الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يثبُتُ التأنيثُ بمثل ذلك؛ لأنه خبرٌ عن مضافٍ محذوف، أي: رائحةُ المِسْكِ، وهذا يجوزُ عند أَمْنِ اللَّبْسِ.
فائدة
(1)
من كُلِّيَّاتِ النَّحْو:
كلُّ صفْةِ نكرةٍ قُدِّمت عليها انقلبتْ حالًا، لاستحالَةِ كونِها صفةً تابعةً مع تَقَدُّمها فجعلتْ حالًا، ففارقها لفظُ الصِّفَةِ لا معناها، فإنَّ الحالَ صفةٌ في المعنى.
وكلُّ صِفَةِ علمٍ قُدِّمت عليه انقلبَ الموصوفُ عطفَ بيانٍ نحو: "مَرَرْتُ بالكريمِ زَيْدٍ" وكذلك غيرُ العَلَمِ كقولك: "مَرَرْتُ بالكريمِ أخِيكَ"؛ لأن الثانيَ تابعٌ للأول
(2)
مبيِّنٌ له، وكلُ تابعٍ صلح للبَدَلِيَّةِ وعطف البيان نظرتَ فيه، فإن تضمَّنَ زيادةَ بيان فجعله عطفًا أوْلى من جعلِهِ بَدَلًا، وإن لم يتضمَّنْ ذلك فجعله بَدَلًا أولى، مثالُ الأوَّلِ: قولُه تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]، وقوله:{مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35]، وقوله:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)} [النبأ: 31 - 32].
فائدة
الأفعالُ ثلاثة؛ ماضٍ ومضارعٌ وأمْرٌ:
فالأمرُ: لا يكونُ إلَّا للاستقبال، ولذلك فلا
(3)
يَقْتَرَنُ به ما يجعلُه لغيره، وأما ورودهُ لمن هو ملتبسٌ بالفعلِ فلا يكونُ المطلوبُ منه إلَّا
(1)
(ق وظ): "فوائد".
(2)
(ع): "له".
(3)
(ق): "لم".
أمرًا متجدِّدًا، وهو إما الاستدامَةُ، وإما تكميلُ المأمورِ به نحو:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136].
وأما الماضي: فَيُصْرَفُ إلى الاستقبالِ بعد أدواتِ الشَّرْطِ (ق/388 أ) في
(1)
الوعدِ والإنشاءِ ونحوه، لا في الخبر، كقوله تعالى:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26]{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27]، وكقوله:{إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "إنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِليْهِ"
(2)
، ونظائرُه كثيرةٌ جدًّا.
ولا يخفى فسادُ تأويلِ ذلك: بأن المعنى إن يثْبُتْ في المستقبل وقوعُ ذلك في الماضي! أفترى الحسيح يقولُ لربِّهِ: إد يثبتْ في المستقبلِ أني قلتُهُ في الماضي فقد علمْتَهُ، وهل هذا إلَّا فاسدٌ من الكلامِ ممتنعٌ من العاقلِ إطلاقُهُ، وكذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعائشةَ إنما أرادَ: إن كان وُجِدَ فيما مضى ذنبٌ فتداركيهِ بالتَّوْبَةِ.
وأما ما يصيرُ به الماضي مستقبلًا فكقولِكَ: "إنْ أقَمْتَ
(3)
أَكْرَمْتُكَ وإنْ زُرْتَنِي أَحْسَنْتُ إِليْكَ" فهذا ماضي اللَّفظِ مستقبلُ المعنى، وللنُّحاة هاهنا مسلكانِ:
أحدهما: أن التغيير وقَعَ في لفظ الفعل، وكان الموضِعُ للمستقبَلِ، فَغُيِّرَ إلى لفظ الماضي، والأداة هي التي تَصَرَّفَتْ في تغييره، وهذا (ظ/267 أ) اختيارُ أبي العباس المُبَرِّد.
(1)
(ق): "وفي".
(2)
قطعة من حديث الإفك الطويل، أخرجه البخاري رقم (2593)، ومسلم رقم (2770).
(3)
(ق): "قمت".
والثاني: أن التغييرَ إنما هو في المعنى، والأداةُ وَرَدَتْ على فعل ماضٍ، فغيرت معناه إلى الاستقبال، وهذا هو الصَّوابُ؛ لأنَّ الأدواتِ المغَيِّرَةَ للكَلِم إنما تُغَيِّرُ معانيَها دونَ ألفاظِها، كالاستفهام المغيِّرِ لمعنى ما بعدَه من الخبرِ إلى الطلبِ، وكالتَّمَنِّي والتَّرَجِّي والطَّلَب
(1)
والنفي، ونظائره، ويتصرَّف إلى الحال بقرينةِ الإنشاءِ، كـ:"تَزَوَّجْتُ وبعْتُكَ وطَلّقْتُكِ"، على أحدِ القولين في هذه الصِّيَغِ. ومَنْ جَعَلَها إخبارًا عمَّا قام بالنفسِ فهي ماضِيَةٌ على بابِها
(2)
.
والتحقيقُ: أنها إنشاءٌ للخارجِ إخبارٌ عما في النفس، فجهةُ الخَبَرِ فيها لا تُنافي جهةَ الإنشاءِ.
ويتصرَّفُ إلى الاستقبالِ بقرينةِ الطلبِ والدُّعاءِ، كقولك:"غَفَرَ اللهُ لك، وأدخلَكَ الجَنَّةَ، وأعاذَكَ من النَّار"، ونحو "عَزَمْتُ عليك إلّا فَعَلْتَ". ويتصرَّف إليه أيضًا بالوعد عند بعضِهم، مستشهدًا بقوله تعالى:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، و {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] ونحوه، وفيه نظر ظاهر للمتأمل.
ويتصرَّفُ أيضًا إلى الاستقبال بعطفِه على ما علم استقبالُه، كقوله تعالى:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98]{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 87].
ويتصرف إلى الاستقبال أيضًا بالنفي بـ "لا" و"إنْ" بعد القَسَم، كقوله تعالى:{وَلَئِنْ (ق/388 ب) زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41]، وكقول الشاعر:
(1)
من (ق).
(2)
(ق): "حالها".
رِدُوا فواللهِ لا ذُدْنَاكُمُ أبدًا
…
ما دامَ في مائِنَا وِرْدٌ لِنُزَّالِ
(1)
ويحتملُ المضيَّ والاستقبال بعد همزة التَّسوية نحو: "سَوَاءٌ عَلَيَّ أَقُمْتَ أم قَعَدْتَ"، والصواب أن المُرَادَ هنا المصدرُ المدلولُ بالفعل، وهو أعمُّ من الحالِ والاستقبالِ، فلم يجيءْ الاحتمالُ من جهة الهمزة، بل من جهةِ القصدِ إلى المصدرِ.
