المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مطلب الرضى بالمعصية معصية - بيان المعاني - جـ ١

[ملا حويش]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الأول]

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌[المقدمة]

- ‌المطلب الاوّل في بيان مبادئ في التفسير

- ‌المطلب الثاني فيما يحتاج إليه المفسر

- ‌المطلب الثالث في الحاجة الى التفسير

- ‌المطلب الرابع في أحوال المفسرين به ومأخذ هذا التفسير

- ‌مطلب الأصول المتبعة في التفسير

- ‌المطلب الخامس في التفسير والتأويل والنهي عن القول في الرأي

- ‌المطلب السادس في فضل القرآن وحفظه وتهديد من ينساه والسفر به

- ‌المطلب السابع في التشريع في نهج القرآن ومفاصده ومميزات مكيه ومدنيه

- ‌المطلب الثامن في النزول وكيفيته وترتيب سوره وآياته

- ‌المطلب التاسع في جمع القرآن ونسخه وترتيبه وكونه توقيفيا وبيان ناسخه

- ‌المطلب العاشر الناسخ والمنسوخ والقراءات ومعنى انزل القرآن على سبعة أحرف

- ‌مطلب حكاية واقعة:

- ‌مطلب في الصوفية ومعنى سبعة أحرف:

- ‌المطلب الحادي عشر في خلق القرآن وعدمه ونسبته للكتب الأخرى وصدق النبوة

- ‌المطلب الثاني عشر في الوحى وكيفية نزوله ومعناه وأوله والرؤيا الصادقة ومعناها

- ‌الخاتمة نسأل الله حسنها

- ‌مطلب الفرق بين الحمد والشكر وفضلهما ومتى يطلبان

- ‌مطلب إعاذة الله فى إصلاح الكون

- ‌مطلب ولادة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌تفسير سورة العلق وتسمى سورة التعليم و (اقرأ) أيضا

- ‌مطلب معنى العلق وفضل الإنسان

- ‌تفسير سورة القلم عدد 2- 68 وتسمى سورة نون

- ‌مطلب معنى الساق:

- ‌مطلب النسخ لا يدخل الأخبار والوعد والوعيد:

- ‌مطلب معنى الكيد والمكر والآيات المدنيات الأخر:

- ‌تفسير سورة المزمل عدد 3- 72 أو قيام الليل

- ‌مطلب تخفيف قيام الليل ونقل الكسب والصدقة:

- ‌تفسير سورة المدّثر عدد 4- 74

- ‌مطلب أول سورة نزلت وفترة الوحي وسببها

- ‌مطلب ما نزل في الوليد بن المغيرة ثم في خبث أبي جهل

- ‌مطلب الحواس الباطنة والظاهرة والأخبار بالغيب

- ‌مطلب الشفاعة والمحروم منها:

- ‌تفسير سورة الفاتحة عدد 5- 1

- ‌تفسير سورة المسد عدد 6- 111

- ‌تفسير سورة التكوير عدد 7- 81 وتسمى كورت

- ‌مطلب أول من سنّ الوأد ومن منعه:

- ‌مطلب الاستمناء باليد والعلاج لمنع الحمل:

- ‌مطلب علامات الساعة:

- ‌تفسير سورة الأعلى عدد 8- 87

- ‌مطلب عصمة النبي من النسيان:

- ‌مطلب ما في صحف ابراهيم وموسى والحكم الشرعي في العيد:

- ‌تفسير سورة الليل عدد 9 و 92

- ‌مطلب في أنواع الخلق:

- ‌مطلب في أبي بكر رضي الله عنه وأمية غضب الله عليه:

- ‌تفسير سورة الفجر عدد 10 و 89

- ‌تفسير سورة الضحى عدد 11- 93

- ‌مطلب عدم رد السائل واللطف باليتيم:

- ‌مطلب الشكر لله ولخلقه:

- ‌تفسير سورة الانشراح عدد 12- 94

- ‌تفسير سورة العصر عدد 13- 103

- ‌تفسير سورة العاديات 14- 100

- ‌تفسير سورة الكوثر عدد 15- 108

- ‌تفسير سورة التكاثر عدد 16- 102

- ‌تفسير سورة الماعون عدد 17 و 107

- ‌تفسير سورة الكافرون عدد 18- 109

- ‌تفسير سورة الفيل عدد 19- 105

- ‌مطلب رمي الجمار بمنى:

- ‌تفسير سورة الفلق عدد 20- 113

- ‌مطلب في الحسد والتعاويذ:

- ‌تفسير سورة الناس عدد 21- 114

- ‌تفسير سورة الإخلاص عدد 22- 112

- ‌تفسير سورة والنجم عدد 23- 52

- ‌مطلب مقر جبريل ومعنى قاب قوسين:

- ‌مطلب زمن الإسراء والمعراج والرؤية:

- ‌مطلب الآية المدنية ومعنى الكبائر والصغائر:

- ‌مطلب في الغيب وأنه قسمان:

- ‌مطلب الكرامة ومصدرها والشعرى ومن يعبدها:

- ‌مطلب في السجود وقصة الغرانيق:

- ‌تفسير سورة عبس عدد 24- 80

- ‌تفسير سورة القدر عدد 25- 97

- ‌تفسير سورة والشمس 26- 91

- ‌تفسير سورة البروج عدد 27- 85

- ‌مطلب قصة أصحاب الأخدود:

- ‌تفسير سورة التين عدد 28- 95

- ‌تفسير سورة قريش عدد 29- 109

- ‌تفسير سورة القارعة عدد 30- 101

- ‌تفسير سورة القيامة عدد 31- 77

- ‌مطلب رؤية الله في الآخرة:

- ‌تفسير سورة الهمزة عد 32- 104

- ‌تفسير سورة المرسلات عدد 33- 77

- ‌مطلب مواقف يوم القيامة:

- ‌تفسير سورة ق عدد 34- 50

- ‌مطلب الآية المدنية في هذه السورة وخلق السموات والأرض والتسبيح:

- ‌تفسير سورة البلد عدد 35- 90

- ‌مطلب الحكمة الشرعية من الصدقات:

- ‌تفسير سورة الطارق عدد 36- 86

- ‌تفسير سورة القمر عدد 37- 54

- ‌مطلب في أربعاء صفر وعيادة المريض

- ‌مطلب الآيات المدنية وحكم ما تأخر حكمه عن نزوله:

- ‌مطلب في القدر وما يتعلق به:

- ‌تفسير سورة ص عدد 38- 38

- ‌مطلب قصة داود وسجود ابو بكر:

- ‌مطلب الحكم الشرعي في الأحكام:

- ‌مطلب في رد الشمس لسيدنا محمد وغيره:

- ‌مطلب قصة سليمان عليه السلام:

- ‌مطلب التخفيف وكفارة اليمين بحيلة في محله الملائم:

- ‌تفسير سورة الأعراف عدد 39- 7

- ‌مطلب وزن الأحمال وحادث البطاقة:

- ‌مطلب مقاييس إبليس:

- ‌مطلب مناظرة إبليس وقول سيف الدولة:

- ‌مطلب الحكم الشرعي في كشف العورة وزلة آدم:

- ‌مطلب تواصي الله لخلقه والتزين للصلاة وغيرها:

- ‌مطلب في الأكل المسنون وذم الشبع وبعض وصايا الله لعباده فيه:

- ‌مطلب معنى الإثم والبغي:

- ‌مطلب الرضى بالمعصية معصية

الفصل: ‌مطلب الرضى بالمعصية معصية

وتتلهى على الساحل وتعلم أنها تصاد في غيره فتختفي «كَذلِكَ» مثل هذا الاختبار والابتلاء «نَبْلُوهُمْ» نمتحنهم «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 163» يخرجون من طاعتنا ونحن أعلم بما يقع منهم قبل الاختبار، ولكنا نظهره لعبادنا ليعلموا حال المخالفين لهم، وإنا لا نعذب أحدا بغير ذنب وقد نثيب بغير عمل تفضلا منا. وهذه الآية من الأخبار بالغيب معجزة له صلى الله عليه وسلم تجاه يهود زمانه إذ أخبرهم بما وقع في أسلافهم بمخالفة الله أدت لمسخهم قردة وخنازير كما في الآية 165 الآتية ونظريتها الآية 60 من سورة المائدة من ج 3 فقد أخبرهم صلى الله عليه وسلم ما اقترفه آباؤهم زمن سيدنا داود عليه السلام، مع أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يخرج من مكة طيلة عمره حتى هاجر إلى المدينة وفي المدينة لم يطلع على كتب الأقدمين لعدم معرفته القراءة، وهم يعلمون ذلك، وسبب مسخهم أنهم كانوا حفروا حياضا وسقوا لها ساقية متصلة بالبحر فصارت الأسماك تدخلها يوم السبت على حسب عادتها لعدم المعارضة لها ولم تعرف ماحيك لها من الحيل، فسدّوا عليها طرف الساقية من جهة البحر يوم السبت وتركوها حتى إذا دخل يوم الأحد اصطادوها، فعاقبهم الله بالمسخ، ولهذا قال بعض العلماء من أكل الربا بالحيلة حشر يوم القيامة على صورة القردة والخنازير، كما سيأتي في الآية 274 من البقرة من ج 3، قال تعالى «وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ» جماعة «مِنْهُمْ» أي يهود ذلك الزمن لأنهم بعد اقترافهم هذا الذنب بالحيلة والمكر افترقوا ثلاث فرق: فرقة تطاولت فتعدت حدود الله باقترافهم صيد السمك على تلك الصورة، وفرّقة سكتت ولم تشاركهم في خداعهم هذا ولم تنههم عنه، وفرقة نهت وامتنعت من المشاركة وحذّرت الفاعلين غضب الله. كما كانت حالتهم في عبادة العجل إذ افترقوا ثلاث فرق أيضا كما مر في الآية 148.

‌مطلب الرضى بالمعصية معصية

: فقال الساكتون للناجين «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ» في هذه الدنيا جزاء عملهم القبيح «أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة على ذلك ولم تتركوهم وشأنهم (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) غدا في الآخرة إذا سئلنا عن ذلك، لئلا نكون قد

ص: 443

فرطنا في واجبنا المطلوب منها وهو النهي، لئلا نعد راضين بفعلهم، لأن الساكت عن فعل منهى عنه كالراضي به، والراضي كالفاعل. وفيه تقريع للفرقة الساكتة، لأن سكوتهم قد يعد رضى وإقرارا في بعض الأحوال. لهذا روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وجاء في حديث آخر: (ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من لا ينكر عليهم إلا عمّهم الله بعذابه) . ثم قال تعالى على لسان الناهين «وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 164» الله فيما فعلوا فيرجعوا إليه خوفا من عقابه وينتفعوا بموعظتنا، وإنا طمعا بارتداعهم وتوبتهم نصحناهم قياما بالواجب المترتب علينا، قال تعالى «فَلَمَّا نَسُوا» هؤلاء المخالفون «ما ذُكِّرُوا بِهِ» من قبل الناهين ولم يقبلوا موعظتهم «أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ» لأنهم قاموا بما هو مترتب عليهم ولم يسكنوا ليؤاخذوا بسكوتهم الذي يعد رضى منهم «وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ» عظيم محزن مخز «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 165» يخرجون عن طاعتنا والفرق بين يفسقون ويظلمون أن الظالمين من وصفوا بالظلم والفاسقين من خرجوا عن الطاعة، وإنما عد تركهم نسيانا لإهمالهم الأخذ بنصح جماعتهم وتشبيه التارك بالنّاسي استعارة، والجامع بينهما عدم المبالاة في كل، ويجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقته السببية، ولم يحمل على ظاهره لأن النسيان في شريعتنا لا يؤاخذ عليه، والترك عن عمد يترتب عليه العقاب. روى ابن ماجه عن البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أما في شريعة موسى عليه السلام فالنسيان مؤاخذ عليه، وكذلك الخطأ، كما مرّ في تفسير الآية 157، وقوله صلى الله عليه وسلم رفع، يدل على عدم العذاب في شريعتنا على الثلاثة الواردة في الحديث والعقاب على من قبلنا عليها وإلا لم يقل رفع، تأمل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) فلا أدري ما فعل الله بالفرقة الثالثة الساكتة وجعل يبكي، فقال عكرمة جعلني الله

ص: 444

فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما عليه الفرقة المقترفة وقالوا للفرقة الناهية لم تعظون إلخ الآية، إنه وإن لم يقل أنجيتهم فلم يقل أهلكتهم، فأعجبه قولي وأمر لي ببردين وكسانيهما، وقال نجت الساكتة يؤيده قول يمان بن رباب نجت الطائفتان وهو قول الحسن أي الآمرة والساكتة، أما ما قاله ابن زيد وروي عن أبي عبد الله:

نجت الناهية فقط فمستبعد هذا على شريعتنا، أما على شريعة موسى فلا وعلى كل فالله تعالى أكبر وأكرم قال تعالى «فَلَمَّا عَتَوْا» أبوا الرجوع «عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ» تكبرا وأنفة «قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ 166» أذلاء صاغرين منسوخين فكانوا كذلك.

مطلب في خزي اليهود ورفع عيسى عليه السلام:

قال تعالى «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ» أعلم وفيه معنى التوعد والتهديد لافترانه بالقسم الدالّ عليه وجود لامه في قوله «لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ» أي اليهود، لأنهم بدلوا وغيروا أحكام التوراة وأجروا أحكام ما بقي منها على الضعيف دون القوي، وحرّفوا كثيرا منها، وكذلك فعل النصارى في الإنجيل لما رأوا أن حضرة الرسول يخبر عما فيهما، وكانوا قبلا يحورون ما يتعلق بالأحكام فقط، فلما ظهر الرسول صاروا يرفعون منها ما يتعلق بأوصافه صلى الله عليه وسلم قصد نهي اتباعهم له والإيمان به، مع أن الواجب عليهم إبقاؤها والإيمان بما جاء فيها مصدقا للقرآن أخزاهم الله، ولهذا أقسم الله جل شأنه على الجزم بأنه ليرسلنّ عليهم «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ» يكلفهم على الدوام «سُوءَ الْعَذابِ» أقساه وأشده مما لا رحمة فيه «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ» إذا شاء عقاب أمثال هؤلاء في الدنيا فضلا عن عذاب الآخرة «وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 167» لمن آمن ورجع عن كفره ودخل بالإسلام فلم يعاقبه ولم يسأله عما فعل لعظيم مغفرته وكبر عفوه، لأن الإسلام يجبّ ما قبله.

