المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني عشر في الوحى وكيفية نزوله ومعناه وأوله والرؤيا الصادقة ومعناها - بيان المعاني - جـ ١

[ملا حويش]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الأول]

- ‌[خطبة الكتاب]

- ‌[المقدمة]

- ‌المطلب الاوّل في بيان مبادئ في التفسير

- ‌المطلب الثاني فيما يحتاج إليه المفسر

- ‌المطلب الثالث في الحاجة الى التفسير

- ‌المطلب الرابع في أحوال المفسرين به ومأخذ هذا التفسير

- ‌مطلب الأصول المتبعة في التفسير

- ‌المطلب الخامس في التفسير والتأويل والنهي عن القول في الرأي

- ‌المطلب السادس في فضل القرآن وحفظه وتهديد من ينساه والسفر به

- ‌المطلب السابع في التشريع في نهج القرآن ومفاصده ومميزات مكيه ومدنيه

- ‌المطلب الثامن في النزول وكيفيته وترتيب سوره وآياته

- ‌المطلب التاسع في جمع القرآن ونسخه وترتيبه وكونه توقيفيا وبيان ناسخه

- ‌المطلب العاشر الناسخ والمنسوخ والقراءات ومعنى انزل القرآن على سبعة أحرف

- ‌مطلب حكاية واقعة:

- ‌مطلب في الصوفية ومعنى سبعة أحرف:

- ‌المطلب الحادي عشر في خلق القرآن وعدمه ونسبته للكتب الأخرى وصدق النبوة

- ‌المطلب الثاني عشر في الوحى وكيفية نزوله ومعناه وأوله والرؤيا الصادقة ومعناها

- ‌الخاتمة نسأل الله حسنها

- ‌مطلب الفرق بين الحمد والشكر وفضلهما ومتى يطلبان

- ‌مطلب إعاذة الله فى إصلاح الكون

- ‌مطلب ولادة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌تفسير سورة العلق وتسمى سورة التعليم و (اقرأ) أيضا

- ‌مطلب معنى العلق وفضل الإنسان

- ‌تفسير سورة القلم عدد 2- 68 وتسمى سورة نون

- ‌مطلب معنى الساق:

- ‌مطلب النسخ لا يدخل الأخبار والوعد والوعيد:

- ‌مطلب معنى الكيد والمكر والآيات المدنيات الأخر:

- ‌تفسير سورة المزمل عدد 3- 72 أو قيام الليل

- ‌مطلب تخفيف قيام الليل ونقل الكسب والصدقة:

- ‌تفسير سورة المدّثر عدد 4- 74

- ‌مطلب أول سورة نزلت وفترة الوحي وسببها

- ‌مطلب ما نزل في الوليد بن المغيرة ثم في خبث أبي جهل

- ‌مطلب الحواس الباطنة والظاهرة والأخبار بالغيب

- ‌مطلب الشفاعة والمحروم منها:

- ‌تفسير سورة الفاتحة عدد 5- 1

- ‌تفسير سورة المسد عدد 6- 111

- ‌تفسير سورة التكوير عدد 7- 81 وتسمى كورت

- ‌مطلب أول من سنّ الوأد ومن منعه:

- ‌مطلب الاستمناء باليد والعلاج لمنع الحمل:

- ‌مطلب علامات الساعة:

- ‌تفسير سورة الأعلى عدد 8- 87

- ‌مطلب عصمة النبي من النسيان:

- ‌مطلب ما في صحف ابراهيم وموسى والحكم الشرعي في العيد:

- ‌تفسير سورة الليل عدد 9 و 92

- ‌مطلب في أنواع الخلق:

- ‌مطلب في أبي بكر رضي الله عنه وأمية غضب الله عليه:

- ‌تفسير سورة الفجر عدد 10 و 89

- ‌تفسير سورة الضحى عدد 11- 93

- ‌مطلب عدم رد السائل واللطف باليتيم:

- ‌مطلب الشكر لله ولخلقه:

- ‌تفسير سورة الانشراح عدد 12- 94

- ‌تفسير سورة العصر عدد 13- 103

- ‌تفسير سورة العاديات 14- 100

- ‌تفسير سورة الكوثر عدد 15- 108

- ‌تفسير سورة التكاثر عدد 16- 102

- ‌تفسير سورة الماعون عدد 17 و 107

- ‌تفسير سورة الكافرون عدد 18- 109

- ‌تفسير سورة الفيل عدد 19- 105

- ‌مطلب رمي الجمار بمنى:

