الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تدرك حقيقته إلا باليقين، فاذا كان هذا مبلغ علمم «فَأَعْرِضْ» أترك يا حبيبي وصدّ «عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا» الذي أنزلناه عليك لانهم أعرضوا عنه وتولوا عن الايمان به «وَلَمْ يُرِدْ» كل منهم «إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا 29» لإنها بغيتهم ولا همّ لهم بالآخرة لانهم لم يؤمنوا بها «ذلِكَ» ظنهم واختيارهم هو «مَبْلَغُهُمْ» وغاية مطلبهم ونهاية ما توصلت اليه عقولهم «مِنَ الْعِلْمِ» الذي لا يحيط ببعضه عقلاؤهم لقلة إدراكهم وشدة توغلهم في الدنيا «إِنَّ رَبَّكَ» يا سيد الرسل «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» السوي وطريقه المستقيم الذي يجب أن يسلك دون غيره من السبل المضلة «وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى 30» اليه فيجازى كلا بعمله
«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وما بينهما وما فيهما وما تحتهما وفوقهما ملكا وعبيدا. وهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين قوله «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا»
من السوء «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى 31» أي الجزاء الحسن وفي الجنة أيضا لقاء عملهم الحسن، لأن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار إلا ليكافيء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
مطلب الآية المدنية ومعنى الكبائر والصغائر:
وهذه الآية المدنية المستثناة في هذه السورة قال تعالى «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ» منها المستوجبة للحد الشرعي (إلا اللّمم) صغائر الذنوب، وهذا استثناء منطقع، لأن اللّمم ليس من الكبائر والفواحش، فهو كالقبلة والنظرة والغمزة والشتم بغير اذن وما ضاهى ذلك، وسبب نزولها قول المشركين ان المسلمين بالأمس كانوا يعملون ما نعمل والآن يعيبوننا به. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال ما رأيت أشبه باللمم مما قال ابو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج، يصدق ذلك أو يكذبه.
ولمسلم قال كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل
زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه. فهذه الأولى كلها لمم، والأخير من الكبائر والفواحش، فالكبيرة كل شيء نهى الله ورسوله عنه أو أوعد عليه بنار أو غضب أو عذاب أو عقاب أو لعنة أو حد، والصغيرة كل ما لم يذكر الله ورسوله عليه حدّا في الدنيا أو عذابا في الآخرة فيدخل في الكبائر، من غيّر معالم الأرض ومن تزوج امرأة للتحليل، والواشمة والموشومة وكل ما اقترن بلعن من حضرة الرسول كمن أمسك امرأة محصنة ليزني بها غيره، أو قادها للزنى أو أمسك مسلما لمن يقتله، ومن دل الكفار على عورة المسلمين وفضح لهم عددهم وعددهم ومن كذب على إنسان كذبة أدت إلى قتله أو تعطيل عضو منه أو تعذيبه، لأن حد الكبيرة كل شيء كبر وعظم مما يعد ذنبا وكان فعله قصدا، فدلالة المسلم الكفار على مواقع المسلمين مع علمه أنهم سيستأصلونهم أعظم من الفرار عند الزحف، والكذب الموجب للقتل وأخذ المرأة للزنا والمسلم للقتل اكبر من أكل الربى وأكل مال اليتيم وشرب الخمر المعدودة من الكبائر المترتب عليها حد شرعي، وليعلم أن اكبر الكبائر الشرك بالله ثم القتل بغير حق ثم الزنا واللواط ثم شهادة الزور ثم السحر ثم قذف المحصنات ثم عقوق الوالدين، إذ عدها رسول الله من الموبقات أي المهلكات ثم كل ما يدخل تحت الحد وما اقترن باللعن إلخ ما تقدم، والصغيرة ما سوى ذلك على أنها إذا فعلت تهاونا واستخفافا أو اعتيد على ارتكابها جرأة تنقلب كبيرة، ولهذا أبلغوا عدد الكبائر إلى سبعين وبعضهم إلى سبعمائة كما في كتاب