ومن جملة إذلال اليهود وإصغارهم أنهم صاروا يؤدون الجزية إلى المجوس لما سلّط الله عليهم بختنصر وسنجاريب وملوك الروم، فساموهم وأهانوهم، ولم يزالوا كذلك محتقرين إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم، فقبل من أسلم منهم ومن لم يسلم قبل منه الجزية

ص: 445

فأدوها له صاغرين، وهي ملازمة لهم إلى يوم القيامة إن شاء الله، ولولا أن الله تعالى منعه من قتالهم لدمرهم ولم يبق منهم أحدا، ولكن لله حكم لا تعيها عقولنا وهم في زماننا محقّرون أيضا مهانون يعطون أضعاف الجزية التي كانوا يؤدونها للمسلمين إلى الانكليز والأمريكان الذين لا يقيمون لهم وزنا كالإسلام الذين ساووهم في كافة الحقوق اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهم أخزاهم الله أعداء الداء للإسلام، لا يذكرون معروفهم ولا يعترفون بإحسانهم، وإن العز الذي يتوقعونه في فلسطين بواسطة المذكورين في هذا الزمن الذي نحن فيه ويتطاولون إليه سيكون إن شاء الله الذل والصغار لهم فيه، لأنه إنما يكون- لا كونه الله لهم- تحت رقابة الأمريكيين وهو الاستعمار بعينه، راجع الآية 7 من سورة الإسراء الآتية، فنسأل الله أن يجمع كلمة الإسلام ويهلك الصهيونيين، وإن من بقي مشردا منهم بآخر الزمن يتبعون الدّجال ويدعون إلهيته، فيزدادون كفرا على كفرهم، لأنهم يزعمونه المسيح الذي أخبر به موسى عليه السلام وأوجب عليهم اتباعه، ولم يعلموا بل يعلمون ويجحدون أن المسيح عيسى بن مريم الذي كذبوه وناوءوه عتوا وعنادا وحبا ببقاء الرئاسة لهم وقصدوا قتله قاتلهم الله، فأنجاه منهم ربه وحفظه من أن تنال قدسيته أيديهم القذرة، فألقى شبهه على المنافق يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليه لقاء دراهم معدودة، مثل قيمة يوسف عليه السلام التي ابتاعه فيها اخوته قبل تشرّفهم بالنبوة، راجع تفسير الآية 9 من سورة يوسف في ج 2، إذ ما من نبي إلا وله منافق، يدلك على هذا قوله تعالى في الآية 31 من سورة الفرقان الآتية فقد جعل الله لموسى السّامري، ولمحمد عبد الله بن أبي بن سلول، وهذا لعيسى عليهم السلام، فقتل هذا الخبيث جزاء وفاقا وصلب وبصق عليه وسخر به، إذ يقولون له أنت المعلم لماذا لا تخلص نفسك وكنت جئت بخلاص العالم ولم يقبلوا منه ما اعتذر به بأنه ليس المعلم (أي عيسى إذ كانوا يسمونه معلما) أنا الذي دللتكم عليه، فيزيدونه لكما ولطما وصفعا وبصاقا، ويقولون له الآن تنكر نفسك وكنت تدعي النبوة وخراب الهيكل إلى غير ذلك، كما سيأتي توضيحه في الآية 158 من

ص: 446

سورة النساء في ج 3 وذلك أن الله تعالى الكامل إذا جعل شيئا جعله كاملا فلما ألقى شبهه على يهوذا صار كأنّه هو عيسى نفسه، ولذلك فإن أمه والنساء معها لم ينكرن أنه هو حقيقة، لذلك صرن يبكين عليه وحزنّ لأجله، إذ لا يستطيع أحد أن يقول ليس هو بعيسى، هذا وإن الله تعالى سيهلك الدجال مسيح اليهود وأتباعه على يد مسيح المسلمين الذي سمي مسيحا لأنه يمسح بيده المريض والأعمى والأكمه والأبرص فيبرأ بإذن الله تعالى حالا، بخلاف مسيح اليهود الذي هو الدجال، فإنه إنما سمي مسيحا لأنه ممسوح العين اليمنى أعور أشقر، فأين هذا من ذاك، وإن الله تعالى لا بدّ وأن يسلط على يهود زماننا من يهلكهم ويزيد في ذلهم وصغارهم، وسنورد الأحاديث الصحيحة الدالة على نزول عيسى وقتله الدجال واقامة القسط في الأرض بين الناس في الآية 61 من سورة الزخرف في ج 2 إن شاء الله تعالى القائل «وَقَطَّعْناهُمْ» أي اليهود قطعهم الله وأخزاهم «فِي الْأَرْضِ أُمَماً» فرقا وطوائف مشتتين محقرين فلا تجد أرضا خالية منهم أخلاهم الله منها ولا بلدا إلا وفيها منهم غير حماة، ولذا قيل حماها الله من كل ظالم أي كل يهودي لأنه لا يكون إلا ظالما، وهذا حتى تستقيم القاعدة (ما من عموم إلا وخصص) ولا يعلم السبب في حماية حماة من اليهود إلا أهل حمص الذين قلدوهم بذلك، لأن كلا من أهالي هاتين البلدتين يعرف خبايا الآخر على الحقيقة وزيادة (وهذه نكتة أتينا بها هنا) قال تعالى «مِنْهُمُ» اليهود الأولون على زمن موسى فمن بعده حتى زمن محمد صلى الله عليه وسلم «الصَّالِحُونَ» الذين ثبتوا على دينهم فلم يغيروا ولم يبدلوا حتى ماتوا عليه قبل بعثة عيسى عليه

السلام، والذين أدركوا عيسى وآمنوا به وبقوا على إيمانهم حتى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وماتوا على ذلك، والذين أدركوا محمدا وآمنوا به وماتوا على إيمانهم فهم صالحون من أهل الجنة، لأن الله تعالى لا يظلم حق أحد والقرآن كلام الله لم يغمط حق أحد أيضا ولا يغفل ذكره كيف وهو القائل في كتابه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام في ج 2 «وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ» فسقة ومخطئون، لأنهم خالفوا بعض الأوامر وامتثلوا بعضها وماتوا قبل بعثة عيسى

ص: 447

ومحمد- عليهما السلام على الصورة المذكورة أعلاه، ومنهم كفرة وهم الذين غيروا وبدلوا وحرفوا وكفروا بعيسى ومحمد وكتابهما، وهؤلاء لم يشر إليهم القرآن هنا اكتفاء بما ذكر قبلا وبما سيذكر بعد، ودائما هم متفرقون إلى ثلاث فرق منذ التحاقهم بموسى إلى اليوم فرّقهم الله وشتت كلمتهم، قال تعالى «وَبَلَوْناهُمْ» امتحناهم واختبرناهم «بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ» لأن النعمة إذا شكرت ترغب بالطاعة فتدعوا إلى الإيمان والشدة يخاف عاقبتها فتدعو إلى الإيمان أيضا، أي إنا بلوناهم بكلا الأمرين «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 168» عن غيهم فلم ينجع بهم «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» الخلف القسري الذي يجيء بعد قرن كان قبله، أي حدث من بعدهم حدث سوء تبدل عما كان عليه، وهو بسكون اللام وإذا فتحت قيل خلف خير خلف صدق أما ما جاء في قول زهير:

لنا القوم الأولى إليك وخلفنا

لأولنا في طاعة الله تابع

وما جاء في قول لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

فاسكان اللام بالأول وهو في معرض المدح وفتحها في الثاني وهو في معرض الذم فلضرورة الشعر. وقال البصريون يجوز تحريك اللام وسكونها في الرديء وفي الجيد التحريك فقط، وهؤلاء هم الفرقة الثالثة الكافرة المشار إليها في الآية 165 المارة لأنها لم تذكر فيها، قال تعالى في ذمّهم إنهم «وَرِثُوا الْكِتابَ» التوراة بانتقالها لهم من آبائهم فلم يعملوا بها وصاروا «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا» الشيء «الْأَدْنى» من حطام الدنيا الذميمة كالرشوة القبيحة، وقد تنزه القرآن عن التصريح بها لخساستها ودناءة آخذيها، راجع الآية 128 من البقرة في ج 3 كي يبدلوا أحكام التوراة التي آلت إليهم بطريق الإرث ويحرفونها ويغيرون ما فيها لقاء عرض تافه حقير، والعرض بفتح الراء يطلق على جميع متاع الدنيا، فيقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر، وأما بسكونه فكل ما يطلق عليه لفظ مال غير النقدي «وَيَقُولُونَ» مع عملهم هذا «سَيُغْفَرُ لَنا» ما نفعله، يتمنون ويطمعون

ص: 448

بالمغفرة أماني باطلة «وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ» أيضا حلالا كان أو حراما، مصرين على عملهم غير تائبين منه، أي ان الذين كانوا من هذه الفرقة يعيبون المرتشين المحرفين المغيرين المبدلين، إذا جاءهم عرض مثل عرض سلفهم لا يمتنعون عن أخذه أيضا، فوبخهم الله تعالى بقوله «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» في العهد والصدق في المواثيق التي أخذها الله عليهم في التوراة «وَدَرَسُوا» والحال أنهم قد قرأوا «ما فِيهِ» من تلك العهود والمواثيق «وَالدَّارُ الْآخِرَةُ» واطلعوا في التوراة أيضا على ما أعده الله لأهل طاعته من الثواب، ولأهل معصيته من العقاب المرتب على الامتثال والانقياد، والتغيير والتبديل والتحريف فيها، وعرفوا أن العمل الصالح لتلك الدار «خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» العمل السيء هناك في تلك الدار الآخرة «أَفَلا تَعْقِلُونَ 169» أن ما فيها من الخير خير وأبقى مما يأخذونه في الدنيا من الرشوة. أخرج الترمذي عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الكيس من دان نفسه (حاسبها) وعمل لما بعد الموت. (قبل أن يحاسب عليها) والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. والشاهد فيه أن اليهود يعضون الله ويطلبون مغفرته، قال تعالى «وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ» ويعتصمون به ويعملون بما فيه «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم لأن هذه من الآيات المدنيات كما ذكرنا، وخص الصلاة بالذكر مع أنها داخلة بالتمسك تنبيها على عظم شأنها لأنها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله ورسوله «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ 170» أنفسهم الثابتين على صلاحهم، نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا في المدينة من يهودها، فطوبى لهم ولمن يثبت على الإسلام ويموت عليه،

ثم ندّد في بني إسرائيل السابق ذكرهم بمناسبة ذكر الصالحين منهم فقال «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ» الطور أو جبلا غيره، وهذه الجملة عطف على جملة وإذ قيل لهم المارة في الآية 161 المكية وكلمة نتقنا لم تكرر في القرآن وسيأتي في الآيتين 63، 93 من سورة البقرة في ج 3 ما يتعلق بهذا، أي رفعناه وصيرناه «فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» خيمة كبيرة ت (29)

ص: 449

أو سحابة غيم عظيمة، أي اذكر يا محمد لقومك ويهود زمانك حين خلعنا الجبل من أصله من الأرض، ورفعناه فوقهم إلى جهة السماء، وجعلناه كالسقف على المعاندين من أسلافهم الموجودين عندك الآن. وكل ما يقي من الشمس يسمى ظلة حتى الشمسية المتعارفة لأنها تقي من وهج الشمس والمطر، ولذلك تسمى ظلة ومظلة «وَظَنُّوا» تيقنوا وجزموا «أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» لا محالة إن لم يمتثلوا ما أمروا به وقلنا لهم «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» بجد وعزم وحزم أي تقبلوا أحكامه جبرا عنكم «وَاذْكُرُوا ما فِيهِ» كله لا تنسوه واعملوا به فإن عدم العمل به يؤدي إلى النسيان، والنسيان يؤدي إلى الهلاك، وإذا أردتم النجاة داوموا على ذكره «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 171» وقوع الجبل عليكم وسبب ذلك أنهم أبو قبول أحكام التوراة لمشقّتها فلما رأوا الجبل ساقطا عليهم لا محالة سجد كل منهم على خدّه وحاجبه الأيسرين وجعل ينظر إلى الجبل بعينه اليمنى خوفا من سقوطه عليه إلى أن زيح عنهم، ولذلك إذا اقتضى أن يسجدوا لله شكرا أو لصلاة اعتادوها سجدوا كذلك على تلك الصفة. انتهت الآيات المدنيات.

