الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة ص عدد 38- 38
نزلت بمكة بعد القمر وهي ثمان وثمانون آية، وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وسبعة وتسعون حرفا، وتسمى سورة داوود، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت أو ختمت به.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى «ص» ابتدأ تعالى بعض سور كتابه العظيم بحرف من الحروف على سبيل التحدي والبينة والاعجاز وان إتباعه بقسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه واعجاز البشر عن الإتيان بمثله وقد تسمى السورة بما بدئت به كهذه وسورتي ن وق ويجوز أن يكون مفتاحا لبعض أسمائه الحسنى كالصمد والصادق والصبور والصانع ويقرأ بالسكون وبالكسر اختلاسا ومع التنوين وبالضم، أيضا وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه سورة ص أو مبتدأ لخبر محذوف أي سورة ص هذه سورته المعجزة «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ 1» والموعظة الحسنة وجواب القسم أنك يا محمد لمن المرسلين وأنه ما كفر من كفر بك لخلل وجده فيك أو فيما أنزل عليك «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ 2» أنفة وخلاف وإنما اخترت أن يكون جواب القسم جملة (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لمناسبتها للمقام وموافقتها للمعنى وإن من المفسّرين من قدره بجملة (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ) الآية الآتية ومنهم من جعل جملة (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) الآية الآتية بعد تلك جواب للقسم ومنهم من قال جوابه (كَمْ أَهْلَكْنا) الآية أيضا ومنهم من قدره (بَلِ الَّذِينَ) إلخ الآية المارة وكلها أقوال تعقبت وفندت لعدم انطباقها على المراد في الآية المقسم بها لذلك لم نعتمد شيئا منها ولما كان القرآن يفسر بعضه وتشير بعض آياته إلى بعض وإلى شيء لا يوجد في بعضها وكان مثل هذا الحذف المقدر هنا موجودا في مثل هذه الآية في سورة يس الآتية قدرناه هنا بمثل ما هو هناك، ويقويه ذكر النذارة هناك وهنا أيضا لأن الرسالة تتضمن البشارة والنذارة وعليه
تكون (بَلِ) في الآية المتقدمة بعد القسم للانتقال من القسم والمقسم به والمقسم عليه إلى ذكر أنفة المشركين وغلظتهم ومخالفتهم لما جاء به حضرة الرسول لأن عزتهم تلك عبارة عن حمية جاهلية وتكبر عن الحق الصريح مشاحنة وعداوة به صلى الله عليه وسلم ليس إلا قال تعالى «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ» أي قومك أيها المخاطب النبيل «مِنْ قَرْنٍ» أي أهله من اطلاق الظرف وإرادة المظروف «فَنادَوْا» عند نزول العذاب بهم بالويل والثبور والاستغاثة قصد النجاة منه فلم يجابوا وأرادوا الفرار فلم يقدروا «وَلاتَ حِينَ مَناصٍ 3» أي ليس الحين حين فرار وخلاص مما نزل بهم وجاء هذا على ما كانت تعتاده كفرة قريش عند مضايقتها في الحروب إذ يقول بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخذوا حذركم والمعنى هنا أن عذاب الله لا مخلص منه. وما قيل إن هذه الآية نزلت في حادثة بدر لا صحة له لأن هذه السورة كلها مكية والآية جارية في معرض ذكر هلاك الأمم الماضية المنوه بها في السورة قبلها وأن سياقها يأبى ذلك «وَعَجِبُوا» هؤلاء الكفرة «أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» من أنفسهم نسبا وأحسنهم حسبا وأعظمهم مكانة «وَقالَ الْكافِرُونَ» أني بالظاهر بدل المضمر في معرض الذم اعلاما بأنه لا يقدم على هذا إلا المنهمك في الكفر المتوغل في الفسوق «هذا» أي محمد الذي جاءكم يدعي النبوة «ساحِرٌ كَذَّابٌ 4» مع أنهم يسمونه الأمين قبل أن يكون نبيا، ويعلمون أنه ليس بساحر ولا يوجد بمكة من يعرف السحر إذ ذاك، ولم يخرج من بين أظهرهم فوصمهم لحضرته بالسحر محض افتراء وبهتان. قالوا: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق إسلامه على قريش وفرح المؤمنون به فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم خمسة وعشرون صنديدا امشوا إلى أبي طالب، فأتوه، وبينوا له حال ابن أخيه واستغوائه قريشا واحدا بعد واحد واشرحوا له حالته التي لم يبق بوسعنا السكوت عليها، فأتوه فقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء (يعنون محمد وأصحابه) وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك وأنك قاضينا فيه وفي غيره. فدعاه فقال: يا ابن أخي إن هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا
تمل كل الميل فقال صلى الله عليه وسلم: وماذا يسألون؟ قالوا ارفض آلهتنا وندعك وإلهك.
