الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصولٌ عظيمة النفع جداً
في إرشاد القرآن والسُّنّة إلى طريق المناظرة وتصحيحها
، وبيانِ العلل المؤثِّرة، والفروق المؤثرة، وإشارتهما
(1)
إلى إبطال الدَّوْر والتَّسلسل بأوجزِ لفظٍ وأبينِهِ
(2)
، وذِكْر ما تضمَّناه من التَّسوية بينَ المتماثلين، والفَرق بين المختلفين، والأجوبة عن المعارضاتِ، وإلغاء ما يجبُ إلغاؤُه من المعاني التي لا تأثيرَ لها، واعتبار ما ينبغي اعتبارهُ، وإبداء تناقض المبطِلِينَ في دعاويهم وحُجَجِهم، وأمثال ذلك.
وهذا من كنوزِ القرآن التي ضلَّ عنها أكثرُ المتأخرين، فوضعوا لهم شريعةً جَدَلِيَّةً، فيها حقٌ وباطلٌ، ولو أَعْطَوُا القرآنَ حَقَّهُ لرَأَوْهُ وافياً بهذا المقصودِ كافياً فيه، مُغْنِياً عن غيره.
والعالِمُ عن الله (ق/ 360 ب) مَنْ آتاه الله
(3)
فَهماً في كتابهِ. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أوَّلُ من بيَّنَ العللَ الشرعيَّةَ والمآخِذَ، والجمعَ والفَرْقَ، والأوصافَ المعتبرةَ والأوصافَ الملغاةَ، وبيَّنَ الدَّورَ والتَّسلسُلَ وقطعهما.
فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم وقد سُئِل عن البعيرِ يجربُ، فتجربُ لأجلِهِ الإبلُ، فقال، "مَنْ أعْدَى الأوَّلَ"
(4)
، كيف اشتملتْ هذه الكلمةُ الوجيزةُ المختصرةُ البينَةُ على إبطال الدَّوْر والتَّسلسل، وطالما تَفَيْهق
(1)
(ع): "وإشارتها"
(2)
(ع): "وأثبته".
(3)
"من آتاه الله" سقطت من (ع).
(4)
أخرجه البخاري رقم (5717)، ومسلم رقم (2220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الفيلسوف وتَشَدَّقَ المتكلِّمُ وقرَّر
(1)
ذلك -بعد اللَّتَيًّا والَّتي- في عدَّةِ ورقاتٍ، فقال مَنْ أوتي جوامِعَ الكَلِمِ:"فمَنْ أَعْدى الأوَّلَ"، ففَهِم السامِعُ من هذا: أن إعداءَ الأوَّلِ إن كان من إعداءِ غيرِه له، فإن لم ينتَهِ إلى غايَة فهو التَّسلسلُ في المؤثِّرات، وهو باطلٌ بصريحِ العقل، وإن انتهى إلى غايةٍ. وقد استفادَتِ الجَرَبَ من إعداءِ مَن جرب به له، فهو الدَّوْرُ الممتنعُ.
وتأمل قوله في قصة ابن اللُّتْبيَّةِ: "أفَلا جَلَسَ في بيتِ أبيهِ وأمَّهِ، وَقالَ: هَذا أُهْدِيَ لِي"
(2)
، كيفَ يجدُ تحتَ هذه الكلمةِ الشريفة أن الدَّوَرَانَ يُفيدُ العِلِّيَّةَ، والأصوليُّ ربما كدَّ خاطِرَهُ حتى قرَّر ذلك بعد الجهد، فدلَّت هذه الكلمةُ النبوية على أن الهديةَ لما دارَت مع العمل وجودًا وعدمًا كان العمل سَبَبَها وعِلَّتها؛ لأنه لو جلسَ في بيتِ أبيه وأُمِّه لانتفتِ الهديَّةُ، وإنما وُجِدت بالعملِ فهو عِلَّتها.
وتأملْ قوله صلى الله عليه وسلم في اللُّقَطَةِ، وقد سُئِل عن لُقَطَةِ الغنم فقال:"إنَّما هِى لَكَ أو لأخِيْكَ أو للذِّئْب"، فلما سئل عن (ظ /251 أ) لُقَطَةِ الإبلِ غْضبَ، وقال:"ما لَك ولَها، مَعَها حِذاؤُها وسِقاؤها، تَرِدُ الماءَ وتَرعَى الشَّجَرَ"
(3)
، ففرَّق بين الحُكْمَينِ باستغناءِ الإبل واستِقلالها بنفسِها، دونَ أن يُخاف عليها الهَلَكَةُ في البرِّيَّة، واحتياج الغنم إلى راعٍ وحافظٍ، وأنه إن غابَ عنها، فهي عُرضَةٌ للسِّباع بخلاف الإبل،
(1)
(ع): "وقرب".
(2)
أخرجه البخاري رقم: (1500)، ومسلم رقم (1832) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري رقم (91)، ومسلم رقم (1722)، من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
فهكذا تكون الفروقُ المؤثِّرَة في الأحكام لا الفروقُ المذهبيةُ التي إنما يفيدُ ضابط المذهب.
وكذلك قوله في اللَّحم الذي تُصُدِّق به على بَرِيرَةَ: "هُوَ عَلَيْها صَدَقَةٌ، ولنا هَدِيةٌ"
(1)
، ففرَّقَ في الذاتِ الواحدةِ، وجعل لها حكمينِ مختلفينِ باختلافِ الجهتين؛ إذ جهةُ الصَدَقةِ عليها غير جهة الهديَّة منها.
وكذلك الرجلانِ اللذانِ عَطَسا عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فشمَّتَ أحَدَهما ولم (ق/ 361 أ)، يُشَمِّتِ الآخَر، فلما سُئِلَ عن الفرق أجاب:"بأن هذا حَمِدَ الله، والآخر لم يَحَمدْهُ"
(2)
، فدلَّ على أن تفريقَهُ في الأحكام لافتراقها في العلل المؤثِّرَةِ فيها.
وتأمَّلْ قوله صلى الله عليه وسلم في المَيْتَةِ: "إنما حَرُمَ منها أَكْلها"
(3)
، كيف تضمَنَ التَّفْرِقَةَ بينَ أكلِ اللَّحمِ واستعمال الجلدِ، وبيَّنَ أن النصَّ إنما تناولَ تحريمَ الأكلِ، وهدا تحتَهُ قاعدتانِ عظيمتانِ:
إحداهما. بيانُ أنَّ التَّحليلَ والتحريمَ المضافانِ إلى الأعيانِ غيرُ مجمل، وأنه
(4)
مُراد به من كل عينٍ ما هي مهيَّأة له. وفي ذلك الرَّدُ على من زَعَمَ أن ذلك مُتضمِّنٌ لمضمرٍ عامٍّ، وعلى من زعم أنه مجملٌ.
(1)
أخرجه البخاري رقم (1495)، ومسلم رقم (1074)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري رقم (6221)، ومسلم رقم (2991)، من حديث أنسٍ رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري رقم (1492)، ومسلم رقم (363) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
(ع): "وأنه غير
…
".
والثانية: قَطْع إلحاق استعمال الجلدِ بأكلِ اللَّحمِ، وأنه لا يصحُّ قياسُه عليه، فلو أن قائلًا قاله: وإن دلَّتِ الآيةُ على تحريم الأكل وحدَه، فتحريم ملابَسَة الجلدِ قياسًا عليه، كان قياسُه باطلًا بالنَّصِّ؛ إذ لا يلزمُ من تحريمِ الملابسةِ الباطِنةِ بالتَعَدي تحريمُ ملابَسَةِ الجلدِ ظاهراً بعد الدِّباغِ.
