الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ذكرنا أن هذه السورة أول سورة نزلت بعد فترة الوحي لانه بدأ بأول العلق ثم بسورة القلم ثم المزمل عدا الآيات المستثنيات منها كما أشرنا إليها في مواضعها، ثم فتر الوحي ثلاث سنين أو ثلاثين شهرا على اختلاف في ذلك لم ينزل فيها على النبي شيء من القرآن، ولم يتل على الناس غير السور الثلاث المذكورات، ولم يدعهم إلى شيء، ثم نزلت المدثر كما ذكرناه في حديث جابر المتقدم في مطلب فترة الوحي المارّ الذي رواه الشيخان إذ قال فيه:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي) ويدل أيضا قوله فيه: (فإذا الملك الذي جاء بحراء) وتقدم تفصيله هناك، وعقبه بقوله وأنزل الله يا أيها المدثر.
هذا، ومن قال إن المدثر أول سورة نزلت أراد أنه بعد فترة الوحي أولية اضافية لا مطلقة، ومن أراد الأولية المطلقة لا برهان له بها، وقد صرح الزهري بضعفه وعدم الاعتداد به، وقد وقعت فترات أخرى كالفترة التي وقعت بعد سورة الفجر وهي خمسة عشر يوما، وقد ظن البعض وتبعهم (درمنغام) المار ذكره في المقدمة، في بحث الشهادة في مدح الكتب الأربعة في مطلب الناسخ والمنسوخ
مطلب أول سورة نزلت وفترة الوحي وسببها
إن الضحى نزلت بعد فترة الوحي وهي أول ما نزل والحال قد نزل قبلها بضع سور كما ستعلم، وان الذي نزل أولا هو المدثر كما ذكرنا.
وسبب الفترة الأولى هو تحريك قوى الرسول الى اشتياق نسمات الوحي القدسية، فيذهب عنه ما كان يجده من الرعب والخوف، ويتلقّى الوحي بقبول وشوق وتعطش وانشراح صدر، وأ تزداد رغبته فيه.
وأما الفترة الثانية فقد جاء في الصحيحين عن جندب بن سليمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى (توجع) فلم يقم ليلتين أو ثلاثا الى تهجده وتلاوته فقالت امرأة:(هي أم جميل بنت أبي سفيان زوجة أبي لهب) يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، فلم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله «وَالضُّحى» كما رواه الحاكم عن زيد بن أرقم أيضا. وكان هذا بعد نزول «تَبَّتْ يَدا» . وروى ابن
جرير من طريقين مرسلين أن جبريل أبطأ على النبي صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة: إني أرى ربك قد قلاك مما يرى من جزعك، فنزلت. ومعارضة رواية الصحيحين بهذه الرواية المرسلة تسقط اعتبارها. وقد جمع الحافظ ابن حجر بينهما بأن خديجة قالت ما قالت توجعا عليه صلى الله عليه وسلم، وحمّالة الحطب قالت ما قالت شماتة به، من الوحي المحمدي ص 100 من باب فترة الوحي، وأول ما نزل بتصرف، وما ذكرناه هو المعتمد عند المحدثين في أول ما نزل من القرآن، وفي مدة الفترة وأول ما نزل بعدها، وفي فترة سورة الضحى، وقد غلط مجاهد في قوله:«ن وَالْقَلَمِ» أول ما نزل هذا، وما روي عن علي عليه السلام، إن أول سورة نزلت هي الفاتحة واعتمدها الإمام محمد عبده، فإذا صحت هذه الرواية يكون المراد منها أنها أول سورة تامة نزلت بعد بدء الوحي بالتمهيد الكوني ثم بالأمر بالتبليغ الإجمالي، وتلاها فرض الصلاة وآية المزمل، أو نزلتا في زمن واحد. وقد ذكرت آخر (العلق) المارة أن المراد بالصلاة الواردة بالآيات المكية من بدء نزول الوحي إلى نزول سورة الإسراء الآتية