فإن قلت: فلو اقترن الفعلُ الواقعُ بعدَ "أم" بـ: "لم" فهل يصلحُ الماضي للحالِ والاستقبال أم يتعيَّنُ المضي؟.
قلتُ: ذهب صاحب "التسهيل"
(2)
إلى تعيّن المضيِّ، واحتجَّ بقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6]، والصوابُ: أنه لا يتعيَّنُ المضيُّ، فإنَّ المعنى: سواءٌ عليهم الإنذارُ وعَدَمُهُ، فلا فَرْقَ بَيْنَ ذلك وبَيْنَ أن يُقَالَ:"سَوَاءٌ عليهِم أأَنْذَرْتَ أم تَرَكْتَ الإنذارَ"
(3)
.
وكذلك لو كان بعدَ "أم" جملةٌ إسميَّةٌ لم يتعيَّنِ المضيُّ في الفعل، كقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193]، وإذا وقع الماضي بعدَ حرف التَّحضيضِ صَلَحَ أيضًا للماضي والمستقبلِ، كقوله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}
(4)
[التوبة: 122]، والصوابُ: أن الماضِيَ هاهنا باقٍ على وضعِهِ لم يتغيَّرْ عنه، كقوله تعالى:{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] ويقول: هلا اتقيتَ الله فيما أتيتَ، والآيةُ
(1)
ذكره في "الهمع": (1/ 9)، (2/ 41).
(2)
ليس هذا النقل في "التسهيل" ولا في "شرح الكافية".
(3)
في هامش (ع) حاشية نصُّها: "هذا فيه نظر، فإن ما بعد "لم" ماضي المعنى قطعًا؛ فكيف يصح أن يكون التقدير: "أم تركتَ الإنذار"؟! " أهـ.
(4)
(ع وظ) إلى قوله "طائفة" وتكملتها من (ق).
إنما نزلت في غزوة تبوك في سياق ذمِّ المتخلفينَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرَ تعالى أن المؤمنينَ لم يكونوا لينفروا كافَّةً، ثم وبَّخهم توبيخًا متضمِّنًا للحضِّ على أن ينفرَ بعضهم ويقعدَ بعضُهم.
وأصح القولين: أنه ينفرُ منهم طائفةٌ في السَّرَايا والبعوثِ، وتقعدُ طائفةٌ تَتَفَقَّهُ في الدين فتنذرُ القاعدةُ الطائفةَ النافِرَةَ إذا رَجَعَتْ إليهم، وتخبرُهم بما نَزَلَ بعدَهم من الحلالِ والحرامِ والأحكامِ؛ لوجوه:
أحدها: أن الآيةَ إنما هي في سياقِ النَّفِيرِ في الجهاد وتوبيخِ القاعدينَ عنه.
الثاني: أن النفيرَ إنما يكونُ في الغزو، ولا يقالُ لمن سافر في طلب العلم: إنه نَفَرَ ولا استنفَرَ، ولا يقالُ للسفر فيه: نفيرٌ.
الثالث: أن الآية تكونُ قد اشتملتْ على بيان حكمِ النَّافرين والقاعدينَ، وعلى بيانِ اشتِراكِهم في الجهادِ والعلمِ، فالنَّافرونَ أهلُ الجهاد، والقاعدونَ أهلُ التَّفَقُّهِ، والدِّينُ إنما يتمُّ بالجهاد والعلم، فإذا اشتغلت طَائفةٌ بالجهادِ (ق/389 أ) وطائفةٌ بالتَّفَقُّهِ في الدِّين، ثم يُعَلِّم أهلُ الفقهِ المجاهدينَ إذا رجعوا إليهم، حصلتِ المصلحةُ بالعلمِ والجهادِ وهذا الأليقُ بالآية، والأكملُ لمعناها، وأما إذا جُعِل النفيرُ فيها نفيرًا لطلبِ العلمِ لم يكنْ فيها تعرُّضٌ للجهادِ، مع إخراجِ النفيرِ عن موضوعه
(1)
.
والذي أوجبَ لهم دعوى أن النفيرَ في طلب العلم: أنهم رَأوا الضميرَ إنما يعودُ علي المذكور القريبِ، فالمُنْذِرونَ هم النَّافِرُونَ وهم المُتَفَقِّهونَ.
(1)
(ظ): "موضعه".
وجوابُ هذا: أن الضميرَ إنما يرجعُ إلى الأقرب
(1)
عند سلامتِه من معارِضٍ يقتضي الأبعدَ، وقد بَيَّنَّا أن السياقَ يقتضي أن القاعدَ هو المتفَقِّهُ المنذرُ للنافرِ الراجعِ.
والمقصودُ أن "نفر" في الآية ماضٍ، وإنما يفهمُ منه الاستقبال؛ لأن التحضيضَ يؤذِنُ به، والتحقيقُ في هذا الموضِع: أن لفظة "لولا" و"هلَّا" إن تجرَّدَ للتوبيخ لم يتغيرْ الماضي عن وضعِه، وإن تجرَّدَ للتَّحْضيض تَغَيَّرَ إلى الاستقبال
(2)
. وإن كان توبيخًا مُشْرَبًا معنى التَّحضيض صَلَحَ للأمرينِ، وإن وقع بعدَ "كلما" (ظ/267 ب) جازَ أن يُرَادَ به المُضِيُّ كقوله تعالى:{كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] وأنْ يُراد به الاستقبال كقولِه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56].
وقد ظن صاحبُ "التسهيل"
(3)
أنه إذا وقع صِلَةً للموصول جاز أن يُرَادَ به الاستقبالُ محتجًّا بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة: 34]، وهذا وهمٌ منه رحمه الله والفعلُ ماضٍ لفظًا ومعنىً، والمرادُ: إلا الذين تقدَّمَتْ تَوْبَتُهم القُدْرَةَ عليهم، فخلُّوا سبيلَهم، والاستقبالُ الذي لحظه رحمه الله إنما هو لما تضمَّنه الكلامُ من معنى الشرط، ففيه معنى: من تاب قبل أن تقدروا عليهِ فخلُّوا سبيلَه، فلم يجيءْ هذا من قبل الصِّلةِ، ولو تجرَّدَتِ
(4)
الصِّلَةُ عن معنى الشرط، لم يكن الفعلُ إلَّا ماضيًا وضعًا
(1)
(ق): "القريب".
(2)
من قوله "لأن التحضيض. . ."، إلى هنا ساقط من (ظ).
