عندهما خلافًا لأبي يوسف.
(والسنة المشهورة) كالقضاء بشاهد ويمين فإنه مخالف للحديث المشهور أعني قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، وقيد بالمشهورة احتراز عن الغريب، كذا في (الشرح) ولابد ههنا من تقييد الكتاب بأن لا يكون قطع الدلالة وتقييد السنة بأن تكون مشهورة أو تكون متواترة غير قطعية الدلالة وإلا فمخالفة المتواترة من كتاب أو سنة إذا كان قطعي الدلالة كفر كذا في (التلويح).
وأما إذا وقع الخلاف في أنه قول فلابد أن يترجح أحد القولين بثبوت دليل التأويل فيقطع الاجتهاد في بعض أفراد هذا القسم مما سوغ فيه الاجتهاد أم لا، كذا في (الفتح) وظاهر كلامهم يعطي أن آية التسمية على الذبيحة لا تقبل التأويل بل هي نص في المدعى فيه نظر يظهر مما مر، (والإجماع) وهو ما ليس فيه خلاف يستند إلى دليل شرعي، وغير المستند يسمى خلافًا لا اختلافًا، قال في (الهداية): والمعتبر الاختلاف في الصدر الأول انتهى، وعليه فرع بعضهم أن للقاضي أن يبطل ما قضى به المالكي والشافعي برأيه وإنما ينفذه إذا كان قول أحدهما موافقًا لقول
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بعض الصحابة أو التابعين باعتبار أنه مختلف فيه في الصدر الأول لا باعتبار أنه قول أحدهما.
قال في (الفتح): وعندي أن هذا لا يعول عليه، فإن صح أن مالكًا وأبا حنيفة والشافعي مجتهدون فلا شك في كون المحل اجتهاديًا وإلا فلا، وإلا شك أنهم أهل اجتهاد ورفعة، ويؤيده ما في (الذخيرة) خالع الأب الصغيرة على صداقها ورآه خيرًا لها صح عند مالك وبرئ الزوج عنه، فلو قضى به قاضٍ نفذ، وفي (المنتقى) قضى بجواز إن بلا شهود نفذ لأن المسألة مختلف فيها، فمالك وعثمان البستي يشترطان الإعلان لأن الشهود وقد اعتبر خلافهما لأن الموضع موضع اشتباه الدليل إذ اعتبار النكاح بسائر التصرفات يقتضي أن لا يشترط الشهادة انتهى. فإذا كان معارضة المعنى للدليل السمعي توجب اشتباه الدليل محل اجتهاد ينفذ القضاء فيه فكل خلاف بين الشافعي ومالك أو بيننا وبينهم أو واحدهم محل اشتباه الدليل حينئذ إذ لا يخلو عن مثل ذلك ولا يجوز نقضه من غير توقف على كونه بين الصدر الأول انتهى، ما في (الفتح).
والحاصل أن قضاء الدين إن كان موافقًا للدين الشرعي أو مختلفًا فيه اختلافًا مستندًا إلى دليل لا ينقض، وإن كان الخلاف في نفس القضاء لا ينفذ إلا بتنفيذ قاضٍ آخر في الصحيح من المذهب كالقضاء على الغائب وله وقضاء المحدود في قذف وشهادته بعد التبرئة وقضاء الفاسق وشهادته قبل التوبة، وإن كان مخالفًا للدليل الشرعي لا ينفذ. ولو نفذ كالقضاء بالقصاص يتعين الولي واحدًا من أهل المحلة مع يمينه أو بصحة نكاح المعتدة والوقت أو بجواز نكاح الجدة أو امرأة الجد أو بسقوط الدين بمضي سنتين أو بجواز بيع جنين ذبحت أمه ومات في بطنها أو بحل المطلقة ثلاثًا قبل أن يدخل به الثاني أو بإبطال عفو المرأة عن القود أو بعدم وقوع الثلاثة جملة أو بعدم الوقوع على حبلى أو حائض أو قبل الدخول أو في طهر حاضت فيه أو فرق بحكم العجز عن النفقة حال الغيبة، أو بصحة نكاح مزنية الأب أو الابن أو أم مزنية أو بنتها أو بسقوط المهر بلا بينة أو إقرار أو بعدم تأجيل العنين أو بعدم صحة الرجعة بلا رضاها أو بعدم وقوع الزائد على الواحد أو بنصف الجهاز لمن طلق قبل الدخول قبل قبض المهر والتجهيز أو بالشهادة على خط أبيه أو في الحدود أو القصاص بشهادة رجل وامرأتين أو بما في ديوانه، وقد نسي أو بشهادة شاهد على صك لا يذكرها فيه إلا أنه يعرف خطه وختمه/ أو بشهادة من شهد على قضية مختومة من غير أن يقرأ عليه وبقضاء المرأة في حد أو قود وبقضاء عبد أو نصراني أو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بقسامة في قتل أو فرق بشهادة واحدة على الرضاع، أو قضى لولده بشهادة الأجانب أو بجواز بيع أم الولد وبالزيادة في معلوم الإمام من أوقاف المسجد أو بعدم تملك الكفار مال المسلم المحرر بدراهم، أو بجواز بيع درهم بدرهمين أو بصحة صلاة المحدث، أو بالقسامة على أهل المحلة بتلف المال كالنفس أو بقرعته في رقيق، أو بعدم جواز تصرف المرأة في مالها بغير إذن زوجها أو بحلف المدعي أن فلانًا مات وهناك لوث من عداوة ظاهرة من المسائل مأخوذة من (الشرح) و (البزازية) و (جامع الفصولين) و (الخانية) و (الصيرفية) و (فتح القدير).
تتمة: في فتاوى الشيخ تقي الدين السبكي الشافعي أن قضاء القاضي ينقض عند الحنفية إذا كان حكمًا لا دليل عليه، ومخالفًا شرط الواقف مخالف للنص وهو حكه لا دليل عليه سواء كان نصه في الوقف نصًا أو ظاهرًا انتهى. وهو موافق لقول المشايخ شرطه كنص الشارع قال في شرح (المجمع) للمصنف: فيجب إتباعه والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
تم