مطلب كيفية أخذ العهد على الذرية:

قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ» وبين كيفية الإشهاد بقوله «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» مربّيكم ومالك أمركم وليس لأحد دخل في شأنكم غيري «قالُوا بَلى شَهِدْنا» على أنفسنا بذلك، وهنا يحسن الوقف لأنه من تتمة كلام الذرية، ومن استحسن الوقف على بلى قال إن شهدنا من كلام الملائكة، أي قال لهم اشهدوا على خلقي هؤلاء قالوا شهدنا، والأول أولى بالنظر لسياق الآية وعدم ذكر الملائكة قبلها يؤيده قوله تعالى «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» حين نسألكم عن هذا العهد «إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا» الميثاق «غافِلِينَ 172» أي لم ننتبه إليه حين أخذه علينا «أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ» زماننا هذا وقد سنّوا لنا الشرك بالتاء على الخطاب للذرية وهي القراءة المختارة في المصاحف، أما القراءة بالياء على الغيبة فيتجه ولكنه

ص: 450

ليس مختارا، لأن الله تعالى صرف الخطاب عن حبيبه محمد إلى نسم الذرية كافة لئلا يحتجوا بعد فيقولوا «وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ» لم نهتد إلى طريق التوحيد ورفض الشرك «أَفَتُهْلِكُنا» يا ربنا «بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ 113» أسلافنا وهذا الخطاب لجميع الخلق الموجودين ومن بعدهم ومن تقدمهم على طريق التغليب، أي فعلنا ما فعلنا من أخذ هذا العهد عليكم أيها الناس، لئلا يبقى لكم عذر، ولا يسعهم الاعتذار إذ ذاك، ولا تقبل لهم حجة لثبوت أخذه عليهم كلهم في الأزل ولأن الرسل المتتابعة ذكرتهم به فضلا عن أنه مما يتذكر به بمجرد العقل، لأن العاقل يفهم بادىء الرأي أن شيئا لا ينفع ولا يضر لا يستحق الاحترام والتعظيم فكيف يستحق العبادة، وان إلها قادرا على الإحياء والإماتة خالفا لهذه المكونات الذي هو من جملتها، هو المستحق للعبادة وحده، كيف وقد جبلت النفوس على حبّ النفع وكره الضر، فكيف لا يتيقظون لذلك؟ ولهذا قطع الله قبول عذرهم في هذه الآية التي ذكر بها رسوله محمدا وأخبره بهذا العهد المأخوذ من البشر فردا فردا، وخلاصة القول في كيفية هذا العهد على ما قاله الأنبارى من مذاهب أصحاب الحديث وغيرهم، وما استنبط من بعض الآيات والأحاديث وأقوال كبار العلماء، أن الله جلّت قدرته أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده إلى يوم القيامة بعضهم من بعض بحسب ما يتوالد الأبناء عن الآباء، ولذلك لم يقل من ظهر آدم مع أن الذرية في الحقيقة كلها من ظهره، وإذا تنبهت إلى معنى قوله تعالى في الآية 98 من سورة الأنعام في ج 2، وهو جملة (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) عرفت ذلك بداهة كما سيأتي في تفسيرها. ثم أخذ عليهم الميثاق بأنه خالقهم وأنهم من مصنوعاته وحده، وأن لا رب لهم يستحق العبادة غيره، فاعترفوا بذلك وأذعنوا بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم، وقبلوا ما كلّفوه، كما جعل للجبال عقولا خاطبهم بها، راجع تفسير الآية 10 من سورة سبأ والآية 11 من سورة فصلت والآية 68 من سورة النحل والآية 80 من سورة الأنبياء في ج 2 تعلم حقيقة هذا، إذ جعل الجماد والحيوان صالحا للخطاب بما ركب فيهما من عقل

ص: 451

كيف وهو الذي جعل النملة تتكلم بما ينم عن رفع الضر عنها وعن جماعتها وجلب النفع لهم، كما سيأتي في الآية 18 من سورة النمل الآتية بما ركب فيها من عقل، وجعل البعير والظبي والحجر والشجر تكلم حضرة الرسول بما أودع فيها من فهم لرفع ظلامتها إليه، وسعي الشجرة إليه، وانشقاق القمر بإشارته، إذا فلا يمتري من عنده لمحة من عقل أن يتردد في هذا العهد وأخذه من نسم الذرية وإجابتهم لخالقهم بما ذكر، اعترافا بالعبودية له وإذعانا لعظمته، وإن هذا العهد لقطع العذر يوم القيامة، وعدم قبول الاحتجاج بعدم علمهم به حينما يسألون عنه، وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية الموافق لمذهب أهل السنة والجماعة من السلف الصالح والخلف الناجح، وهو مؤيد بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم بن يسار الجهني بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن قوله تعالى:(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) الآية قال: سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون.

فقال يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار، فيدخل النار- أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود وقال حديث حسن، وأخرج الطبري نحوه عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي أيضا وقال حديث حسن صحيح ولا منافاة بين الآية والحديث من حيث أن الحديث يقول من ظهر آدم والآية تتضمن من ظهر ذريته لما مر تفصيله في تفسيرها آنفا، وقد بين الله تعالى سبب أخذ العهد آخر الآية وخاطبهم بإيجاب الاعتراف بربوبيته عليهم على طريق الاستفهام التقريري وإجابته بأسرها بالإيجاب، وأوجب على الرسل تذكير أقوامهم ومن أرسلوا إليهم بهذا العهد، وان الرسل لا شك نبهوهم له وأرشدوهم للمحافظة عليه، لئلا يبقى لهم عذر، فمن أنكر كان معاندا ناقضا عهده لا عذر له البتة، قال تعالى

ص: 452

«وَكَذلِكَ» أو مثل هذا التفصيل البليغ «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونوضحها ليتدبرها الناس فيعرضوا عن الكفر ويرجعوا إلى الإيمان «وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 174» إلى تذكر ميثاقهم الأول فيعملون بمقتضاه حتى لا تحق عليهم كلمة العذاب.

هذا، وبعد أن ذكر الله تعالى رسوله بتذكير قومه في هذا العهد العظيم وبين كيفيته ذكّره بقضية أخرى ليذكرها لقومه على سبيل الاتعاظ والانتباه والتحذير فقال عز قوله «وَاتْلُ» يا أكرم الرسل «عَلَيْهِمْ» أي قومك. وقال بعض المفسرين على اليهود، وهو غير سديد، لأن الآية مكية ولا مخاطبة بينه وبين اليهود بمكة، على أن لا مانع من شمولها اليهود وغيرهم لأنها جاءت بلفظ عام ولأنه مرسل إلى الخلق كافة ولا سيما أنه تلاها عليهم عند وصوله إلى المدينة بعد هجرته من مكة لا عند نزول الآية، فالقول باختصاصهم بها لاصحة له. أي أخبرهم «نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا» من علماء بني إسرائيل.

مطلب قصة بلعام ابن باعوراء وسببها:

قيل إنه من الكنعانيين من بلد الجبارين، أو من مدينة البلقاء، واسمه بلعام أو بلعم بن باعوراء أو باعراء أو ابن امرئ، اوتي علما ببعض كتب الله المنزلة على الرسل قبله وفي زمانه فكفر بها ونبذها وراء ظهره «فَانْسَلَخَ مِنْها» انسلاخ الجلد عن الشاة، ويقال لكل من فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه.

وفي هذه الآية دلالة على أن العلم لا ينزع من الرجل لقوله جل شأنه انسلخ لا انسلخت منه، يؤيده ما جاء في الحديث الصحيح:(إن الله لا ينزع العلم انتزاعا من قلوب الرجال، وإنما يكون بفقد العلم بموت العلماء) . والقرآن يفسر ببعضه وبالسنة تدبر قوله جل قوله «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» لحقه وأدركه، وفيه تلميح المبالغة باللحوق إذ جعل كأنه أمام الشيطان والشيطان مبالغ في اتباعه وهو من الذم بمكان على حد قوله:

وكان فتى من جند إبليس فارتقى

به الحال حتى صار إبليس من جنده

ص: 453

«فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ 175» بعد أن كان من المهتدين الراشدين، قال تعالى «وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها» بتلك الآيات التي علمها إلى منازل الأبرار ومراتب الأخيار «وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ» ركن ومال ملازما «إِلَى الْأَرْضِ» أي الدنيا رغبة بملاذّها، ونزولا لشهواتها الوضيعة، وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود، ولما في ذلك من الميل فسّر به كما فسرت الأرض بالدنيا لأنها حاوية لشهواتها، وبالطلب منها أنه يخلد إليها فخلد «وَاتَّبَعَ هَواهُ» بإيثار الدنيا على الآخرة «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ» بالخساسة والدناءة لأنه يرجع من قيئه ويأكل القذرة والجيفة أحب إليه من اللحم الغريفي، قال الإمام الشافعي رحمه الله:

ليت الكلاب لنا كانت مجاورة

وليتنا ما نرى مما نرى أحدا

إن الكلاب لتهدا في مرابضها

والناس ليس بهاد شرهم أبدا

وقال الفقيه منصور في شعب الإيمان:

الكلب أحسن عشرة

وهو النهاية في الخساسة

ممّن ينازع في الريا

سة قبل أوقات الرياسة

والكلب المضروب به المثل «إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ» لتزجره أيها الإنسان وتشد عليه وتطرده «يَلْهَثْ» يدلع لسانه بالنفس الشديد، وهو طبع في الكلب لأنه لا يقدر لنقص الهواء المتسخّن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده، بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء «أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» فاللهث غريزة فيه لا تنقيد في حال التعب والعطش وشدة الحر، إلا أن الحالة تزداد معه فيها «ذلِكَ» المثل الذي ضربه الله عز وجل لعباده فيمن آتاه الحكمة وتركها وعدل عنها فترك آخرته وآثر دنياه في الخسة والضعة، بأخس الحيوانات في أحسن أحواله، لأن الكلب حال لهثه لا يقدر على نفع نفسه وهذا هو «مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي مثل العالم الذي اتبع هواه لا يقدر على نفع نفسه، لأن الحريص على الدنيا إذا وعظته لا ينجع به وإن لم تعظه، فهو باق على حرصه فصار الحرص على الدنيا

ص: 454

طبعا له غريزيا، وهذا المثل الذي ضربه الله للمكذب بآياته يعم كل مكذب بها لأنهم إذا جاءتهم الرسل بالهداية لم يهتدوا فهم ضلال في كل حال «فَاقْصُصِ» يا سيد الرسل على قومك هذا «الْقَصَصَ» من أخبار الكافرين بآياتنا «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176» فيها فيتعظون، ولفظ الكلب لم يأت في القرآن إلا هنا وفي الآيتين 17 و 23 من سورة الكهف في ج 2، «ساءَ مَثَلًا» أي بئس المثل مثل «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» وقدم المفعول للحصر فقال «وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ 177» لا غيرها لأن وبال تكذيبهم خاص بهم، قال تعالى «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ» منكم أيها الناس «فَهُوَ الْمُهْتَدِي» حقا وثواب هدايته له «وَمَنْ يُضْلِلْ (منكم) فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 178» دنياهم وآخرتهم، ولا أضر من هذا الخسران. وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون ونقله ابن عباس ومحمد بن اسحق والسدي وغيرهم هو أن موسى عليه السلام لما قصد الجبّارين نزل أرض كنعان من الشام، فقال أهلها إلى بلعام، وكان عنده اسم الله الأعظم إن موسى صنديد ومعه جنود كثيرة وأنت رجل مجاب الدعوة، فادع عليه ليرد نفسه وجنوده عنا لئلا يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلّها بني إسرائيل، فقال لهم هذا نبي وإن فعلت معه ما تريدون ذهبت دنياي وآخرتي، قالوا لا بد أن تفعل، فقال حتى أستأمر ربي، قالوا لا بأس، فاستخار ربه فأري أن لا يدعو عليه، فأخبر قومه، فألحوا عليه وأهدوا إليه هذايا وطلبوا منه أن يدعو عليه، فاستأمر ربه ثانية فلم يؤمر بذلك، فأخبرهم فراجعوه، وقالوا لو كره ربك لنهاك عنه، ثم تضرعوا إليه وأغروه بما قدموا له من المال حتى فتنوه، فركب أتانه وتوجه إلى جبل هناك يسمى حسانا ليظلع عليه بني إسرائيل ويدعو عليهم، فربضت الأتان فصار يضربها فقامت ثم ربضت أيضا، وهكذا عدة مرات، ولما آلمها قالت له إنك تسوقني والملائكة يردونني، ويلك كف عني، أتذهب ويحك إلى مناوأة نبيّ الله الذي علمك اسمه لتستجلب به رضاه أو سخطه فتدعو على نبيه، فلم ينزع عن ضربها، فألهمت بمطاوعته كما ألهمت معاكسته، فانطلقت به وصعدت الجبل، فترجل عنها ونظر

ص: 455

إلى بني إسرائيل حتى إذا أشرف عليهم صار يدعو باسم الله الأعظم أن يخذلهم، فانصرف دعاؤه إلى قومه، وصار كلما دعا على قوم موسى بشيء أوقعه الله على قومه ولا يدعو لقومه بشيء إلا صرفه الله إلى قوم موسى، وذلك أنه صار ينطق بغير اختياره فقال له قومه: ويلك يا بلعام إنما تدعو لهم وعلينا فقال هذا مما لا أملكه، فقد غلبني الله عليه، ولم يزل يدعو لقومه وعلى بني إسرائيل وهو يجاب بالعكس حتى اندلع لسانه وقال لهم ذهبت دنياي وآخرتي ولم يبق لكم إلا المكر والحيل، وسأبين لكم ما يكون به إليكم الغلبة عليه، فقالوا كيف قال: جمّلوا نساءكم واتركوهن بين معسكرهم وأوصوهن أن لا يمنعن أحدا من الزنى بهنّ فإن زنى واحد منهم بواحدة منكم كفيتموهم، ففعلوا وطافت نساؤهم بين عساكرهم فمرت امرأة تسمى كستى بنت صور من أجمل النساء على رمزي بن شلهوم من عظماء بني إسرائيل فاقتادها، قرآه موسى فقال هي حرام عليك لا تقربها، فلم ينته، وأدخلها قبته وضاجعها، فأرسل الله الطاعون على قوم موسى، وكان صاحب أمره فخاص ابن العيزار غائبا، فلما

حضر وبلغه ذلك دخل عليهما بالقبة وانتظمهما بحربته، ورفعهما إلى السماء وقال اللهم هذا فعلنا بمن عصاك فأرنا فعلك في عدونا واكشف عنا ما ابتلينا به بسببه، فرفع الله عنهم الطاعون، وقد بلغ من مات من حين ضاجعها إلى زمن قتلهما سبعين ألفا. وفي بلعام المذكور نزلت هذه الآية على حضرة الرسول ليقصها على قومه، وهي من الإخبار بالغيب معجزة له صلى الله عليه وسلم. وتروى هذه القصة بصورة أخرى. وهي أن ملك البلقاء كلف بلعاما أن يدعو على بني إسرائيل وموسى وكان ما كان مما قصصناه أعلاه وفيها أن الله استجاب دعاءه ووقع موسى وقومه في التيه، وأن موسى قال رب كما استجبت دعاءه فاستجب دعائي عليه وانزع منه اسمك الأعظم والإيمان، فاستجاب الله دعاءه وسلخه من المعرفة، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء، ولا يقال كيف يدعو موسى بسلبه الإيمان ويرضى له بالكفر مع علو منصبه وأمره بدعوة الناس إلى الإيمان ذلك لأنه لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده كفره وارتداده عن الإيمان بدعائه عليه وعلى قومه وإيثاره الدنيا على الآخرة

ص: 456

إلا أن هذه الرواية بعيدة عن الصواب بحق موسى، لأن التيه قدره عليهم بسبب مخالفتهم لأمره في حرب الجبارين وكان عليه روح وراحة، وهذا مما لا شك فيه في حقه، أما على قومه، فكان فيه بعض المشقة والكلفة جزاء مخالفتهم أمره وكان هذا بدعائه عليهم لا بدعاء بلعام كما سيأتي في الآية 25 من المائدة في ج 3، قال الألوسي في تفسيره روح المعاني أنا أعجب من هذا الشقي لم لم يدع على ملك البلقاء ليخلص من شره ويدعو على موسى، ما هي إلا جهالة سوداء. هذا، وما جاء في كلام أبي المعتمر من أن بلعاما أوتي النبوة مردود لأن الأنبياء معصومون مما وقع من بلعام وان بلعاما كفر وهم معصومون من الكفر، ولعل هذا أراد ما أوتيه من الآيات والاسم الأعظم، على حد قوله صلى الله عليه وسلم من حفظ القرآن فقد طوى النبوة في جنبيه.