ففي هذا الحديثِ: بيان الموادِ من الآيةِ، وبيان: فسادِ إلحاقِ الجِلْد باللَّحم. وتأمَّلْ قوله صلى الله عليه وسلم لأبي النعمان بن بَشِير وقد خصَّ ابنَهُ بالنُخل: "أَتحِبُّ أنْ يَكُونْوا في البِرِّ سَواءً"
(1)
؟ كيف تجدُهُ مُتَضَمِّنا لبيانِ الوصف الدَّاعي إلى شرع التَسْوِيَةِ بينَ الأولاد، وهو العَدلُ الذي قامتْ به السمواتُ والأرضُ، فكما أنك تحِبُّ أن يستووا في بِرِّكَ، وأنْ لا ينفردَ أحدُهم ببِرِّكَ وتُحرَمَهُ من الآخَرِ، فكيف ينبغي أن تُفرِدَ أَحَدَهما بالعَطِيَّة وتَحْرِمَها الآخرَ؟!.
وتأمَّل قولَه صلى الله عليه وسلم لعمر وقد استأذنه في قتل حاطب، فقال:"وَمَا يُدرِيكَ؟ لَعَلَّ اللهَ اطْلَعَ على أهْلَ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئتم، فَقَدْ غفرتُ لَكُمْ"
(2)
، كيف تجدُهُ متضمِّنا لحكم القاعدةِ التي اختلفَ فيها أربابُ الجدَلِ والأصوليُّون، وهي: أن التعليلَ بالمانِع هل يفتقرُ إلى قيامِ المقتضي، فعلَّلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عصمةَ دمِهِ بشهودِه بَدراً دونَ الإِسلام العامَّ، فدلَّ على أن مُقْتضى قتلِهِ كان قد وُجِدَ وعارَض سببَ العصمةِ،
(1)
أخرجه البخاري رقم (2586)، ومسلم رقم (1623) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(2)
تقدم تخريجه (3/ 1037).
وهو الجسُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنْ عارضَ هذا المقتضي مانعٌ
(1)
مَنَعَ من تأثيرِهِ وهو شهوده بدرًا، وقد سَبقَ من الله مغفرتهُ لمن شَهدَها.
وعلى هذا؛ فالحديث حجَّةٌ لمن رأى قتلَ الجاسوسِ
(2)
؛ لأنه ليس ممَّنْ شَهِدَ بدرًا، وإنما امتنعَ قتلُ حاطب لشهودِهِ بدراً.
ومن ذلك: قولُه صلى الله عليه وسلم لعُمَرَ وقد سأله عن القبْلة للصّائم، (ق/ 361 ب) فقال:"أرأيْت لو تَمضمَضتَ"
(3)
…
الحديث، فتحتَ هذا إلغاءُ الأوصافِ التي لا تأثيرَ لها في الأحكام، وتحتهُ تشبيهُ الشيءِ بنظيرِهِ وإلحاقُهُ به، وكما أنَّ الممنوعَ منه الصائمُ إنما هو الشُّربُ لا مُقَدمَتهُ، وهو وضع الماء في الفمِ، فكذلك الذي مُنِعَ، إنما هو الجِماعُ لا مُقَدِّمَتُهَ وهي القُبْلَة، فتضمَّنَ الحديثُ قاعدتينِ عظيمتينِ كما ترى.
(ظ/251 ب) ومن ذلك: قولُه صلى الله عليه وسلم وقد سُئلَ عن الحج عن الميت؟ فقال للسائل: "أرَأيْتَ لَوْ كانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أكنْتَ قاضِية؟ " قال: نعم. قال: "فَدَيْنُ اللهِ أَحَقّ أنْ يُقْضَى"
(4)
فتضمَّنَ هذا الحديثُ بيانَ قياس الأوْلى،
(1)
(ق وظ): "مانعاً"!.
(2)
في هامش (ق) تعليق أظنه بخط ابن حميد النجدي، قال:"لا حجة فيه؛ لأن التجسُّس على النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالتجسس على غيره" أهـ. وفي هذا التعليق نظر من جهة أن الجاسوس لا يُقتل باعتبار جسه على شخص بعينه، ولكن باعتبار جسِّه على المسلمين لصالح الكفار.
(3)
أخرجه أحمد: (1/ 286 رقم 138)، وأبو داود رقم (2385)، وابن خزيمة رقم (1999)، وابن حبان "الإحسان":(8/ 314). وغيرهم، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
(4)
أخرجه البخاري رقم (1953)، ومسلم رقم (1148) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ووقع في (ق): "أحق بالقضاء" وهو في بعض روايات الحديث.
وأن دَيْنَ المخلوقِ إذا كان يقبل الوفاءَ مع شحَهِ وضيقه، فدَيْنُ الواسع الكريم تعالى أحقُّ بأن يقبلَ الوفاء، ففي هذا أن الحكمَ إذا ثَبَتَ في محلُّ لأمرٍ، وثمَّ محلّ آخَر أولى بذلك الحكمِ، فهو أولى بثبُوته فيِه. ومقصودُ الشارِع في ذلك التنبيهُ على المعاني والأوصافِ المقتضيَةِ لشَرْعِ الحكْم والعِلل المؤثِّرة، وإلا فما الفائدةُ في ذكر ذلك؟ والحكم ثابتٌ بمجرَّد قوله؟!
ومن ذلك: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَلحقَ الولدَ في قصة وليدة زَمْعَةَ بعَبْدْ بن زمْعَةَ عملًا بالفِراش القائم، وأَمَر سَوْدَةَ أن تحتجبَ منه
(1)
، عملاً بالشَبَهِ المعارِض له، فرتَّبَ على الوصْفينِ حكميهما، وجعله أخاً من وجهٍ دونَ وجهٍ. وهذا من ألطفِ مسالكِ الفقهِ، ولا يهتدي إليه إلَّا خواصُّ أهلِ العلمِ والفهم عن الله ورسوله.
وتأمل قولَه صلى الله عليه وسلم في التشهد، وقد علَّمهم أن يقولوا:"السلامُ علينا وعلى عباد الله الصّالحين"، ثمَّ قال:"فَإذا قُلْتُمْ ذلِكَ أصابَتْ كُلَّ عبدٍ صالح للهِ في السماءِ والأرض"
(2)
، كيف قرَّرَ بهذا عمومَ اسم الجمعِ المضاف، وأغنانا صلى الله عليه وسلم عن طرق الأصوليين وتَعَسُّفها.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئلَ عن
(3)
زكاة الحُمر، فقال:"لم يَنزلْ عَلَيَّ فيها إلَّا هذهِ الآية الجامِعَة الفاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} "
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري رقم (2053)، ومسلم رقم (1457) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري رقم (831)، ومسلم رقم (402) من حديث ابن مسعود -رضى الله عنه -.
(3)
(ق): "قوله عن زكاة
…
".
(4)
أخرجه البخاري رقم (2371)، ومسلم رقم (987). من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه.
والفاذَّة: أي المنفردة في معناها.
فسمَّى الآية جامعة أي: عامَّة شاملةً
(1)
، باعتبار اسم الشرط، فدلَ على أن أدواتِ الشرط للعموم، وهذا في مخاطبتِهِ صلى الله عليه وسلم ومحاورتِهِ أكثرُ من أن يذكرَ، وإنما يجهله من كلامه صلى الله عليه وسلم من لم يُحِطْ به علماً.
