الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فائدة
ليس من شرط الدليل اندراجه تحتَ قضية كليةٍ
يكون بها جزءًا من قياس شمول
(1)
، ولا استلزامه نظيرًا يكون به قياس تمثيلٍ، بل يجوز كونه معينًا مستلزمًا لثبوتٍ معينٍ، وإنما شرطه اللزوم فيما كان بينهما تلازمٌ شرعًا أو عقلًا أو عادةً استدل فيه بثبوت الملزوم على ثبوت لازمه، وبنفي اللازم على نفي ملزومه، فكل ملزوم دليلٌ على لازمه، والعلم بدلالته متوقف على العلم به، وعلى العلم بلزومه
(2)
، ولهذا كانت أدلَّة التوحيد والمعاد والنبوات التي في القرآن آيات ودلالات معيَّناتٍ مستلزمةً لمدلولها بنفسها، من غير احتياجٍ إلى اندراجها تحت قضيةٍ كلية، فالمخلوقات جميعها وما تضمَّنته من التخصيصات والحكم والغايات مستلزمةٌ للخالق سبحانه عينًا، بخلاف ما يزعم كثيرٌ من النُّظَّار أنه دليلٌ لقولهم:"كلُّ ممكنٍ مفتقرٌ إلى واجب، وكلُّ محدث مفتقرٌ إلى محدثٍ"، فإنَّ هذه القضية الكليَّة بعد تعبهم
(3)
في تقريرها ودفع ما يعارضها، لا يدلُّ على مطلوبٍ معينٍ وخالقٍ معينٍ، إنما يدلُّ على واجبٍ ومحدثٍ ما.
وأما آياته سبحانه وأدلَّة توحيده، وما أخبر به من المعاد وما نصبه
(4)
من الأدلَّة لصدق رسله، فلا يفتقر في كونها آياتٍ إلى قياس شموليٍّ ولا تمثيليٍّ، وهي مستلزمةٌ لمدلولها عينًا، والعلم بها مستلزمٌ
(1)
(ق): "شمولي".
(2)
من قوله: "فكل ملزوم
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
(3)
رسمها في (ق): "لعربهم".
(4)
(ق): "تضمَّنه".
للعلم بالمدلول لا يتخلَّف عنه، فانتقال الذهن منها إلى المدلولِ انتقالٌ بيِّنٌ في غاية البيان
(1)
، وهو كانتقال الذهن من رؤية الدخان إلى أن تحته نارًا، ومن رؤية الجسم المتحرِّك قسرًا إلى أنَّ له محرِّكًا، ومن رؤية شعاع الشمس إلى العلم بطلوعها، ونظائر ذلك، فالعلم بمفردات هذه القضايا الكلِّيَّة أسبق إلى الذهن وأظهر
(2)
من القضية الكلِّيَّة، بل لا تتوقَّف دلالتها على القضيَّة الكلية البتة، وعلم العقلِ بمدلول الآية المعيَّنة الحسِّيَّة كعلم الحسِّ بتلك الآية لا فرق في العلم بينهما، إلا أن الآية تدرك بالحسِّ ومدلولها بالعقل، فعلمُ العقل بثبوت التوحيد والمعاد والنُّبوَّات وجزمه بها كجزم الحس بما يشاهد من آياتها المشهودة.
فائدة
الفعل بالنسبة إلى التَّكليف
(3)
(ق / 383 أ) نوعان:
أحدهما: اتَّفق الناس على جوازه ووقوعه
(4)
، واختلفوا في نسبة إطلاق القول عليه، بأنه لا يطاق،
والثاني: اتَّفق الناس على أنه لا يطاق، وتنازعوا في جواز الأمر به، ولم يتنازعوا في عدم وقوعه، ولم يثبت بحمد الله أمرٌ اتفق المسلمون على فعل كلِّف به العبد، وأطلقوا القول عليه بأنه لا يُطَاقُ،
(1)
زاد في (ع): "وأظهر".
(2)
(ع): "والحركة".
(3)
(ق): "بالتكليف إلى النسبة".
(4)
(ق): "جواز وقوعه".
وللمسألة ثلاثةُ مآخِذَ:
أحدها: أنَّ الاستطاعة مع الفعل أو قبله، والصواب أنها: نوعان؛ نوعٌ قبلهُ، وهي المصحِّحة للتَّكليف التي هي شرطٌ فيه، ونوعٌ مقارنٌ له، فليست شرطًا في التَّكليف.
المأخذ الثاني: أنَّ تعلُّق علم الله سبحانه بعدم وقوع الفعل هل يخرجه عن كونه مقدورًا للعبد؟ فمن أخرجه عن كونه مقدورًا قال: الأمر به أمرٌ بما لا يطاق، ومن لم يخرجه عن كونه مقدورًا لم يطلق عليه ذلك، والصواب: أنه لا يخرجه عن كونه مقدورًا القدرة المصحِّحة، التي هي مناط التكليف وشرطٌ فيه، وإن أخرجه عن كونه مقدورًا القدرة الموجبة للفعل المقارنة له.
المأخذ الثالث: أن ما
(1)
تعلَّق علم الله بأنه لا يكون من أفعال المكلَّفين نوعان:
أحدهما: أن يتعلق بأنه لا يكون لعدم القدرة عليه، فهذا لا يكون ممكنًا مقدورًا ولا مكلَّفًا به
(2)
.