فقال صلى الله عليه وسلم: أعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم الأمم. فقال أبو جهل نعطيكها وعشرة أمثالها، فقال: قولوا لا إله إلا الله، فنفروا وقالوا كيف يسع الخلق إله واحد؟ فأنزل الله جل أنزاله «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا» الذي يقوله محمد «لَشَيْءٌ عُجابٌ 5» بليغ في العجب والتعجب «وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ» من مجلس ابي طالب قائلين بعضهم لبعض «أَنِ امْشُوا» عنه حيث كان هذا مراد ابن أخيه ولم يصده عنه «وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ» واثبتوا على عبادتها وتحملوا ما يقدح فيها «إِنَّ هذا» الذي قاله محمد وتعليمه على دعوته لإله واحد وما نراه من ازدياد أتباعه يوميا وسكوت عمه عليه وعدم اصغائه لشكايتنا منه «لَشَيْءٌ يُرادُ 6» بنا بأن يتحكم فينا وفي ذرارينا، ويترفع علينا ويستولي على أموالنا وأملاكنا، ثم قال بعضهم لبعض «ما سَمِعْنا بِهذا» الذي يقوله محمد قبلا ولا «فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ» ملة عيسى عليه السلام التي هي آخر الملل وهي ملة غير موحدة إذ يدعون آلهة ثلاثة ومن أدركنا من آبائنا لهم آلهة متعددة «إِنْ هذا» القول بالتوحيد الذي يدعوا اليه محمد ما هو «إِلَّا اخْتِلاقٌ 7» من تلقاء نفسه لم يسبقه به أحد وانه يريد به التولي علينا وان نكون تبعا له فيما يريد، فيا قومنا أخبرونا «أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» الذي يدعيه وحيا من ربّه، هل اختص به وحده «مِنْ بَيْنِنا» يتفوق به علينا ويحتفي به دوننا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم، وما هي هذه الميزة التي اختص بها وحده. قال تعالى «بَلْ هُمْ» هؤلاء الحسدة لرسولي على ما فضلته به عليهم «فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» الذي أنزلته عليه المشحون بالتوحيد وهذا دائما من التعجب بتخصيص محمد به «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ 8» حتى يزول حسدهم لرسولي ورميهم لذكري فاذا ذاقوه زال ذلك منهم واتعظوا بمن قبلهم واعترفوا برسالته وإلهه وإن ما يقوله حق لا مرية فيه «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ» يا محمد ليهبوا ما فيها من مفاتح النبوة لمن شاءوا وأرادوا ويصرفوها عنك. قال تعالى «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» الآية 32 من سورة الزخرف وبمعناها الآية 134 من الأنعام في ج 2
كلا لا دخل لهم بها ولا بشيء من مختارات الإله بل هو من خصائص «الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ 9» القاهر الذي لا يقابلة شيء، كثير المواهب التي من جملتها تخصيصك بالنبوة «أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما» حتى يتداخلوا فيما بستأثر به مالكهما من إعطاء ومنع فإذا كان لهم شيء من ذلك «فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ 10» التي توصلهم إلى أقطارها ليديروا أمر العالم وينزلوا الوحي على من يريدونه في الأرض، وهذه الجملة في معرض التهديد إذ ليس لأحد من قدرة على ذلك غيره، واستدل حكماء الإسلام بهذه على ان الاجرام الفلكية وما أودع فيها من خواص وقوى اسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمّى الفلكيات أسبابا ومهما كان ذلك، ولهذا فإن ما يزعمه الفلكيون من صعودهم إلى المريخ والقمر وغيرهما من الكواكب زعم بعيد عليهم لم يدركوه ولن يدركوه لأن الله تعالى قال لا تنفذوا إلا بسلطان راجع الآية 32 من سورة الرحمن إذ تحدى بها الجن والإنس وأذلهم ذلك السلطان الذي يتوصلون به إلى النفوذ في أقطار السموات والأرض.
