الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الساعة الدنيوية «وَأَمَرُّ 46» منها مذاقا وأدوم عذابا من القتل والأسر والسبي.
انتهت الآيات المدنيات. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله وهو في قبة يوم بدر: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبدا. فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك، فخرج وهو في الدرع وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر. وقد مر في الآية 14 من سورة الأعلى المارة أن هذه الآية مما تأخر حكمها عن نزولها وهو الصحيح والله أعلم لأنها إحدى الآيات السبع المبينين هناك أربع منها وهذه الخامسة والسادسة الآية 56 من سورة النور ج 3 وهي (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) والسابعة قوله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ) الآية 21 من سورة الفتح في ج 3 أيضا وللبحث صلة في تفسير هاتين الآيتين الأخيرتين بمحلهما إن شاء الله. أما الأربع الأول فقد تقدم في سورة الأعلى بيانها وسببها قال تعالى «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ» من الأولين والآخرين «فِي ضَلالٍ» في هذه الدنيا «وَسُعُرٍ 47» في الآخرة «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ» وتقول لهم زبانية العذاب «ذُوقُوا» أيها المجرمون «مَسَّ سَقَرَ 48» ألمها عند ما تمس جلودكم كما يقال الآن ذق طعم الضرب ومس الحمّى قال تعالى ردا لما يقال من قبل أهل الضلال «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ 49» معلوم وتقدير سابق مثبت في اللوح المحفوظ وسنظهره عند إرادتنا له قال ابن عباس كل شيء بقدر حتى وضع يدك على خذك، روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وكان عرشه على الماء، أي قبل خلقهما. راجع الآية 6 من سورة هود في ج 2.
مطلب في القدر وما يتعلق به:
والمراد من هذا تحديد وقت الكتابة في اللوح لا أصل القدر لأنه أزلي لا أول له، وروي أيضا عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية. وروي عن طاووس قال: أدركت أناسا من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر الله تعالى. وسمعت عبد الله بن عمر يقول:
قال صلى الله عليه وسلم: كل شيء يقدر حتى العجز (عدم القدرة على الفعل) والكيس (النشاط والحذق بالأمور) أي قدر الله ذلك في البشر أيضا وأخرج الترمذي عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله: لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، واني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت وبالبعث، ويؤمن بالقدر. وأخرج أيضا عن جابر قال: قال صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وهذا حديث غريب يعرف من طريق عبد الله بن ميمون وهو منكر الحديث. أما الحديث المتفق عليه فهو حديث جبريل عليه السلام المشهور الذي فيه، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت. وهو الذي رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه، والحديث الآخر الذي رواه الترمذي عن ابن عباس وكلاهما في حديث الأربعين، وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه ابن ماجه وابن عدي وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام: المرجئة والقدرية، أنزلت فيهم آية في كتاب الله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الآية المارة وإن الذين ينكرون القدر هم خصماء الله لأنهم يقولون لا يقدر الله المعصية على العبد ثم يعذبه عليها ويسمون القدرية لإنكارهم القدر وزعمهم ان الله تعالى لم يتقدم علمه بالأشياء وانه يعلمها بعد وقوعها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد أجمعت الأئمة من أهل السنة والجماعة على اثبات القدر وانه تعالى قدر جميع الأشياء في القدم وعلم انها ستقع في أوقات معلومة عنده على صفات مخصوصة فتقع بحسب ما قدرها. والحكم الشرعي هو وجوب اعتقاد ما قرره هذا المذهب الحق وأجمع عليه جمهور المحققين ورفض قول المبتدعة وتفسيقهم. قال امام الحرمين قال رسول الله: القدرية مجوس هذه الأمة رواه ابو حاتم عن ابن عمر عن رسول الله وأخرجه أبو داوود في سننه والحاكم ابو عبد الله في المستدرك على شروط الصحيحين، وقال صحيح على شرط الشيخين ان صح سماع ابي حاتم عن ابن عمر.