والثاني: ما تعلَّق بأنه لا يكون لعدم إرادة العبد له، فهذا لا يخرج بهذا العلم عن الإمكان، ولا عن جواز الأمر به ووقوعه.
ولهذا مأخذٌ رابع -وهو من أدقَّها وأغمضها- وهو: أنَّ ما علم الله أنه لا يكون؛ لعدم مشيئته له ولو شاءه من العبد لفعله، هل تخرجه عدم مشيئة الرَّبِّ تعالى له عن كونه مقدورًا، ويجعل الأمر به
(1)
من قوله: "مقدورًا القدرة
…
" إلى هنا ساقط من (ع).
(2)
(ع): "لا يكون مقدورًا به"، و (ق):"لا يكون مقدورًا ملكًا ولا مكلفًا به".
أمرًا بما لا يطاق؟ والصواب: أن عَدَمَ مشيئة الرَّبِّ له لا يخرجه عن كونه ممكنًا في نفسه، كما أنَّ عدم مشيئته لما هو قادرٌ عليه من أفعاله لا يخرجه عن كونه مقدورًا له، وإنما يخرج الفعل عن الإمكان إذا كان بحيث لو أراده الفاعل لم يمكنه فعله، وأما امتناعه لعدم مشيئته فلا يخرجه عن كونه مقدورًا
(1)
ويجعله محالًا.
فإن قيل: هو موقوفٌ على مشيئة الله، وهي غير مقدورةٍ للعبد، والموقوف على غير المقدور غير مقدور.
قيل: إنما يكون غير مقدور إذا كان بحيث لو أراده العبد لم يقدر عليه، فيكون عدم وقوعه لعدم قدرة العبد
(2)
عليه، فأما إذا كان عدم وقوعه لعدم مشيئته له، فهذا لا يخرجه عن كونه مقدورًا له، وإن كانت مشيئته موقوفةً على مشيئة الرَّبِّ (ظ / 264 ب)(ق / 383 ب) تعالى، كما أن عدم وقوع الفعل من الله لعدم مشيئته له، لا يخرجه عن كونه مقدورًا له، وإن كانت مشيئته تعالى موقوفةً على غيرها من صفاته كعلمه وحكمته.
فالنزاع في هذا الأصل يتنوَّع إلى النَّظر إلى المأمور به، وإلى النظر إلى جواز الأمر به ووقوعه، ومن جعل القسمين واحدًا، وادَّعى جواز الأمر به مطلقًا لوقوع بعض الأقسام التي يظنُّها مما لا يُطاقُ، وقاس عليها النوع الذي اتَّفق الناس على أنه لا يطاق، وأن وقوع ذلك النوع يستلزم لوقوع القسم المتَّفق على أنه لا يطاق، أو على جوازه = فقد أخطأ خطأً بيِّنًا
(3)
، فإن من قاس الصحيح المتمكِّن من
(1)
من قوله: "له وإنما
…
" إلى هنا ساقط من (ظ).
(2)
(ق): "غير العبد"!.
(3)
سقطت من (ق).
الفعل، القادر عليه، الذي لو أراده لفعله، على العاجز عن الفعل؛ إما لاستحالته في نفسه أو لعجزه عنه لجامع ما يشتركان فيه من كون الاستطاعة مع الفعل، ومن تعلَّق علم الرَّبِّ تعالى بعدم وقوع الفعل منهما = فقد جمع بين ما علم الفرق بينهما عقلًا وشرعًا
(1)
وحسًا، وهذا من أفسد القياس وأبطله، والعبد مأمورٌ من جهة الرَّبِّ تعالى ومنهىٌّ.
وعند هؤلاء: أنَّ أوامره تكليفٌ لما لا يطاقُ، فهي غير مقدورة للعبد، وهو مجبورٌ على ما فعله من نواهيه، فتركها غير مقدور له، فلا هو قادرٌ على فعل ما أمر به، ولا على ترك ما ارتكبه مما نهى عنه، بل هو مجبر في باب النَّواهي، مكلَّفٌ بما لا يُطيقه في باب الأوامر.
وبإزاء هؤلاء القدريَّة، الذين يقولون: إن فعل العبد لا يتوقَّف على مشيئة الله ولا هو مقدورٌ له سبحانه، وأنه يفعله بدون مشيئة الله لفعله، ويتركه بدون مشيئة الله لتركه، فهو الذي جعل نفسه مؤمنًا وكافرًا، وبرًا وفاجرًا، ومطيعًا وعاصيًا، والله لم يجعله كذلك، ولا شاء منه أفعاله، ولا خلقها، ولا يوصف بالقدرة عليها.
وقول هؤلاء شرٌّ من قول أولئك من وجهٍ، وقول أولئك شرٌّ من قول هؤلاء من وجهٍ وكلاهما ناكبٌ عن الحقِّ جائر
(2)
عن الصِّراط المستقيم
(3)
.
(1)
(ق): "عمدًا ومشرعًا".
(2)
(ظ): "حائد"، و (ق):"حائز".
(3)
انظر في مسألة التكليف بما لا يُطاق: "شفاء العليل": (1/ 320)، و"مجموع الفتاوى":(8/ 293 - 294)، و"منهاج السنة":(3/ 104 - 107).
فائدة
قوله تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)} [الشعراء: 36] هي جمع مدينة، وفيها قولان:
أحدهما: أنها فعيلةٌ واشتقاقها من: مدن، وعلى هذا فتهمزُ؛ لأنها فعائل كعقائل
(1)
وظرائف وبابه.