مطلب قصة أمية بن الصلت:

وقال عبد الله بن عمر وبن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم إن هذه الآية نزلت في أمية بن الصلت الثقفي، وكان قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله مرسل رسولا ورجا أن يكون هو، فلما شرف محمدا بالرسالة حسده وكذبه وقال لو كان نبيا ما قتل أقرباءه، قاتله الله ألم يعلم أن النبي مرسل للقريب والبعيد، وأن الكافر عنده كافر سواء كان من أقربائه أو من أعدائه، لأن الجامع فيما بينه وبين الناس هو الإيمان، فلما مات أتت أخته ضارعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن كيفية وفاته فقالت: نزل عليه اثنان من السقف فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه أوعى فقال وعى، قال أذكى قال أبى، فسألته عن هذا فقال خيرا أريد بي فصرف عني ثم قال:

كل عيش وإن تطاول دهرا

صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني قبل ما قد بدا لي

في خلال الجبال أرعى الوعولا

إن يوم الحساب يوم عظيم

شاب فيه الصغير يوما ثقيلا

فقال لها صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع هذا منها أنشديني ما سمعت من شعره، فقالت سمعته يقول ذات يوم:

ص: 457

لك الحمد والنعماء والفضل ربنا

ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد

مليك على عرش السماء مهيمن

لعزته تعنو الوجوه وتسجد

من قصيدة طويلة أتت على آخرها ثم قالت أيضا:

وقف الناس للحساب جميعا

فشقىّ معذب وسعيد

حتى أتت على آخرها ثم قالت أيضا:

عند ذي العرش يعرضون عليه

يعلم الجهر والخفاء الخفيّا

يوم يأت الرحمن وهو رحيم

إنه كان وعده مأتيا

رب إن تعف فالمعافاة ظني

أو تعاقب فلم تعاقب بريّا

فقال صلى الله عليه وسلم: إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه.

مطلب قصتي النعمان والبسوس:

وقيل إنها نزلت في النعمان بن صيفي الراهب، كما روي عن ابن أبي حاتم بأنه رجل ترهب في الجاهلية وقدم المدينة على حضرة الرسول، فسأله عن دينه فقال صلى الله عليه وسلم الحنيفية ديني ودين جدّي إبراهيم عليه السلام، فقال له أنا عليها، فقال صلى الله عليه وسلم:

لكنك أدخلت فيها ما ليس منها فلست عليها، فقال له: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا، وخرج إلى الشام واستنفر المنافقين، وطلب من قيصر النجدة لمحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يجبه ولم يوفق لمطلبه وبقي مقهورا حتى مات بالشام طريدا وحيدا.

إلا أن هذه لا تصح أن تكون سببا للنزول، لأن الآية مكية والحادثة هذه وقعت في المدينة، وإنما تنطبق في المعنى على هذا وأضرابه من كل من آثر دنياه على آخرته كما تقدم في تفسيرها، ولأن بين نزول هذه الآية وحادثة النعمان هذا الذي سلب الله نعمته وأهلكه بحكمه على نفسه سنين كثيرة راجع تفسير الآية 107 من سورة التوبة في ج 3. وقيل إنها نزلت في البسوس، وهي رواية عن ابن عباس، وخلاصة القصة أنه كان رجلا له زوجة وثلاثة أولاد وقد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، فقالت له زوجته اجعل لي منها واحدة ففعل، فقالت أدع

ص: 458

الله أن يجعلني أجمل امرأة، فدعا فصارت فرغبت عنه، فدعا عليها فصارت كلبة، فقال أولادها لأبيهم إن الناس تعيرنا بأمنا فادع الله أن يردّها إلى حالتها الأولى ففعل، فذهبت دعواته فيها. وليست بشيء لأن البسوس امرأة لا رجل، ويضرب فيها المثل فيقال أشأم من البسوس (وحرب البسوس) وهي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرّة الذي قتل ابن عمه كليب بسبب قتله ناقتها التي دخلت في حماه، فشكته إلى جساس فاغتاظ منه واستحين الفرصة من كليب، ولا زال يترصده حتى رآه خرج إلى حماه أعزل فتبعه وطعنه من قفاه بحربته فوقع صريعا على الأرض، ولما رآه وعرفه أنه ابن عمه طلب منه ماء فأعطاه طعنة أخرى فقال كليب:

المستجير بعمر وعند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار

فذهبت مثلا ومات كليب فطلب ثأره أخوه المهلهل ودام الحرب بينهما أربعين سنة، وقصتها مشهورة بالتواتر ولم يذكر لنا التاريخ بسوسا غير هذه. وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أن الذي نزلت فيه هذه الآية رجل من علماء بني إسرائيل كان يقدمه موسى عليه السلام في الشدائد ويكرمه وينعم عليه، فبعثه إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان به، وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى وتبع دين ملك مدين، قال المرحوم السيد محمود الآلوسي: هذه الرواية أولى عندي بالقبول ووجه اختياره لها، والله أعلم أن نظم التنزيل جاء مطلقا وتنطبق الآية على من هذا شأنه، لأن الرواية جاءت مطلقة في رجل من بني إسرائيل والآية مطلقة أيضا فلذلك اختارها. وقال الحسن وابن كيسان إن المراد بهذه الآية منافقو أهل الكتاب، وهذا بعيد أيضا إذ لا منافقين في مكة والآية مكية، وأبعد منه قول أبي مسلم إن المراد به فرعون وبالآيات الحجج والمعجزات التي ظهرت على يد موسى والأول أولى، قال تعالى «وَلَقَدْ ذَرَأْنا» خلقنا وهذا قسم من الله أي وعزتنا لقد هيأنا «لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» الكافرين منهم ولا تنافي بين هذه الآية وقوله:(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 57 من الذاريات، لأنه تعالى خلق للعبادة من علم أنه يعبده، وخلق لجهنم من علم

ص: 459

أنه يجحده وكم من عام يراده به الخصوص، ومن قال أن هذه اللام التي فى لجهنم لام العاقبة كاللام في قوله تعالى:(لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) الآية 88 من سورة يونس في ج 2، وكاللام في قول صاحب الزبد:

له ملك ينادي كل يوم

لدوا للموت وابنوا للخراب

بمعنى أنه لما كانت عاقبتهم جهنم جعلوا كأنهم خلقوا لها فرارا عن إرادة المعاصي.

لا عبرة به، لأنه عدول عن الظاهر، ولأن اللام واقعة في جواب القسم كما ذكرنا، والآية الأخرى والبيت المستشهد به لا قسم فيهما. على أن هذه الآية نفسها حجة واضحة لمذهب أهل السنة القائلين: إن الله تعالى خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها بصريح اللفظ قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 97 من الصافات في ج 2، ولا زيادة على بيان الله، ثم وصف هؤلاء المخلوقين لجهنم بقوله عز قوله «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها» لأن معنى الفقه الفهم والعلم ثم جعل علما على علم الدين، وهؤلاء لا يفهمون المراد من خلقهم ولا يعلمون ما يصيرون إليه «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها» طريق الهدى والرشد ولا ينظرون بها آيات الله وأدلة توحيده في سمائه وأرضه «وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» المواعظ سماع قبول لأنهم صمّ فإنهم للشر أسمع من الخير، ولكنهم قوم صرفوا حواسهم كلها إلى الدنيا وأعرضوا عن الآخرة، لذلك حرموا نعم تلك الحواس فيما يؤول به إلى خيرهم فلم ينتفعوا فيها قال الشاعر:

وعوراء الكلام صممت عنها

وإني إذ أشاء لها سميع

ولهذا قال ابن الفارض رحمه الله:

إذا نظرت ليلى فكلي أعين

وإن نطقت ليلى فكلي مسامع

«أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «كَالْأَنْعامِ» البهائم العجم «بَلْ هُمْ أَضَلُّ» منها لأنها تعرف ما ينفعها ويضرها ولهذا تراها تجتنب بعض الأعشاب ولا تلقي نفسها من الصعدات، وتخاف كل صيحة، وتنقي ما تراه من أسورة وغيرها فتتنبه وتقف وترجع إلى الوراء وتجتنب الحفر والمياه، وهؤلاء لا يعرفون عاقبة ما يضرهم ولا

ص: 460

نفع ما يسرهم معرفته حقيقة، مع أنهم أعطوا ما لم تعطه الحيوانات من القوة العقلية «أُولئِكَ» المشبهون بالأنعام «هُمُ الْغافِلُونَ 178» عن فهم هذه الأمثال المضروبة لمن يعقل عله يتعظ بها.

مطلب في أسماء الله الحسنى:

«وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» تأنيث الأحسن اسم تفضيل، لأنها أحسن أسمائه وكل أسمائه حسنة، إلا أن هذه تدل على معاني حسنه من تحميد وتمجيد وتقديس وتنبىء عن معاني كثيرة ومغازي شريفة لا تدل عليها غيرها. قال مقاتل: إن رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دعا الله ودعا الرحمن، فقال أبو جهل قبحه ولعنه الله:

يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما لهذا يدعو إلهين؟ جهلا منه بصفات الله، فنزلت هذه الآية. أما ما قيل من أنها نزلت حينما قرأ رجل في صلاته (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية قبل الأخيرة من سورة الإسراء الآتية، فغير وجيه لأنها لم تنزل، بعد وسنأتي على معاني أسماء الله الحسنى في أوائل سورة طه الآتية إن شاء الله. روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر) وفي رواية، من أحصاها. وفي رواية أخرى إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر، وهي معلومة محصورة في نوعين الأول عدم افتقاره إلى غيره والثاني افتقار غيره إليه «فَادْعُوهُ بِها» أيها الناس لا بغيرها من الأسماء، وفي هذه الجملة دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية، ويؤكده عدم جواز قولك الله سخي بدل جواد، وعاقل بدل عالم، وطبيب بدل حكيم، وعارف بدل خبير، وعدم جواز الدعاء بغيرها لقوله جل قوله «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ» لا تقلدوهم بما يقولون واتركوهم وشأنهم إذا لم يمتثلوا أمركم بالميل عن الإلحاد الذي هو عدول عن القصد والاستقامة إذ لا يجوز أن تطلق أسماء غيره عليه ولا أسماءه على غيره ولا نسميه بما لم يسم به نفسه مما لم يرد في قرآن أو سنة، فلا يجوز أن تقول يا ضار يا مانع يا خالق القردة

ص: 461

يا هدام الديار على الانفراد، بل إذا قلت هذا فقل: يا ضار يا نافع يا معطي يا مانع، يا خالق الخلق يا جبار القلوب، تأدبا معه جل جلاله، وإن كان في الحقيقة تلك من أسمائه لأنه هو المدمر والمخرّب والمحرّك، ولكنها ليست من الأسماء الحسنى، وكذلك لا يجوز أن نسميه باسم لا نعرف معناه كما جاء في الطلاسم والتعاويذ والرقى، فقد يكون مما لا يليق بجنابه العظيم فنعرض أنفسنا لما لا يرضاه مما يشير إليه قوله تعالت قدرته «سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 119» أولئك الملحدون في أسمائه، وفيها من الوعيد والتهديد ما لا يخفى على بصير. أما ما ذكره الشيخ علي محفوظ في الفصل التاسع من كنابه (الإبداع في مضار الابتداع) من أن من يسميه تعالى بغير اسم ورد في القرآن أو السنّة فقد كفر، ففيه ما فيه من المبالغة وحمل على السادة الصوفية وتنديد بهم، فهو قول مغالى فيه لا محل له من القبول، لأن التكفير أمر عظيم لا يكون إلا بإنكار أحد أركان الإسلام، وقال العلماء المنصفون لو وجد تسع وتسعون قولا بالتكفير وواحد بعدمه يفتى بالواحد، إذ لا يخرج الرجل من الإسلام إلا بإنكار ما دخل به فيه،

