الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87] فهذا هو الذي: تسمَّيه النُّظّارُ والفقهاءُ: "التَّشَهِّي والتَّحَكُم"، فيقول أحدُهم لصاحبه: لا حُجَّةَ لكْ على ما ادَّعَيْتَ سوى التّشَهِّي والتَّحَكُم الباطل، فإن جاءَك ما لا تشتهيه دفعتَه ورددتَه. وإن كان القولُ موافقًا لما تهواهُ وتشتهيهِ إما من تقليدِ من تعظمُهُ أو موافقةِ ما تريدُهُ قَبلْتَهُ واخترته
(1)
فتردُّ ما خالفَ هواك وتقبَل ما وافقَ هواك.
وهذا الاحتجاجُ والذي قبله مفحِمانِ للخصم، لا جوابَ له عنهما
(2)
ألبتَّةَ، فإن الأخذ ببعض الكتاب يوجبُ الأخذ بجميعه، والتزام بعضِ شرائعه يوجبُ التزامَ جميعِها، ولا يجوز أن تكون الشرائعُ تابعةً للشهَوات، إذ لو كان الشرْعُ تابعاً للهوى والشَّهْوة لكان في الطباع ما يُغني عنه، وكانت شهوةُ كلِّ أحد وهواه شرعاً له:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
فصل
* ومن ذلك قولُه تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89].
فهذه حجَّةٌ أخرى على اليهودِ في تكذيبِهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يحاربون (ظ/256 أ) جيرانَهم من العرب في الجاهليَّة، ويستنصِرُون عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم قبلَ ظهورِه، فيُفْتَحُ لهم ويُنصَرُونَ، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، وجحدوا نبوَّتهُ، فاستفتاحُهم به وجَحْدُ نبوته مما لا
(1)
(ظ) والمطبوعات: "وأجزته".
(2)
(ق): "لهما عنه"، (ظ):"له عليهما".
يجتمعانِ، فإن كان استفتاحهم به؛ لأنه نبيٌّ كان جَحْدُ نُبوَّتهِ محالًا، وإن كان جَحْدُ نبوتهِ -كما يزعمون- حقاً كان استفتاحُهم به باطلاً، فإن كان استفتاحُهم به حقًا فنبوَّته حق، وإن كان نبوته -كما يقولون- باطلاً (ق/368 ب) فاستفتاحكم به باطلٌ، وهذا مما لا جوابَ لأعدائِهِ عنه ألبَتَّة، ويمكنُ تقريرها على صُوَرٍ عديدة:
منها: أن يقالَ: قد أقررتم بنبوَّتهِ قبل ظهورِه باستفتاحِكم به، فتعيَّنَ عليكم الإقرارُ بها بعد ظهورِه.
الثانية: إن يقالَ: كنتم تستفتحون به، وذلك إقرارٌ منكم بنبوَّته قبل ظهورِه، استنادًا إلى ما عندكم من العِلْم بظهوره، فلما شاهدْتُموه وصارَ المعلوم معايَناً بالرُّؤية، فالتصديقُ به حينئذ يكون أَوْلى، فكفرتم به عند كمالِ المعرفة، وآمنتم به حين كانت غَيْبًا لم تكمل، فآمنتم به على تقدير وجودِه، وكفرتم به عند تحققِ وجودِه، فأيُّ تناقُض وعنادٍ أبلغُ من هذا؟!.
الثالثة: أن يُقال: إيمانكم به لازمٌ لاستفتاحِكم به، ووجود الملزومِ بدونِ لازمِه محالٌ.
الرابعة: أن يُقالَ: استفتاحكم به
(1)
هل كان عن دليل أو لا عن دليل؟ فلا بدَّ أن يقولوا: كان عن دليل، وحينئذٍ فيجب طَرْدُ الدليل، والقولُ بموجبِه حيث وجِد، فأما أن يقال بموجبه في موضِع، ويُجْحدُ موجبه في موضعٍ أقوى منه، فمن أبطلِ الباطل!!.
الخامسة: أن يُقالَ: إن كان الاستفتاحُ به تصديقاً للنبيِّ الذي
(1)
من قوله: "ووجود الملزوم
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
أخبر بظهوره، وقامت البراهينُ على صدقِه؛ فالإيمان به متعيِّن تصديقًا للنبيّ الأول أيضًا، وإن كان ترك الإيمان به قبل ظهورِهِ تكذيباً للنبيِّ الأول، فتركُ الإيمان به بعد ظهورِهِ أشدُّ تكذيباً، فأنتم في كفرِكم به مكذبون للنبيِّ الأوّلِ والثاني، وهذا من أحسنِ الوجوه.