والثاني: أنها مفعلةٌ واشتقاقها من: دان يدين، وأصلها: مديونةٌ مفعولةٌ
(2)
من: دان، أي: مملوكة مذلَّلةٌ لملكها منقادةٌ له، وفُعِل بها ما فعل بمبيوع حتى صار مبيعًا، فعند الخليل أنك ألقيت ضمَّة الياء على الباء، فسكنت الياء، التي هي عين الفعل، وبعدها واو مفعول، (ق/384 أ) وهي ساكنةٌ، فاجتمع ساكنان فحذفت واو "مفعول" لأنها زائدةٌ، فهي أولى بالحذف من العين.
قال أبو الحسن الأخفش: المحذوف عين الفعل، والباقية هي واو "مفعول"، وإنما صارت ياءً؛ لأنهم لما ألقوا ضمَّة الياء على الباء انضمَّت الباء وبعدها ياءٌ ساكنة، فأبدلت الضَّمَّة كسرةً للياء التي بعدها، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنةً مع الواو واو "مفعول"، بعد أن ألزمت
(3)
الفاء الكسرة التي حدثت لأجل الياء، فصادفت واو "مفعول" ساكنةً فقلبتها ياء.
ورجِّح قول الخليل بأنهم قالوا: "ماء مشيبٌ وأرضٌ مميتٌ عليها -أي مماتٌ عليها- وغارٌ منيلٌ -وهو الذي يُنال ما فيه من النَّوال-".
(1)
(ق): "كفعائل".
(2)
(ع وظ): "مفعول".
(3)
(ظ): "لزمت".
وأصل هذه الكلمات: "مشيوبٌ ومميوتٌ ومنيولٌ"، فحذفوا واو "مفعول" وبقُّوا عين الفعل، ولا يجوز أن تكون المحذوفة اللام، وواو "مفعول" هي الباقية المنقلبة ياءً؛ لأنَّ واو "مفعول" إنما تقلب ياءً إذا اعتلَّت لام الفعل؛ كـ "مرمىٍّ ومقضيٍّ مقضيٍّ عليه"، وإلَاّ فإذا كانت لام الفعل صحيحةً بقيت واو "مفعول" على حالها؛ كـ"مضروب ومقتول".
ورجِّح قول الأخفش بأنَّ واو "مفعول" جاءت لمعنى، فحذفها مخلٌ بما جاءت لأجله، ألا ترى أنهم يقولون:"مررت بقاضٍ" فيحذفون الياء الأصليَّة ويبقون التنوين؛ لأنه جاء لمعنىً.
ورجِّح أيضًا بأن العين قد أعلَّت في: "قال وباع، وقيل وبيع، ومبيع ومقولٍ" فلما اعتلَّت بالإسكان والقلب اعتلَّت بالحذف، وواو "مفعول" لم ينقلب من شيء ولم يعتلَّ في الفعل، فكان إبقاؤها وحذف المعتلِّ أوجب، وأيضًا فإن العين في "مقول ومبيع" حذفت في قولهم:"قل وبع" فلما حذفت هاهنا كانت أولى بالحذف في "مقول ومبيع".
ولمن نصر قول الخليل أن يقول: الساكنان إذا التقيا في كلمةٍ واحدةٍ حُرِّك الثاني منهما، فكذلك إذا حذف أحد الساكنين من كلمةٍ يحذفُ الآخر منهما.
ولمن نصر قول
(1)
الأخفش أن يقول: هذا الدليل نقلبه عليكم، فنقول: إذا التقى الساكنان في كلمةٍ واحدةٍ حذف أولهما كـ: "خف وقل وبع" وقياس الحذف على الحذف أقرب من قياس الحذف على
(1)
من قوله: "الخليل أن
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
الحرَكَة، وأيضًا فكما اعتلَّت العين بالقلب مع ألف فاعل كـ:"قائم (ظ/265 أ) وقائل" اعتلَّت بالحذف مع واو "مفعولٍ".
قالت الخليليَّة: الميم في أول "مفعول" دالَّة على أنه اسم مفعول، فتبقى الواو زائدةً محضةً، فتكون أولى بالحذف من الحرف الأصلي.
قالت الأخفشيَّة: الميم لا تستقلُّ (ق/384 ب) بالدلالة على المفعوليَّة، فإن "مبيعًا" يشبه "مسيرًا أو مقيلًا" من المصادر، ولا يتميَّزان إلا بواو "مفعول" فلا سبيل إلى حذفها، فصار في المدينة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها فعليةٌ من: مدن.
والثاني: مفعولةٌ
(1)
وعينها محذوفةٌ.
والثالث: مفعلةٌ وواو المفعول محذوفةٌ، فإن كانت المدائن فعائل تعيَّن همزها كصحائف، لأن المدَّة وقعت بعد ألف الجمع، وإن كانت مفعلةٌ كمعيشة، فلا تهمز؛ لأنها ليست بمدَّةٍ.
فإن قلت: فما تقول في قراءة من قرأ {معائش} بالهمز
(2)
؟ وهي جمع معيشةٍ، وياؤها ليست زائدةً، بل أصلها الحركة إما مفعلةٌ
(1)
(ق وع): "مقولة".