هذا ثم وعد نبيه بالنصر على هؤلاء العتاة المعاندين بقوله انهم «جُنْدٌ ما» قبل هذا بالنسبة لمن سبقهم من الجنود الذين تحزبوا على أنبيائهم قبلك وسيكون لك يا حبيبي معهم شأن «هنالك» عند اللقاء الآتي في بدر، عند ما يكون ذلك الجند «مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ 11» كما هزم من قبلهم فلا يهمنك شأنهم، ولا تكترث بهذيانهم.
مطلب الآيات السبع التي تأخر حكمها عن نزولها:
وهذا من الإخبار بالغيب لأنها من الآيات السبع التي سبق ذكرها في الآية 46 من سورة القمر المارة وقد أنزلت تسلية لحضرة الرسول داعية لحمل أذاهم مادام في مكة وأن قريشا كغيرها من الأجناد الذين أجمعوا على تكذيب الرسل وأنه سيظهر عليهم ويرى مصارعهم في محل غيهم، وإشارة إلى حادثة بدر الآتية في الآية 5 من سورة الأنفال في ج 3 التي حققها الله له وأقر عينيه بها. ثم شرع يعزيه بما لاقى منهم ويقول له ليس أمتك أول من كذبت الرسل ولا أنت أول من سخر به وأوذي فقد «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ 12» الذين كانوا أكثر عددا وعددا من قومك الذين ليس بشيء بالنسبة لهم «وَثَمُودُ»
«وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ» أيضا لا يقاسون بقومك من حيث القلة والكثرة، وتقدم تفسير ذي الأوتاد في الآية 10 من سورة الفجر وقصته مفصلة كما تقدم بيان قصص الآخرين في الآية 12 من سورة ق المارة «أُولئِكَ الْأَحْزابُ 13» الذين بضرب بهم المثل «إِنْ كُلٌّ» من أولئك «إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ» المرسلين إليهم «فَحَقَّ عِقابِ 14» على كل من الطوائف الأول لتكذيبهم أنبيائهم، لأن كل هؤلاء يا سيد الرسل عملوا برسلهم ما عمل بك قومك وقد أصابهم البلاء لعدم إيمانهم بهم «ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ» الذين يجادلونك من قومك إذا لم يؤمنوا «إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» من ملكنا إسرافيل «ما لَها مِنْ فَواقٍ 15» إذا جاءتهم لم تصرف عنهم ولم تتأخر عن الوقت المقرر لها ولو بمقدار فواق الناقة (وهو الزمن بين الحليتين) بل هو أقل من ذلك بكثير، وإنما جاء هذا اللفظ على عادتهم، لأنهم يستقلون هذا الزمن ويضربون به المثل في القلة والسرعة، وفي هذه الآية زجر لهم عظيم، وتهديد وخيم، إذ خوفهم فيها مغبة أمرهم، وقيل معنى فواق رجوع أي إذا جاءت تلك الصيحة لم ترد عنهم بقطع النظر عن الزمن، والمراد بهذه الصيحة الصيحة الثانية لأن سياقها يدل عليها ولأن الصيحة الأولى لا يشاهد هولها، وإنما بصعق فيها من كان حيا من الخلق عند وقوعها حالا، ولا يكون العذاب الموعودون به إذ ذاك واقعا، ولا العذاب المطلق مؤخرا لوقوعها، وما قاله صاحب الغالية بأن النفخات ثلاثة، نفخة الإماتة ونفخة الإحياء ونفخة الفزع المنوه بها آخر سورة النمل الآتية لا يتجه لأن نفخة الفزع هي النفخة الثانية التي يكون فيها الخروج من القبر والحشر والنشر.