(3)
انظر (4/ 1635، حاشية 2).
(4)
(ع وظ): "تحركت".
ومعنى، كقوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173]، ونظائره.
وأما قولُه: "نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي"
(1)
، فقال صاحب "التسهيل"
(2)
: إن الاستقبال في "سمع" جاء من كونِه وقع صفةً لنكرةٍ عامةٍ، وهذا وهمٌ -أيضًا- فإنَّ ذلك لا يوجِبُ استقبالًا بحالٍ، تقولُ:"كم مالٍ أنفقتَهُ، وكم رجلٍ لقيتَهُ، وكم نعمةٍ كَفَرها أبو جهلٍ، وكم مشهدٍ شهِدَه عليٌّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وإنما جاء الاستقبالُ من جهةِ ما تضمَّنه الكلامُ من الشرطِ، فهو في قُوَّة:"مَن سَمِعَ مقالتي فوعاها نَضَّرَهُ اللهُ"، فتأَمَّلْه.
وكذلك إذا وقعَ (ق/389 ب) مضافًا إليه حيث صَلَحَ للاستقبال إذا تضمَّنتْ معنى الشرط، كقوله تعالى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، فلم يأتِ الاستقبالُ هاهنا من قِبل "حيثُ" كما ظنَّه، وإنما جاء من قِبَل: ما تضمَّنه الكلامُ من الشرط، ولهذا لو تجرَّدَ من الشرط لم يكنْ إلَّا للمضيِّ، كقولك:"اذهبْ حيثُ ذَهَبَ فلانٌ". وأما قول الشاعر
(3)
:
وإني لآتيكم بتذكار
(4)
ما مَضَى
…
من الأمرِ واستحبابِ ما كانَ في غَدِ فلم تكن "كان" هاهنا مستقبلةَ المعنى لكونِها في صلَةِ الموصول،
(1)
أخرجه أحمد: (21/ 60 رقم 13350)، وابن ماجه رقم (236) وغيرهما من حديث أنسٍ رضي الله عنه وله شواهد من حديث جماعة من الصحابة، يُصحح الحديث بها.
(2)
انظر ما تقدم.
(3)
البيت للطرماح "ديوانه": (ص/572 - الملحق)، وهو في "الخصائص":
(3/ 331).
(4)
في النسخ: "بذكر"!.
بدليلِ وقوعِها للمضي في قوله: "ما مَضَى من الأمر"، وإنما جاءَ الاستقبالُ من جهة الظرفِ الذي جُعِلَ وقتًا للفعل.
فصل
وإذا نُفِيَ المضارع بـ "لا" فهل يختَصُّ بالاستقبال أو يصلحُ له وللحال؟
مذهبانِ للنُّحَاةِ؛ مذهب الأخفش: صلاحِيَّتُه لهما، ووافقه ابنُ مالك
(1)
، وزعم أنه لازمٌ لسيبويه، محتجًّا بإجماعهم على صحة. "قامَ القَوْمُ لا يكُونُ زَيْدًا" فهو بمعنى:"إلا زيدًا".
ومن ذلك قولهم: "أتُحِبُّه أمْ لا تُحِبُّهُ؟ " و"أتظنُّ ذلكَ أمْ لا تَظُنُّهُ؟ "، لا رَيْبَ أنه بمعنى الحال، وقولهم:"ما لك لا تَقْبَلُ وأراكَ لا تُبَالي"، قال تعالى:{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [المائدة: 84] و {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] و {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] وزعم الزمخشريُّ
(2)
أنه يَتَخَلَّصُ بها للاستقبالِ أخذًا من قول سيبويهِ
(3)
: "وإذا قال: "هو يَفْعَلُ" ولم يكن الفعلُ واقعًا، فإنَّ نفيَهُ: "لا يفعل" "، وهذا ليس صريحًا في اختصاصِهِ بالمستقبل، فإن (لا) تنفي الحالَ والاستقبالَ، وهو لم يقلْ: لا تنفي الحالَ، وإنما أراد سيبويه أن يفرِّقَ بينَ نفي الفعل بـ "ما" ونفيه بـ "لا" في أكثر الأمر، فقال: "وإذا قال: هو يفعلُ، أي: هو في حالِ فعلٍ، كان نفيُه ما يفعل، وإذا قال: هو يفعلُ، ولم يكن الفعلُ واقعًا، فإن نفيَهُ
(1)
لم أعثر على كلامه.
(2)
في "المفصَّل": (8/ 107 - 108 - مع شرحه لابن يعيش).
(3)
في "الكتاب": (3/ 117).
لا يفعل"، ومعلوم أنَّ "ما" لا يخلصُ الفعل المنفي بها للحالِ، وسيبويه قد جعلَها في فعل الحال كـ "لا" في فعل الاستقبالِ، فعلم أنه إنما أراد الأكثرَ من استعمال الحرفين.
وتأمَّلْ كيف جاءَ نفيُ المضارعِ وهو مرفوع بـ "ما ولا" وهما لا يُزيلانِ رفعه لتشاكُلِ المنفي للمُثْبَتِ، ويقابل مرفوع بمرفوع، والمشاكلةُ مُهِمة
(1)
في كلامِهم، حتى يغيِّروا لها بعضى الألفاظ، كقولِهم: أخذه ما قَدُمَ وما حَدُثَ، والغَدَايا والعَشَايا، ونظائره.
وترجح الحالُ بدحْول لام الابتداء (ق/ 390 أ) عليه نحو: "إني لأحبُّكَ"، وأما قوله تعالى حكاية على يعقوب:{إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف: 13]، وذهابهم مستقبلٌ، وهو فاعلُ الحزن، ويمتنعُ أن يكون الفاعل مستقبلًا والفعلُ حالًا.
فزعم صاحبُ "التسهيل" أن هذا دليلٌ على أن اللام لا تخلصُ للحالية، واحتجَّ أيضًا بقوله:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 124]، ولقائل أن يقول: التخلُّصُ
(2)
إنما يكونُ باللام المجردة، وأما إذا اقترن بالفعل قرينةٌ تخلِّصه للاستقبال، لم تكن اللام للحال، وهذا كـ:"سَوْفَ" كما في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، فلولا هذه القرائنُ لتخلَّصَ للحالِ، وهذا كان مع "لم" كقوله تعالى:{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} [المائدة: 73]، فـ "إنْ" منعتِ اقتضاءَ "لم" للمضي، وأمَّا "الآنَ" و"آنِفًا" و"الساعةَ" فمخلِّصة للحال خلافًا لبعضهم.
(1)
تحتمل: "فهمه".
(2)
(ق وظ): "التخليص".