- ‌تفسير سورة الفلق عدد 20- 113

- ‌مطلب في الحسد والتعاويذ:

- ‌تفسير سورة الناس عدد 21- 114

- ‌تفسير سورة الإخلاص عدد 22- 112

- ‌تفسير سورة والنجم عدد 23- 52

- ‌مطلب مقر جبريل ومعنى قاب قوسين:

- ‌مطلب زمن الإسراء والمعراج والرؤية:

- ‌مطلب الآية المدنية ومعنى الكبائر والصغائر:

- ‌مطلب في الغيب وأنه قسمان:

- ‌مطلب الكرامة ومصدرها والشعرى ومن يعبدها:

- ‌مطلب في السجود وقصة الغرانيق:

- ‌تفسير سورة عبس عدد 24- 80

- ‌تفسير سورة القدر عدد 25- 97

- ‌تفسير سورة والشمس 26- 91

- ‌تفسير سورة البروج عدد 27- 85

- ‌مطلب قصة أصحاب الأخدود:

- ‌تفسير سورة التين عدد 28- 95

- ‌تفسير سورة قريش عدد 29- 109

- ‌تفسير سورة القارعة عدد 30- 101

- ‌تفسير سورة القيامة عدد 31- 77

- ‌مطلب رؤية الله في الآخرة:

- ‌تفسير سورة الهمزة عد 32- 104

- ‌تفسير سورة المرسلات عدد 33- 77

- ‌مطلب مواقف يوم القيامة:

- ‌تفسير سورة ق عدد 34- 50

- ‌مطلب الآية المدنية في هذه السورة وخلق السموات والأرض والتسبيح:

- ‌تفسير سورة البلد عدد 35- 90

- ‌مطلب الحكمة الشرعية من الصدقات:

- ‌تفسير سورة الطارق عدد 36- 86

- ‌تفسير سورة القمر عدد 37- 54

- ‌مطلب في أربعاء صفر وعيادة المريض

- ‌مطلب الآيات المدنية وحكم ما تأخر حكمه عن نزوله:

- ‌مطلب في القدر وما يتعلق به:

- ‌تفسير سورة ص عدد 38- 38

- ‌مطلب قصة داود وسجود ابو بكر:

- ‌مطلب الحكم الشرعي في الأحكام:

- ‌مطلب في رد الشمس لسيدنا محمد وغيره:

- ‌مطلب قصة سليمان عليه السلام:

- ‌مطلب التخفيف وكفارة اليمين بحيلة في محله الملائم:

- ‌تفسير سورة الأعراف عدد 39- 7

- ‌مطلب وزن الأحمال وحادث البطاقة:

- ‌مطلب مقاييس إبليس:

- ‌مطلب مناظرة إبليس وقول سيف الدولة:

- ‌مطلب الحكم الشرعي في كشف العورة وزلة آدم:

- ‌مطلب تواصي الله لخلقه والتزين للصلاة وغيرها:

- ‌مطلب في الأكل المسنون وذم الشبع وبعض وصايا الله لعباده فيه:

- ‌مطلب معنى الإثم والبغي:

- ‌مطلب الرضى بالمعصية معصية

الفصل: ‌المطلب الثاني عشر في الوحى وكيفية نزوله ومعناه وأوله والرؤيا الصادقة ومعناها

شيء منها اكتفاء بما ذكره العلماء في المؤلفات المارة الذكر وما بعد شهادة الله المترادفة في كتبه وشهادة رسله في كتبهم على صدق محمد ورسالته شهادة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد.

‌المطلب الثاني عشر في الوحى وكيفية نزوله ومعناه وأوله والرؤيا الصادقة ومعناها

مطلب الوحي وتفرعاته اعلم فقهك الله ان جمهور المفسرين أجمعوا على أن أول ما نزل من الوحي خمس آيات من أول سورة العلق، ولا عبرة بمن شذ عن هذا الإجماع، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه أنه قال وتعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن جبريل كان ينزل به خمسا خمسا، واخرج ابن عساكر من طريق آخر نظيره وما بمعناه، وهذا على الغالب وإلا فقد نزل أقل وأكثر كما سنذكره علاوة عما سبق في المطلب الثامن في موضعه، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. (والرؤيا صور حسية في الخيال تذهب الآراء والأفكار في تعبيرها مذاهب شنى قلما يعرف تأويل الصادق منها غير الأنبياء كرؤيا ملك مصر التي عبرها سيدنا يوسف عليه السلام، ورؤيته هو في صغره وقد ظهرت بعد كما قصها الله علينا، وسيأتي بيانها مع بحث مسهب في الرؤيا في تفسير الآية 5 من سورة يوسف وفي الآية 3 منها فما بعدها أيضا) .

ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتخث (يتعبد) فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها (أي تلك الليالي) حتى جاءه الوحي، وفي رواية حتى فاجاءه وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني (ضمني وعصرني، والحكمة في ذلك أن لا يشتغل بالالتفات إلى غيره ومبالغة في تصفية قلبه ولهذا كررها ثلاثا) حتي بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني

ص: 50

فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) فرجع بها رسول الله ترجف بوادره (هي اللحمات التي فوق الرغثاوين أي عروق الثدي وأسفل الشذوة أي لحم الثدي واللحمات ما بين المنكب والعنق) حتى دخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني [غطوني ولفوني بالثياب] فزملوه حتى ذهب عنه الروع (الفزع) ، ثم قال لخديجة مالي؟ وأخبرها الخبر، قال: لقد خشيت على نفسي (أي الهلاك)، قالت خديجة: كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله (لا يذلك) أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسعد بن عبد العزى عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره ما رآه، فقال له ورقة: هذا الناموس [يعني جبريل صاحب خبر الخير يسمى بهذا لأن الله خصّه بالوحي إلى الأنبياء] الذي نزله على موسى، يا ليتني فيها [أي نبوتك] جذعا [شابا قويا] ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال نعم. لم يأت رجل قط.

بمثل ما جئت به إلا عودي، وان يدركني يومك [أي يوم يخرجك قومك عند ادعائك النبوة] أنصرك نصرا مؤزرا [قويا معززا] ثم لم يلبث ورقة أن توفي [أي قبل ظهور الدعوة] .

وفتر الوحي، زاد البخاري قال: وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى [أي يوقع نفسه] من رؤوس شواهق الجبال، فلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه منه تبدّى [أي ظهر عيانا] له جبريل، فقال:

يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه [قلبه وما ثار من فزعه وهاج

ص: 51

من حزنه] وتقر عينه فيرجع إلى حالته الأولى أملا برجوع الوحي إليه، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفي بذروة الجبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال مثل ذلك.

مطلب أول ما نزل من القرآن وروى البخاري ومسلم عن يحيى بن كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، قال:(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ) قلت يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) قال أبو سلمة: سألت جابرا عن ذلك وقلت له مثل ذلك فقال لي:

لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله قال: جاورت بحراء شهوا فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني وصبوا علي ماء باردا [فيه أن من يفزع ينبغي أن يصب عليه الماء البارد ليسكن خوفه] فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وذلك قبل أن تفرض الصلاة، وفي رواية فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي وذكر نحوه وقال: فإذا هو قاعد على عرش في الهواء (يعني جبريل) فأخذتني رجفة شديدة [والمراد بالعرش هنا السرير والكرسي المبين في الحديث الآتي] ورويا عن جابر في رواية الزهري عن ابن سلمة رضي الله عنهما قال سمعت: رسول الله يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه: بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض فجئثت [بجيم مضمومة وهمزة مكسورة وتاء ساكنة وتاء مضمومة وروي بتاءين ومعناه رعبت وفزعت] منه رعبا، فقلت زملوني زملوني، فدثروه فأنزل الله عز وجل:

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قال ثم حمى الوحي بعده وتتابع.

واعلم ان هذين الحديثين لا يتعارضان مع حديث عائشة المتقدم ذكره بأن أول ما نزل مبادئ سورة اقرأ، لأن ما جاء في هذين الحديثين من أن أول سورة نزلت هي المدثر لا يصح، لأن قوله في الحديث الأول وهو يحدث عن فترة الوحي