قال تعالى «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ» جماعة إلى الجنة وهذا بمقابل (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) في الآية السابقة ونظيرتها الآية 159 المارة، وهذه الطائفة المباركة هم الذين دأبهم أنهم «يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» ويرشدون الناس إلى طريقه «وَبِهِ يَعْدِلُونَ 180» بأحكامهم على أنفسهم وعلى غيرهم لا يفرقون في الحق بين قريب وغريب وعدو وصديق وحقير وشريف. قال ابن عباس يريد بهذه الآية أمة محمد صلى الله عليه وسلم. روى البخاري ومسلم عن معاوية قال وهو يخطب:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) . وفي الآية هذه والحديث هذا إشارة إلى أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه، قال تعالى «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» من أي أمة كانت لأن الصيغة للعموم فتتناول الكل إلا ما دل الدليل على استثنائه فهؤلاء «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» شيئا فشيئا إلى الهلاك «مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 181» ما يراد بهم ولا يشعرون بمصيرهم ولا يحسون

ص: 462

بمنقلبهم حتى يستأصلوا بالعذاب على غرّة، وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم الدنيا ويزيدهم من نعيمها ما عليه يغبطون، وإذا أقدموا على ذنب أو عملوا جرما فتح عليهم أبواب الرزق ليزدادوا تماديا في الشرّ ويحسبون أنه أثرة من الله آثرهم بها على غيرهم وينسيهم سيئاتهم حتى لا يرجعوا عنها ويستغفروا منها ويظنوا أن الله لا يحاسبهم عليها وهم لا يعلمون أن ذلك كله عربون لأخذهم بغتة وإهلاكهم على حين غفلة، إذ يفاجئهم بأمر لا محيص لهم منه، ويدل على هذا قوله «وَأُمْلِي لَهُمْ» أمهلهم بإطالة أعمارهم ولا أعاجلهم بالعقوبة حتى يظنوا أنهم أهملوا، ولم يذكروا «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 182» قوي شديد لا يجارى ولا يبارى، ومن جملة هذا الكيد أن أغلق عليهم باب التوبة، فلا أجعلهم يتصورونها. وأراد بالكيد هنا الأخذ وإنما سمي كيدا تشبيها به من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الباطن خذلان ثم شرع يندد في كفار قريش بقوله عز قوله «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا» هؤلاء الذين يصمونك بالجنة أيها الكامل مع أني أقول لهم «ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ» فكيف ينسبونك إلى الجنون وأنت مصاحب لهم ليل نهار ويعلمون يقينا أنك أكمل البشر وأقول لهم «إِنْ» ما «هُوَ» صاحبكم «إِلَّا نَذِيرٌ» لكم يخوفكم من أن يأخذكم ربكم بعذاب شديد لا تطيقونه إن أصررتم على كفركم ولم تؤمنوا به وهو «مُبِينٌ 183» لكم طريق الخير وموضح لكم سبل الصواب ومرشدكم لكل ما به نفعكم واجتناب ما يصركم، نزلت هذه الآية حينما وقف صلى الله عليه وسلم على الصفا ودعى قريشا فخذا فخذا وحذرهم بأس الله تعالى ووقائعه إن لم يؤمنوا به، وأنه ينزل بهم من العذاب ما أخذ به من قبلهم، فقال بعضهم لبعض إن هذا لمجنون دعوه يصوت حتى الصباح فأكذبهم الله فيها، طفق يحثهم على دلائل وحدانيته مما يؤدي لإيمانهم إن كانوا يعقلون، فقال «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وعظمتهما وما فيهما من المنافع، والملكوت هو الملك زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة مثل جبروت ورحموت مبالغة في التجبر والرّحمة، ويتأملوا «فى ما خَلَقَ اللَّهُ» فيهما وبينهما وما فوقهما وتحتهما «مِنْ شَيْءٍ» ذكر الشيء ليعم فيشمل جميع الأشياء

ص: 463

العلوية والسفلية، إذ في كل منها عبر توجب التفكر والتدبر والنظر لدلالتها على آثار قدرته في مكوناته وعجائب صنعه في مخلوقاته:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

أي لماذا لم يتذكر الناس فيما برأه ربهم في هذين الهيكلين العظيمين وما خلقه لهم فيهم «وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» فيموتوا على كفرهم فيخسروا آخرتهم كما خسروا دنياهم، فيا سيد الرسل إذا لم يؤمنوا بك وأنت الذي لا نبيّ ولا كتاب بعدك «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 184» لأنك خاتم الأنبياء وكتابك خاتم الكتب، أي أنهم لا يؤمنون البتة لأن اعراضهم هذا لسابق ضلالهم وأنهم في علم الله خبثاء لا يتوقع منهم الهدى لأن «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» أبدا إذ طبع الله على قلوبهم فمالوا عن الحق إلى الضلال وقد أعماهم عن سلوكه لأنه يريدهم إلى ما قدره إليهم في أزله «وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 185» لا يدركون شيئا في بصيرتهم كما لا يرونه بأبصارهم فهم دائما متحيرون لا يهتدون إلى صواب:

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة

إلى أين يسعى من يغص بماء

مطلب في الساعة ومعنى احفوا الشارب:

ثم إن من كفرة قريش من سأل حضرة الرسول عن الساعة التي يخوفهم بها لأنهم ينكرونها فيقولون له متي تكون فأنزل الله «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ» سؤال سخرية واستهزاء لأنهم لا يصدقون بها لهذا يقولون لك هؤلاء الكفرة «أَيَّانَ مُرْساها» يريدون متى تأتي، لأن الإرساء هو الوقوف والإثبات، فإذا جاءت فكأنها ثبتت أمامهم فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل أنا لا أعلم وقت مجيئها «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» وحده لا يعلمها غيره، فكما أنه أخفى عليكم أجل موتكم فقد أخفاها عليّ وعلى الناس أجمع ليكونوا كلهم على حذر دائم من وقوعها، فإخفاؤها أدعى لملازمة الطاعة والمثابرة عليها والمبادرة إلى التوبة والمباعدة عن المعاصي «لا يُجَلِّيها» ليظهرها ويكشف أمرها «لِوَقْتِها» المقدر لها كي يراها الناس «إِلَّا هُوَ» وحده، واعلموا أيها الناس إن الساعة قد «ثَقُلَتْ» عظمت وكبرت وقيل

ص: 464

خفيت لأن الشيء إذا ثقل خفي فأبدل اللفظ به، وعليه فإن في الآتية بمقام على، أي اشتد هو لها على من «فِي السَّماواتِ» من الملائكة «و» على من في «الْأَرْضِ» من الثقلين الإنس والجن وأهمهم شأنها وأخافهم هولها، وهنا حذف لفظ أهل وهو من بديع الكلام ولذلك قدرنا (من) لفظ قبل السموات والأرض، واعلموا أيها الناس إنها «لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» فجأة على غرة وغفلة من الناس أجمع.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (الناقة الوالدة حديثا) فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط (يطين ويصلح) حوضه فلا يسقى فيه، ولنقومن الساعة وقد رفع أكلته (بضم الهمزة اللقمة) إلى فيه فلا يطعمها. ومن هنا قال بعضهم إن الساعة تؤلف ولا تؤلفان لأن حروف بغتة بحساب الجمل ألف وثمانمائة واثنان والصحيح انها وأربعمائة واثنان، لأن التاء مكررة فيها والمكرر لا يحسب عادة ولكن تضاف حروف الكلمة لها فتكون 1406، ونحوها قوله تعالى (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) الآية 76 من الإسراء الآتية، فإن حروفها عدا المكرر 1399 وحروفها 11 فتكون 1410 تدبر. وأعلم أن هذا لطريق الاستنباط لا غير، وفي الحقيقة لا يعلم مداها إلا هو «يَسْئَلُونَكَ» يا سيد الرسل «كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها» بليغ في علمها شديد السؤال عنها، أي. يسألونك عنها كأنك حفي بها ففيه حذف والإحفاء هو الاستقصاء بالشيء ومنه حديث احفوا الشارب المار ذكره في الآية 95 أي استقصوا في قصه حتى يكون كالحاجب بأن تكون له حواف، أي تبدو منه حواف شفته. وقد أخطأ صنعا من زين شاربه استدلالا بهذا الحديث لزعمه أن معنى الإحفاء هو ذاك، مع أنه مع بقاء اللحية مثلة، وحاشا رسول الله أن يأمر بها، ألم يعلم هذا المتحفف أن رسول الله لم يزّين شاربه بالموسى ولا بالمقصّ بل كان يأخذ منه مازاد على الشفة، وأنه لا يأمر بما لا يفعل، وأن الاقتداء به هدى والمخالفة له ضلال.

قرأ ابن مسعود (حفيّ بها) أي كأنك عالم بها مراعاة لمعنى الباء المؤدية لمعنى ت (30)

ص: 465

عن في الآية المارة، وهي قراءة إن صحت عنه فهي شاذة لا يجوز أن تقرأ لما فيها من إبدال حرف بغيره متباينين في المعنى، وقيل إن معنى حفى عن الشيء إذا بحث عن تعرف حاله، واستقصاه إذا اعتنى به، وعليه قول الأعشى:

فإن تسألوا عني فيا رب سائل

حفي عن الأعشى به حيث أصعدا

والأول أولى، راجع الآية 95 المارة في بحث الإحفاء وعلى كل «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» كرر الجواب جل شأنه لتكرار السؤال تأكيدا للحكم وتقديرا له واشعارا بعلّته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبئ عن استتباعها بصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم، فالسؤال الأول عن بيان وقت قيام الساعة، والثاني عن بيان أحوالها الشافة، ولهذا قال جل شأنه «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 186» معنى اختصاص علم الله بها، فبعضهم ينكرها رأسا ولا يسأل عنها إلا تلاعبا، وبعضهم يعلم أنها واقعة، ولهذا قال أكثرهم:

ويزعم أن محمدا واقف على وقت وقوعها فيسأل جهلا، وبعضهم يزعم أن العلم بها من مقتضيات الرسالة فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها بأن يقول كيف يدعي الرسالة ويخوفنا القيامة ولا يعرف متى تقوم، وبعضهم واقف على جلية الحال ويسأل امتحانا فهو ملحق بالجاهلين لعدم علمه بعمله وعمله بعلمه. هذا، ولما سأل أهل مكة محمدا صلى الله عليه وسلم ألا يخبرك ربك بالأسعار لنتيقن ونتحقق الربح، وبالجدب والخصب لنأمن على أنفسنا وحيواناتنا من الجوع والعطش، أنزل الله «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا» لأني بشر مثلكم فلا أقدر على دفع الضر وجلب الخير «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» لي من ذلك أن أملكه بتمليكه إياي، وهذا غاية في إظهار العبودية ونهاية في التبري عن خصائص الإلهية ومبالغة في إظهار العجز، وبما أن ذلك من العلم بالغيب أتبع هذا التبرّي بقوله «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ» كما تظنون «لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» الذي يمكن التقصي عنه بالتوقي من موجباته ولم أكن مغلوبا لكم في بعض الأحوال، وهذا قبل أن يطلعه الله على بعض مغيباته ولما أطلعه أخبره، قال تعالى: (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ

ص: 466

أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)

الآيتان 26 و 27 من سورة الجن الآتية، ثم أكد نفي ذلك بقوله «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ» للكافرين أمثالكم من أن يلحقهم غضب الله إن لم يرجعوا عن كفرهم «وَبَشِيرٌ» بالثواب العظيم من الله «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 187» بي ويصدقون رسالتي، ثم ذكرهم بأصل خلقهم بقوله عز قوله «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي نفس آدم عليه السلام «وَجَعَلَ مِنْها» من نفسها زوجها» حواء لأنها خلقت من نفس آدم، لذلك قال منها أي من جنسها، وقد جاء في الخبر أن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم اليسرى، ونظير هذه الآية من حيث المعنى الآية الأولى من سورة النساء في ج 3 والآية 97 من سورة الأنعام في ج 2، أما كيفية خلقها فعلى ما هو عند الله تعالى مما هو مجهول عندنا، والله لا يعجزه شيء وقال تعالى في الآية 72 من سورة النحل في ج 2 (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) وعليه ينبغي أن تكون من هنا ابتدائية، ويكون المعنى من جنسكم أيضا، ويحتمل أن تكون تبعيضية، فيصير المعنى من جسدكم، فالمعنى الأول ينطبق على آدم وسائر البشر، وعلى الأخير لا ينطبق إلا على آدم، وسنأتي على تفصيل كل من هذه الآيات في محله إن شاء الله «لِيَسْكُنَ إِلَيْها» يأوي ويأنس بها واللام للعلة الغائبة، أي يطمئن إليها.

مطلب أدب التعبير وحمل حواء الأول:

وقد ذكّر الضمير في ليسكن ولم يؤنثه باعتبار النفس كما هو الظاهر لأن المراد منها آدم، ولو أنث الضمير على الظاهر لتوهم نسبة السكون للأنثى وهو خلاف المقصود من قوله «فَلَمَّا تَغَشَّاها» والغشي منسوب للذكر قولا واحدا وهو أحسن كناية عن الجماع وأكثر أدبا فيه، لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة، وفي هذا تنبيه لحفظ اللسان من الكلام البذيء ولو كان لا بأس به، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: تأدبوا بآداب الله كي ينزه الإنسان دائما لسانه عن ذكر ما فيه فحش ولو حلالا، وهذا من جملة آداب القرآن، ويقال له أدب التعبير في علم البلاغة «حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً» بادىء بدء لأنه عبارة عن نطفة فلا يحس بها ثم يتدرج إلى علقة فمضغة وهكذا إلى

ص: 467

كماله، ولهذا قال تعالى «فَمَرَّتْ بِهِ» أي بحملها لخفته لأن كبره في الرحم تدريجيا والثقل التدريجي لا يحس به غالبا، وقرأ أبو العالية مرت بالتخفيف مثل ظلت، في ظللت أو من المرية أي شكت في حملها، لأنه شيء لم يعهد عندهما قبل وقرأ ابن الجحدري فمارت من مار يمور إذا جاء وذهب يريد به الحمل لأنه يتقلب بالمشيمة، وكل هذه القراءات جائزة إذ لا زيادة فيها ولا نقص والتصحيف لا بأس به.