(2)
قال الإمام ابن مِهْران في "المبسوط في القراءات العشر": (ص/179): "قرأ القراءُ كلُّهم (معايش) بغير همز، ولم يختلفوا فيه، إلا ما رواه أُسَيد عن الأعرج، وخارجة عن نافع أنهما همزاه، قيل: فأما نافع فهو غلط عليه؛ لأن الرواة عنه الثقات كلهم على خلاف ذلك، وقال أكثر القرَّاء وأهلُ النحو والعربية: إن الهمزة فيه لحن، وقال بعضهم: ليس بلحن وله وجه وإن كان بعيدًا" أهـ. وانظر: "تفسير الطبري": (5/ 435)، والقرطبي:(7/ 167)، و"اللسان":(6/ 321).
وإما مِفعلةٌ، وكذلك ما تقول في همزهم "مصائب"، وهي جمع مصيبةٍ؟.
قلت: أما: معائش، فكدَّرت عيش أهل التصريف، حتى قال فيها أبو عثمان في "تصريفه"
(1)
: وأما قراءة أهل المدينة {معائش} بالهمز فهي خطأٌ فلا يلتفت إليها، فإنما أخذت عن نافع بن أبى نعيم، ولم يكن يدري ما العربية، وله أحرف يقرؤها لحنًا نحوًا من هذا. وأما "مصائب" فلقد أصيبوا منها بمصائب.
قال المازنيُّ
(2)
: وقد قالت العرب: "مصائب" فهمزوا، وهو من الغلط قالوا: حلأْت
(3)
السَّويق، وكأنهم توهَّموا أن "مصيبة" فعيلةٌ، فهمزوها حين جمعوها كما همزوا:"شقائق"، وإنما "مصيبة" مفعلةٌ من: أصاب يصيب، فأصلها: مصوبةٌ، فألقوا حركة الواو على الصَّاد، فانكسرت الصاد، وبعدها واوٌ ساكنة فأبدلت ياءً وأكثر العرب يقول: مصاوب، فيجيء بها على القياس وما ينبغي.
فيقال: ومن المصائب تخطئة العرب وأهل المدينة، ونحن إنما نجهد أنفسنا في استخراج المقاييس لنوافقهم فيما تكلَّموا به، فإذا
(1)
أبو عثمان هو: المازني، قاله في "التصريف":(1/ 307 - مع شرحه المصنف) لابن جني. قال أبو الثناء الآلوسي في "روح المعاني": (8/ 85): "وبالغ أبو عثمان فقال: إن نافعًا لم يكن يدري ما العربية، وتُعُقِّب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة، مأخوذة من الفصحاء الثقات، والعربُ قد تشبِّه الأصلي بالزائد لكونه على صورته، وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضًا. وقول سيبويه: إنها غلط، يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس، وكثيرًا ما يَستعمل الغلطَ في كتابه بهذا المعنى" اهـ.
(2)
في "تصريفه": (1/ 307).
(3)
تحرفت في النسخ، وبياض في (ظ).
كان ما ثَبَتَ عنهم خطأ ولحنًا، وخالفناهم فيه، لم نكن تابعين لهم ولا قاصدين لنَهج كلامهم، ولا ريب أن المهموز في هذا الجمع هو ما كانت حروف العلَّة في واحدة مدَّةً زائدةً كـ "صحيفةٍ ورسالةٍ وعجوز"، فإذا همزوا ما كان حرف العلة فيه أصليًّا في بعض المواضع، تشبيهًا له بما هو فيه مدَّة
(1)
زائدة، فأيُّ خطأٍ يلزمهم؟ وأي غلطٍ يسجَّل به عليهم؟!.
وطالما يخرجون الشيء من كلامهم عن أصله؛ لغرض ما من تشبيهٍ أو تخفيفٍ أو تنبيهٍ، على أنه كان ينبغي أن يكون كذا، ولأغراض عديدةٍ، أفتراهم لما صحَّحوا:"استحوذ"، فصحَّحوا ما حقه الإعلال كانوا مخطئين؟! وكذلك لما صحَّحوا:"استنوق"، فهلَاّ قلتم: إنَّ القوم لما ألقوا الهمزة بعد ألف مفاعل فيها
(2)
حرف العلَّة مدَّةٌ (ق/385 أ) في واحده لم يستنكروها في: "معايش ومصايب"؛ لأنَّ الموضع موضع همز، فليست الهمزة بشديدة الغربة في هذا الموضع.
ويا لَلعجب كم في اللغة من قلبٍ وإبدالٍ وحذفٍ غير مقيس، بل هو مسموعٌ سماعًا مجردًا ولو تُكُلِّم بغيره لكان غلطًا وخطأً، وإن كان مقتضى القياس!.
وقد ذكر
(3)
ابن جنِّي
(4)
من الأمثلة التي زعم أنها وقعت غلطًا في
(1)
هذه وما قبلها فى (ظ): "بمدة".
(2)
(ق): "مفاعيل ميمًا".
(3)
(ق): "كرر"، وغير بينة في (ظ).
(4)
في "المصنف": (1/ 309 - 311)، إلا أنه قال لما ذكر بعض ما تهمزه العرب مما لا يُهمز:"وأنا أري ما ورد عنهم من همز الألف الساكنة في "بأز وساق وتأبل" ونحو ذلك، إنما هو عن تَطرُّق وصَنعة، وليس اعتباطًا هكذا من غير مسكة
…
" اهـ "الخصائص": (3/ 147).