ص: 52

إلى أن قال (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) يدل على تقدم الوحي على هذا الحديث. وقوله في الحديث الثاني: فإذا الملك الذي جاءني بحراء، يدل على صحة ما جاء في حديث عائشة أيضا، وان أول ما نزل هو (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، وقوله فيه أيضا: ثم حمي الوحي وتتابع، أي بعد ما فتر، وبعد نزول (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) نزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وبهذا يحصل الجمع والتوفيق بين الحديثين المذكورين، وحديث عائشة المتقدم هو الصواب الذي لا مرية فيه والمجمع عليه على الإطلاق، ومعنى فترة الوحي احتباسه وعدم تواليه، ومعنى حمي الوحي كثر نزوله، وحديث عائشة هذا يعد من مراسيل الصحابة لأنها لم تدرك هذه القصة فلا بد أنها سمعتها من حضرة الرسول أو من ثقات أصحابه، ومرسل الصحابي حجّة عند جميع العلماء ولا سيما السيدة عائشة التي كان ينزل الوحي في فراشها وهي مع النبي بخلاف بقية نسائه، فإنهن إذا نزل الوحي عليه وهو في فراش إحداهن انعزلت عنه، فقد روى ابو يعلى في مسنده عن عائشة قالت: أعطيت تسعا وفيه، وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفن عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وبهذا يندفع التعارض باختصاص نزول الوحي في فراش عائشة، تأمل، وهذا النوع من القرآن يسمى الفراشي، كيف وهي التي شهد الله ببراءتها وحسبك بها حجة، ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا أبو إسحاق الاسفراييني.

وإنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك. بصريح النبوة، فلا تتحملها قواه البشرية، فبدأه بعلامتها. توطنة للوحي، وإرهاصا إلى مقدمات النبوة.

مطلب معنى الإرهاص والوحي ومأخذ الشفرة والإرهاص معناه هنا الإثبات، يقال: ارهص الشيء إذا أثبته وأسسه على طريق المجاز.

فهذه المقدمات التي تأتي الرسل من الرؤيا الصادقة والكشف والفراسة في الأمور، أي التوسم بها- راجع الآية 75 من سورة الحجر في ج 2 تجد معناها-.

وتخيل المعاني قبل وقوعها، إثبات لنزول الوحي الالهي وأساس للمنزول عليه ليقوى جنانه ويأخذ ما يتلقاه من الوحي بعزم وحزم، وليعرفه حقا انه من الله دون تطرق لشك أو ظن أو وهم. تدبر هذا.

ص: 53

واعلم أن معنى الوحي الإيماء بالتكليم خفية عن أن يفهمه الغير، وأصله الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وباشارة بعض الجوارح وبالكتابة، وحمل عليه قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الآية 11 من سورة مريم الآتية ولم يتكلم، وحمل على الإيماء قول الشاعر:

نظرت إليها نظرة فتحيرت

دقائق فكري في بديع صفاتها

فأوحى إليها الطرف أني أحبها

فأثرّ ذاك الوحي في وجناتها

وقول الآخر:

أشارت بطرف العين خيفة أهلها

اشارة محزون ولم تتكلم

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا

وأهلا وسهلا بالجبيب المتيم

وحمل على الاشارة قوله تعالى: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) الآية 41 من آل عمران في ج 3، (هذا وقد اتخذت الملوك والأمراء حروفا وكلمات بأرقام اصطلحوا عليها وعبروا عنها باسم شفره) كناية عن هذا المعنى، واستنباطا منه، منعا من أن يفهم الغير ما يتخابرون به، لأن الله تعالى علم البشر كيف يتخاطبون، وكيف يتنعمون، وكيف يعذبون ويعذبون، مما وصفه من أحوال أهل الجنة والنار، وقصه في كتابه المنزل هذا وكتبه السابقة أيضا، وجعل أوائل السور رموزا بينه وبين حبيبه، فلا يعرف معناها إلا هما كما سنبينه في مواضعه إن شاء الله، هذا وان القول الجامع في معنى وحي الله لأنبيائه، هو إعلام خفي سريع خاص بمن بوحيه اليه، بحيث يخفي عن غيره الملاحق له، كما كان يوحي اليه في فراش عائشة فيعلم ما هو المراد وهي لا تدري ما هو، وكذلك كان يوحي اليه بمحضر من أصحابه فيعي ما يتلقاه، وهم لا يعلمون شيئا منه إلا تغيّر حال الرسول عما كان عليه قبل الوحي لأنه عليه السلام كان يعتريه ثقل وشدة حال نزوله حتى أنه ليعرق في الوقت البارد، من عظم ما يلاقي من هيبة كلام الرب جل جلاله.