تدبر، قالى تعالى «وَقالُوا» كفرة قريش عند سماعهم من حضرة الرسول ما وعد الله به المؤمنين وأوعد به الكافرين أمثالهم «رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا» حظنا ونصيبنا من هذا العذاب الذي توعدنا به على لسان محمد «قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ 16» على الأعمال، الذي يذكره لنا ويهددنا فيه، وقائل هذا، النضر بن الحارث على سبيل السخرية والاستهزاء، أي أسرع بإنزاله علينا إن كان ما تقوله حقا، قال تعالى يا محمد:«اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» فيك وفي ربك وكتابك «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ» القوة
العظيمة واذكر ذلته التي عاتبته عليها مع كرامته عليّ ومعزته عندي وتأسّ به «إِنَّهُ أَوَّابٌ 17» أي كثير الرجوع إلى ربه بالتوبة والندم، ثم شرع يقص نعمه على داود فقال «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ» بتسبيحه إذا سبح «بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ 18» صباح مساء، فالعشي من العصر إلى الليل، والإشراق من طلوع الشمس إلى الضحى، قال ابن عباس ما عرفت صلاة الضحى إلا في هذه الآية «وَالطَّيْرَ» تسبح بتسبيحه أيضا «مَحْشُورَةً» حالة كونها مجموعة لديه، قال ابن عباس كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير «كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ 19» رجّاع يردد تسبيحه كل منهم «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ» قوّيناه بالحرس والجنود، كما قويناه بأمر الدين ولهذا وصفه بكلمة ذي الأيد بما يشمل القوتين، ويدل على الأخير قوله أواب، وعلى الأول وشددنا ملكه «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ» هي المعرفة بحقائق الأشياء وكنهها وماهيتها وكل كلام وافق الحق فهو حكمة «وَفَصْلَ الْخِطابِ» التمييز بين الحق والباطل والحكم بما يوافق مراد الله، فاجتمعت له القوى الأربع: قوة الدين وقوة الملك وقوة الحكمة وقوة الحكم وقيل فصل الخطاب جملة (أما بعد) لأنه أول من تكلم بها، لأن الأمر الذي له شأن يستفتح فإذا أراد الشروع في الغرض المسوق إليه فصل بين الخطبة وبينه بها والأول أولى، ومن جملة نعم الله على داود إذ أعطاه النبوة والسلطان، راجع نسبه وكيفية إعطائه الملك بتفسير قوله تعالى (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) الآية 250 من البقرة في ج 3 وكان قبله الملك في سبط والنبوة في سبط آخر من أسباط يعقوب الاثني عشر أي أولاده
ثم طفق يقص على رسوله زلة داوود فقال «وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ» يطلق على الجماعة المتخاصمين «إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ 21» بيت عبادة داوود وخلوته مع ربه، إذ كانوا يسمونه محرابا ومنه محراب زكريا ومريم الواردين في الآية 15 من مريم الآتية و 37 من آل عمران في ج 3 ويطلق على صدر المسجد ومحل وقوف الإمام عندنا أي هل بلغك ذلك «إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ» لعدم دخولهم من الباب وقفزهم من أعلى الجدار وعدم استئذانهم إذ لم يحس بهم إلا وهم بين يديه،
فقال لهما: لماذا دخلتما متسورين الجدار ولم تستأذنوا وتدخلوا من الباب وكان عليه علامة الفزع لما رأى من جراءتهما هذه «قالُوا لا تَخَفْ» ولا تظن بنا سوءا انما نحن «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» وهذا من معاريض الكلام لا من تحقيق البغي لأنهما جبريل واسرافيل عليهما السلام أوفدهما الله إلى نبيه داود ليعرفاه زلته وذلك انه عليه السلام رأى آباءه إبراهيم ويعقوب وإسحق أفضل منه فسأل ربه عن ذلك، فقال: إنهم ابتلوا فصبروا ففضلوا، فقال يا رب لو ابتليتني لصبرت ولم يسأله العافية مما ابتلاهم طلبا لعلو الدرجات عنده لا اختبارا، فامتحنه الله بما