كلامهم، ثم قال:"وإنما يجوز مثل هذا الغلط عليهم لما يستهويهم من الشَّبه؛ لأنهم ليست لهم قياساتٌ يعتصمون بها، وإنما يخلدون إلى طبائعهم". وأين هذا من كلام الإمام
(1)
المقدَّم سيبويه حيث يقول
(2)
: "وليس شيءٌ مما يضطرون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجهًا". وهذا من النُّحاة شبيهٌ من ردِّ الجهميَّة نصوص الصِّفات لمخالفتِها أقيستهم، ومن ردِّ أحاديث الأحكام عند مخالفتها الرأي، والمقصود بالأقيسة والاستنباطات فهم المنقول لا تخطئته، والله الموفق.
فائدة
"استطاع" استفعل، من طاع يطوع، ولم ينطق به، وإنما نطقوا بالرُّباعيِّ منه، فيقال
(3)
: أطاعه وقالوا: طوَّع له كذا، أي: حسَّنهُ له وزيَّنه، وكأنه جعل نفسه مُطيعةً لداعيه، فالهمزة من "أطاعه"
(4)
همزة التَّعدية والنقل من اللُّزوم إلى التَّعدِّي، والتَّضعيف في "طوَّع" لكونه في معنى: حسَّن وزيَّن.
وأما السين والتاء في "استطاع"، فإمَّا أن تكون للوجودِ، أي: وجدته طوعًا لي، كاستجدته، أي: وجدته جيِّدًا، واستصوبت كلامَهُ، أي: وجدته صوابًا، واستعظمته، أي: وجدته عظيمًا.
وأما أن تكون للطَّلب، أي: طلبت أن يُطِيعني إذا أَمَرتُه
(5)
ولا يستعصي عليَّ بل يكون طوع قُدرتي، وقد يأتي هذا البناء بمعنى:
(1)
"الإمام" ليست في (ع وظ)، و "كلام" ليست في (ق).
(2)
"الكتاب": (1/ 32).
(3)
(ق): "فقالوا".
(4)
(ق وظ): "في الطاعة".
(5)
(ع): "إذا باشرته"، (ق):"إذ أنا أمرته".
فعل كـ: "قرَّ واستقرَّ، ومرَّ واستمرَّ"، وقد يأتي بمعنى الصَّيرورة (ظ/265 ب) كـ:"استنوق البعير، واستحجر الطين"، وبابُهما الفعل اللازم، وقد يأتي موافق تفعَّل، كـ:"تعظم واستعظَم".
وأما "استعتبت" فهو للطَّلب، أي: طلب الإعتاب، فهو لطلب مصدر الرُّباعيِّ الذي هو:"أعتب"، أي أزال عتبة، لا لطلب الثلاثيِّ الذي هو العتب، فقوله تعالى:{وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)} [فصلت: 24]، أي إن يطلبوا إعتابنا وإزالة عتبنا عليهم. ويقال:"عتب عليه" إذا أعرض عنه وغضب عليه، ثم يقال: استعتب السَّيِّد عبده، أي طلب منه أن يزيل عتب نفسه عنه بعوده إلى رضاه، فأعتبته عبده، أي: أزال عتبه بطاعته. ويقال: استعتب العبد سيِّده، أي طلب منه أن يزيل غضبه وعتبه عنه، فأتبعه سيِّده، أي: فأزال (ق/385 ب) عتب نفسه عنه، وعلى هذا فقوله تعالى:{وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي: وإن يطلبوا إعتابنا وهو إزالة عتبنا عنهم فما هم من المزال عتبهم؛ لأنَّ الآخرة لا تقال فيها عثراتهم ولا يقبل فيها توبتهم.
وقوله: {لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)} [النحل: 84] أي: لا يطلب منهم إعتابنا، وإعتابه تعالى: إزالة عتبة بالتَّوبة والعمل الصَّالح، فلا يطلب منهم يوم القيامة أن يعتبوا ربَّهم فيزيلوا عتبَهُ بطاعته واتِّباع رسله.
وكذلك قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)} [الروم: 57]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الطائف:"لك العتبي"
(1)
هو اسمٌ من الإعتاب لا من العتب، أي أنت المطلوب إعتابه، ولك
(1)
تقدم 2/ 709.
عَلَيَّ أن أعتبك وأرضيك بطاعتك، فأفعل ما ترضى به عنِّي، وما يزول به عتبك عليَّ، فالعتب منه على عبده، والعتبي والإعتاب له من عبده
(1)
، فهاهنا أربعة أمور:
الأول: العتب، وهو من الله تعالى، فإنَّ العبد لا يعتب على ربِّه، فإنه المحسن العادل، فلا يتصوَّر أن يعتب عليه عبده إلَاّ والعبد ظالمٌ، ومن ظن من المفسِّرين خلاف ذلك فقد غلط أقبح
(2)
غلطٍ.
الثاني: الإعتاب، وهو من الله ومن العبد باعتبارين، فإعتابُ الله عبده إزالة عتب نفسه عن عبده، وإعتاب العبد ربَّه إزالة عتب الله عليه، والعبد لا قدرة له على ذلك إلَاّ بتعاطي الأسباب التي يزول بها عتب الله تعالى عليه.