واحتجَّ بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] والأمر إنما يكونُ للمستقبل، وقد عمل في "الآن".
وأجيبَ (ظ/268 أ) عن ذلك بأنَّ "الآن" هنا هو الزَّمَنُ المُتَّصِلُ أوَّلُه بالحالِ مستمرًّا في الاستقبال، فعبَّر عنه بـ "الآن" اعتبارًا بأوله، كقوله تعالى:{فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)} [الجن: 9]، والصواب أن "الآنَ" في الآية ظرفٌ للأمر والإباحة لا لفعلِ المأمور به، والمعنى: فالآنَ أَبَحْتُ لكم مباشَرَتَهُنَّ، لا أن المعنى: فالآن مُدَّةُ وقوع المباشرة منكم، وترجح الحاليَّة بنفيه بـ "ما وليس وإن" كقوله:{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، وكقوله:{وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109]، ومثالُ نفيه: بـ "ليس" قولُ الشاعر
(1)
:
ولستُ وبَيْتِ اللهِ أَرْضَى بِمِثْلِها
…
ولكنَّ مَنْ يَمْشِي سَيَرْضَى بِما رَكِبْ
وأما قوله
(2)
:
فما مِثْلُه فيهمْ ولا كانَ قَبْلَهُ
…
وليس يكونُ الدَهْرَ ما دامَ يَذْبُلُ
فإنما جاء للاستقبال من تقسيم النفي إلى ماض وحال ومستقبل.
وقال ابن مالك: لا يخلصُه النفيُ بذلك للاستقبال، واحتجَّ بهذا البيت، وبقوله
(3)
:
والمرءُ سَاعٍ لأَمْرٍ ليسَ يُدْرِكُهُ
…
والعَيْشُ شُحٌّ وإشْفَاقٌ وَتَأْمِيلُ
(1)
ذكره الزمخشري في "المستقصى": (2/ 380)، ولم ينسبه، وعجزه يروى لجحظة البرمكي في "ديوانه"(ص/37)، وصدره:"ولا عن رضى كان الحمار مطيتي".
(2)
البيت لحسَّان بن ثابت رضي الله عنه "ديوانه": (1/ 433) من قصيدة يمدح بها الزبير رضي الله عنه.
(3)
البيت لعبدة بن الطبيب، "ديوانه":(ص/ 75).
وبقول أبي ذُؤَيْب
(1)
:
أَوْدَى بَنِيَّ وأودعوني حَسْرَةً
…
عندَ الرُّقَادِ وعَبْرَةً ما تُقْلِعُ
وبقول [الأعشى]
(2)
يمدحُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم:
له نافلاتٌ ما يُغِبُّ نَوَالَها
…
وليس عَطَاءُ اليومِ مانِعَهُ غدًا
وبقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15].
والتحقيقُ في ذلك: أن هذه الأدواتِ تنفي الفعلَ المبتدئَ من الحال، مستمر النفي في الاستقبال، فلا تنفيه في الحال نفيًا منقطِعًا عن التَّعَرُّضِ للمستقبلِ، ولا تنفيه في المستقبلِ، مع جوازِ التَّلَبُّس به في الحال، فَتَأَمَّلْهُ.
وتتخلّصُ للاستقبال بعشرة أشياء: (حرف تنفيس، (ق/ 390 ب) أو مصاحبة ناصب، أو أداة تَرَجٍّ، أو إشفاق كـ "لعل"، أو مجازاة، أو نوني التوكيد، أو "لو" المصدرية)، كقوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم: 9]، ومثال الإشفاق، قول الشاعر
(3)
:
فأمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولكِنْ
…
عسى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ
* * *
(1)
انظر "ديوان الهذليين": (1/ 2)، و"المفضليات":(ص/421)، والبيت فيه:
أوْدَى بنيَّ وأعْقَبُوني غُصَّةً
…
بَعْدَ الرُّقادِ وعَبْرةً لا تُقْلِعُ
(2)
في الأصول: "النابغة"، وهو خطأ. والبيت للأعشى "ديوانه":(ص/ 137) والبيت فيه:
له صدقاتٌ ما تُغِبُّ ونائلٌ
…
وليس عطاءُ اليومِ مانِعَهُ غدا
(3)
البيت في "الكتاب": (3/ 159)، و"الخزانة":(9/ 328) غير منسوب.
فائدة
قوله في الحديث الصحيح: "إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ"
(1)
يجوز فيه وجهان:
فتحُهما معًا، وهو الأشهرُ والأفصحُ، وهما مبنيانِ على الفتح، للتركيب المتضمن للحرف
(2)
كقولهم: "هو جاري بيتَ بيتَ" والمعنى: بيتُهُ إلى بيتي، ومنه قولهم:"همزة بَيْنَ بَيْنَ"، و"فُلانٌ يأتيكَ صَبَاحَ مَسَاءَ ويَوْمَ يَوْمَ"، و"تَرَكوا البلادَ حيْثَ بَيْثَ وحاثَ باثَ"، و"وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ". وأصل هذا كله:"خَمْسَةَ عَشَرَ" وبابه، فإن أصلَهُ قبلَ التركيبِ العطفُ، فرُكِّب وبُني لتضمُّنِه معنى حرف العطف، ولا كذلك:"بَعْلَبَكُّ" وبابُه؛ لأن الاسمين في "خمسة عشر" مقصود دلالتهما قبل التركيب بخلاف "بَعْلَبَكَّ".
الوجه الثاني: بناء "وراءَ وراءَ" على الضمِّ كالظروف المقطوعة على الإضافَةِ، ورجح هذا بعضُ المتأخرين محتجًّا بما أنشده الجوهري في "صحاحه"
(3)
بالضم:
إذا أَنا لَمْ أُؤْمَنْ عليْكَ ولم يَكُنْ
…
لِقَاؤُكَ إلَّا مِنْ وَرَاءُ وراءُ
(4)
هكذا أنشده بالضمِّ، وعلى هذا فـ "وراء" الأولى بُنيت كبناء "قبلُ وبعدُ" إذا قُطِعَتا، وفي الثانية أربعة أوجهٍ:
(1)
أخرجه مسلم رقم (195) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
(2)
(ظ): "للحذف".
(3)
(6/ 2523).
(4)
وذكره في "الكامل": (1/ 85) منسوبًا إلى عُتَيّ العُقَيلي.
أحدها: أن يكونَ بناؤُها كذلك أيضًا على تقديرِ "مِن" فيها أي: "مِنْ وراءُ منْ وَرَاءُ"، حُذِفت "منْ" اكتفاء بالأولى.