هي الركعتان اللّتان فرضها الله على الرسول صلى الله عليه وسلم وحده التي لم يزل يعمل بها هو ويعفي أصحابه من غير أن تفرض عليهم حتى فرضت الصلوات الخمس. قال تعالى:«وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 3» عظمه ونزهه عن عبادة الأوثان التي انكب عليها قومك «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ 4» عن كل مستقذر لان قومك يجرّون ثيابهم في الأرض تكبرا وخيلاء ولا يحترزون من النجاسة 8 وطهر نفسك مما هم عليه من القبائح، وقد كشنى بالثياب عن الجسد لاشتمالها عليه، وقد جاء بمثله عنترة في قوله:
وشككت بالرمح الأصم ثيابه
…
ليس الكريم على القنا بمحرّم
أراد نفسه وجسمه، والعرب تعبّر بطهارة الثوب عن وصف صاحبه بالصدق والوفاء والعفاف. ولما كان الثوب ملازما للانسان كنّوا به عنه يقال: الكريم في ثوبه، والعفة في إزاره، كما يقال للغادر خبيث الرداء دنس الثياب، وحيث وإن كانت الطهارة مطلوبة فى الثوب والجسد فالأمر هنا يشملهما معا «وَالرُّجْزَ»
الذي يعبده قومك من دون الله «فَاهْجُرْ 5» ولا تقربه أبدا «وَلا تَمْنُنْ» بما أعطاك الله في الرسالة والذكر على قومك وغيرهم «تَسْتَكْثِرُ 6» به في طلب الأجر منهم ولا تقل دعوتهم فلم يقبلوا مني، بل عد عليهم المرة بعد الأخرى وادعهم الى عبادة الله ولا تستكثر تكرار دعوتك لهم، فإن لك الأجر العظيم بذلك، وقال بعض المفسرين لا تعط مالك وترى ما تعطيه كثيرا أو تطلب أكثر منه بناء على ما اعتاد قومه من العادات غير المرضية، انهم كانوا يعطون الهدية بقصد أن يهدى لهم أكثر منها، ومن أمثالهم، الهدية تأتي على حمار، وترجع على جمل، حثا للمهدي على إهداء الكثير، فنهى رسوله عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة لأنه مأمور بأجل الأخلاق وأشرف الآداب ويدل على ما جرينا عليه قوله تعالى:«وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ 7» لأن المعنى الذي ذكروه لا يحتاج إلى الصبر حتى يأمر به، ولأن من أعطى شيئا لغيره طلبا للزيادة لا بد وأن يتواضع الذي أعطاه، ومنصب النبوة يجل عن ذلك كيف وهي تعلم الناس الإباء عن كل ما يخل بالاحترام ومكارم الأخلاق، وقيل هما رباءان حلال كالهدية الكثيرة لمن أهدى أقل منها وحرام لمن أعطى شيئا بأكثر منه، وقد استدلوا بالآية 38 من سورة الروم ج 2 وهي (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) . وهو لعمري بعيد لأن الظاهر يأباه والمعنى لا ينطبق عليه وتفسيرها بالصورة التي ذكرناها أوّلا أولى وأوفق كما لا يخفى على بصير، وسيأتي لهذا البحث تفصيل في تفسيرها إن شاء الله، وعلى كل يقول الله جل قوله فاصبر يا أكمل الرسل على أذاهم كيفما كان، فكل مصبور عليه مصبور عنه، واصبر على العمل بأوامر ربك ونواهيه فالدنيا كلها فانية «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ 8» أي نفخ إسرافيل في البوق النفخة الأولى «فَذلِكَ» يوم النفخ «يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ 9» شديد هوله «عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ 10» بل عسير جدا، وهي بلفظ يسير لتكرار التأكيد، وفي تخصيصه بالكافرين دلالة على أنه هين على المؤمنين إن شاء الله.