أما ما نقل عن ابن عباس أنه قرأ استمرت ففيها زيادة حرف وتبديل حرف فلا يجوز قراءتها «فَلَمَّا أَثْقَلَتْ» بكمال الحمل وارتفاع البطن وصارت تتألم لضرب الولادة «دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما» تضرعا وإخباتا لأنهما رأيا شيئا عجيبا لم يصرفا مصيره وخافا عاقبة الأمر واهتما بحال خروج الولد، فتوجها إلى مالك أمرهما وطلبا منه حسن العاقبة فقالا «لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً» بشرا سويا مثلنا سالما من النقص والزيادة «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 188» لنعمائك دائبين عليه، وذلك لأنهما لم يريا أحدا من جنسهما ولم يكن إذ ذاك غير الجن والحيوان والوحش والطير، فخافا أن يكون من جنس أحدهما فرغبا إلى ربهما أن يكون على شكلهما ولونهما «فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً» كما أرادا «جعلا» أي نسلهما وأولاده على حذف مضاف مثل قولك سال الوادي وتريد ماءه، ومثل قوله تعالى:(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) يريد أهلها، وحذف المضاف متعارف عند العرب واتخذا «له» للإله الواحد «شُرَكاءَ» من الملائكة والبشر والحيوان والجماد وغيرها من مخلوقاته وأشركوها بعبادته «فِيما آتاهُما» أي أولادهما وأنفسهما من النسل إذ أضافوا ذلك إليهما، وإنما ثني الضمير باعتبار أن الذي أتاهما ذكر وأنثى، وعبر بما بدل من لأن هذين الصنفين عند ولادتهما ملحقان بما لا يعقل وإنما أسند الجعل للنسل كله مع أن البعض لم يجعل لنلبسه بمحض الإيمان لأنهم الأكثر على حد قولهم (بنو تميم قتلوا فلانا) والقاتل واحد، وقوله تعالى:(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ) الآية 67 من سورة مريم الآتية وليس كل إنسان يقول ذلك «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 189» معه من لا يستحق العبادة، وجمع الضمير على عوده للنسل الذي أشرك، وفيه تغليب

ص: 468

المذكر على المؤنث إيذان بعظم الشرك ولأن من جوّز الشريك الواحد جوز الشركاء، وقد أضاف جل شأنه في هذه الآية فعل الآباء إلى الأبناء متهكما فيما آل إليه أمر ذريتهم، كما أضاف فعل الأبناء إلى الآباء في قوله اتخذتم العجل.

وقتلتم نفسا. الآيات 51 و 92 و 72 من سورة البقرة في ج 3 إذ خاطب فيها اليهود الذين على زمن محمد صلى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم زمن موسى عليه السلام وهذا أحسن الأقوال في تفسير هذه الآية. ولا يقال إن هذا من قبيل الرأي وتفسير على خلاف الظاهر، لما ذكرنا في المقدمة من لزوم اتباع الظاهر حسب المستطاع، إذ لا استطاعة هنا ولا مخلص إلا بالأخذ على خلاف الظاهر، لأنه أليق بالمقام وأوفق للمعنى، ولأنه إذا تعذرت الحقيقة وجب الجنوح إلى المجاز، ولأن إعمال الكلام ولو تأويلا عند جواز المعنى أولى من إهماله. وبلي هذا القول قول من قال إن الضمير في خلقكم يعود إلى قريش آل قصي، إذ لا يجوز عوده لآدم عليه السلام، لأن إسناد الشرك إليه محال، كيف وهو نبي معصوم! واستدل بضمير الجمع في (يُشْرِكُونَ) لأنهم خلقوا من جنس قصي وزوجته القرشية بنت سيد مكة من خزاعة، وقد سميا أولادهما عبد مناف وعبد العزى وعبد شمس وعبد الدار، بدلا من عبد الله وعبد الرحمن مثلا، فيكون المراد بهذه الآية هما وأعقابهما الذين اقتدوا فيهما بالشرك، وأيد قوله هذا بقول أم معبد:

فيا لقصي ما روى الله عنكم

به من فخار لا يبارى وسؤدد

حتى قال جماعة من العلماء إنه تفسير حسن لا إشكال فيه. نعم هو وجيه إلا أنه يرد عليه عدم علمنا بقصي وزوجته بأنهما وعدا الله عند الحمل بما ذكر في الآية، لأنهما كانا كافرين وكانت قريش متفرقة، ثم جمعها قصي ولذلك سمي مجمعا، فلم يخلق المذكورون من نفسه فضلا عن أنه لا محل لاستغرابهما الحمل مثل آدم وزوجته.

أما ما قاله بعض المفسرين من أن الإشراك بالتسمية فقط وهو لا يعد شركا وجوزوا إطلاقه على آدم عليه السلام وزوجته، واستدلّوا بما قاله عكرمة ما أشرك آدم ولا حواء ولكن كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان وقال لهما، إن سركما أن

ص: 469

يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث يعني نفسه، لأنه كان بين الملائكة يسمى حارثا ففعلا فعاتبهما الله على ذلك بما ذكر بالنسبة لمنصبهما، على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقول الآخرين من أنه يفهم من قوله تعالى أثقلت، أن حواء كانت تسقط حملها قبل كماله، فلما كمل في هذه المرة دعوا الله بما قصه في هذه الآية، واستدل بما أخرجه الترمذي وأحمد وحسنه الحاكم وصححه عن سمرة بن جندب قال:

قال صلى الله عليه وسلم: لما ولدت حواء طاف إبليس وكانت لا يعيش لها ولد، فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته، قال القطب: لا بعد هذا شركا لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية، ولكن أطلق عليها لفظ الشرك تغليظا وإيذانا بأن ما عليه أولئك السائلون أمر عظيم. وقال الطيبي: هذا أحسن الأقوال لأنه مقتبس من مشكاة النبوة. وقال غيرهم إنه موافق لسياق الآية المنزلة بحسب الظاهر، ولا يصار لغيره إلا بدليل، أقول نعم لو كان هذا الحديث مسلما بصحته أما لا فلا:

لأن في سنده عمر بن ابراهيم المصري، قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به متروك وفضلا عن هذا فإنه ليس مرفوعا بل هو موقوف على سمرة، والموقوف على الصحابي فيه ما فيه، والدليل إذا طرقه الاحتمال سقط الاستدلال به، وقد جاءت روايات أخرى عن معمر عن الحسن، وعن ابن جرير عن الحسن، وعن قتادة عن الحسن كلها مختلفة باللفظ متضاربة بالمعنى، وإن هكذا روايات لا تخلو عن الدس من أهل الكتاب، لأنه لو ثبت عن الحسن ما نقلوه عنه لما فسرت هذه الآية على غير ما روي عنه، وهناك رواية أن الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحارث خرجها ابن جرير عن الخبر، بما يدل على أن هذه وتلك منقولة عن أهل الكتاب لما قيل إنها نزلت في اليهود والنصارى، لأنهم هوّدوا ونصّروا أولادهم إلى غير ذلك من الأقوال التي لا ترتكز على ما يطمئن له الضمير ويركن إليه العقل، وشكّ أن الآية من المشكلات وقد تضاربت فيها آراء المفسرين، وأحسن شي ما أثبتناه في تفسيرها وهو ما اعتمده جهابذة المفسرين، ولو كان هناك حديث صحيح لا غبار عليه يفهم منه تفسيرها على غير ما جرينا عليه لاتبعناه، قال الشافعي رحمه

ص: 470

إذا صح الحديث فهو مذهبي، وعلى هذا أكثر المفسرين من أساطين الإسلام الذين هم أعلى رتبة وأسنى مقاما من مخالفيهم. هذا، وكان يولد لهما في كل بطن ذكر وأنثى وكانا يزوجان ذكر البطن الأول البنت من البطن الثانية وذكر البطن الثانية البنت من البطن الأول، وهكذا تناسلا وكثرا، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 27 من سورة المائدة في ج 3، ومن هذا النسل من جرأ واتخذ لحضرته سبحانه شركاء، من الأصنام والنجوم والملائكة والنار والبقر وغيرها من مخلوقاته تعالى الله عن ذلك وتنزه، وأشركا ذلك النسل فيما أتاهما من الأولاد إذ أضافوا ذلك إليهم، وعبّر هنا أيضا بما دون من لأن هذه الاضافة وقعت منها عند الولادة والأولاد إذ ذاك ملحقون بما لا يعقل كما أشرنا إليه آنفا، وإسناد الجعل للنسل على العموم، مع أن البعض لم يجعلوا جاء على ما هو متعارف عند العرب كما مر في تفسير الآية 189 ومثله قوله تعالى:(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الآية 16 من سورة عبس المارة والمراد بعض الإنسان تدبر وقل «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 190» فيه ذلك النسل الذي جعل له شركاء، وفيه تغليب المذكر على المؤنث وإيذانا بعظم إشراكهم، قال منددا صنيعهما على طريق الاستفهام الإنكاري

«أَيُشْرِكُونَ» بي وأنا خالقهم «ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً» من الأشياء أصلا، ومن حق المعبود أن يكون خالقا وهؤلاء «وَهُمْ يُخْلَقُونَ 191» بصنع أيدي مخلوقي وجاء ضمير الجمع على صفة من يعقل بناء على اعتقاد الكفار بأن الأصنام تعقل وتنفع وتضر، فأجراها مجرى من يعقل، وفي قوله «وَلا يَسْتَطِيعُونَ» أولئك الأوثان المتخذة شركاء لي «هم» لعابديهم عند حاجتهم لهم «نَصْراً» مما يحل بهم من أمر مهم أو خطب ملمّ «وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ 192» أيضا إذا وقع عليهم تعد من كسر واهانة «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ» أيها الكفرة «إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ» هذا بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم بالنص، والهدى مجرد الدلالة على البغية والإرشاد إلى طريق حصولها من غير أن تجعل للطالب، راجع تفسير الآية 17 من سورة فصلت في ج 2 «سَواءٌ عَلَيْكُمْ» أيها المشركون بهم «أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ

ص: 471

صامِتُونَ. 193»

وهذا مثل ضربه الله تعالى في عدم الإفادة منهم في الدعاء وعدمه، أي أن دعاءكم لهم في عدم الإفادة وسكوتكم عنهم سيان، فلا يتغير حالكم في الحالتين كما لا يتغير حالهم في الحالين، لأنها جماد والجماد يستوي فيه الحالان، وقال بعض المفسرين إن ضمير تدعوهم يعود لحضرة الرسول على سبيل التعظيم، أو له وللمؤمنين وضمير المفعولين في (تدعوهم) و (أدعوتموهم) للمشركين والمراد بالهدى دين الحق، أي إن تدعو المشركين إلى الإسلام لا يتبعوكم. إلا أن سياق النظم الكريم وسياقه لا يساعد هذا البتة كما ترى، لأنه لو كان كذلك لقال عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى:(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الآية 10 من سورة يس الآتية، لأن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة للمشركين لا بالنسبة للداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة، وإن من نقل هذا القول عن الحسن لم يتثبت بنقله ولم يترو بصحته. أما من نقله عن الطبرسي فإن صح فليس بشيء لأنه رحمه الله لم يحقق ما ينقله حتى قيل عنه إنه (حاطب ليل) ومما يقرر ما جرينا عليه ويؤكده قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وتسمونهم آلهة ليسوا بآلهة إنما هم «عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» مسخّرون مذلّلون لله ومن جملة مملوكيه قرأ ابن سعيد بتخفيف (إن) ونصب عباد على حد قول القائل:

إن هو مستوليا على أحد

إلا على أضعف المجانين

وقرأ آخرون بنصب أمثالكم أيضا على أنّ أن المخففة تنصب الجزأين المبتدأ والخبر على حد قوله:

إذا اسودّ جنح الليل فلتأت ولتكن

خطاك خفافا إن حراسنا أسدا

والقراءة الأولى أولى وهي التي عليها المصاحف المختارة على غيرها إذ ذكرنا غير مرة إن القراءة إذا لم تكن تبدل أو تغير فتجوز وإلا فلا لأن التخفيف والتشديد والمد والإمالة لا تغير الحروف ولا الكلمات ولا المعنى وكل ما كان كذلك فلا بأس به «فَادْعُوهُمْ» أيها المشركون «فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» ما تدعونهم به «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 194» في زعمكم أنهم ينفعونكم، وهذا تحقيق لمضمون ما قبله وتبكيت

ص: 472

لهم بما يدّعونه فهم من القدرة والهدى والضلال، ومما يؤكد هذا ويزيد في التوبيخ ونفي ما يتوهمونه في أوثانهم قوله جل قوله «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» حتى تخاطبوهم؟ وترجوا نصرهم كأناس أمثالكم، كلا ليس لهم حواس كحواسكم وجوارحكم فليس لكم مصلحة بهم أصلا، فيا أكمل الرسل «قُلِ» لهؤلاء الأغبياء «ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ» واستعينوا بهم لينصروكم أو يدفعوا عنكم ضرا، إن كان ما تتصورونه بها حقا «ثُمَّ كِيدُونِ» جميعا أنتم وشركاؤكم بما تستطيعون من أنواع الحيل والمكر فإن قدرتم علي «فَلا تُنْظِرُونِ 195» لحظة واحدة ولا تمهلوني لأستعين بأحد عليكم، وإذا تحققتم عدم نصرتها وعدم إجابتها دعاءكم وظهر لكم عجزها وعجزكم أيضا عن أن تمسوني بشيء لأن معبودي يملك النصر ويجيب الدعاء فلا يمكّنكم من إيصال كيدكم إلي، وذلك «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ» القوي العزيز القاهر لكل شيء الحافظ لمن يتولاه الخاذل من يتكل على غيره المذل من عاداه هو الإله «الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ» علي وشرفني بالنبوة «وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ 196» أمثالي لعمارة هذه الأرض ويطهرها من الشرك ويحفظني ومن اتبعني من كيد الكائدين وينصرنا على من يناوثنا «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أنتم وأمثالكم أوثانا «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ 197» كررت هذه الآية بالمعنى بزيادة بعض الكلمات زيادة في التقريع والتوبيخ، وفيها بيان أن الفرق بين من من تجوز عبادته وهو الله، ومن لا تجوز وهي أوثانكم المشار إليها بقوله «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى» لما به نفعكم واجتناب ضركم في الدنيا والآخرة «لا يَسْمَعُوا» دعاءكم لأنها جماد أو حيوان «وَتَراهُمْ» يا سيد الرسل «يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ» أي يخيل إليك يا حبيبي أن الأصنام تبصر من ينظرها بعيونها المصنوعة من الجواهر المتلألئة «وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ 198» لأن قوة النظر لا تكون بشيء مما يصوغونه من مكوناتنا، وإنما هي من قدرة الإله الخالق الذي أعجز جميع خلقه عن معرفة المادة الموجودة في الأعين ولا يزالون عاجزين إلى أن يشاء الله. هذا ما يقتضيه

ص: 473

سياق الآية بالنسبة لما قبلها، ونقل عن الحسن أن الخطاب في (وإن تدعوهم) إلى المؤمنين وضمير المفعول للمشركين، على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى (يَنْصُرُونَ) خاتمة الآية قبلها وعليه يكون المعنى: وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ولا يقبلوا منكم. وعليه يحسن تفسير السماع بالقول، وجعل وتراهم خطابا لسيد المخاطبين بطريق التجريد، ويكون في الكلام تنبيه على أن ما فيه عليه الصلاة والسلام من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد، وهو وجيه أيضا.