قال الخطابي: انما جعلهم حضرة الرسول مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم
بالأصلين النور والظلمة أي الخير في النور والشر في الظلمة، فصاروا ثنوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره مع أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله فالخير والشر مضافان إلى الله خلقا وإيجادا، وإلى العبد فعلا واكتسابا. ويزعم كثير من الناس ان معنى القضاء والقدر إجبار الله العبد على ما قدره وقضاه عليه، وليس الأمر كذلك بل معناه الاخبار عن تقدم علم الله بما يكون من اكساب العبد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها، ومعنى القدر ما صدر مقدرا عن فعل القادر ومعنى القضاء الخلق. قال تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) الآية 12 من فصلت في ج 2 أي خلقهن قال محمد بن قتيبة في كتاب غريب الحديث، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتاب الإرشاد في أصول الدين: ان بعض القدرية قالوا لسنا بقدرية بل أنتم يا أهل السنة والجماعة القدرية، لاعتقادكم اثبات القدر، وهذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهتة وتواقح لأن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى الله تعالى ويضيفون القدر والأفعال إلى الله وهم يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها اولى بأن ينسب إليه من يعتقده لغيره، وينفيه عن نفسه، والمرجئة الذين يقولون بالتأخير أي يؤخرون حتى ينزل الله فيهم ما يريد فهؤلاء يؤخرون العمل عن الرتبة وعن الاعتقاد أو لأنهم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم خمس فرق، ومن أراد أن يطلع على عقائدهم وماهيتهم فليراجع ص 193 من الجزء الثالث من المواقف ففيه كفاية. قال تعالى «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ» أي كلمة أو إشارة مفردة إذا أردنا شيئا نقول له «كُنْ» فيكون بين الكاف والنون وليعلم ان الارادة غير الأمر وغير القول والفرق بينهما ان الارادة قدر والقول قضاء وقد يؤمر بالشيء ولا يراد وضدّه النهي وضد القول السكوت، وفي قوله تعالى واحدة اشارة إلى إنفاذ الأمر بلا تكرار القول. ثم بين سرعة ذلك الأمر بالنسبة إلينا وهو عنده دون ذلك فقال إذا رمزنا إلى شيء بالكونية كان حالا ووجد «كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ 50» أي بقدر ما يرد أحدكم طرفه وهذا تمثيل لما تقبله عقولنا والا فهو أقل وأقل فالذي جاء بعرش بلقيس من سبأ إلى القدس بلمحة بصر هو عبد من عبيده فكيف برب ذلك العبد الذي أقدره على ذلك راجع الآية 40 من سورة النمل الآتية
قال تعالى «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
أَشْياعَكُمْ»
أشباهكم في الكفر ونظرائكم في العناد يا قوم محمد ويا أهل مكة المشرفة من الأمم السابقة «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 51» يخاف ويعتبر بمن سلف قبل ان يحل فيه ما حل بهم «وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ» المتقدمون وما يفعله المتأخرون مثل كفار مكة ومن قبلهم وبعدهم الخير والشر كله مدون «فِي الزُّبُرِ 52» من قبل الحفظة في اللوح المحفوظ مما وقع وسيقع إلى يوم القيمة قدره ونوعه وجنسه ومكانه وزمانه وصفته «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ» من العوالم وأفعالهم «مُسْتَطَرٌ 53» عند الله أزلا لا يعزب شيء منه عنه، الذرة فما فوقها وما دونها «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ 54» أنهار كثيرة وإنما جاء بلفظ نهر لموافقة رؤوس الآي وهذه الأنهار من ماء صاف بارد وعسل مصفى وخمر لا غول فيه ولبن خالص واشربة متنوعه ممالذ وطاب مهيئة هذه الأنهار للمتقين «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ» مجلس لا لغو فيه ومسرح لا فجور فيه ومكان مرضي لا غضب فيه لا نظير له ولا شبيه «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ 55» على كل شيء وتحت ملكه كل شيء عظيم القدرة على كل شيء فأي منزلة أكرم من هذه وأجمع للسعادة والغبطة. وفقنا الله لها بمنه وكرمه وجعلنا من أهلها بجوار حرمه. قال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وصف الله تعالى المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق وهو منهم جعلنا الله من أتباعه وقال بعض أهل المعرفة ان الله تعالى أبهم العذبة والقرب ونكر مليكا ومقتدرا اشارة إلى ان ملكه وقدرته لا تدرك الأفهام كنهها، وان قربهم منه سبحانه بمنزلة من الكرامة والسعادة بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يجل عنه اللسان وتكل دونه الأذهان. وهذه الآية من المتشابه الذي سبق أن نوهنا به في الآية 30 من سورة ق المارة إذ درجنا فيها ما يتعلق بآيات الصفات وأحاديثها هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.