وتأملْ قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي استفتاه عن امرأته، وقد ولدَتْ غلامًا أسودَ، فأنكر ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ألَكَ إبِلٌ؟ " قال: نعم، قال:"فَما ألْوانُها"؟ قال: سُوْدٌ، قال:"هَلْ فِيها مِنْ أوْرقَ"؟ قال: نعم "قال: "فَأنَّى لهَ ذلِكَ"؟ قال: عسى أن يكونَ نَزْعَةَ عِرْقٍ، قال: "وهذا عَسَى أنْ (ق / 362 أ)، يكُونَ نَزْعَةَ عِرْق"
(2)
، كيف تضمَّنَ إلغاء هذا الوصف الذي لا تأثيرَ له في الحكم، وهو مجرَّد اللَّون، ومخالفة الولد للأبوين فيه، وأنَّ مثل هذا لا يوجب ريبةً، وأنَّ نظيرَهُ في المخلوقات مشاهدٌ بالحسَّ، والله خالقُ الإبَلِ وخالقُ بني آدَمَ، وهو الخلَّاقُ العليمُ، فكما أن الجملَ الأورقَ قد يتولَّدُ من بين أبوينِ
(3)
أسودينِ، فكذلك الولدُ الأسود قد يتولَّدُ من أبوينِ أبيضينِ، وأنَّ ما جوَّزَ به من سبب ذلك في الإبل، هو بعينِهِ قائمٌ في بني آدَمَ.
فهذه من أصَحَ المناظرات، والإرشادِ إلى اعتبار ما يجبُ اعتبارُهُ من الأوصافِ، وإلغاءِ ما يجِبُ إِلغاؤُه منهما، وأنَّ حكمَ الشيءِ حكمُ نظيرِهِ، وأنَّ العللَ والمعانيَ حقٌّ شرْعًا وقَدَراً.
(1)
(ع): "فسمَّى الآية جامعة لهن، عامة شاملة" وهو وجيه.
(2)
أخرجه البخاري رقم (5305)، ومسلم رقم (1500) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(3)
(ع): "ولدين" وكذا ما بعدها.
فصل
وإذا تأملتَ القرآنَ وتدبّرْتَهُ، وأَعَرتَهُ
(1)
فكرًا وافياً، اطَّلَعْتَ فيه من أسرار المناظرات، وتقرير الحُجَجِ الصحيحة، وإبطال الشُّبَهِ الفاسدَةِ، وذِكْر النقض والفَرْق، والمعارضة والمنع، على ما يَشفي ويَكفي لمن بصَّره اللهُ. وأنعمَ عليه بفهم كتابِهِ.
* فمن ذلك: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 11، 12] فهذه مناظرةٌ جرت بين المؤمنين والمنافقينَ، قال لهم المؤمنون:{لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} ، فأجابهم المنافقون بقولهم:{إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} ، فكأن المناظرةَ انقطعت بين الفريقين، ومَنَعَ المنافقونَ ما ادَّعى عليهم أهلُ الإيمان من كونهم مُفْسِدِينَ، وأن ما نسبوهم إليه إنما هو صلاحٌ لا فسادٌ، فحكَمَ العزيز الحكيمُ بينَ الفريقينِ، بأن أسْجَلَ على المنافقينَ أربع إسجالات:
أحدها: تكذيبهم.
والثاني: الإخبارُ: بأنهم مفسِدون.
والثالث: حصرُ الفسادِ فيهم بقوله: {هُمُ الْمُفْسِدُونَ} .
والرابع: وصفهم بغايةِ الجهلِ، وهو أنه لا شعورَ لهم ألبتةَ بكونهم مفسِدِينَ:
وتأمَّلْ كيف نفى الشعورَ عنهم في هذا الموضِعِ
(2)
، ثم نفى عنهم
(1)
(ق): "واعتبرته"، وتحرفت في (ظ).
(2)
(ق): "هذه المواضع".
العلمَ في قولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} [البقرة: 13]، فنفى علمَهم بسفَهِهم، وشعورَهم بفسادهم، وهذا أبلغُ ما يكون من الذَّمِّ والتَّجهيل: أن يكون الرجل مفسداً ولا شعورَ له بفساده ألبتَّة، مع أن أَثَرَ فساد مشهورٌ في الخارج مَرئيٌّ لعباد الله، وهو لا يشعرُ به، وهذا يدلُّ على استحكامِ الفسادِ في مدارِكِه وطرق علمِهِ.
وكذلك كونه سفيهًا، والسَّفَهُ غاية الجهلِ، (ظ/252 أ) وهو مركَّبٌ من عَدَم العلم بما يُصلحُ معاشَة ومعادَهُ، وإرادته بخلافه، فإذا كان بهذِه المنزلةِ، وهو لا يعلم بحالِهِ كان (ق/362 ب) من أَشْقى النَّوْعِ الإنسانيِّ، فنَفْيُ العلمِ عنه بالسَّفَهِ الذي هو فيه، متضمِّن لإثباتِ جهلِهِ، ونفيُ الشعورِ عنه بالفسادِ الواقع منه، متضمنٌ لفساد آلاتِ إدراكِهِ، فتضمَّنتِ الآيتانِ الإسجالَ عليهم بالجهلِ، وفسادَ آلاتِ الإدراكِ، بحيثُ يعتقدونَ الفسادَ صلاحاً، والشَّرَّ خيرًا.
وكذلك المناظرة الثانيةُ معهم -أيضًا- فإنَّ المؤمنينَ قالوا لهم:
{آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} ، فأجابهم المنافقونَ بقولهم:{أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} . وتقريرُ المناظرة من الجانبينَ: أن المؤمنين دَعَوْهم إلى الإيمانِ الصادرِ من العقلاءِ بالله ورسوله، وأن العاقلَ يتعيَّنُ عليه الدخولُ فيما دخل فيه العقلاءُ الناصحونَ لأنفسِهم، ولا سيَّما إذا قامتْ أدِلَّتُهُ ووضحَتْ شواهدُهُ، فأجابهم المنافقون بما مضمونه: إنَّا إنما يجِبُ علينا موافَقَةُ العقلاءِ، وأما السفهاءُ الذين لا عقلَ لهم يُمَيِّزونَ به بين النّافعِ والضّارِّ؛ فلا يجبُ علينا موافقتُهم، فردَّ اللهُ تعالى عليهم، وحَكم للمؤمنينَ، وأسْجلَ على المنافقينَ بأربعةِ أنواع:
أحدها: الحكمُ بسَفهِهم
(1)
.
الثاني: حَصْرُ السَّفَه فيهم.
الثالث: نفْيُ العلمِ عنهم.
الرابع: تكذيبهم فيما تضمَّنَهُ جوابُهم من الإخبارِ عن سَفهِ أهل الإيمانِ.
وخامسٌ -أيضًا -وهو: تكذيبهم فيما تضمَّنَه جوابُهم من دعواهم التَّنزيه
(2)
من السَّفَهِ.
* ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21، 22] إلى قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة: 24]، فهذا استدلالٌ في غايةِ الظهور ونهايةِ البيان، على جميع مطالب أصولِ الدِّين؛ مِن إثبات الصَّانع، وصفات كمالِهِ؛ من قدرتهِ وعلمِهِ، وإرادته وحياته، وحكمته وأفعاله، وحدوث العالم، وإثبات نوعَيْ توحيدِهِ تعالى؛ توحيد الرُّبوبيَّة المتضمِّن أنه وحدَه الرَّبُّ الخالق الفاطرُ، وتوحيد الإلهية المتضمَنُ أنه وحده الإلهُ المعبودُ المحبوبُ الذي لا تصلحُ العبادةُ والذُّلُّ والخضوعُ والحُبُّ إلا له.