الزواجر المستقصى لأنواعها فراجعه، وعلى هذا إذا لم تقترن الفعلة بشيء مما ذكر من الوعيد وغيره وما يقع من فلتات اللسان وشهوات النفس في غير ما نصّ عليه وما ينشيء من فترة مراقبة التقوى فليس من الكبائر بل من الصغائر وهي أقرب للمغفرة ويوشك أن يكفرها الصوم والصلاة والصدقة، وقد يغفرها الله عفوا نكرما منه ويكاد أن يجعلها حسنات إذا اقترنت بالندم والاستغفار راجع الآية 71 من سورة الفرقان الآتية وكذلك الكبائر إذا أعقبها بتوبة خالصة وعمل صالح من صوم أو صلاة أو صدقة فيوشك أن يقلبها الله له صغائر ويغفرها
أما ما يتعلق فيه حق الغير من الكبائر والصغائر فلا بد من إرجاع ما أخذ لأهله وإرضائه واستعفائه، وإن لم يقدر على شيء من ذلك فيعود إلى مشيئة الله ويسعها قوله «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» لمن تاب وأتاب وحسنت نيته وقد يغفر بدون شيء من ذلك لمن شاء عدا الشرك راجع الآية 48 من سورة النساء في ج 3 وإذا أراد أن يطمئن على نفسه من عذاب الله وقبول توبته فليجتهد برد المظالم لأهلها أو ورثتهم أو يتصدق بها على الفقراء وينوي ثوابها إليهم، هذا والله تعالى «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ» أيها المؤمنون وأعلم بما تفعلونه قبل خلقكم «إِذْ أَنْشَأَكُمْ» براكم من النطفة وخلق أباكم آدم «مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ» أي وهو أعلم بأحوالكم حالة كونكم «أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» وما أنتم صائرون اليه بعد فاعملوا خيرا لدينكم ودنياكم وآخرتكم «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» وتمدحوها بالطهارة من الذنوب فانه يعلم كل نفس وما هي صائرة اليه وما تصنعه في الدنيا وما تناله في الآخرة، فلا تفضلوا أنفسكم على غيركم في الحالة التي أنتم فيها لأنكم لا تعلمون العاقبة والله وحده «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى 32» منكم ومن أذنب فأكتفوا بعلمه عن علم الناس وجزائه عن جزائهم وثنائه عن ثنائهم. روى البخاري ومسلم عن خارجة بن زمعة بن ثابت أن أم العلاء امرأة من الأنصار كانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا ابن صفعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي غسل وكفن في أثوابه وصلى عليه رسول الله، فقلت رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك قد أكرمك الله فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول
الله فمن يكرمه الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين والله اني لارجو له الخير، والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي. قالت فو الله لا أزكى بعده أحدا قالت: ورأيت لعثمان في النوم عينا تجري، فجئت رسول الله فذكرت له ذلك، فقال: ذلك عمله وهذه الآية نزلت في أناس من المدينة يعملون أعمالا حسنة ثم يتبرمون بها، وهي عامة في كل من يتصف بذلك، هذا وقد سبق أن بينا أن الآيات
المستثناة من السور إذا طويتها وقرأت ما بعدها تبعا لما قبلها يستقيم المعنى والنظم وهذه كذلك، إلا أنه لا يجوز بوجه من الوجوه إسقاط حرف واحد من القرآن أو تغيره عن محله، حتى ان العلماء كرّهت ان يقرأ المصلي آية أو سورة ثم يترك التي تليها ويقرأ ما بعدها، كما كرهوا أن يقرأ القرآن على عكس ترتيبه قال تعالى:
«أَفَرَأَيْتَ» يا أكمل الرسل هذا «الَّذِي تَوَلَّى 33» عن الإيمان وعاد الى الكفر «وَأَعْطى قَلِيلًا» مما تعهد به الى من أغواه «وَأَكْدى 34» قطع عطاءه وبخل بما وعد به وأصل الكدي من الكدية وهي حجر يظهر في البئر فيمنع من الحفر، نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة كان اتبع حضرة الرسول فعيره المشركون بقوله تركت دين الأشياخ وضللت قال أني خشيت الله وعذابه قال فأنا أضمن لك إن أعطيتني كذا من المال ورجعت الى دين آبائك فأتحمل عنك عذاب الله فرجع الوليد الى الشرك واعطى الذي عيره وتعهد له بعض الذي ضمنه له من المال ومنعه الباقي ثم وبخه الله بقوله «أَعِنْدَهُ» اي هذا الذي تولى «عِلْمُ الْغَيْبِ» بأن صاحبه يتحمل عنه ما يخافه من عذاب الله يوم القيامة «فَهُوَ يَرى 35» ما خفى عنه وهل يبصر شيئا من الغيب «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ» بخبر «بِما فِي صُحُفِ مُوسى 36» أسفاره وتوراته «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى 37» ما أمره به ربه من تبليغ الرسالة وبما فرض عليه فيها من التكاليف التي منها امتثاله الأمر بذبح ولده، قال عطاء بن السائب: عهد ابراهيم على نفسه ان لا يسأل أحدا غير الله فلما قذف في النار قال له جبريل ألك حاجة، قال أما إليك فلا، وفاء بعهده فأنجاه الله ثم أخبر الله عما في صحفهما فقال:«أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى 38» اي لا تحمل نفس غير ذنبها كما لا تعاقب الا عليه راجع تفسير الآية 19 من سورة الأعلى المارة والمعنى لم يبلغه ذلك قبلا إذا كان لم يبلغه شيء من هذا المعنى الآن قال ابن عباس: كانوا قبل ابراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره فيقتلونه بأبيه وأخيه وامرأته وعبده وتعلقاته كما يفعل اعراب البادية الآن إذ جرت عادتهم أن يقتلوا الرجل أو أن يسلبوه بقتل او سلب أحد من أقاربه وكانت الجاهلية
قبل الإسلام تفعل هذا فما يقع الآن منه فهو من بقايا عوائدهم القبيحة فلا حول ولا قوة الا بالله، فنهاهم الله عن ذلك وبلغهم أمره بأن لا تؤاخذ نفس بدل نفس.
مطلب ما هو موافق من شرع من قبلنا لشرعنا وما هو مخالف، وعوائد الجاهلية:
وعلى هذا شرعنا الذي جاء به رسولنا وهو موافق لشرع جده ابراهيم ومؤيد له وقد مضى على نزول هذه الآية خمس وخمسون سنة وثلاثمائة والف وهي تتلى عليهم ليل نهار ولم يرتدع أولئك الأعراب عن هذه العادة الخبيثة وكان في صحفهما ايضا ما ذكره الله بقوله: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى 39» اي لا يثاب الإنسان بعمل غيره له كما لا يعاقب ولا يضاعف له الأجر كأنه محمد بل يعطي له أجره بحسب عمله فقط. وهذا مخالف لشريعتنا التي جاءنا بها محمد صلى الله عليه وسلم إذ يضاعف لنا الأجر من واحد الى سبعمائة الى ما شاء الله وان سعى الغير لها ينفعها، قال تعالى (مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) الآية 74 من الفرقان الآتية وقال (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) الآية 87 من سورة الأنعام من ج 2، وقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية 20 من سورة الطور والآية 9 من سورة المؤمن من ج 2 أيضا، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية، 2 من سورة الرعد في ج 3، ومن هنا تعلم أن الله تعالى أدخل الأنبياء الجنة بعمل آبائهم الصالحين يؤيده ما ورد عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله ان أمي توفيت أينفعها ان تصدقت عليها قال نعم. وفي رواية ان سعد ابن عبادة أخا بني سعد وذكر نحوه، وأخرجه البخاري وفي هذا البحث أحاديث كثيرة صحيحة سنأتي بها هناك، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بالأحاديث المذكورة أعلاه لا وجه له لان الحديث لا ينسخ القرآن كما بيناه في بحث الشيخ في المقدمة وكما سيأتي في تفسير الآية 10 من البقرة من ج 3 ولأن هذه الآية مما قصه الله علينا من شرع من قبلنا وكل ما شرع للأنبياء أن كان موافقا لشرعنا قبلناه، وإلا فنعمل بما هو لدينا، لأن ذلك من خصائصهم والمقدم لا يسري حكمه على المؤخر قال تعالى «وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى 40» يعرض عليه في الآخرة ويوضع