الثاني: أن تكون تأكيدًا لفظيًّا للأولى، وتَبِعَتْها في حركةِ البناء لقُوَّتِها، ولأنَّ لها أصلًا في الإعراب وبناؤُها عَارضٌ، فهي كحركةِ المنادى المفرد، كقولك:"يا زيدُ زَيْدٌ".
الثالث: أن يكونَ بَدَلًا منها.
الرابع: أن يكون عَطْفَ بيان
(1)
، كقوله
(2)
:
إنِّي وأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرًا
…
لَقَائِلٌ: يا نَصْرُ نَصْرٌ نَصْرًا
وهذان الوجهانِ عند التحقيقِ لا شيء؛ لأن الشيءَ لا يبدَلُ بنفسِه إلَّا باختلافٍ مَّا في تعريف وتنكير، أو إظهارٍ وإضمارٍ، ومع الاتِّحادِ من كلِّ وجهٍ لا يبدلُ أحدُهما من الآخر لخلوِّ هذا الإبدال عن الفائدة، وكذلك عطفُ البيان، فإنَّ الشيءَ لا يَتَبَيَّنُ بنفسِه، ولا يُفْهَم حقيقة عطفِ البيان بينَ لفظينِ متساويينِ من جميعِ الوجوهِ.
وعلى الوجهِ الأوَّلِ وهو فتحهُما ففيهما وجهانِ:
أحدهما: البناءُ كما تقدَّم تقريره.
والثاني: الإعرابُ، وتكون فتحةُ "وراءَ" فتحةَ إعراب، ولكنه غيرُ منصرف، وتقريره: أن "وراءَ" لما لم يقصدْ بها قصدَ مضافٍ بعينه صارت كأنها اسمٌ مستقبل بنفسِهِ، وهو عَلَمٌ جنسيٌّ لمطلَقِ الخلفية
(1)
من قوله: "وبناؤها عارض. . ." إلى هنا ساقط عن (ق).
(2)
الرَّجَز لرؤية بن العجاج "ديوانه": (ص/ 147 - الملحق)، وانظر "الكتاب":(2/ 185)، و"الخصائص":(1/ 340).
والكلمةُ مُؤنَّثةٌ، فاجتمعَ فيها التأنيثُ والعَلَمِيَّةُ فمُنِعت الصرف. وعلى هذا (ق/ 391 أ)، ففي "وراءِ" الثانية الأوجهُ الأربعةُ التي تقدَّمَتْ في المضمومةِ، ويدُلُّ (ظ/268 ب) على صحَّة ما ذكرناه ما وقع في بعض روايات الحديثِ:"مِنْ وَرَاءَ مِنْ وَرَاء"
(1)
بِتَكرارِ "مِنْ" في الموضِعَيْنِ وفتح "وراء"، وهذا ينفي التركيبَ، فيتعيَّنُ به الإعرابُ ومنع الصرف، والدليل على تأنيث الكلمة: أن الجوهريَّ نصَّ في كتابه على تأنيثها فقال: "وهي مؤنثةٌ لأنهم قالوا في تصغيرِها: "وُرَيْئَةٌ" ".
قلت: ولكن ليس تأنيثُها بالهمزة الممدودة، بل تأنيثها معنويٌّ لا علامةَ له؛ لأن
(2)
ما تأنيثُه بالهمزة إذا صُغِّرَ لم تقعِ الهمزةُ في حشوِهِ كـ: "حمراءَ"، فلما قالوا:"وُرَيْئَةٌ" علم أن همزتها ليستْ للتأنيثِ، بل تأنيثُها كتأنيثِ "قوس" و"أُذن"، ونحوهما. وقد حُكِيَتْ في هاتينِ الكلمتينِ أربعةُ أوجهٍ أُخَرَ:
أحدها: "من وراءِ وراءِ" بكسر الهمزة فيهما، وهي كسرةُ بناء.
الثانية: "من وراءَ وراءُ" بفتح الأولى وضم الثانية، ووجهه إضافة الأولى إلى الثانية، فأُعْرِبت الأولى وبُنِيتِ الثانيةُ على الضَّمِّ، قالوا: فتكون الأولى ظرفًا منصوبًا، والثانية غايةً مقطوعةً.
قلت: وتصحيحُ هذا يستلزمُ أن يكونَ "وراءُ" صفةً لمحذوفٍ ليصِحَّ تقديرُ الظرفية فيه
(3)
، فيكون تقديرُه: من مكان وراء، وإلا فمع
(1)
لم أعثر على من أخرجها؛ لكن قال القرطبي في "تفسيره": (11/ 199): "ووقع في بعض نسخ مسلم: "من وراء من وراء" بإعادة "من"" أهـ.
(2)
(ع): "لكن".
(3)
من (ق).
مباشرة "من" لا ينتصبُ ظرفًا.
الثالثة: "من وراءَ وراءَ" بالنصب فيهما على الظَّرفيَّةِ، ووجهه ما أشرنا إليه من تقدير موصوف محذوف أي:"منْ مكانٍ وراءَ وراءَ".
الرابعة: "من وَرَاءِ وراءَ" بكسر الأولى وفتح الثانية، فتجرُّ الأولى بإضافَتِها، وتعرب الثانية إعرابَ غيرِ المنصرف، كقولك: "من أحمرِ
(1)
عثمانَ"، وموضوع هذه الكلمة كـ: خَلْفَ ضدَّ أمَامَ.
وذهب بعض المفسِّرينَ واللُّغويينَ إلى أنها قد تأتي بمعنى "أمام" فتكونُ مشتركةً بينهما، واحتجَّ بأمرين:
الأول: قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)} [إبراهيم: 16] وجهنَّمُ
(2)
إنما هي
(3)
أمام الكافر، وكذلك قوله:{وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} [إبراهيم: 17] وإنما العذابُ الغليظُ أمامَهُ، وفيما يستقبلُهُ.
الثاني: قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] أي: أمامُهم، بدليل قراءة عبد الله بن عباس:{وكانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ}
(4)
.
وهذا المذهبُ ضعيفٌ، و"وراءُ" لا يكونُ "أمامًا"، كما لا يكون "أمامُ""وراءً" إلّا بالنسبة إلى شيئين، فيكون أَمَامَ الشيء وراءً لغيرِه"، ووراءَ الشيء أَمَامًا لغيرِه، فهذا الذي يعقلُ فيها، وأما أن يكونَ وراءُ
(1)
في المطبوعات: "أحجر".
(2)
"ويسقى من ماء صديد، وجهنم" ساقط من (ع).
(3)
(ع): "أي: هو".
(4)
أخرجه البخاري رقم (4725)، ومسلم رقم (2380).