ثم قرَّر تعالى بعد ذلك إثباتَ نبوَّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أبلغَ تقريرٍ
(1)
(ظ): "تسفيههم".
(2)
(ق وظ): "التبرئة".
وأحسنَهُ وأتَمَّهُ وأبعدَه عن المعارض، فثبتَ بذلك صدقُ رسولهِ في كلِّ ما يقوله، وقد أخبر عن المعاد والجنة والنار، فثبتَ صحَّةُ ذلك ضرورةً، فقرَّرتْ هذه الآياتُ (ق/ 363 أ)، هذه المطالبَ كلَّها على أحسن وجهٍ، فصدرها تعالى بقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} ، وهذا خطاب لجميع بني آدَمَ يشتركون كلُّهم في تعلّقِه بهم.
ثم قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فأَمَرَهم بعبادة ربِّهم، وفي ضمن هذه الكلمة البرهان القطعيُّ على وجوب عبادَتِهِ؛ لأنه إذا كان ربنا الذي يُرَبِّينا بنعمه
(1)
وإحسانه، وهو مالكُ ذواتِنا ورقابِنا وأنفسنا، وكل ذرَّةٍ من العبد فمملوكةٌ له ملكاً خالصًا
(2)
حقيقياً، وقد ربَّاه بإحسانِهِ إليه وإنعامِهِ عليه، فعبادتُهُ له وشكرُهُ إياه وأجبٌ عليه، ولهذا قال:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، ولم يقل: إلهكم. والرّبُّ هو: السَّيِّدُ
(3)
والمالكُ والمنعِم والمربي والمصلحُ، والله تعالى هو الربّ بهذه الاعتبارات كلِّها، فلا شيءَ أوجبُ في العقول والفِطَرِ من عبادةِ مَنْ هذا شأنُه وحدَه لا شريكَ له.
ثم قال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} فنبَّه بهذا -أيضًا- على وجوب عبادَتِهِ وحدَه، وهو كونه أخرجهم من العدم إلى الوجودِ، وأنشأَهم واخترعَهم وحدَه بلا شريك باعترافهم وإقرارهم كما قال في غيرِ موضِعِ من القرآن:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فإذا كان هو وحدَه الخالقَ، فكيف لا يكون وحدَه المعبودَ؟! وكيف يجعلونَ معه شريكاً في العبادَةِ! وأنتم مقرُّون بأنه لا شَريكَ له في الخَلْق، وهذه
(1)
(ع): "يربُّنا بنعمته".
(2)
(ق): "خاصَّا".
(3)
"والرب هو السيد" سقطت من (ع).
طريقةُ القرآن يستدل بتوحيد الرُّبوبية على توحيد الإلهيَّةِ.
ثم قال: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، فنبَّه بذلك على أنه وحدَه الخالق لكم ولآبائِكم ومَنْ تَقَدَّمَكم، وأنه لم يشركْهُ أحدٌ في خَلْقِ من قبلكم ولا في خلقِكم، وخلْقُهُ تعالى لهم متضمِّنٌ لكمال قدرتِه وإرادته وعلمه وحكمته وحياته، وذلك يستلزمُ
(1)
لسائرِ صفاتِ كمالِهِ ونعوتِ جلالِهِ، فتضمَّنَ ذلك إثبات صفاتِهِ وأفعالِهِ، ووحدانيته في صفاته، فلا شبيهَ له فيها، ولا في أفعالِهِ فلا شرَيكَ له فيها.
ثم ذكر المطلوبَ من خَلْقِهم، وهو: أن يَتقُوه فيطيعونه ولا يعصُونه، ويذكرونه فلا يَنْسَوْنه، ويشكرونه ولا يكفرونه، فهذه حقيقةُ تقواه.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} قيل: إنه تعليلٌ للأمر، وقيل: تعليلٌ للخَلْق، وقيل: المعنى أعبدوه لتتقوه بعبادَتِهِ. وقيل: المعنى خَلَقَكم لِتَتَّقُوه، وهو أظهَرُ لوجوهٍ:
أحدها: أن التقوي هي العبادةُ، والشيءُ لا يكون عِلَّة
(2)
لنفسهِ.
الثاني: أن نظيرهُ قولُه تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
والثالث: أن الخلْقَ أقربُ في اللفظ إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} من الأمر.
(ظ/ 252 ب) ولمن نصر الأول أن يقول: لا يمتنع أن يكون قولُه:
(1)
(ق وظ): "مستلزم".
(2)
(ق): "غاية".
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} تعليلًا للأمر بالعبادةِ
(1)
، ونظيره قوله تعالى:(ق/363 ب){كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]، فهذا تعليلٌ لِكَتْب الصِّيام، ولا يمتنعُ أن يكونَ تعليلا للأمرينِ معًا، وهذا هو الألْيَق بالآية، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]، فذكر تعالى دليلًا آخَر متَضَمِّنا للاستدلالِ بحكمتهِ في مخلوقاتِه.
فالأوَّل: متضمِّنٌ لأصلِ الخَلْق والإيجاد، ويسمى:"دليلَ الاختراعِ والإنشاء".
والثاني: متضمنٌ
(2)
للحِكم المشهودة في خلْقِه، ويسمَّى:"دليلَ العنايةِ والحكمةِ"، وهو تعالى كثيرًا ما يكرِّر هذينِ النوعينِ
(3)
من الاستدلالِ في القرآن.
ونظيرُه قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32 - 33] فذكر خَلْق السموات والأرض، ثم ذكر منافعَ المخلوقات وحِكَمَها.
ونظيره قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ
(1)
(ع): "بالأمر للعبادة".
(2)
(ق وع): "يتضمن".
(3)
في الأصول: "هذان النوعان"!.
بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 60، 61] إلى آخر الآياتِ، على أنَّ في هذه الآياتِ من الأسرار والحِكمِ ما بحَسْب عقولِ العالمِينَ أن يفهموه ويُدْركوه، ولعلَّه أن يَمُرَّ بك إن شاء الله التنبيهُ على رائحة يسيرةٍ من ذلك.
ونظيرُ ذلك -أيضًا- قولُه تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وهذا كثير في القرآن لمن تأمَّلَه.
وذكر -سبحانه-: في آية (البقرة) قرارَ العالم وهو: الأرض، وسقفه وهو: السماء، وأصولَ منافع العباد وهو: الماءُ الذي أنزله من السَماء، فذكر المسْكنَ والسّاكنَ وما يحتاجُ إليه من مصالحهِ، ونبه -تعالى- بجعله للأرض فراشاً على تمامِ حكمتهِ في أن هيّأها لاستقرار الحيوان عليها، فجعلها فراشاً ومهاداً وبِساطاً وقَرَارًا، وجعلَ سقفَها بناءً محكمًا مستوِيًا لا فُطُورَ فيه ولا تفاوُتَ ولا عَيْبَ.
ثم قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، فتأملْ هذه النتيجةَ وشدَّةَ لزومها لتلك المقدماتِ قبلها، وظَفَر العقل بها بأوَّل وهلةٍ وخُلوصها من كل شبهةٍ وريبٍ وقادح، (ق/ 364 أ) وأن كلَّ متكلّم ومستدل ومِحجاج إذا بالغ في تقريرِ ما يقرِّره وأطاله، وأَعْرض القول فيه فغايته -إن صحَّ ما يذكرُه- أن ينتهيَ إلى بعض
(1)
ما في القرآن
(1)
(ق): "فغايته إن صح ما ينتهي أن يذكر بعض
…
"، و (ظ): "فغايته إن صح أن ينتهي أن بعض
…
"!.