الثالث: الاستعتاب، وهو من الله إيضًا ومن العبد بالاعتبارين، فاللهُ تعالى يستعتب عباده، أي: يطلب منهم أن يعتبوه، ويزيلوا عتبة عليهم، ومنه قول ابن مسعود -وقد وقعت الزَّلزلة بالكوفة-:"إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه"
(3)
، والعبد يستعتب ربَّه، أي: يطلب منه إزالة عتبه.
الرابع: العتبي، وهي اسم الإعتاب.
فاشدد يديك بهذا الفصل الذي يعصمك من تخبيط كثيرٍ من المفسدين لهذه المواضع.
(1)
(ق وظ): "عنده".
(2)
(ق): "أخس".
(3)
ذكره ابن جرير في "تفسيره": (8/ 100) بصيغة التمريض، وأخرج ابن أبي شيبة:(3/ 221) عن شهر بن حوشب مرسلًا أن المدينة زلزلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه".
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنَّينَّ أحدكم الموت لضرٍّ نزل له، فأمَّا محسنٌ فلعلَّه أن يزداد، وإما مسيءٌ فلعلَّه أن يستَعتِب"
(1)
أي: يطلب من ربِّه إعتابه إيِّاه بتوفيقه للتَّوبة وقبولها منه، فيزول عتبهُ عليه.
والاستعتاب نظير الاسترضاء، وهو طلب الرِّضى، وفي الأثر: إنَّ العبد ليسترضى ربَّه (ق/386 أ) فيرضى عنه، وإن الله ليسترضي فيرضى.
لكنِّ الاسترضاء فوق الاستعتاب، فإنه طلب رضوان الله، والاستعتاب طلب إزالة غضبه وعتبه، وهما متلازمان.
رجعنا إلى (استطاع): وفيها خمس
(2)
لغات، هذه إحداها.
الثانية: اسطاع، بحذف تاء الافتعال تخفيفًا ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97].
الثالثة، اصطاع، بالصَّاد، وفيه أمران؛ أحدهما: حذفُ التاء،
والثاني: إبدال السين صادًا لأجل مجاورتها الطاء.
الرابعة
(3)
اسطَّاع، بإدغام التاء
(4)
في الطَّاء، وهو إدغامٌ على خلاف القياس؛ لأنَّ فيه التقاء السَّاكنين على غير حدِّهما.
الخامسة: أسطاع، بفتح الهمزة وقطعها وهي أشكَلُها، فقال سيبويه
(5)
: السين عوضٌ عن ذهاب حركة العين؛ لأن أصله "أطوع"
(1)
أخرجه البخاري رقم (5673) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
(ق وظ): "أربع" وهو خطأ.
(3)
(ق وظ): "الثالثة" وما بعدها "الرابعة" وهو وهم.
(4)
(ق وظ): "السين"!.
(5)
انظر: "سر صناعة الإعراب"(1/ 200 - 201)، و"اللسان":(8/ 242 - 243)، وفيهما تعقُّب المبرّد.
فنقِلَت فتحه الواو إلى الطاء، ثم أُعلَّ بقلب واوه ألفا لتحرُّكها أصلًا وانتفاح ما قبلها لفظًا، فزيدت السين عوضًا من ذهاب حركة العين.
وتعقب المبرِّد هذا على سيبويه، وقال: إنما يعوَّض من الشيء إذا فقد وذهب، فأما إذا كان موجودًا في اللفظ فلا، وحركة العين منقولةٌ إلى الفاء فلم تعدم.
وأجيب عن هذا: بأنَّ العين لما سكنت وهنت وتهيَّأت للحذف عند سكون اللام، نحو: لم يطع وأطعت، فلو بقيت حركتها فيها لما تطرَّق إليها الحذف، بل كنت تقول: لم يطوع وأطوعت، فزيدت السين ليكون عوضًا من هذا الإعلال المتضمِّن لثلاثة أمور: نقل حركة المتحرِّك، ووهنه بالسكون، وتعريضه للحذف عند سكون ما بعده، فجبروا هذا الإعلال هذا بزيادة السين في أوله.
ونظير هذا سواء قولهم: إهراق، فإنَّ أصله "أراق" فقلبت عينُه ألفًا بعد تسكينها، فصارت عرضةً للحذف، كقولك: لم يُرق وأرقت، فأُعلَّ بالنَّقل والقلب والحذف، فعوِّضت الهاء في أوله جبرًا لإعلالِه، وأما "أراق" فعلى الأصل، وأما "هراق"(ظ/266 أ) فعلى إبدال الهمزة هاءً لمجاورتها في المخرج.
ونظيره -أيضا- قولهم: اهراح في أراح يريح، هذا قول البصريِّين.
وقال الفرَّاء: أصله "استطاع"، ثم حذفوا التاء، فعوِّضوا منها فتحَ الهمزة وقطعها، وهذا الذي قاله أقلُّ عملًا وأبعد من التَّكلُّف.
وردَّ عليه بأنهم قالوا: "اسطاع" بكسر الهمزة ووصلِها مع حذف التاء، فلو كان حذف (ق/386 ب) التاء يوجب الفتح والقطع لما عدلوا عنه، وهذا ظلم للفرَّاء، فإنه لم يدَّعِ لزوم ذلك، وإنما ذكر ان هذا
الحذف مسوِّغٌ للفتح والقطع. ويقال: ولو كان ما ذكرتم من الإعلالِ مسوِّغٌ لزيادة السين والهاء لاطَّراد في: أقام وأنام وأجادَ
(1)
وأقال وما لا يحصى، وليس نقضكم عليه بأقلَّ من نقوضه، فعلم أن هذه مسوِّغاتٌ لا موجباتٌ.