زيْدٍ بمعنى أمامه فكَلَّا.
وأما ما استدلُّوا به فلا حُجَّة فيه؛ فأما قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16]، فالمعنى أنه ملاقٍ جهنَّمَ بعدَ موتِهِ، فهي من بعدِهِ (ق/391 ب) أي: بعدَ مفارقَتِهِ الدنيا، فهي لما كانت بعدَ حياتِهِ كانت وَرَاءَه؛ لأن "وراءَ" كـ "بعدَ"، فكما لا يكونُ "بَعْدُ قَبْلَ" فلا يكون "وَرَاءُ أمامَ"، وأنت لو قلت: جهنَّم بعدَ موتِ الكافرِ، لم يكن فيها معنى "قبلَ" بوجهٍ، فوراءُ هاهنا رمانٌ لا مكانٌ، فتأمَّلْه.
فهي خَلْفَ زمانِ حياته وبعدَهُ، وهي أمامَهُ ومستقبِلَتَهُ، فكونها خَلْفًا وأمامًا باعتبارين، وإنما وقعَ الاشتباهُ لأن بعدية الزمان إنما يكونُ فيما يُسْتَقْبَلُ أمامَكَ، كقولك:"بعدَ غَدٍ" وورائية المكانِ فيما تَخَلَّفَ وراءَ ظهرِكَ، فـ:{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} ورائية زمان لا مكان.
وهي إنما تكونُ في المستقبل الذي هو أمامَك، فلما كان معنى "أمام" لازمٌ لم ظنَّ من ظنَّ أنها مشتركَةٌ، ولا اشتراكَ فيها، وكذلك قوله:{وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} ، وكذلك:{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} .
وأما قولُه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} فإنْ صحَّتْ قراءةُ: {وكانَ أمَامَهُمْ مَلِكٌ} ، فلها معنى لا يناقِضُ القراءةَ العامَّةَ، وهو أنَّ المَلِكَ كان خَلْفَ ظهورهِم وكان مرجِعُهم عليه، فهو وراءَهم في ذَهابِهم، وأمَامَهم في مَرْجِعِهم، فالقراءتانِ بالاعتبارينِ، واللهُ أعلمُ.
فائدة
قولهم: "البَدَلُ في نِيَّةِ تَكرارِ العامل" إنْ أريدَ به أن العاملَ فيه غيرُ العامل في متبوعِهِ فلابُدَّ من إعادَتِهِ، إمَّا ظاهرًا وإمَّا مقدَّرًا -كما هو مذهب ابن خَرُوفٍ وغيره- فضعيف جدًّا، وهو مخالفٌ لمذهبِ
سيبويه، فإن الذي دلَّ عليه كلامُهُ أنَّ العاملَ فيهما هو الأوَّلُ، ويتعيَّنُ هذا، لأنَّ من المبدلات ما يُبدَلُ من مجرورٍ ومجزومٍ ولا يُعَادُ عامِلُهُ
(1)
، فلو كان العاملُ مقدَّرًا لزم اطِّرادُ إضمارِ الجارِّ والجازمِ في الإبدالِ من المجرورِ والمجزومِ
(2)
وهو ممتنعٌ.
والذي أوجبَ لهم ما ادَّعَوْهُ أمرانِ:
أحدهما: أنهم رَأَوُا البَدَلَ كثيرًا ما يُعادُ معه العاملُ، كقوله تعالى:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] ولم يَرَوْهُ معَادًا مع غيرِه من التَّوابِع إلا نادرًا.
الثاني: أن البدلَ هو المقصودُ بالذكر، والأوَّلُ في نِيَّةِ الإطِّراحِ، فلما كان هو المقصودَ كانت مباشرتُه بالعامل أولى بخلافِ بقيَّةِ التَّوابعِ، فإنَّ المقصودَ في النعتِ وعطفِ البيان والتأكيد هو الأوَّلُ، (ظ/ 269 أ) والثاني توضيحٌ وتبيينٌ.
وأما عطفُ النَّسَقِ وإن قُصِدَ فيه التابعُ والمتبوعُ فالمعطوفُ في ثانٍ تابعٌ لمقصودٍ فاكْتُفي فيه بالعامل (ق/392 أ) الأوَّلِ، ولا حُجَّةَ في شيءٍ من ذلك، أما الأوَّلُ فمجيء البَدَلِ خاليًا من تَكْرار العامل أكثر من اقترانِهِ بإعادةِ العامل، وإنما أعيدت اللامُ في الآيةِ لمزيدِ البيانِ والاختصاص، وأن القولَ من المستكبِرِينَ إنما كان للمؤمنينَ المُستضعَفينَ خاصَّةً.
ونظيرُ إعادة اللام هاهنا إعادتُها في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114]، وإذا كانوا يزيدونَ اللام في قولهم:"لا أبا لَكَ" مع شدَّة ارتباطِ المضافِ بالمضاف إليه لقصدِ الاختصاصِ
(1)
(ق): "عليه".
(2)
من قوله: "ولا يعاد عامله. . ." إلى هنا ساقط من (ظ).
والتَّبيين، فالإتيانُ بها في مثل هذه الآية أوْلى وأقوى، ولهذا لم يُعَدْ في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وفي قوله:{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 15 - 16]، وفي قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ} [الفاتحة: 6 - 7]، ولا في قوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 - 53] الآية، ولا في قوله:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان: 68 - 69]، ولا في قوله:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)} [النبأ: 31 - 32] فنظائره أكثر من أن تُذْكَرَ.
وأما استدلالُهم بأن المبدَل منه في نيَّة الطرح، والمقصودُ مباشرةُ العاملِ للمبدَل
(1)
؛ فغيرُ صحيح. فإنَّ الأوَّلَ مقصودٌ أيضًا ولكن ذُكِرَ توطئةً للمبدلِ منه، ولم يُقْصَدْ طرحُهُ، ويدلُّ عليه قولُ الشاعر
(2)
:
إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَوَاحَها
…
تَرَكَتْ هَوَازِنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ
فجعلَ الخبرَ للسيوفِ، وألغى البَدَلَ وجعلَه كالمطَّرَحِ، إذ لو لم يُلْغِهِ لقال: تركا، وإنما يكون الأوَّلُ في نيَّةِ الطَّرْح في نوعينِ من البَدَل، وهما: بَدَلُ البَدَاءِ والغلطِ، والأكثرُ فيهما أن يقعا بعد "بل"، والله أعلمُ.