مطلب: في مكارم الأخلاق التي يأمر بها الله رسوله:

قال تعالى «خُذِ الْعَفْوَ» الميسور من أخلاق الناس مما يسهل عليهم ولا تستقص عليهم فينفروا منك، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا، أي لا تكلفهم بما يشق عليهم واقبل منهم ما تيسر وعليه قوله:

خذي العفو مني تستديمي مودتي

ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب

يريد سكوتها عند ثورة غضبه، وفي رواية: في صورتي أي لا تقابليني بما أتكلم عليك.

ويجوز أن يكون المراد اعف عن المذنبين من أصحابك، وعاملهم بالعفو، وهو أولى لموافقة الظاهر وما يوافق الظاهر أظهر. روى البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت هذه الآية إلا في أخلاق الناس، ومعنى العفو لغة الفاضل الزائد على قدر الحاجة من المال، ولذلك قال ابن عباس: معناها هنا خذ ما عفا من أموال الناس مما آتوك به لا تكلفهم غيره. وهذا قبل نزول آية الصدقات عدد 266 من سورة البقرة في ج 3، وأخرج أبو الشيخ عن الجوهري أنه قال: لما نزلت هذه الآية كان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفاضل، إلى أن نزلت آية الزكاة «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» المستحسن من الأفعال والأقوال فإنه أقرب إلى قول الناس، لأن الأمر بالجميل من الأقوال والأفعال وكل ما يرتضيه العقل والشرع من الخصال إذا كان بالمعروف يتلقى بالقبول، وجاء في باب التأويل: وأمر بكل ما يأمرك الله به وعرفته من الوحي وهو كما ترى «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ 199»

ص: 474

بمقالك وكتابك وربك، ولا تكافئهم على سفههم ولا تمارهم على جدالهم، وعاملهم بالحكمة وأغض عما يسوءك منهم وعن مساوئهم، وقابلهم بأخلاقك لا بأخلاقهم، فإنه أجدر بمقامك وأوقع بمكانتك وأليق بمخاطبتك ودم على هذا حتى يأتي الوقت الذي ستؤمر فيه بقسرهم، وهذه الآية أجمع آية في القرآن العظيم لمكارم الأخلاق، ففي أخذه بالعفو صلة من قطيعة والصفح عن من ظلمه، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وغض البصر عن المحارم وصون اللسان عن الكذب، وفي الإعراض عن الجاهلين تنزيه النفس عن السفهاء ومنازعة اللجوجين، ولا شيء منها إلا وهو داخل في هذه الآية الكريمة من جوامع الكلم، هذا وان ما قاله السدي بأن هذه الآية منسوخة بآية القتال لا وجه له، ولا توجد ضرورة داعية إلى دعوى النسخ لأنها عبارة عن تحري حسن المعاملة والمعاشرة مع الناس وتوخي تبدل الجهد وإفراغ الوسع في الإحسان إليهم والمداراة لهم فيما لا يضر بالدين ويجلب إلى المودة وتحسين العلائق معهم.

مطلب في النسخ والنزغ ومعناه.

وأساس هذا كله المحبة للحق، ومن دواعي المحبة وملاكها هذه المعاملة المبيّنة أعلاه والمعاشرة التي هي أساس كل خير وخلاصته، وإذا علم أن للقرآن العظيم مادة عامة ومادة خاصة وان استعمال كل في موقعه من الحكمة التي ينبغي أن يتحلى بها كل حكيم محاكم لأمره ناظر عاقبته أيقن أن لا نسخ في هذه الآية وأشباهها مما أشرنا إليه قبلا سنشير به بعد، وقد علم كل أناس مشربهم ولكل وجهة، فالسعيد من لا يتعدى بوجهته ظاهر كلام الله ما وجد له محملّا خشية أن يقع بما لا يرضيه، وفقنا الله لرضاه. هذا. وما أحسن وقع هذه الآية الجليلة بعد تعداد أباطيل المشركين وقبائحهم بما لا يطاق حمله: قال ابن زيد لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: كيف بالغضب يا رب؟ فأنزل الله جل انزاله «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» أي نخس بوسوسة يروم إبقاءها في قلبك الشريف على خلاف ما أمرت به في هذه الآية وما قبلها مما أنزل عليك من الوحي فلا تمل إليه ولا تركن لما ينخسك به ولا

ص: 475

تطعه بوساوسه في كل ما هو مخالف لشرعك وأخلاقك التي أمرت بها، وإذا ضاق صدرك مما ينزغه ولم تقدر على دفعه «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» بالالتجاء إليه «إِنَّهُ سَمِيعٌ» لإجابة استعاذاتك به سريع لقبولها بأن يعصمك من نزغه وينزعه من قلبك فلا يترك فيه شيئا منها لما فيه من الخطر على مقام النبوة الذي تكلف الله بعصمته فلا يثبت فيه شيء لا يرضاه لك، ومعنى النزغ لغة شك الجلد بالابرة أو بطرق العصاة وكذلك النخس والنسغ وقد يكون بمعنى الإفساد وهو بالنسبة لحضرة الرسول باعتباره المجازي عبارة عن اعتراء الغضب ليس إلا «عَلِيمٌ 200» بك وبما ينالك من جميع خلقه ليسمع تضرعك إليه ويعلم ما تريده منه قبل استعاذتك به، روى مسلم عن ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا وإياك يا رسول الله، قال وإياي إلا ان الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير (قال الشيخ محيي الدين النووي يروى فأسلم بفتح الميم أي صار مؤمنا لا يأمر إلا بخير، وبفتحها أي أسلم من فتنته وشره، واختاره الخطابي، ورجح القاضي عياض الأول وقال: الأمة مجمعة على عصمة الأنبياء من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، وهذا الحديث يشير إلى التحذير من فتنته ووسوسته واغوائه وهذا الخطاب قد يراد به غير الرسول لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من النزغ وهو جار على حد قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية 65 من الزمر في ج 2 لأنه معصوم من الشرك قطعا وعليه يكون المراد بالآية جنس الإنسان ومثله فيما نحن في تفسيرها أي مطلق إنسان ونظير هذه الآية 36 من سورة فصلت في ج 2 فإنهما مطلقتان بطلب الاستعاذة في جميع الأحوال أما آية النحل عدد 99 في ج 2 فهي خاصة بالقراءة والمراد فيها مطلق قارئ لا مطلق إنسان كما هنا، تدبر، إذ يخاطب صلى الله عليه وسلم بشيء ويراد به غيره وهو جار بين العرب حتى ضرب به المثل وهو «إياك اعني واسمعي يا جارة»

قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا» ربهم ورسخت التقوى بقلوبهم واتصفوا بها «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ» لمّة ألمت به «مِنَ الشَّيْطانِ» لأن الطائف ما يطوف بالإنسان ويلم به وقرىء «طيف» وهو مثله بالمعنى ويفيد الوسوسة أو تسمى طيفا أو طائفا

ص: 476

إيذانا بأنها لا تؤثر بالأنبياء البتة، فكأنها تطوف حولهم فلا تمسهم ولا تؤثر فيهم بل لا تصل إليهم ولهذا عبر بالنزغ بحقهم لأنه أول الوسوسة، وبالمس بحق المتقين لأنه لا يكون إلا بعد التمكن من النزغ فيهم، فيعقبه المس، ولهذا جاءت هذه الآية تأكيدا وتقريرا لوجوب الاستعاذة المارة عند حدوث الوسوسة لئلا يتخطى الأمر إلى المس، وإنباء بأن عادة المتقين إذا اعتراهم المس وأحسوا به ركنوا إلى ذكر الله استنادا لقوله «تَذَكَّرُوا» أوامره ونواهيه فيما طرأ عليهم منه فيلجأون إلى الله من مكايد الشيطان ومكره «فَإِذا هُمْ» بسبب الذكرى التي أمروا بها عند وقوع غفلة أدت إلى الوسوسة أو اعراض سبب المس «مُبْصِرُونَ 201» مواقع خطاهم فيعدلون عنها إلى السداد ويدفعون خطراته بعد أن يزنوها بميزان الشرع ويعرضوها على أصوله وقواعده ويستغفروا ربهم منها إذا ظهر لهم مخالفتها فيغفرها لهم. وقد بينا الحكم الشرعي في الاستعاذة في المقدمة فراجعها تعلم سنيتها في سائر الأحوال. هذا، ولما ذكر الله تعالى حال الأنبياء والمتقين شرع في بيان حال من يقبل نزعات الشيطان ويؤثر فيهم مسه فقال عز قوله «وَإِخْوانُهُمْ» الجاهلين المبعدين من طرق التقوى وهم الشياطين قرناء الفسقة من البشر «يَمُدُّونَهُمْ» يكونون لهم مددا وعدونا «فِي الغَيِّ» وطرقه فيزيدونهم على غيهم غيا قصد ضلالهم وإضلالهم. وقرأ الجحدري يمادّونهم من باب المفاعلة، أي كأن الشيطان يعاضدهم بالإغراء وتهوين المعاصي بأعينهم على إغواء البشر أيضا فهم يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال «ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ 202» لا يمسكون عن إغوائهم ولا يكفون عن مسهم فيصروا على تلك الوساوس ولا يرجعوا عنها إن استطاعوا، حتى إذا تمكنوا منها عمدوا إلى المس فيتدرجوا فيه إلى أن يوقعوه في الغيّ والإغواء فيصير من صنفهم وقد علمت أن ضمير الجمع المضاف إليه أولا في إخوانهم والمفعول ثانيا في يمدونهم يعودان إلى الجاهلين، وضمير الفاعل في يقصرون يعود إلى الشياطين إخوان الجاهلين، فالخبر جاء على غير ما هو له على حد قوله: أقوم إذا الخيل جالوا في كويتها

قال تعالى «وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ» معجزة باهرة ظاهرة «قالُوا» لك المشركون

ص: 477

يا سيد الرسل «لَوْلا اجْتَبَيْتَها» اختلقتها وأنشأتها كما أتيت بغيرها استهزاء وسخرية بك «قُلْ» يا حبيبي أنا لا أفتري شيئا من عندي، ولا أقدر على إجابة طلبكم إظهار آية ما «إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ» وأتلقاه «مِنْ رَبِّي» دون اقتراح عليه بإنزال الآيات، إذ ليس لي ذلك أبدا، وإذا كنتم تفنعون بالآيات وتؤمنون بها فدونكم «هذا» القرآن الذي أنزله علي وبلغتكم إياه فهو أعظم آية وأكبر معجزة وهو «بَصائِرُ» دلائل وحجج وبراهين قاطعة «مِنْ رَبِّكُمْ» تبصركم بصدقي وتنير لكم طرق الحق وتريكم الهدى والرشد لأنها نفسها «هُدىً» لمن أراد الاهتداء لسلوك العناية الإلهية «وَرَحْمَةٌ» من الرحيم ونعمة من المنعم لعباده ومنّة من المنّان «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 203» به ويتبعون رسله، أما الكافرون فهو لهم ضلال في الدنيا وعذاب في الآخرة لأن هذا القرآن نور لأناس ظلمة لآخرين بآن واحد، إذ يسمعه اثنان فيكون لأحدهما نور وللآخر همى كما سيأتي في تفسير الآية 44 من فصلت في ج 2 والآيه 11 من الأحقاف أيضا فراجعهما.

مطلب الناس على ثلاث مراتب:

ومن هنا يعلم أن الناس على ثلاث مراتب: فالذين بلغوا غاية علم التوحيد حتى صار لهم كالمشاهدهم أصحاب عين اليقين فهم السابقون المقربون، فالقرآن في حق هؤلاء بصائر، والذين بلغوا درجة الاستدلال والنظر هم أصحاب علم اليقين فهم أصحاب اليمين، فالقرآن في حقهم هدّى، والذين ليسوا من الطريقين وهم عامة المسلمين فهم أصحاب اليقين وهم المقلدون لأهل العلم الماشون على طريقهم، فالقرآن في حقهم رحمة والذين دون هؤلاء إذا ماتوا على الإيمان فهم ناجون لأن من زحزح عن النار فقد فاز، وإلا فالعياذ بالله هم الخاسرون في الدنيا والآخرة مع إخوانهم الكافرين إخوان الشياطين.

وهكذا كما يتفاوت الناس في العلم والعمل والمكانة في الدنيا يتفاوتون في الآخرة بالمنازل والدرجات في الجنة، وكما أن الجنة درجات فكذلك النار دركات، وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا البحث في سورة التكاثر المارة.