ذكرهنا قال تعالى «فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ» تجر وتحف وتملّ عنه «وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ 22» في هذه الخصومة بان تتبع الحق فيها وتعدل عن الباطل، قال تكلما، فقال أحدهما «إِنَّ هذا أَخِي» في الدين والخلقة لأن الملائكة لا تناسب بينهم ولا تقارب لأنهم خلقوا بلا شهوة ولا توالد بل بطريق التولد بلفظ كن بين الكاف والنون وإذا لم يكن توالد فلا تكون قرابة «لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً» امرأة والعرب تكني عن المرأة بالنعجة، قال ابن عون:
أنا أبوهن ثلاث هن
…
رابعة في البيت صغراهن
ونعجتي خمس توفيهن
…
آلا فتى سمح يغذيهن
«وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ» وهذا على سبيل التعريض وتصوير المسألة إذ ليس في الواقع هناك نعاج ولا يعني ولا يمنع فعل ذلك على فرض وجوده على الملائكة «فقال» صاحب للتسع والتسعين لصاحب الواحدة «أَكْفِلْنِيها» أعطينها وتنازل عنها واجعلها نصيبي لأن الكفيل النصيب «وَعَزَّنِي» غلبني وفي المثل من عزيز أي تفوّق عليّ وأخذني بفصاحته «فِي الْخِطابِ 23» المخاطبة أو في الخطبة حين طلبها منه وقد صور الملكان الحادثة ومثلاها حرفيّا ولم يتركا منها الا إبدال المرأة بالنعجة قال داود عليه السلام بعد أن سأل الخصم الآخر واعترف له بالحادثة كما قررها الخصم الأول، لأنه لا يمكن أن يحكم قبل أخذ الجواب من الخصم ولهذا بين بحكمه سبب الظلم فقال والله انّ هذا «لَقَدْ ظَلَمَكَ» يا صاحب النعجة
الواحدة «بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ» وضمها «إِلى نِعاجِهِ» التسع والتسعين ولكن ليس هذا وحده الباغي «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ» الشركاء أمثاله الذين يخلطون أموالهم باموال غيرهم وتطلق كلمة الخلطاء على غير المحمودين من الناس ولذلك قال «لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» بسائق الطمع والحرص وحب التكاثر بالأموال التي تميل بذويها إلى الباطل إن لم يتولّهم الله بلطفه وهم المتشبثون بقوله عز قوله «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فإنهم لا يبغون ولا يطمعون «وَقَلِيلٌ ما هُمْ» الصالحون المؤمنون المبعدون عن الظلم جدا قليلون ولما فهمهما حكمه هذا نظرا إلى بعضهما وصعدا إلى السماء على مرأى من داود فعرفهما أنهما أنها ملكان بعثهما الله اليه ليذكراه ما وقع منه من الخطيئة، ويروى أن داود حينما سأل المدعى عليه عن سبب أخذه النعجة أجابه بانه يريد إكمال نعاجه مائة بها فقال داود ان رمت ذلك ضربنا منك هذا وأشار إلى أنفه وجبهته، فقال يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا، لأنك فعلت كيت وكيت، ثم نظر داود فلم ير أحدا. فإن صح قول الملك إلى داود هذا الكلام يحمل على ان ذنوب الأنبياء مهما صغرت فهي كبائر بالنظر لعلو شأنهم. والقصد من قوله فعلت كيت وكيت انك كلفت الرجل بالتنازل عن زوجته أو خطيبته لك مع استغناءك عنها تبعا لإرادة نفسك قال ابن عباس: ان داود لما دخل عليه الملكان وقضى على نفسه تحولا في صورتها وعرجا إلى السماء وهما يقولان قضى الرجل على نفسه فعلم أنهما عنياه وانهما ملكان وتنبه لعمله ولهذا قال تعالى «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ» ابتليناه واختبرناه حتى عرف زلته «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ» مما وقع منه «وَخَرَّ» سقط على الأرض «راكِعاً» ساجدا لأن الركوع مجاز من السجود ولأن الخرّ السقوط وتقول العرب نخلة راكعة وساجدة إذا رأوها ساقطة على الأرض. قال قائلهم:
فخر على وجهه راكعا
…
وتاب إلى الله من كل ذنب
فمعناه السجود الا انه يعبر عنه أحيانا بالركوع مجازا «وَأَنابَ 24» إلى ربه راجعا عن خطأه تائبا من زلته تعظيما لامتحان ربه واستعطافا لجلب رحمته فقبل