فتأمَّلْ ما تحتَ هذه الألفاظِ من البرهان الشَّافِي في التوحيد، أي: إذا كان اللهُ وحدَه هو الذي فَعَلَ هذه الأفعالَ فكيف يجعلونَ له أنداداً!؟ وقد عَلِمتمْ أنَّه لا نِدَّ له يشاركهُ في فعلِهِ.
فلما قرَّرَ نوعَى التوحيد أتم تقرير انتقل إلى تقرير النّبُوَّةِ فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: 23]، إن حصل لكم رَيبٌ في القرآن وصِدْق من جاء به، وقلتم: إنه مفتعلٌ؛ فأتوا ولو بسورة واحدة تشبهُهُ، وهذا خطابٌ لأهل الأرض أجمعهم، ومن المحالِ أن يأتيَ واحدٌ منهم بكلامِ يفتعلُه ويختلقه من تلقاء نفسِه، ثمَّ يطالب أهل الأرض بأجمعِهم أن يعارضوه في أيسرِ جزءٍ منه، يكون مقدارُهُ ثلاثَ آيات من عِدة ألوف، ثم تعجزُ الخلائِقُ كلّهم عن ذلك، (ظ/253 أ) حتى إنَّ الذين راموا معارَضتهُ كان ما عارضوه من
(1)
أقوى الأدِلَّةِ على صِدْقِهِ، فإنهم أتَوْا بشيء يَسْتَحيِي العقلاءُ من سَمَاعِهِ، ويحكمونَ بسَماجَتِهِ، وقُبحِ ركاكَتِهِ وخِسَّتِهِ، فهو كمن أظهرَ طِيبًا لم يَشَمَّ أحدٌ مِثْلَ ريحِهِ قطُ، وتحدَّى الخلائقَ ملوكَهم وسوقَتَهم بأن يأتوا بذَرَّة طيب مثله، فاستَحى العقلاءُ وعَرَفوا عَجْزَهم، وجاء الحُمقَان بعَذِرَة منتنة خبيثةٍ، وقالوا: قد جئنا بمثل ما جئتَ به، فهل يزيدُ هذا ما جاء به إلا قوَّة وبرهانًا وعَظَمَة وجلالة؟!.
وأكَّد تعالى هذا التوبيخَ والتقريعَ والتعجيزَ بأن قال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} ، كما يقولُ المعجزُ لَمن يدَّعي مقاوَمَتَهُ: اجهد علَيَّ بكل من تقدرُ عليه من أصحابِكَ وَأعوانِكَ
(1)
من (ع).
وأوليائِكَ، ولا تُبْقِ منهم أحدًا حتى تستعين به، فهِذا لا يقدمُ عليه إلا أجهلُ العالمِ وأحمقُهُ وأسخفُهُ عقلًا، إن كان غيرَ واثقٍ بصحَّةِ ما يدَّعيه، أو أكملهم وأفضلهم وأصدقهم وأوثقهم بما يقوله.:
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيةَ وأمثالَها على أصنافِ الخلائقِ أُمَّيهِم وكتابيِّهم وعَرَبِهم وعَجَمِهم ويقول: لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبدًا، فيعدلونَ معه إلي الحرب والرضى بقتل الأحباب، فلو قدروا على الإتيان بسُورة واحدةٍ لم يعدِلوا عنها إلى اختيارِ المحارَبَةِ، وإيتامْ الأولادِ، وقتلِ: النفوسِ، والإقرار بالعجز عن معارضته.
وتقرير النّبُوَّةِ بهذه الآية له وجوهٌ متعدِّدَةٌ هذا أحدُها.
وثانيها: إقدامُه صلى الله عليه وسلم (ق /364 ب) على هذا الأمر، وإسجاله على الخلائق إسجالا عامًّا إلى يومِ القيامَةِ، أنهم لن يفعلوا ذلك أبداً، فهذا لا يُقْدِمُ عليه ويخْبِر به إلَّا عن عِلم لا يخالجُه شكٌّ
(1)
، مستندٍ إلى وحي من الله تعالى، وإلَّا فعلمُ البَشَر وقدرتُه يضعفان عن ذلك.
وثالثها: النظرُ إلى نفس ما تحَدَّى به، وما اشتملَ عليه من الأموِرِ التي تعجَزُ قوى البشر عن الإتيان بمثلِهِ، الذي فصاحَتُهُ ونظمُهُ وبلاغتُهُ فَرْدٌ من أفرادِ إعجازِهِ.
وهذا الوجهُ يكون معجزة لمن سمِعه وتأملَهُ وفهِمَهُ، وبالوجهينِ الأوَّلَينِ يكون معجزةً لكلِّ من بلغه خبَرُهُ ولو لم يفهمْه ولم يتأمَّلْه.
فتأمَّل هذا الموضعَ من إعجازِ القرآن تعرف فيه قصور كثيرٍ من المتكلِّمين، وتقصيرَهم في بيان إعجازه
(2)
، وأنهم لن يُوَفُّوهُ عُشْرَ.
(1)
(ق): "عن علم لا شك فيه".
(2)
من قوله: "وهذا الوجه
…
" إلى هنا ساقط من (ظ).
معشارِ حقِّهِ، حتى قَصَرَ بعضهم الإعجاز على صرفِ الدواعي عن معارضتِه مع القُدْرة عليها، وبعضهم قصرَ الإعجازَ على مجرَّد فصاحتِهِ وبلاغتِهِ، وبعضُهم على مخالفةِ أسلوب نظمِه لأساليب نظمِ الكلامِ، وبعضُهم على ما اشتملَ عليه من الإخبارِ بالغيوب، إلىَ غير ذلك من الأقوالِ القاصرةِ التي لا تشفِي ولا تُجْدِي، وإعجازُه فوقَ ذلك ووراءَ ذلك كلِّه.
فإذا ثبتتِ النبُوَّةُ بهذه الحجةِ القاطعةِ، فقد وجبَ على الناس تصديق الرسولِ في خبرِه وطاعةِ أمرِه، وقد أخبر عن الله تعالىَ وأسمائه، وصفاتهِ وأفعالِه، وعن المَعادِ والجَنَّةِ والنَّار، فثبتَ صحَةُ ذلك يقينًا، فقال تعالى:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ........ } [البقرة: 24 - 25] الآية، فاشتملتِ الآياتُ على تقرير مهمّاتِ أصولِ الدِّين؛ من إثبات خالق العالم وصفاتِه ووحدانيتِه، ورسالةِ رسوله، والمَعادِ الأكبرِ.
* ومن ذلك قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ...... } [البقرة: 26] الآية، وهذا
(1)
جوابُ اعتراض اعترضَ به الكفَّار على القرآن، وقالوا: إن الرَّبَّ أعظمُ من أن يذكرَ الذبابَ والعنكبوتَ ونحوَها من الحيواناتِ الخسيسةِ، فلو كان ما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم كلام الله، لم َيذكُرْ فيه الحيواناتُ الخسيسة
(2)
، فأجابهم -تعالى- بأن قال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً (ظ/ 253 ب) فَمَا فَوْقَهَا} ، فإن ضَربَ الأمثالِ بالبعوضةِ فما فوقَها، إذا
(1)
(ق وع): "وهذه".
(2)
من قوله: "فلو كان
…
" إلى هنا ساقط من (ع).
