الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنه مستحيلٌ في نفسِه، فهو يعلمُه مستحيلاً لا يعلمُه واقعًا، إذ لو عَلِمَه واقعاً لكان العلمُ به عينَ الجهل، وذلك من أعظم المُحال.
فهذه حُجَجُ الرَبِّ تبارك وتعالى على بطلان ما نسبه
(1)
إليه أعداؤُه المفترونَ عليه، فوازِنْ بينها وبينَ حُجَج المتكلِّمينَ الطَّويلةِ العريضةِ التي هى كالضرِيع، الذي
(2)
لا يُسمنُ ولا يغني من جوع، فإذا وازنتَ بينهما (ق /373 ب) ظهرت لك المفاضلةُ إنْ كنتَ بصيرًا، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72].
فالحمدُ لله الذي أغنى عبادَهُ المؤمنينَ بكتابه، وما أودعَه من حُجَجه وبيِّناتِهِ عن شقائقِ المتكلَمينَ، وهَذَياناتَ المُتَهَوِّكِينَ، فلقد عَظُمَت نعمةُ الله على عبدٍ أغناهُ بفهمِ كتابه عن الفقر إلى غيره:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51].
فصل
* ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] فأجيبوا عن هذه الدَّعوى بقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} [البقرة: 135]، وهذا الجوابُ مع اختصاره قد تضمَّن المنعَ والمعارضة.
أما المنعُ: فما تضمَّنه حرف (بل) من الإضراب، أى: ليس الأمرُ كما قالوا. وأما المعارضةُ: ففي قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، أي: يتبَّع أو اتَّبعوا ملةَ إبراهيمَ حنيفًا، وفي ضمنِ هذه المعارضة إقامَةُ الحُجةِ
(1)
(ق): "نمته".
(2)
ليست في (ع).
على أنها أولى بالصَّواب مما دعوتم إليه من اليهودِيَّةِ والنصرانيَّةِ؛ لأنه وَصَفَ صاحبَ المِلَّةِ بأنه حنيفٌ غيرُ مُشْرِكٍ، ومن كانتْ
(1)
مِلَّتَهُ الحنيفيةُ والتوحيدُ، فهو أولى بأن يتبّع ممن مِلَّتُهُ اليهوديةُ والنصرانيَّةُ، فإن الحنيفيةَ والتوحيدَ هي دينُ جميع الأنبياءِ، الذي لا يقبلُ اللهُ من أحدٍ دينًا سواه، وهو الفطرةُ التي فَطرَ اللهُ عليها عبادهُ، فمن كان عليها فهو المهتدي؛ لأنَّ من كان يهوديًّا أو نصرانيًّا فإن الحنيفيةَ تضمَّنُ الإقبالَ على الله بالعبادة والإجلالِ والتعظيمِ والمحبَّةِ والذُلِّ.
والتوحيدُ يضمَّنُ إفرادَه بهذا الإقبالِ دونَ غيرِه، فيُعْبَدُ وحدَهُ، ويحَب وحدَهُ، ويُطاعُ وحدَه، لا يُجْعَل معه إله آخر، فمن أولى بالهداية؛ صاحبُ هذه المِلَّةِ أو مِلَّةُ اليهوديَّة والنصرانيَّة؟!.
ولا يبقى بعد هذا للخصومِ إلَّا سؤالٌ واحدٌ، وهو أن يقولوا (ظ/259 ب): فنحن على ملَّتِهِ أيضًا لم نخرجْ عنها، وإبراهيمُ وبنُوْه كانوا هودًا أو نصارى، فأُجيبوا عن هذا السُّؤال: بأنهم كاذبون فيه، وأن الله تعالى قد عَلِمَ
(2)
أنه لم يكنْ يهودياً ولا نصرانيًا، فقال تعالى:{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ (ق/ 374 أ) وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)} [البقرة: 140]،، وقرَّر هذا الجوابَ في سورة (آل عمران) بقوله:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} .
(1)
(ق وظ): "كان".
(2)
"قد علم" ليست في (ع).
فإن قالوا: فهبْ أن إبراهيمَ لم يكن يهودياً ولا نصرانيًا فنحن على ملَّتِهِ، وإنِ انْتحلنا هذا الاسمَ؟.
فأجيبوا عن هذا بقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ.} الآية إلى قوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]، فهذه للمؤمنين.
ثم قال: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137]، وإن أَتَوْا من الإيمان بمثلِ ما أتَيْتم به، فَهُم على مِلَّةِ إبراهيمَ وهم مهتدون، وإن لم يأتوا بإيمانٍ مثل إيمانِكم، فليسوا من إبراهيمَ ومِلَّتِهِ في شيء، وإنما هم في شقاقٍ وعداوة، فإن ملَّةَ إبراهيمَ: الإيمانُ بالله وكتبِهِ ورسلِهِ، وأن لا يُفرَّق بين أحدٍ منهم، فَيُؤمَنَ ببعضِهم ويُكْفَرَ ببعضِهم، فمن لم يأتِ بهذا
(1)
الإيمانِ، فهو بريءٌ بها من ملَّةِ إبراهيمَ، مشاقٌ لمن هو على مِلَتِهِ.
وقوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] أي: الله تعالى يعلمُ ما كان عليه إبراهيمُ والنَّبِيُّونَ من المِلَلِ، وأنهم لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، فاللهُ تعالى يعلمُ ذلك، فلو كانوا يهودًا أو نصارى، واللهُ تعالى لا يعلمُ ذلك؛ لكنتم أعلَمَ من الله بهِم، هذا مع أنَّ عندكَم شهادة وبَينَةً من الله بما كان عليه إبراهيمُ، وبأنَّ هذا النبيَّ على مِلَتِهِ، ولكنكم كتمتُم هذه الشهادةَ عن أتباعِكم، فلم تؤدّوها إليهم مع تحقُّقِكم لها، ولا أظلم ممن كَتَمَ شهادة استشهدَهُ الله بها، فهي عندَه من الله، إلا أنه
(2)
كتمها من اللهِ، فالمجرورُ مُتَعَلِّق بما تضمَّنَه الظرفُ، الذي هو "عندَه" من الكونِ والحصولِ.
(1)
(ظ): "بمثل هذا".
(2)
(ق): "لأنه".