الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطلب ما نزل في الوليد بن المغيرة ثم في خبث أبي جهل
«ذَرْنِي» خل بيني «و» بين «مَنْ خَلَقْتُ» في بطن أمه «وَحِيداً 11» لا مال له ولا ولد ولم يشاركني في خلقه أحد، فدعه وكله لي فأنا أكفيكه «وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً 12» كثيرا غير منقطع إنماؤه، وكان له أرض بالطائف لا ينقطع ثمرها ومن النقد تسعة آلاف مثقال وإبل وخيل وغنم وعبيد وجوار كثيرة وكان قبل لا شيء عنده كما ذكر ابن عباس «وَبَنِينَ شُهُوداً 13» لا يغيبون عنه ولا يضعفون صيفا ولا شتاء لغنائهم ويحضرون معه المحافل ليعتزبهم وهم عشرة أسلم منهم خالد وهشام وعمارة فقط «وَمَهَّدْتُ» بسطت له من العيش وكل ما يحتاجه «تَمْهِيداً 14» مع الرئاسة على قومه وطول العمر، وكان يدعى ريحانة قريش. والمراد به من هذه الآيات من ذرني فما بعد الوليد بن المغيرة المخزومي إن كان بدأ البعثة فقيرا لاسعة له في المال والولد، وكان عليه بعد أن منّ الله عليه بتلك السعة أن يؤمن بحضرة الرسول لا أن يكفر به حتى اقتضى نزول هذه الآيات فيه. ومن هذا يستدل على أن هذه السورة لم تنزل جملة واحدة بل نزل القسم الأول منها، ثم نزل ما هو بحق الوليد بعد حيث لم تنزل سورة بتمامها قبل الفاتحة كما ذكرنا آنفا انه كانت تنزل الآية والآيتان والجملة والجملتان على حضرة الرسول ليتمّرن على تلقي كلام ربه، وما قيل ان هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له لأنها من الأخبار وقد ذكرنا قبلا أن الأخبار لا يدخلها النسخ في الآية/ 44/ من سورة القلم المارة قال تعالى:«ثُمَّ يَطْمَعُ» يرجو مع كفره وتكبره وعدم شكره وإيمانه «أَنْ أَزِيدَ 15» له مالا وبسطة وولدا «كلا» لا يطمع ولا يرجو فلا أفعل له ذلك مادام على ما هو عليه «إِنَّهُ كانَ» ولا يزال «لِآياتِنا» المنزلة على رسولنا «عَنِيداً 16» عاتيا لا يميل لدلائل توحيدنا منكرا لا يصدق رسولنا جاحدا النبوة واليوم الآخر والتوحيد قال مقاتل ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من المال والولد والرفعة والجاه حتى هلك وكان كفره عنادا وهو أفحش انواع الكفر الأربعة المبينة في الآية 4 من سورة البروج
الآتية في ج 2 «سَأُرْهِقُهُ» ألجئه وأضايقه بشدة وقسر أن يصعد «صَعُوداً 17» جبلا شامحا في جهنم زيادة في مشقة العذاب لاراحة له معها، عن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم الصعود عقبة في النار يتصعد فيها الكافر سبعين خريفا ثم يهوي بها سبعين خريفا فهو كذلك أبدا! أخرجه الترمذي بلفظ غريب وهو ما رآه راء قط وسيأتي له بحث في تفسير الآية 8 من سورة الإسراء الآتية- وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال هو جبل من نار يكلف أن يصعده. فإذا وضع يده ذابت، فإذا رفعها عادت يؤيده قوله تعالى:«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» الآية 56 من سورة النساء في ج 3، ثم عدد مثالب الوليد الأخرى زيادة على ما بينه قبلا وفي الآية 9 فما بعدها في سورة القلم المارة فقال جل قوله:«إِنَّهُ» عند سماع القرآن «فكّر» ماذا يقول فيه «وَقَدَّرَ 18» هيأ كلاما في نفسه وذلك لما أنزل الله سورة حم الجاثية وقيل فصلت، وكان يصلي في المسجد، كان الوليد بن المغيرة قريبا منه يسمع قراءته ففطن له النبي صلى الله عليه وسلم فأعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إنّ له لحلاوة «وان عليه لطلاوة، وإن عليه لثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبأ والله الوليد ولتصبون قريش كلها، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا، فقال له ما لي أراك حزينا يا ابن أخي فأجابه الخبيث: وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة ليعينوك بها على كبر سنك، ويزعمونك أنك زيّنت كلام محمد وأنك تدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدا، وهل شبع محمد من الطعام حتى يكون له
فضل؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يحنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل
رأيتموه تكهّن قط؟ قالوا: اللهم لا، قال تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط؟ قالوا اللهم لا، قال تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب قط؟ قالوا: اللهم لا، وكان يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه، فقالت قريش للوليد:
فما هو إذن؟ فتفكر في نفسه ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر، وما يقوله ما هو إلا سحر يؤثر، فذلك قوله عز وجل «فَكَّرَ وَقَدَّرَ» وهذا مما يدل أيضا على أن هذه السورة لم تنزل دفعة واحدة، فإن الآيات من ذرني إلى آخرها متأخرة في النزول عنها، لأن سورة حم هذه لم تنزل بعد والحواميم كلها نزلت متتابعة كما سيأتي في الجزء الثاني.
وعلى القول بأنها نزلت معها تكون من قبيل الإخبار بالغيب، وسنزيد هذا البحث بحثا عند تفسيرها إن شاء الله القائل «فَقُتِلَ» وعذّب وأهين «كَيْفَ قَدَّرَ 19» وهذا الاستفهام على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ «ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ 20» كرره تأكيدا اشعارا بأن هذا دعاء عليه أبلغ من الأول
«ثُمَّ نَظَرَ 21» في وجوه الناس يبين لهم ما يدفع به القرآن ويردّه «ثُمَّ عَبَسَ» كلح وجهه واغبر «وَبَسَرَ 22» تقطب وجهه واكفهر وزاد في التقبض، وأظهر العبوس قبل أو انه ومنه قيل لما لم ينضج من الثمر بسر. ويأتي بمعنى العبوس مطلقا، وعليه قول ثوبة:
لقد رابني منها صدود رأيته
…
وإعراضها عن حاجتي وبسورها
قال تعالى: «ثُمَّ أَدْبَرَ» ولى بظهره عن الحق «وَاسْتَكْبَرَ 23» عن الإيمان به واختلق ما افتراه «فَقالَ إِنْ» ما «هذا» الذي يتكلم به محمد «إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ 24» يروى عن السحرة إن «هذا» الذي يقوله محمد «إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ 25» يتلقاه عنهم ويحكيه لنا ما هو قول الله كما يزعم، قال تعالى: فدعه يا محمد وما يقول «سَأُصْلِيهِ» أحرقه وأدخله «سَقَرَ 26» علم لجهنم لا ينصرف لعلتي التعريف والتأنيث «وَما أَدْراكَ» يا حبيبي «ما سَقَرُ 27» صدر الجملة بالاستفهام على سبيل التهويل والتعظيم، أي ما أعلمك ماهي هي «لا تُبْقِي» لحما «وَلا تَذَرُ 28» عظما فلا يلقى فيها شيء إلا أحرقته وأذابته «لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ 29» مغيرة جلودهم