تضمَّنَ تحقيقَ الحقِّ وإيضاحَه وإبطالَ الباطل وإدحاضه
(1)
كان من أحسنِ الأشياءِ، والحُسْنُ لا يستحيا منه، فهذا جواب الاعتراض. فكأن معترضاً اعترض على هذا الجواب أو طلب (ق/ 365 أ)، حكمَةَ ذلك، فأخبر تعالى عما له في ضَرب تلك الأمثالِ من الحكمةِ، وهي: إضلالُ من شاء، وهدايَةُ من شاء. ثم كأنَّ سائلًا سألَ عن حكمةِ الإضلال لمنْ يضلُّهُ بذلك، فأخبر تعالى عن حكمتهِ وعدلِه، وأنه إنما يضلُّ به الفاسقين:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 27] فكانت أعمالهم هذه:
(2)
القبيحة التي ارتكبوها سببًا لأن أضلَّهم وأعمالهم عن الهدى.
* ومن ذلك قولُه تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} [البقرة: 28]، وهذا استدلالٌ قاطعٌ على أن الإيمان بالله أمر مستقِرٌّ في الفطَرِ والعقولِ، وأنه لا عذرَ لأحدٍ في الكفرِ به ألبَتَّةَ، فذكر تعالى أربعةَ أمور؛ ثلاثة منها مشهودة في هذا العالم، والرابع مُنْتَظر موعودٌ به وعدَ الحقِّ.
الأول: كونهم كانوا أمواتاً لا أرواحَ فيهم، بك نُطَفاً وعَلَقاً ومُضْغَةً مَوَاتا لا حياةَ فيها.
الثاني: أنه تعالى أحياهم بعدَ هذه الإماتَةِ.
الثالث: أنه تعالى يُميتهم بعدَ هذه الحياة.
(1)
سقطت من (ع وظ).
(2)
(ق): "وكانت هذه الأعمال
…
".
الرابع: أنه يُحييهم بعد هذه الإماتَةِ فيرجِعون إليه.
فما بالُ العاقلِ يشهدُ الثلاثةَ الأطوارَ الأُوَلَ
(1)
ويكذبُ بالرابع؟! وهل الرابعُ إلَّا طوْر من أطوار التَّخليق؟ فالذي أحياكم بعد أن كَنتم أمواتًا، ثم أماتكم بعد أنْ أحياكم، ما الذي يُعْجزهُ عن إحيائِكم بعد ما يُمِيتكم؟! وهل إنكارُكم ذلكَ إلَّا كفرٌ مجرَّدٌ بالله؟ فكيف يقعُ منكم بعدَ ما شاهدتموه؟! ففي ضمنِ هذه الآيةِ الاستدلالُ على وجود الخالق وصفاتِه وأفعالِه على المَعاد.
فهذه كالمناظرةِ من الملائكةِ والجواب عن سؤالهم؛ كأنهم قالوا: إن استخلفتَ في الأرضِ خليفة كان منهَ الفساد وسفكُ الدماء، وحكمتك تقتضي أن لا تفعلَ ذلك، وإن جعلتَ فيها فتجعل فيها من يسبحُ بحمدِك ويقدَسُ لك، ونحن نفعلُ ذلك. فأجابهم تعالى عن هذا السُّؤالِ: بأن له من الحكمةِ في جَعْل، (ق/ 365 ب) هذا الخليفةِ في الأرض ما لا تعلمُهُ الملائكةُ، وإن وراءَ ما زعمتم من الفَسادِ مصالحَ وحِكَماً لا تعلمونها أنتم، وقد ذكرنا منها قريبًا من أربعينَ حكمةً في
(1)
تكررت في (ع).
كتاب "التحفة المكية"، فاستخرجَ تعالى من هذا الخليفةِ وذرِّيَّته: الأنبياءَ والرُّسُلَ والأولياءَ والمؤمنينَ، وعَمَر بهم الجنةَ، وميَّز الخبيثَ من ذريته من الطَّيِّب، فعَمَرَ بهم النارَ، وكان في ضمن ذلك من الحكمِ والمصالح ما لم تكن الملائكةُ تعلمُه
(1)
.
ثم إنه سبحانه أظهر فضلَ الخليفةِ عليهم بما خصَّه به من العِلمِ الذي لم تعلَمْهُ الملائكةُ، وأمَرَهم بالسجودِ له تكريمًا له وتعظيماً، وإظهارًا لفضلِه، وفي ضمنِ ذلك من الحِكَمِ ما لا يعلمُه إلَّا الله
(2)
.
فمنها: امتحانُهم بالسجودِ (ظ/254 أ) لمن زَعَموا أنه يفسِدُ في الأرض ويسْفِكُ الدِّماء، فأسْجَدَهم له، وأظهر فضلَهُ عليهم، لما أَثنَوا على أنفسِهم وذمُّوا الخليفةَ، كما فَعَلٌ سبحانه ذلك بموسى، لما أخبر عن نفسِهِ أنه أعلمُ أهلِ الأرضِ، فامتحنه بالخَضِر وعَجْزِهِ معه في تلك الوقائع الثلاثِ
(3)
. وهذه سنّتُه تعالى في خليقته وهو الحكيمُ العليمُ.
ومنها: جَبْرهُ لهذا الخليفةِ وابتداؤُه له بالإكرام والإنعام، لما عَلِم مما يحصلُ له من الانكسار والمصيبةِ والمحنةِ فابتدأه بالخير
(4)
والفضلِ، ثم جاءت المحنةُ والبَلِيَّةُ والذّلُّ، وكانت عاقِبَتَها إلى الخير والفضلِ والإحسان، فكانت المصيبةُ التي لَحِقَتْه محفوفةً. بإنعامَيْن: إنعام قبلَها، وإنعام بعدها، ولذريته المؤمنينَ نصيبٌ مما لأبيهم، فإنّ الله تعالى أنعم عليهم بالإيمان ابتداءً وجعل العاقبةَ لهم، فما أصابَهُم
(1)
(ع وظ): "ما لم يكن للملائكة تعلّمه".
(2)
من قوله: "وأمرهم بالسجود
…
" إلى هنا سقط من (ق).
(3)
المذكورة في سورة الكهف الآيات (60 - 82)، وأخرجها البخاري رقم (74)، ومسلم رقم (2380) من حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه.
(4)
(ع): "بالجبر".
بينَ ذلك من الذُّنوبِ والمصائب، فهي محفوفةٌ بإنعامِ قبلَها وإنعام بعدها
(1)
، فتبارك اللهُ ربُّ العالمينَ.
ومنها: استخراجهُ -تعالى- ما كان كامِناً في نفسِ عدوِّهِ
(2)
إبليسَ من الكبْرِ والمعصيةِ، الذي ظَهَر عند أمرهِ بالسجودِ، فاستحقَّ اللعنةَ والطّردَ والإبعادَ، على ما كان كامِناً في نفسِه عند إظهارِه، والله تعالى كان يعلمُه
(3)
منه، ولم يكنْ ليعاقِبَهُ ويلعَنَهُ على علمِه فيه، بل على وقوع معلومِه، فكان أمرُة بالسجود له مع الملائكةِ مُظْهراً للخبث والكفَرِ الذي كان كامناً فيه، ولم تكن الملائكةُ تعلمُه فأظهرَ لهم -سبحانه- ما كان يعلمُهُ، وكان خافياً عنهم من أمره، فكان في الأمرِ بالسجودِ له تكريماً لخليفَتِهِ الذي أخبرهم بأنه يجعله في الأرضِ، وجَبْرًا له، وتأديباً للملائكةِ، وإظهاراً لما كان مستخفِياً في نفسِ إبليسَ، وكان ذلك كلّه سببًا لتمييزِ الخبيثِ من الطَّيب، وهذا من بعض حِكَمِهِ -تعالى- في إسجادِهم لآدَمَ.