فائدة
البدلُ والمبدَلُ إما أن يَتَّحِدا في المفهوم، أَوْ لا، فإنِ اتَّحدا فهو المسمَّى بَدَلَ الكُّلِّ من الكل، وأحسنُ من هذه التَّسْمِيَةِ أن يُقَالَ: بدلُ
(1)
(ع): "للبدل".
(2)
هو: الأخطل، "ديوانه":(ص/36).
العينِ من العينِ، وبعضُهم يقول: بدلُ الموافقِ من الموافقِ؛ لأن هذا البَدَلَ يجري فيما لا يقبلُ التبعيضَ والكلّ، كقوله تعالى:{إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1] وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 - 53] ونحوه.
وإن لم يتَّحدا في المفهوم، فإمَّا أن يكونَ الثاني جُزءًا
(1)
من الأوَّلِ، أَوْ لا، فإن كان جُزْءًا منه فهو بَدَلُ البعضِ من الكلِّ، وإن لم يكنْ جُزْءَهُ فإمَّا أن يَصِحَّ الاستغناءُ بالأوَّلِ عن الثاني أوْ لا، فإن صحَّ (ق/392 ب) فهو بَدَلُ الاشتمال بمُلابِس، إما وصف أو فعل أو ظرف أو مجاور أو مقصود من العين أو يكونُ مظروفًا
(2)
للأول.
فالأول: كقولك: "أَعْجَبَنِي زَيْدٌ حُسْنُهُ".
والثاني: كقولك: "أَعْجَبَنِي زَيْدٌ صَلَاتُهُ".
والثالث: "أَعْجَبَنِي زَيْدٌ دارُهُ".
والرابع: "أَعْجَبَنِي زَيْدٌ ثِيَابُهُ".
والخامس: "دُعِيَ زَيْدٌ للطَّعامِ أَكْلِهِ".
والسادس: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217].
وهل
(3)
الأوَّل مشتملٌ على الثاني، أو الثاني على الأول، أو العاملُ مشتملُ عليهما؟ ثلاثة أقوال لا طائلَ تحتَها، وكلُّها صحيحةٌ؛ لأنَّ الملابَسَةَ حاصلةٌ بن الأول والثاني، وهي المرادةُ من الاشتمالِ.
(1)
(ق): "خبرًا" وهكذا، وقعت في نظائر الكلمة!.
(2)
(ق): "ظرفًا".
(3)
(ع): "وهذا".
وأما اشتمالُ العامل عليهما وإن عمَّ سائرَ أقسام البَدَلِ فسمِّي هذا النوعُ به؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من الأنواع اختُصَّ باسمِهِ، فأعْطِيَ الاسمَ العامَّ لهذا النوعِ من البَدَلِ.
وإن لم يصحَّ الاستغناءُ بالأول، فإما أن يكونَ المتكلِّمُ قد قصده ثم أرادَ إطِّرَاحَهُ، أو لم يقصدْه، فإن كان قَصَدَهُ فهو بَدَل البَدَاءِ، وإن لم يقصدْه فهو بَدَلُ الغَلَطِ.
فمثال الأول: أن تقول: "أعْطِ السَّائِلَ رَغِيفًا" ثم تَرِقّ عليه فتقول: "دينارًا".
ومثال الثاني: أن تقول: "أكلتُ لَحْمًا" ثم تذكرُ
(1)
فتقول: "خُبْزًا".
فائدة
قد تبدلُ الجملةُ من الجملةِ
(2)
-كبَدَل الفعلِ من الفعل- والجملَة من المفرد، كقولك:"عَرَفْتُ زَيْدًا أبُو مَنْ هو" قال ابنُ جِنِّي: ومنه قول الشاعر:
إلى اللهِ أشكو بالمدينةِ حاجةً
…
وبالشَّامِ أخرى، كيف يلتقيانِ
(3)
قال: "فكيف يلتقيانِ" بَدَلٌ من "حاجةٍ"، كأنه قال: إلى اللهِ أشكو هاتينِ الحاجتينِ، تعذر التقاؤُهما.
ويبدل المفردُ من المفرد، وأما بدلُ المفردِ من الجملةِ (ظ/269 ب)
(1)
(ع وق): "يتذكر".
(2)
(ظ): "الكلمة من الكلمة".
(3)
نُسِب البيت للفرزدق ولم أجده في ديوانه، وهو من شواهد "المغني":(1/ 207)، و"التوضيح":(3/ 408 - مع شرحه).
فلا يُتَصَوَّرُ إلّا أن تكونَ الجملةُ في تأويلِ المفردِ
(1)
، فيصحُّ إبدال المفرَدِ من معناها لا من لفظِها، كقولك:"أَزُورُكَ يَوْمَ يُعَافِيكَ اللهُ يَوْمَ السُّرورِ".
فائدة
لا يشترطُ في بَدَل النَّكِرة من المعرفة اتحادُ اللفظين، وشَرَطَهُ الكوفيُّون. محتجِّينَ
(2)
بقوله تعالى: {بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ} ، واحتج البصريُّونَ بقول الشاعر
(3)
:
فَلَا وأَبِيكَ خَيْرً منْكَ أَني
…
لَيُؤْذِيني التَّحَمْحُمُ والصَّهِيلُ
(4)
فائدة
يشتركُ المصدر واسمُ الفاعل في عملِهما عملَ الفعل، ويفترقانِ في عشرة أحكامٍ:
الأول: أن اسمَ الفاعلِ يتحمَّلُ ضميرًا مستترًا، نحو:"هذا ضَارِبٌ زَيْدًا"، والمصدر لا يتحمَّلُهُ. فإذا قلتَ:"يُعْجِبُني أكْلُ الخُبْزِ" لم يكن في "أَكْل" ضميرٌ، فقيل: لأنه ليس بمشتقٍّ، والضميرُ إنما يحملُهُ المشتقَّاتُ.
(1)
من قوله: "وأما بدل. . ." إلى هنا ساقط من (ق).
(2)
(ق): "محتجون".
(3)
هو: شمير بن الحارث الضبي، انظر "النوادر":(ص/124) لأبي زيد، و"الخزانة":(5/ 179).
(4)
هنا انتهت نسخة (ق)، وجاء في آخرها ما نصُّه. "تم بحمد الله وعونه على يد الفقير إلى الله تعالى محمد بن سالم [التحريري المؤذن غفر الله له] ولقارئه ولمالكه ولمن ينظر فيه، ويدعو لهم بالمغفرة ولوالديهم ولجميع المسلمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا كثيرًا.
وكان الفراغ من تعليقه: يوم الأربعاء من شهر رجب الفرد سنة أربع وسبعين وثمانمئة".