السادسة: أن يُقال: إن كان الاستفتاحُ به حقًا لما ظهر على يد النبي المبشَّرِ به من المعجزات، فالإيمان به عند ظهورِه يكون أقوى؛ لانضمامِ المعجزاتِ التي ظهرت على يدِه، وهي تستلزم لصدقِه إلى المعجزات التي ظهرت على يد النبيِّ المُبَشِّر به، فقويت أدلَّة الصدق وتضافرَتْ براهينه.
السابعة: أن يقالَ: أحد الأمرين لازمٌ ولا بُدّْ؛ إما خطأكم في استفتاحِكم به، وإما في كفرِكم وتكذيبكم به، فإنهما لا يمكنُ اجتماعُهما، فأيُّهما كان خطأ كان الآخرُ صَوابًا، لكن استفتاحكم به مستندٌ إلى الإيمان بالنبيِّ الأوَّلِ، فهو مستند إلى حقِّ، فتعينَ أن يكون كفرُهم به هو الباطل، ولا يمكنُ أن يقالَ: إن التكذيبَ به هو الحقُّ والاستفتاحُ به كان باطلاً، لأنه يستلزمُ تكذيبَ من أقررتم بصدقه ولا بدَّ.
الثامنة: أن يقالَ: التصديقُ به قبلَ ظهوره من لوازمِ التصديقِ بالنبيِّ الأوَّل، والتكذيب به حينئذ كفر، فالتصديقُ به بعدَ ظهوره كذلك، (ق/369 أ)، وإن كان التكذيبُ به قبلَ ظهوره مستلزمًا للكفر بالنبيِّ الأول، فهو بعدَ ظهورِه أشد استلزاماً، فلا يجتمعُ التكذيبُ به والإيمان بالنبيِّ الأوّل أبدًا لا قبل ظهورِه ولا بعدَه؛ أما قيلَ ظهوره فباعترافِكم، وأما بعدَ ظهورِه فلأَن دلالةَ صدقِهِ حينئذ أظهر وأقوى كما تقدَّم بيانهُ.
التاسعة: أن يقالَ: الاستفتاح به تصديقٌ وإقرار بنبُوَّتهِ، وتكذيبُهُ (ظ/ 256 ب) جَحدٌ وكفرٌ بها، والإيمان والتصديق برسالة الرجل الواحد، والتكذيب والجحد بها مستلزم للكفر ولا بُدَّ، فإنَّه يستلزم أحدَ الأمرين: إما التصديقُ بنبوَّةِ من ليس بنبي، وإما جَحْدُ نبوَّة من هو نبيٌّ، وأيَّهما كان فهو كفرٌ، وقد أقررتم على أنفسكم بالكفر ولا بد، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} .
العاشرة: تقريرُ الاستدلال بطريقة استسلافِ المقدمات والمؤاخذةِ بالاعتراف؛ فيقال لهم: ألستم كنتم تستفتحون به؟ فيقولون: بلى، فيقال: أليس الاستفتاح به إيمانٌ به؟ فلا بُدَّ من الاعترافِ بذلك، فيقال: أفليسَ ظهور من كنتمْ تؤمنونَ به قبل وجودِه موجباً عليكم الإيمان به؟ فلا بدَّ من الاعتراف
(1)
أو العِنادِ الصَّريح.
وليس لأعداءِ الله على هذه الوجوه اعتراض ألبتةَ، سوى أن قالوا: هذا كلُّهُ حقٌّ؛ ولكن ليس هذا الموجودُ بالذي كنا نستفتِحُ به، وهذا من أعظمِ البَهْتِ والعِنادِ، فإن الصِّفاتِ والعلاماتِ التي فيه طابقَتْ ما كانَ عندَهم مطابقةَ المعلوم لعلمهِ، فإنكار أن يكونَ هو، إنما يكونُ جَحْدًا للحقِّ وإنكاراً له باللِّسان، والقلبُ يعرفُ، ولهذا قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
فأغنى عن هذه الوجوهِ والتقريراتِ كلّها قولُه تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، والمادة الحقُّ يمكنُ إبرازُها في الصُّوَر المتَعَدَّدَةِ، وفي أيّ قالبٍ
(1)
من قوله: "بذلك، فيقال
…
" إلى هنا ساقط من (ظ).