ثم إنه سبحانه لما علَّمَ آدَمَ ما علَّمَهُ، ثم امتحَنَ الملائكةَ بعلمِه فلم يعلموه، فأنبأهمِ به آدَمُ؛ كان في طيِّ ذلك جوابًا لهم عن كون هذا الخليفةِ لا فائدة في جعلِهِ في الأرضِ، فإنه يفسِدُ فيها ويسفِكُ الدِّماءَ، فأَراهم من فضلِه وعلمِه خلافَ ما كان في ظّنهم.
(1)
من قوله: "ولذريته المؤمنين
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
(2)
(ع): "عوره"!.
(3)
(ع): "يعلم".
فصل
في ذكر مناظرةِ إبليس عدوِّ (ق/366 أ) الله في شأن آدَمَ، وإبائهِ من السجود له، وبيان فسادِها
وقد كرَّر اللهُ تعالى ذكرَها في
(1)
كتابهِ، وأخبرَ فيها أنَّ امتناعَ إبليسَ من السُّجود كان كِبْرًا منه وكفراً، ومُجَرَّدَ إباء، وإنما ذكر تلك الشبْهَةَ تعنّتاً، وإلا فسببُ معصيتِهِ الاستكبارُ والإباءُ والكفر، وإلاّ فليس في أمرهِ بالسجودِ لآدَمَ ما يناقِصُ الحكمةَ بوجهٍ.
وأما شبهتهُ الدَّاحِضَةُ وهي: أن أصلَهُ وعنصرَهُ النارُ، وأصلَ آدم وعنصرَه التُّرابُ، ورتَّب على ذلك أنه خَيْرٌ من آدَمَ، ثم رتَّبَ على هاتينِ المقدمتينِ أنه لا يحسنُ منه الخضوعُ لمن هو فوقَهُ وخيرٌ منة؛ فهي باطلةٌ من وجوهٍ عديدة:
أحدها
(2)
: أن دعواه كونهُ خيرًا من آدَمَ دعوى كاذِبَةٌ باطلةٌ، واستدلالُه عليها بكونهِ: مخلوقاً من نار وآدَمُ من طين، استدلالٌ باطلٌ، وليست النار خيرًا من: الطِّينِ والترابِ، بل التُّراب خيرٌ من النار، وأفضلُ عنصرًا من وجوه:
أحدها: أن النّارَ: طبعُها الفسادُ وإتلاف ما تعلَّقتْ به، بخلاف التُّرابِ.
(1)
(ق): "وقد ذكرها الله تعالى في
…
".
(2)
لم يذكر المؤلف غير هذا الوجه، فلعله طال عليه الكلام بتعداد الوجوه المندرجة تحت هذا الوجه، فلم يذكر بقيتها، وانظر بعض هذه الوجوه في "الصواعق المرسلة":(3/ 1002 - 1004).
الثاني: أن طبعَها الخِفَّةُ والحدَّةُ والطيْشِ، والتُّرابُ طبعُهُ الرَّزَانَةُ والسكونُ والثَّبَاتُ.
الثالث: أن الترابَ يتكوَّنُ فيه ومنه أرزاقُ الحيوان وأقواتُهم، ولباسُ العبادِ وزينتُهم، وآلاتُ معايشِهم ومساكِنِهم، والنارُ لا يتكوَّنُ فيها شيءٌ من ذلك.
الرابع: أن (ظ/ 254 ب) التُّرابَ ضَرُورِيّ للحيوانِ لا يستغني عنه ألبَتةَ، ولا عن ما يتكوَّنُ فيه ومنه
(1)
، والنّارُ يستغني عنها الحيوان البهيمُ مطلقاً، وقد يستغني عنها الإنسانُ الأيامَ والشهورَ، فلا تدعوه إليها الضَّرُورةُ، فأين انتفاعُ الحيوانِ كلِّه بالتُّرابِ إلى
(2)
انتفاعِ الإنسانِ بالنّارِ في بعضِ الأحيانِ.
الخامس: أن التُّرَابَ إذا وُضِعَ فيه القوت أخرجَهُ أضعافَ أضعافِ ما وُضِعَ فيه، فمن بَركَتِهِ يُؤَدي إليك ما تستوِدِعُه فيه مضاعَفاً، ولو استودعْتَهُ النارَ لخانَتْكَ وأَكَلَتْهُ، ولم تُبْقِ ولم تَذرْ.
السادس: أنَّ النارَ لا تقومُ بنفسِها، بل هي مفتقرةٌ إلى محلّ تقومُ به يكونُ حاملًا لها، والترابُ لا يفتقرُ إلى حامل فالترابُ أكملُ منها.
السابع: أن النارَ مفتقرةٌ إلى التُّراب، وليس بالتُّراب فقرٌ إليها، فإنَّ المَحَلَّ الذي تقومُ به النارُ لا يكون إلَّا مكوناً
(3)
منَ التُّراب أو فيه، فهي الفقيرةُ إلى التُرَابِ، وهو الغنيُّ عنها.
(1)
(ع): "منه وفيه".
(2)
(ق): "من".
(3)
(ق وظ): "متكوناً".
الثامن: أن المادَّة الإبليسيَّةَ هى المارجُ
(1)
من النار، وهو ضعيفٌ، يتلاعَب به الهوى، فيميلُ معه كيفما مالَ، ولهذا غَلَبَ الهوى على المخلوق منه فأسَرَهُ وقَهرَهُ، ولما كانت المادَّةُ الآدَمِيَّةُ الترابَ، (ق/ 366 ب) وهو قويٌّ لا يذهب مع الهوى أينما ذهبَ، قَهرَ هواه وأسره، ورجع إلى ربِّهِ فاجتباه واصطفاه، فكان الهوى الذي مع المادَةِ الآدَمِيَّةِ عارِضا سريعَ الزَّوال فزالَ، وكان الثبات والرَّزانَةُ أصليًّا له فعادَ إليه، وكان إبليس بالعكس من ذلك، فرجَعَ كلّ من الأبوينِ إلى أصلِهِ وعُنْصرِهِ: آدَمُ، إلى أصلِه الطَّيِّبِ الشريفِ، واللَعِين إلى أصلِهِ الرَّديء.
التاسع: أن النارَ وإن حَصَلَ بها بعض المنفعةِ والمتاع، فالشرّ كامنٌ فيها لا يصدُّها عنّه إلَّا قَسْرُها وحَبْسها، ولولا القاسِرُ والحابسُ لها لأفسدتِ الحرْثَ والنسلَ، والتّرابُ فالخير والبِرُّ والبَرَكَةُ كامنٌ فيه، كلما أُثِيرَ وقُلِبَ ظهرتْ بَرَكَتُهُ وخيرُهُ وثَمَرَتُهُ، فأين أحدهما من الآخر؟!.
العاشر: أن الله تعالى أكْثَرَ ذكر الأرض في كتابِه، وأخبر عن منافعِها وخَلْقِها، وأنه جعلها مِهادًا وفراشاً، وبساطًا وقراراً، وكِفاتاً للأحياءِ والأمواتِ، ودعا عبادَهُ إلى التَّفَكّر فيها والنظر في آياتِها، وعجائِب ما أودعَ فيها، ولم يذكرِ النارَ إلَّا في معرض العقوبةِ والتخويف والعذابَ، إلَّا موضعًا أو موضعينِ ذكرها فيه بأنها تذكرةٌ ومتاع للمُقوِيْنَ، تذكرةٌ بنار الآخرة، ومتاعٌ لبعض أفرادِ الإنسان، وهم المُقْوُونَ النازلونَ بالقَوا
(2)
، وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافرُ تَمتع بالنار في
(1)
(ق): "الخارج"!، والمارج هو: الشُّعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. "اللسان": (2/ 365).