ص: 54

وانظر لما قيل:

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خرّوا لعزّة ركعا وسجودا

ومنه الإلهام الغريزي كالوحي إلى أم موسى، وضده الوسوسة الشيطانية، قال تعالى:(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الآية 121 من الأنعام في ج 2، وقال في الآية 112 منها:(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) ووحي الله إلى أنبيائه، قد روعي فيه المعنيان الأصليان لهذه المادة (الخفاء والسرعة) وقد يطلق على متعلقه وهو ما وقع به الموحى باسم المفعول، مما أنزل الله على أنبيائه وعرفهم من أنباء الغيب والشرائع والحكم، فمنهم من إعطاء كتابا أي تشريعا يكتب، ومنهم من لم يعطه فيكون تابعا في التشريع لكتاب من قبله كأنبياء بني إسرائيل، فإنهم كلم تابعون للتوراة ولم ينزل الكتب دفعة واحدة إلا على الذين يحسنون القراءة كموسى وداود وعيسى وغيرهم، أما الذين لا يحسنونها كمحمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله فإنه لم ينزل عليه كتابه دفعة واحدة بل انزل مفرقا ليعيه أولا بأول وقد جمع له الأمرين إذ أنزل جملة إلى بيت العزة تعظيما لشأنه وتفخيما للمنزل عليه ثم أنزل نجوما مفرقة كما أوضحناه في المطلب الثامن ومنه الوحي إلى الملائكة بما يأمرهم الله به، قال تعالى:(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية 12 من الأنفال ج 3، ومنه أيضا الوحي إلى ملك الوحي فيما يوحيه إلى الرسول. قال تعالى:(فَأَوْحى)

الله جل جلاله إِلى عَبْدِهِ)

جبريل عليه السلام (ما أَوْحى)

به إلى محمد عليه الصلاة والسلام إلى آخر الآيات فما بعدها من سورة النجم الآتية. روي عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وانما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة متفق عليه- قال الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد إحدى مؤلفاته القيمة بعد تعريف الوحي لغة مانصه: وقد عرفوه شرعا بأنه اعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه. وقال الأستاذ السيد محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي: انه (أي الإلهام) عرفان يجده الشخص في نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة.

ص: 55

مطلب الفرق بين الوحي والإلهام والأول الوحي المراد بالآية الآنفة الذكر من سورة النجم ويكون هذا الوحي بصوت يتمثل أو يسمعه منه أو يعيه بغير صوت.

والثاني الإلهام وهو وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلبه من غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور، وهذا الفرق بين الوحي والإلهام فيدخل في هذا التعريف أنواع الوحي الثلاثة الواردة في قوله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) الآية 51 من سورة الشورى ج 2. لاشتمالها عليها فالوحي هنا إلقاء المعنى في القلب ويعبر عنه بالنفث بالروع (أي النفخ الشديد بالقلب والخلد والخاطر) والكلام من وراء حجاب هو أن يسمع كلام الله من حيث لا يراه كما سمع موسى نداءه من وراء الشجرة والذي يرسل به الرسول جبريل، هو الذي بلغه الملك إلى الرسل فيرونه متمثلا بصورة رجل أو غير متمثل ويسمعه منه أو يعيه بقلبه وهذا قبل التفرقة بين الوحي والإلهام يسميه البعض الوحي النفسي أي الإلهام الفائض من استعداد النفس العالية اه بتصرف.

ثم قال وقد اشتبه بعض علماء الافرنج بنبينا عليه الصلاة والسلام كغيره من الأنبياء. فقالوا: ان محمدا يستحيل أن يكون كاذبا فيما دعى الناس إليه من الدين القويم والشرع العادل والأدب السامي وحوّره من لا يؤتى بعالم الغيب منهم أو لا يؤتى باتصال عالم الشهادة أي لا يؤمن ولا يصدق بشيء من ذلك لأنه مادي لا يركن إلى غير المحسوس المشاهد ولا يطمئن إلا بما يعاين لأن معلوماته وأفكاره وآماله ولدت إلهاما فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية على مخيّلته السامية وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك ماثلا له فانتقش كلامه بصدره ووقع على سمعه فوعى ما حدثه الملك به، فظهر في هذا أن الخلاف بيننا وبين الافرنج الذين لا يوقنون بعالم الغيب ولا يصدقون باتصال عالم الشهادة في كون الوحي الشرعي من خارج نفس النبي نازلا عليها من السماء كما نعتقد لا من داخلها فائضا منها كما يظنون وفي ملك روحاني مستقل نزل من عند الله عليه صلى الله عليه وسلم كما قال عز وجل: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ

ص: 56