الحكم الثاني: أن المصدرَ يعملُ بمعنى المضيِّ والحال والاستقبال، لأنه أصلُ الفعل، واسمُ الفاعل يختصُّ عملُه بما إذا كان في معنى الحالِ أو الاستقبالِ؛ لأنه يتحمَّلُهُ
(1)
لشبهِهِ بالفعلِ المُضارعِ الذي لا يكونُ إلا لأحدِهما.
الثالث: أن المصدرَ يضافُ إلى الفاعلِ والمفعولِ، كما يُسَلَّطُ الفعلُ عليهما، واسمُ الفاعل لا يضافُ إلى الفاعلِ لاستحالَةِ إضافَتِه إلى نفسِه.
الرابع: أن اسمَ الفاعل يعملُ فيما قبلَه، والمصدرُ لا يعملُ فيما قبلَهُ. وسرُّ الفرقِ أن المصدر في تقدير "أن" والفعل، فمعمولُه من صِلَتِه، فلا يتقدَّمُ عليه، بخلاف اسم الفاعل.
الخامس: أن إضافَةَ اسمِ الفاعلِ لا يُفيدُ التعريفَ إلَّا إذا كان بمعنى المضيِّ، وإضافةُ المصدر تُفيدُ التعريفَ مطلقًا.
السادس: أن الأَلِفَ واللامَ إذا دخلتْ على اسم الفاعل كانت موصولةً، وإذا دخلتْ على المصدر لم تكنْ موصولةً، ومن
(2)
الفرق عَوْدُ الضمير عليها من اسم الفاعل دونَ المصدَرِ.
السابع: أن المصدرَ ينعقدُ منه ومن معمولِهِ كلامٌ تامٌّ
(3)
، لا يفتقرُ إلى شيء قبلَهُ، نحو:"ضَرْبًا زَيْدًا" واسم الفاعل لا ينعقدُ منه ومن معمولِهِ كلامٌ تامٌّ حتى يعتمدَ على شيءِ قبلَهُ، نحو:"هذا ضَارِبٌ زَيْدًا" و"جَاءَنِي مُكْرِمٌ عَمْرًا".
(1)
(ع): "عمله".
(2)
لعلها: "وسِرُّ".
(3)
(ظ): "كلامًا تامًّا".
الثامن: أن جهةَ عملِ المصدرِ كونُهُ أصلًا للفعل، وجهةُ عملِ اسمِ الفاعلِ كونُهُ فَرْعًا على الفعل.
التاسع: أن إضافَةَ المصدرِ لا يمنعُ من نصبِهِ بمفعولِه، وإضافة اسمِ الفاعل تمنعُ من نصبِهِ مفعولَهُ، إلَاّ أنْ يَتَعَدَّى فعلُه إلى أكثرَ من واحدٍ، فينتصبُ حينئذٍ ماعدا المفعولَ الأولَ.
العاشر: أن الألفَ واللامَ إذا دخلتْ على المصدر أذهبتْ عَمَلَهُ، فـ "لمْ أَنْكُلْ عن الضَّرْبِ مِسْمَعًا"
(1)
شاذٌّ نادرٌ، وإذا دخلتْ على
(2)
اسم الفاعل قَوَّتْ عَمَلَهُ، ولهذا لا يعملُ بمعنى المضي، فإن اقترنَتْ به الألفُ واللامُ
(3)
عَمَلَ، تقول:"هذا الضَّارِبُ زَيْدًا أَمْسِ" وسرُّ
(4)
الفرق أنَّ الألفَ واللام فيه موصولة، تقوي جانب الفعلية فيه، بخلافها في المصدر.
فائدة
"إما" لا تكونُ من حروفِ العطفِ لأربعة أوجُهٍ:
أحدها: أنك
(5)
تقول: "ضَرَبْتُ إمَّا زَيْدًا وإمَّا عَمْرًا" فتذكرُهُ قبلَ معمولِ الفعلِ، فلو كانت "إما" من حروفِ العطفِ لكنتَ قد عطفتَ
(1)
قطعة من بيت لمرار الأسدي -وقيل: مالك الباهلي- هو:
لقد عَلِمت أولى المغيرةِ أنني
…
لحقتُ فلم أَنْكل عن الضرب مِسْمَعا
انظر: "الكتاب": (1/ 193)، و"الخزانة":(3/ 439).
(2)
من قوله: "المصدر أذهبت. . ." إلى هنا ساقط من (ظ).
(3)
(ظ): "أل" وكذا ما بعدها.
(4)
(ع): "ومن".
(5)
(ع): "أن"، وكذا في الثالث.
معمولَ الفعلِ عليه وهو ممتنعٌ، فلما وقعتْ "إما" بينَ الفعل ومعمولِهِ عُلِم أنها ليستْ بعاطِفَةٍ.
الثاني: أنك تقولُ: "جَاءَنِي إمَّا زَيْدٌ وإمَّا عَمْرٌو"
(1)
فتقعُ "إما" بين الفعلِ والفاعلِ، ومعلومٌ أنَّ الفاعلَ كالجزءِ من الفعل، فلا يصحُّ الفصلُ بينهما بالعاطفِ.
الثالث: أنك تقول: "وإما عَمْرو" فتُدْخِل الواو عليه، ولو كانت حرفَ عطفٍ لم يدخلْ عليها حرفُ عطفٍ آخَرُ، كما لا تقول:"ضَرَبْتُ زَيْدًا وأوْ عَمْرًا".
الرابع. أن العطفَ لابُدَّ أن يكونَ عطفَ جملةٍ على جملةٍ، أو مفردٍ على مفرَدٍ، وإذا قلت:"ضربتُ إمَّا زَيْدًا وإمَّا عَمْرًا" فـ "إما" الأولى لم تعطفْ زيدًا على مفردٍ، ولا يصِحُّ عطفُه على الجملة بوجهٍ، فالصوابُ أن حروفَ العطفِ تسعةٌ لا عَشَرَةٌ.
فائدة
إذا قلت: "جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو" فله معنيانِ:
أحدهما: أنك نفيتَ المجيءَ عن زيدٍ وأثبتَّهُ لعَمرو، وعلى هذا فيكونُ إضرابَ نفي.
والثاني: أنك أثبتَّ لعمروٍ المجيءَ كما أثبتَّهُ لزيدٍ، وأتيتَ بـ "بل" لنفيِ الاقتصارِ على الأوَّلِ لا لنفيِ الإسنادِ إليه، بل لنفيِ الاقتصارِ على الإسنادِ (ظ/ 270 أ) إليه، ويُسَمَّى: إضرابَ اقتصارِ، وهذا أكثرُ استعمالها في القرآنِ وغيرِه، كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ
(1)
(ظ): "جاءني زيد إما عَمرو".