ص: 478

مطلب وجوب الاستماع والسكوت عند القراءة:

قال تعالى «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ» أيها الناس بتفكر وتدبر وأصفوا له بكليتكم لتفهموا معانيه وتعوا مواعظه «وَأَنْصِتُوا» عند قراءته ليقر في قلوبكم وتلهموا مبانيه لأن الكلام عند سماعه لا يجوز إذ يضيع المغزى المراد منه لذلك أمركم ربكم بالسكوت، وهذان أمران ظاهرهما الوجوب، فيكون الاستماع والسكوت واجبين عليكم أيها المؤمنون عند قراءة القرآن بدليل هذه الآية، وكلمة أنصتوا لم تكرر إلا في الآية 29 من سورة الأحقاف ج 2، قال الحسن وأهل الظاهر (إذا قرىء القرآن في أي وقت وموضع يجب على كل واحد الاستماع والسكوت لعموم الأمر، ولذلك قال عروة ابن الزبير والقاسم بن محمد إن المأموم يقرأ إذا أسرّ الإمام ولا يقرأ إذا جهر وهو رواية عن ابن عمرو، هذا بالنسبة للتفسير أحسن من رواية من رأى وجوبها في حالتي الإسرار والجهر إذ قال به الأوزاعي وذهب إليه الشافعي رضي الله عنه وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ، وحجتهم أن الآية نزلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية، ويستدلون بالأخبار الواردة بقراءة الفاتحة، وأحسن من روايته من رأى عدم القراءة في الحالتين وهو مروي عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي، وقال الحسن وأبو حنيفة رحمهما الله وحجتهم ظاهر هذه الآية لأنه لا يعدل عن الظاهر إلّا بمسوغ أقوى ولا يوجد، وإن القول الأول هو الحالة الوسطى وخير الأمور أوساطها، لأن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن، ودلّت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام، فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السرّ جمعا بين دلائل الكتاب والسنة، وإذا أنعم النظر وأمعن الفكر وجد هذا القول أحسن الأقوال، فاتبعوه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204» باقتضاء ما أمرتم به وابتعاد ما نهيتم عنه، وإن وجوب الاستماع هو سبب نزول هذه الآية لمناسبة السباق وموافقة السياق، وقيل نزلت في تحريم الكلام في الصلاة إذ كانوا يتكلمون فيها فمنعوا، وقيل إنها نزلت في ترك الجهر خلف الإمام إذ كانوا

ص: 479

يجهرون خلفه:، وهذه روايات وأقاويل بعيدة عن الثبوت ولا شيء يؤيدها، لأن الصلاة لم تفرض بعد على القول بأن الإسراء وقع في السنة العاشرة من البعثة عند نزول أول سورة الإسراء الآتيه وهو الصحيح، أما على القول بأن الإسراء كان في السنه الخامسة أو السادسة عند نزول سورة والنجم المارة المنوه بها في بحث الإسراء صراحة فسديد، ولكن يا للأسف لم نجد ما يؤيده حتى الآن، وقد ذكرنا ما يتعلق في هذا البحث آخر سورة والنجم فراجعه، واعلم أن الآية عامة مطلقة في القراءة دون الصلاة مما يطلب الاستماع إليها والإنصات لها، أما ما روي عن ابن مسعود أنه سمع أناسا يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) إلخ كما أمركم الله فهو لا يؤيد سبب النزول ولا دليل فيه عليه وإنما ينصرف على لزوم الإنصات عند قراءة الإمام وهو واجب بلا شك، وإذا كان الإنصات دون الصلاة واجب ففيها من باب أولى، وان ابن مسعود قال هذا القول في حادثة أناس يقرأون مع الإمام في المدينة لا في سبب النزول الكائن في مكة: لأنه لا يعرف تاريخ قوله هذا ليستدل به على النزول فإن في مكة فهو غير صحيح وإن في المدينة لا دليل له عليه، وأضعف من هذه الأقوال القول بأنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة، لأن هذه الآية مكية قطعا وإنما وجبت الجمعة في المدينة، تأمل هذا واعرف مزية هذا التفسير الذي جاء على ترتيب نزول القرآن وعرفك المقدم والمؤخر، وإلا لغرقت في أقوال ينسيك آخرها أولها ولا رتبكت واحتججت بروايات تضارب إحداها الأخرى فتفحم من غير غلب وتحقر من غير ذنب فتسكت للواقع وأنت محق في المواقع، فاحمد الله.

مطلب في الذكر السري وحالة الخوف والرجاء:

«وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ» سرالا تسمع به غيرك، وهذا خطاب لخاصة الرسول وعامة المؤمنين، لأن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع على هذه الصفة لقربها من الإخلاص وبعدها من الرياء، لا سيما إذا كان الذاكر استحضر في قلبه عظمة المذكور لما فيه من الإشعار بقرب العبد من ربه عز وجل.

ص: 480

وفي هذه الآية إيذان بمقام الرجاء لأن لفظ الرب يشعر بالتربية والرحمة والفضل والإحسان فإذا تذكر العبد إنعام ربه عليه وإحسانه إليه يقوى مقام رجائه، وإذا كان الذكر باللسان فقط عاريا عن حضور القلب كان عديم الفائدة التي هي استشعار عظمة المذكور واستحضاره وتخيلك بين يديه وتصورك بلا كيف وجود عظيم الوجود أمامك وجلاله وكبريائه فوقك. وبعد أن بين الله تعالى مقام الرجاء في صدر هذه الآية أعقبه بالإشارة إلى مقام الخوف فقال وإذا ذكرت ربك فاذكره «تَضَرُّعاً» إليه بإظهار الذل والخضوع وإبداء الاستكانة إلى المذكور «وَخِيفَةً» من هيبته لأنك في حال مخاطبته في حضرته، ومن عرف عظم المقام وجب أن يكون في حالة خوف ورهبة وخشية لا محالة، وإذا حصل هذا في قلب الذاكر وكان بين الخوف والرجاء، قوي إيمانه وتنور قلبه وثبت جنانه فتفجرت منه الحكمة، فعلى العاقل أن لا يفارق حالة الخوف والرجاء في الشدة والرخاء وأن يصاحبهما في جميع حالاته لا في حالة الذكر فقط، إلا أنه يستحب له أن يغلب حالة الخوف على الرجاء في حالة الصحة والرفاء، وحالة الرجاء على الخوف في حالة المرض والاحتياج، لأن مقام الموت والحاجة مقام رجاء ومقام الصحة والرفاه مقام خوف فى الغالب لأنه لا يدري ما يحل به ويفجأ به. قال أنس رضي الله عنه: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان (الخوف والرجاء) في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو منه وآمنه مما يخاف- أخرجه الترمذي-.

ومن هذه الآية الكريمة أخذ السادة الصوفية بارك الله فيهم الذكر السري وجعلوه من أورادهم وهو دليل واضح لهم لا يحتاج إلى تعليل مؤيد لقوله صلى الله عليه وسلم: خير الذكر الخفي وخير المال ما يكفي- أخرجه أحمد- فمن تقول بعد هذا النص القاطع بأن الذكر الخفي لا أجر فيه لذاكره فقد أخطأ وهو لا أجر له على اجتهاده هذا بل يأثم، والله أعلم إذ لا اجتهاد في مورد النص وإنما يجتهد في المشكلات والمتشابهات مما لا نص قطعي فيها ففي مثلها إذا أخطأ يكون له أجر وإذا أصاب أجران ت (31)

ص: 481

لأن اجتهاده فيما لا نص فيه غاية وسعه ونهاية جهده في بذل فكرته وقدح فطنته أما الأمور الظاهرة كهذه فلا محل للاجتهاد فيها. هذا، وقد جاء النص هنا بلفظ الأمر الدال على الوجوب ولا صارف له عن حقيقته فالمعترض عليه غير مصيب، تنبه، ثم بين جل شأنه حالة ثانية لذكره جل ذكره فقال «وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» أي مقتصدا، أرفع من الذكر الخفي وأدنى من الجهري لما فيه من رعاية الأدب مع المذكور، لان ارتفاع الصوت بحضرته غير جائز لما فيه من سوء الأدب، وهذه الحالة مطلوبة في الصلاة أيضا، قال تعالى:(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) الآية 110 من سورة الإسراء الآتية ومطلوبة في الدعاء أيضا قال صلى الله عليه وسلم لأناس يرفعون أصواتهم بالدعاء (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا) ومرغوبة في كل حال قال تعالى (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) الآية الثانية هن سورة الحجرات في ج 3، هذا ومن كمال فقه الرجل لزومه هذه الحالة في هذه الأحوال وغيرها، ومن تأدبه مراعاتها في مخاطبة الناس ولا سيما للعلماء العاملين لأنهم ورثة الأنبياء والمشايخ الكاملين لاقتقائهم آثارهم. ثم بين جل شأنه أحسن الأوقات لذكره بقوله «بِالْغُدُوِّ» أول النهار بكرة «وَالْآصالِ» آخره عشيا والغدوة من طلوع الفجر أو طلوع الشمس وتمامها من طلوع الشمس إلى الضحوة والآصال جمع أصيل ما بين العصر والمغرب، فإذا قام الإنسان بذكر ربه في هذين الوقتين ختم نهاره بخير كما بدأه بخير وإذا سلمت الغاية والمغيا فالله أكرم بالعفو عما يقع بينهما، وإنما خص هذين الوقتين لأن الإنسان يقوم صباحا من نومه الذي هو أخو الموت ليتداول عمله نهارا فينبغي له أن يذكر الله فيه شكرا على نعمة نومه وافاقته وأنه لم يتوفاه فيه قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الآية 42 من سورة الزمر في ج 2، وكذلك ينبغي له أن نذكره بعد المساء بعد فراغ أشغاله وخاصة عند النوم ليختم يومه بخير شكرا على نعمة إبقائه وراحته من أعماله، لأنه قد لا يقوم من نومه فيموت على ذكر الله، قال صلى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه

ص: 482

لا إله إلا الله دخل الجنة، ففيه بشارة عظيمة للذاكر فإذا فعل هذا بات مطمئنا قرير العين فمن تلبس بهاتين الحالتين وداوم عليهما كان ناجيا ومن تركهما يخشى عليه الهلاك لذلك ختم الله تعالى هذه الآية المشتملة عليهما بقوله عظم قوله «وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ 205» عن الذكر في هذين الوقتين المقربين إلى الله فتعتريك الغفلة عن ذكره فتكون بعيدا عنه، والبعد عنه والعياذ بالله هلاك ما بعده هلاك لأن مقام الغفلة خطر عظيم، إذ ربما أن كان الأجل الذي أخبرنا الله بإتيانه على بغته، فإياك أيها العبد أن تغفل عن ذكر ربك الذي سواك فعدلك ولم يجعلك كالبهائم الغافلة عما يراد بها، ودوام على ذكره في كل الأوقات والأحوال وان فاتك الذكر لأمر ما في هذين الوقتين فاقضه في غيرهما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية 62 من سورة الفرقان الآتية. ترشد هذه الآية إلى أن من فاته الذكر النهار قضاه ليلا ومن قامه ليلا قضاه نهارا لأن الليل يخلف النهار وبالعكس، وانظر إلى مدح الله عباده الذاكرين في قوله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية 191 من آل عمران في ج 3 وفي قوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) الآية 16 من سورة السجدة في ج 2، فمن فعل هذا كان قريبا من الله وحصل على ملاك الخير في

الدنيا والآخرة ودخل في جملة من مدحهم الله وهنيئا لمن كان في عدادهم ثم أخبر الله عباده أهل السماء ليقتدوا بهم فقال «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» من الملائكة المقربين مكانة ومنزلة لأقرب مكان ومنزل، فهم مع علو مراتبهم ورفعة شأنهم وقربهم من ربهم بالزلفى والرقى «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» ولا يلتفتون لغيره بل يتذللون لعظمته ويخضعون لهيبته، فيؤدون العبادة له حسبما أمروا بها أمام كبريائه لأنهم عبيد طائعون منقادون لسلطانه وقد قال في وصفهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (الآية 7 من سورة التحريم ج 3) طوعا واختيارا وحبا بقربهم منه طلبا لمرضاته وليتصف عباده أهل الأرض بصفة عباده أهل السماء «وَيُسَبِّحُونَهُ»

ص: 483

ينزهونه عما لا يليق بجنابه ويقدسونه ويمجدونه بما هو أهله «وَلَهُ يَسْجُدُونَ 206» خضوعا وخشوعا لجلاله ويفوزون بهذه الصفات المحمودة المرضية.

مطلب ما قاله بعض الأكابر في هذه الآية:

قال بعض الأكابر إن قوله واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية إشارة إلى أعلى المراتب وهي صفة الواصلين المشاهدين، وقوله سبحانه (ودون الجهر) رمز إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة وقوله جل قوله (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) ايماء الى مرتبة النازلين من السالكين وقال مشيرا إلى كلمة (خيفة) :

أشتاقه فإذا بدا

اطرقت من إجلاله

لا خيفة بل هيبة

وصيانة لجماله

وقوله عز قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم المقربون من الملائكة والمفنون أنفسهم به من البشر الباقون به سبحانه وهم أرباب الاستقامة أهل المقام العظيم (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لعدم احتجابهم بالأنانية وانمحاقهم بالكيفية والكمية (ويسبحونه) بنفيها (وله يسجدون) بالفناء التام وطمس البقية الباقية من مهجهم، وهذه السجدة من عزائم السجود واجبة على القارئ والمستمع كما نوهنا به آخر سورة والنجم المارة وقد بينا فيها وفي سورة العلق كيفية السجود وما يقرأ فيه بصورة مفصلة. روى البخاري ومسلم عن عبد الله ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فقرأ سورة فيها سجدة فسجد وسجدنا معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت الصلاة. وروى مسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم في السجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأببت فلي النار. ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة، هذا، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

ص: 484