فائدة
يقال مجنونٌ ومغبونٌ ومهروعٌ مخفوعٌ ومعتوهٌ وممتوهٌ ومُمتَّهٌ وممسوسٌ، وبه لمم
(2)
، ومصابٌ في عقله، فهذه عشرة ألفاظٍ. وأما مخروعٌ فصحَّفها العامَّة من مهروع.
(1)
(ق): "وأفاد".
(2)
(ق): "بلم"، (ع):"بلص".
فائدة
دلالة الاقتران: تظهر قوَّتها في موطنٍ، وضعفها في موطنٍ، وتساوى الأمرين في موطن، فإذا جمع المقترنين لفظٌ اشتركا في إطلاقه وافتراقا في تفصيله قويت الدلالة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"الفطرة خمسٌ"
(1)
، وفي مسلم:"عشرٌ من الفطرة"
(2)
، ثم فصَّلها، فإذا جعلت الفطرة بمعنى السُّنَّة، والسُّنَّة هي المقابلة للواجب ضعف الاستدلال بالحديث على وجوب الختان؛ لكن تلك المقدمتان ممنوعتان فليست الفطرة بمرادفة للسُّنَّة، ولا السُّنَّة في لفظ النبي صلى الله عليه وسلم هي المقابلة للواجب، بل ذلك اصطلاحٌ وضعيٌّ لا يُحمل عليه كلام الشارع، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"حقٌّ على كلِّ مسلمٍ أن يغتسل يوم الجمعة، ويستاك ويمسَّ من طيب بيته"
(3)
، فقد اشترك الثلاثة في إطلاق لفظ الحقِّ عليه، فإذا كان حقًّا مستحبًّا في اثنين منها كان في الثالث مستحبًّا، وأبين من هذا قوله:"وبالغ في الاستنشاق"
(4)
، فإنَّ اللفظ تضمَّن الاستنشاق والمبالغة فيه
(5)
، فإذا كان أحدها مستحبًّا فالآخر كذلك
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري رقم (5889)، ومسلم رقم (257) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رقم (261) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه البخاري رقم (879)، ومسلم رقم (846) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(4)
أخرجه أحمد: (26/ 206 رقم 16380)، وأبو داود رقم (142)، والنسائي:(1/ 66)، وابن ماجه رقم (448)، وابن حبان "الإحسان":(3/ 368)، والحاكم:(1/ 148) من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه. وسنده صحيح.
(5)
من (ق).
(6)
(ق): "فكذلك الآخر".
ولقائل أن يقول: اشتراك المستحبِّ والمفروض في لفظ واحدٍ
(1)
عامٍّ لا يقتضي تساويهما لا لغةً ولا عرفًا، فإنهما إذا اشتركا في شيءٍ لم يمتنع افتراقهما في شيءٍ، فإن المختلفات تشترك في لازم واحدٍ، فيشتركان في أمر عامٍّ ويفترقان بخواصِّهما، فالاقتران كمًا لا يُثبتُ لأحدهما خاصيَّةً، لا ينفيها عنه، فتأمَّله، وإنما يثبت لهما الاشتراكُ في أمرٍ عامٍّ فقط.
وأما الموضع الذي يظهر ضعف دلالة الاقتران فيه: فعند تعدُّد الجمل، واستقلال كلِّ واحدةٍ منهما بنفسها، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدَّائم، ولا يغتسل فيه من جنابةٍ"
(2)
وقوله: "لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده"
(3)
، فالتَّعرُّض لدلالة الاقتران هاهنا في غاية الضَّعف والفساد، فإنَّ كلَّ جملةٍ مفيدةٌ لمعناها وحكمها وسببها وغايتها منفردةً به عن الجملة الأخرى، واشتراكهما (ق/387 أ) في مجرَّد العطف لا يوجب اشتراكهما فيما وراءه، وإنما يشترك حرف العطف في المعنى إذا عطف
(4)
مفردًا على مفردٍ، فإنه يشترك بينهما في العامل، كـ "قام زيدٌ وعمرٌو" وأما نحو:"اقتل زيدًا وأكرم بكرًا" فلا اشتراك في معنى.
وأبعد من ذلك: ظنُّ من ظنَّ أنَّ تقييد الجملة السَّابقة بظرفٍ أو
(1)
من (ق).
(2)
أخرجه أحمد: (15/ 365 رقم 9596)، وأبو داود رقم (70)، وابن حبان "الإحسان":(4/ 68)، والبيهقي:(1/ 238)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث صحيح.
(3)
تقدم (4/ 1325).
(4)
من قوله: "لا يوجب
…
" إلى هنا ساقط من (ظ).
حالٍ أو مجرورٍ يستلزم تقييد الثانية، وهذا دعوى مجرَّدةٌ بل فاسدةٌ قطعًا، ومن تأمَّل تراكيب الكلام العربيِّ جزم ببطلانها.
وأما موطن التَّساوى؛ فحيث كان العطف ظاهرًا في التَّسوية، وقصد المتكلِّم ظاهرًا في الفرق، فيتعارض ظاهر اللفظ وظاهر القصد، فإن غلب ظهور أحدهما اعتبر، وإلَاّ طلب الترجيح، والله أعلم.