(2)
بالمد والقصر. "اللسان": (15/ 210 - 211).
منزله، فأين هذا من أوصاف الأرض في القرآن؟!.
الحادىِ عشر: أن الله تعالى وصفَ الأرضَ بالبركةِ في غيرِ موضع من كتابهِ خصوصًا، وأخبر أنه باركَ فيها عمومًا، فقال:{أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} [فصلت: 9، 10] فهذه بركةٌ عامَّةٌ.
وأما البَرَكَةُ الخاصَّةُ ببعضها فكقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [الأنبياء: 71]، وقوله:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ: 18]، وقوله:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81].
وأما النار؛ فلم يخبرْ أنه جعل فيها بَرَكَة أصلًا، بل المشهورُ أنها مُذْهِبَةٌ للبركات
(1)
ماحقةٌ لها، فأين المبارَك في نفسِه المبارَك فيما وُضِع فيه، إلى مُزِيلِ البركةِ وما حِقِها؟!.
الثاني عشر: أنَّ الله تعالى جعلَ الأرضَ محلّ بيوتهِ التي يُذكَرُ فيها اسمه، ويسبَّحُ لها فيها بالغدوِّ والآصال عمومًا، وبيته الحرام الذي جعلَه قياماً للناسِ مباركاً وهدىً للعالمين خصوصًا، (ظ /255 أ) ولو لم يكنْ في (ق/367 أ) الأرضِ إلَّا بيته الحرامُ لكفاها ذلك شَرَفًا وفضلًا على النار.
الثالث عشر: أنَّ اللهَ تعالى أوْدَعَ في الأرض من المنافع والمعادنِ، والأنّهارِ والعيونِ، والثمراتِ والحبوبِ، والأقواتِ، وأصنافَ الحيواناتِ
(1)
(ظ): "للبركة".
وأمتعتِها، والجبال والجنان والرياض، والمراكبِ البَهيَّةِ والصُّورِ البهيجة، ما لم يودعْ في النار شيئًا منه، فأيّ روضةٍ وُجِدَت في النّار، أو جَنَّةٍ أو معدِن، أو صورَة أو عيْنٍ فوّارةٍ
(1)
، أو نهير مطَّرِدٍ أو ثَمَرَة لذيذة، أو زوجة حسنةٍ أو لباسٍ وسترة.
الرابع عشر: أن غايةَ النار أنها وضعتُ خادمةً لما في الأرض
(2)
، فالنارُ إنما محلُّها محلُّ الخادمِ لهذه الأشياءِ المكمِّلِ لها، فهي تابعةٌ لها خادمةٌ فقط، إذا استغنتْ عنها طَرَدَتْها وأبْعَدَتْها عن قربها، وإذا احتاجتْ إليها استَدعَتها استدعاءَ المخدومِ لخادِمِه ومن يقضي حوائِجَهُ.
الخامس عشر: أن اللَّعينَ لقصورِ نظرِهِ وضعف بصيرتِهِ، رأى صورة الطين ترابًا ممتزجاً بماء فاحتقرَهُ، ولم يعلمْ أن الطِّين مُركَّبٌ من أصلين
(3)
: الماءُ الذي جعل اللهُ منه كلَّ شْيءٍ حيّ، والترابُ الذي جعله خزانَةَ المنافع والنعَمِ، هذا وكم يجيء من الطينِ من المنافعِ وأنواعِ الأمتعةِ، فلو تجاوَز نظرُه صورةَ الطِّين إلى مادَّته ونهايته لَرَأى أنه خيرٌ من النار وأفضل
(4)
.
(1)
غير محررة في النسخ.
(2)
(ع): "النار"!.
(3)
(ع وظ): "أصل".
(4)
ذكر المؤلف في "الصواعق": (3/ 1004 - 1006)، عدداً من هذه الوجوه هي أحد عشر وجهاً، منها وجوهٌ لم يذكرها هنا، وهذه هي:
1 -
أن التراب يُفسد صورة النار ويبطلها ويقهرها، وإن علت عليه.
2 -
أن الرحمةَ تنزلُ على الأرض فتقبلها وتَحيى بها وتخرج زينتها، وأقواتها، وتشكر ربَّها، وتنزل على النار فتأباها وتطفيها وتمحوها وتذهب بها. فبينها وبين الرحمة معاداة، وبين الأرض وبين الرحمة موالاة وإخاء.
3 -
أن النار تطفأ عند التكبير، فتضمحل عند ذكر كبرياء الرب، ولهذا =
وإذا استقريْتَ الوجوهَ التي تدلُّكَ على أن الترابَ أفضلُ من النارِ وخيرٌ منها وجدتَها كثيرةً جدًا، وإنما أشرنا إليها إشارةً، ثم لو سُلّم بطريقِ الفَرْض الباطل أن النارَ خيرٌ من الطين، لم يلزم من ذلك أن يكونَ المخلوقُ منها خيرًا من المخلوق من الطين، فإنَّ القادرَ على كلِّ شيء يخلُقُ من المادَّةِ المفضولَة مَنْ هو خيرٌ ممن خَلَقَهُ من المادَّة الفاضلة، والاعتبار بكمالِ النهايةِ لا بنقْصِ المادَّةِ، فاللعين لم يتجاوزْ نظرهُ محلَّ المادة، ولم يعبُر منها إلىَ كمالِ الصُّورةِ ونهايةِ الخِلْقَةِ، فأين الماء المَهينُ الذي هو نطفة، ونقصُه
(1)
واستقذارُ النفوس له إلى كمالِ الصّورةِ الإنسانيةِ التامَّةِ المحاسنِ خَلْقًا وخُلُقاً.
وقد خلق اللهُ -تعالى- الملائكةَ من نورٍ وآدَمَ من تراب، ومن ذريةِ آدمَ من هو خيرٌ من الملائكة، وإن كان النورُ أفضلَ من التُّراب.
فهذا وأمثالُه مما
(2)
يدلُّك على ضعفِ مناظرةِ اللَّعينِ وفسادِ نظره وإدراكِهِ، وأن الحكمةَ كانت توجبُ عليه خضوعَه لآدَمَ فعارضَ حكمةَ الله وأمْرهُ برأيِهِ الباطلِ ونظرِه الفاسِدِ، فقياسهُ باطلٌ نصًا وعقلاً، وكلُ من عارَضَ نصوصَ الأنبياءِ بقياسِهِ ورأيِهِ، فهو من خلفائِهِ وأتباعِهِ، فنعوذُ بالله من الخِذْلان، ونسألُهُ التوفيقَ والعصمةَ (ق/ 367 ب) من هذا البلاء الذي ما رُمِيَ العبدُ بشرِّ منه، ولأن يَلْقَى اللهَ بذنوبِ الخلائقِ كلَّها ما خلا الإشراكَ به أسلمُ له من أن يلقى الله
(3)
وقد عارَضَ
= يهرب المخلوق منها عند الأذان، حتى لا يسمعه، والأرض تبتهج بذلك وتفرح به، وتشهد به لصاحبه يوم القيامة.
(1)
(ظ) والمطبوعات: "ومُضغة".
(2)
من (ق).
(3)
(ق وظ): "يلقاه".