فائدة
"رضي" لامُه واوٌ؛ لأنه من الرِّضوان، وانقلبت واوه ياءً لانكسار ما قبلها، وقالوا في الماضي المسند إلى اثنين:"رضيا" بالياء، وجاءوا إلى [المضارع]
(1)
فقالوا: "يرضيان" بالياء، والقياس: يرضوان، إذ لا موجب لقلب الواو ياءً، ولكن حملوا "يرضيان" على "رضيا"، كما حملوا "أعطيا" على "يعطيان"، ولم يقولوا:"أعطوا"، وذلك ليجري الباب على سننٍ واحدٍ، ولا يختلف عليهم.
فائدة
إنما امتنعوا من النُّطق بأفعال: (ويلَه ووَيحَه ووَيسَه ووَيبَه)؛ لأنه لفيفٌ مقرونٌ، فلو وضعوا له فعلًا لوقعت الواو بعد حرف المضارَعة، وذلك يوجب إعلالها بالحذف كـ (يعد ويزن ويثق)(ظ/266 ب) ووقعت العين، وهي حرف علَّة أيضًا ثالثةً، وذلك يوجب نقل حركتها إلى الساكن قبلها، وإعلالها بالإسكان
(2)
كـ (يَبيعُ ويَحيدُ) فيتوالى عليهم إعلالاتٌ
(3)
في كلمةٍ واحدةٍ، وهم لا يسمحون بذلك، فرفضوا الفعل رأسًا.
(1)
في الأصول: "الماضي" وهو خطأ.
(2)
(ق): "بالساكن".
(3)
(ق وظ): "إعلالان".
فائدة
قوله تعالى لإبليس: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)} [الإسراء: 63] أعاد الضمير بلفظ الخطاب، وإن كان {فَمَنْ تَبِعَكَ} يقتضي الغيبة؛ لأنه اجتمع مخاطبٌ وغائبٌ، فغلِّب المخاطب، وجعل الغائب تبعًا له، كما كان تبعًا له في المعصية والعقوبة، فحسن أن يجعل تبعًا له في اللفظ، وهذا من حسن
(1)
ارتباط اللفظ بالمعنى واتِّصاله به.
وانتصب {جَزَاءً مَوْفُورًا (63)} عند ابن مالك على المصدر، وعامله عنده المصدر الأوِّل.
قال
(2)
: والمصدرُ يعمل في المصدر، تقول:"عجبت من قيامك قيامًا"، ويعمل فيه الفعل نحو:"قام قيامًا"، واسم الفاعل: كقوله
(3)
:
فَأَصْبَحتُ لا أقرَبُ الغَانِيَا
…
تِ مُزدَجِرًا عَنْ هَوَاها ازدِجَارا
واسم المفعول نحو: "هو مطلوبٌ طلبًا".
وبَعْدُ؛ ففي نصب (ق/387 ب)"جزاء" قولانِ آخرانِ:
أحدهما: أنه منصوبٌ بما في معنى: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} [الإسراء: 63] من الفعل، فإنه متضمِّنٌ لـ "تجازون" وهو الناصب "جزاءً".
والثاني: أنه حالٌ، وساغ وقوع المصدر حالًا هاهنا؛ لأنه موصوفٌ.
(1)
(ق): "وهو من أحسن
…
".
(2)
يعني ابن مالك، ولم أعثر على كلامه في "التسهيل" ولا في "شرح الكافية".
(3)
هو الأعشى "ديوانه": (ص/ 80).
ذكر الزمخشريُّ
(1)
هذين القولين، وهذا كما تقول:"خُذْ عَطَاءَك عطاءً موفورًا".
والذي يظهر في الآية: أن "جزاءً" ليس بمصدر، وإنما هو اسمٌ للحظِّ والنَّصيب، فليس مصدر "جزيته جزاءً"، بل هو كالعطاء والنَّصيب، ولهذا وصفه بأنه موفورا أي: تامٌ لا نقص فيه، وعلى هذا فنصبه على الاختصاص، وهو يشبه نصب الصِّفات المقطوعة، وهذا كما قال الزمخشريُّ وغيره في قوله تعالى:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} [النساء: 7] قال: نصبه على الاختصاص أي: أعني نصيبًا مفروضًا، ويجوز أن ينتصب انتصاب المصادر المؤكَّدة، كقوله تعالى:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}
(2)
[النساء: 11].
فائدة
المسك: يذكَّر
(3)
بدليل قولهم: "أذفر" وقد ظنَّ بعضُهم تأنيثه محتجًّا بقوله
(4)
:
مرَّت بنا ما بَيْنَ أتْرَابِها
…
والمِسْكُ مِن أَرْدَانِهَا نَافِحَهْ
(1)
في "الكشاف": (2/ 366 - 367).
(2)
ذكره في "الكشَّاف": (1/ 249).
(3)
(ظ): "مذكر".
(4)
البيت في "شرح الأشموني": (2/ 324)، و"الهمع":(2/ 51)، وصدره هناك:
* مَرَّت بنا في نسوةٍ خَوْلَةٌ *
وذكر في "اللسان": (10/ 486) أنه مذكر وأنَّثه بعضُهم على أنه جمع واحدته مسكة
…
وذكر بيتًا لجران العود فيه تأنيث المسك، إلا أنه خرجه على أنه ذهب به إلى "ريح المسك".